عنوان الموضوع : مقالات اسلامية في فضائل العرب قبيلة عربية
مقدم من طرف منتديات العندليب
في فضائل العرب
موضوع منقول من موقع الشيخ محمد الامين الشنقيطي : https://www.ibnamin.com/arab_superiority.htm
فضل اللغة العربية
إعلم -وفقك الله- بأن الله عز وجل قد أنزل كتابه بالعربية {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) والله أعلم بأي لسان يختاره لكتابه، وهو العليم الحكيم. ولو جعله الله بغير لغة لما فهمه الناس على الوجه الذي أراده ولا عقلوه كما قال عز وجل {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت:44).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية الدمشقي في كتابه القيم "اقتضاء الصراط المستقيم" (2|207): «وإنما الطريق الحسن: اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف. بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى، فإنه يصعب عليه. واعلم أن اعتياد اللغة، يؤثّر في العقل والخُلُق والدّين تأثيراً قوياً بيناَ. ويؤثر أيضاً في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين. ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق. وأيضاً فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب. فإن فهم الكتاب والسنة فرض. ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية. وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب. ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية. وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري (ر): "أما بعد، فتفقهوا في السُّنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي". وفي حديث آخر عن عمر (ر) أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم". وهذا الذي أمر به عمر (ر) من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يُحتاج إليه. لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال. ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله».
ويقول: «وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب، يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسياً، وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشمياً». وهذه قاعدة مهمة جداً، فالعبرة هي في تكلم اللغة العربية فقط، لا بمجرد النسب. وقد ذكر الحديث: «إنَّ الرب واحد، والأبُ واحد، والدَين واحد، وإنَّ العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ، إنما هي لسانَّ، فمنْ تكلَّمَ بالعربيةِ فهو عربي»، ثم قال ابن تيمية: وهذا الحديث ضعيف، لكنَّ معناه ليس ببعيد. بل هوَ صحيح من بعض الوجوه. ولهذا كان المسلمون المتقدموَن لما سكنوَا أرض الشام ومصر ولغة أهلها رومية وقبطيةْ وَأرض العِرَاق وخُرُاسان ولغَة أهلها فارسية. وأرض المغرب ولغة أهلها بربرية، عَودوا أهلَ هذه البلاد العربيةَ حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم. وهكذا كانت خراسان قديماً ثم إنّهم تَساهلوَا في أمر اللُغةِ العربية، واعتادوا الخطابَ بالفارسيةِ حتى غلبت عليهم، وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم. وَلا ريب أنَّ هذا مكروه.
أقول: وإن تأملت حال العرب اليوم، لعرفت أن أكثرهم لا ينتسبون إلى القبائل التي كانت تسكن الجزيرة العربية عند مجيء الإسلام. فمثلاً لم يدخل مصر إلا بضعة آلاف عربي عند الفتح أيام عمر، وكان عدد الأقباط سبعة ملايين. فهل البضعة آلاف تكاثروا حتى أصبحوا خمسين مليون مقابل السبعة ملايين الذين تناقصوا إلى مليونين؟ كلا، بل أهل مصر الأقباط دخلوا الإسلام وتكلموا العربية فصاروا عرباً. وكذلك حال سكان شمال إفريقيا البربر، وسكان السودان الأفارقة، وسكان الأندلس اللاتين. ولذلك فإن العلماء يقولون أنه على قدر المعرفة بلغة العرب، تكون المعرفة بفضل القرآن. فهذا ابن القيم يقول: «إنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب». وهذا ابن يتيمية يقول: «معلوم أن تعلم العربية وتعليمها فرض كفاية لأن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون». وفضل اللغة العربية هو من أهم أسباب فضل العرب، لأن العربي هو الذي يتكلم العربية. قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (15|431): «فغلب على العرب القوة العقلية النطقية، واشتق اسمُها من وصفها فقيل: عرب من الإعراب، وهو البيان والإظهار، وذلك خصوصاً القوة النطقية.. ولهذا كانت العرب أفضل الأمم».
ومما يراه علماء الفرس (أيام كانوا على الإسلام قبل الغزو الصفوي) من أن اللغة العربية أفضل اللغات وأكملها بالحياة والانتشار:
1 - أبو حاتم الرازي (أحمد بن حمدان) (ت322هـ) صاحب كتاب "الزينة في الكلمات الإسلامية" عقد (1|60 - 66) فصلاً بعنوان: "فضل لغة العرب" ذكر فيه أن لغات البشر كثيرة لا يمكن حصرها، وأن أفضلها أربع: العربية، والعبرانية، والسريانية، والفارسية، وأن أفضل هذه الأربع لغة العرب، فهي أفصح اللغات وأكملها وأتمها وأعذبها وأبينها».
2 - أبو الحسين أحمد بن فارس (ت395 هـ) قال في "الصاحبي" (ص16): "باب لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها"، مشيراً إلى قوله تعالى: {لتكونَ من المنذرينَ بلسان عربيٍّ مبين} (الشعراء: 195) وقال: «فلما خَصّ - جل ثناؤه - اللسانَ العربيّ بالبيانِ عُلِمَ أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه، وواقعة دونه. فإن قال قائل: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَنْ أفْهَمَ بكلامه على شرط لغته فقد بَيَّنَ. قيل له: إن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قد يُعْرِبُ عن نفسه حتى يُفْهِمَ السامعَ مرادَه فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قد يدلُّ بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثم لا يسمّى متكلماً، فضلاً عن أن يُسمّى بَيِّناً أو بليغاً. وإن أردت أنَّ سائر اللغات تُبَيّنُ إبانةَ اللغة العربية فهذا غَلط».
3 - أبو منصور الثعالبي (ت430هـ) قال في كتابه "فقه اللغة وسر العربية" (ص21): «ومَنْ هداه الله للإسلام، وشرح صدره للإيمان، وأتاه حسن سريرة فيه اعتقد أنّ محمداً خيرُ الرسل، والإسلام خير الملل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال عليها وعلى تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم».
4 - أبو القاسم محمود الزمخشري (ت538 هـ) قال في مقدمة كتابه "المفصل في علم العربية": «اللهَ أحمدُ على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يُجْدِ عليهم إلا الرشقَ بألسنةِ اللاعنينَ، والمَشْقَ بأسِنَّة الطاعنين».
ومما يراه كُتّاب الغرب عن اللغة العربية الفصحى:
1 - قال كارلونلينو: «اللغة العربية تفوق سائر اللغات رونقاً وغنى، ويعجز اللسان عن وصف محاسنها».
2 - قال فان ديك (الأمريكي): «العربية أكثر لغات الأرض امتيازاً، وهذا الامتياز من وجهين: الأول: من حيث ثروة معجمها. والثاني: من حيث استيعابها آدابها».
3 - قال د. فرنباغ (الألماني): «ليست لغة العرب أغنى لغات العلم فحسب، بل إن الذين نبغوا في التأليف بها لا يكاد يأتي عليهم العدّ، وإن اختلافنا عنهم في الزمان والسجايا والأخلاق أقام بيننا نحن الغرباء عن العربية وبين ما ألفوه، حجاباً لا يتبين ما وراءه إلاَّ بصعوبة».
4 - قال فيلا سبازا: «اللغة العربية من أغنى لغات العالم، بل هي أرقى من لغات أوروبا لتضمنها كلَّ أدوات التعبير في أصولها في حين أن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وسواها قد تحدرت من لغات ميتة، ولا تزال حتى الآن تعالج رمم تلك اللغات لتأخذ من دمائها ما تحتاج إليه».
5 - قال المستشرق الفرنسي الشهير أرنست رينان في معرض حديثه عن اللغة العربية في "الموسوعة المسيحية": «فهذه اللغة المجهولة التاريخ تبدو لنا فجأة بكل كمالها ومرونتها وثروتها التي لا تنتهي، لقد كانت هذه اللغة منذ بدايتها بدرجة من الكمال تدفعنا للقول بإيجاز: إنها منذ ذلك الوقت حتى العصر الحاضر لم تتعرض لأي تعديل ذي بال، فاللغة العربية لا طفولة لها، وليس لها شيخوخة أيضا، منذ ظهرت على الملأ، ومنذ انتصاراتها المعجزة، ولست أدري إذا كان يوجد مثل آخر للغة جاءت إلى الدنيا مثل هذه اللغة من غير مرحلة بدائية، ولا فترات انتقالية، ولا تجارب تتلمس فيها معالم الطريق».
6- يقول "فيشر": «إذا استثنينا الصين، لا يوجد شعب آخر يحق له الفخار بوفرة كتب علوم لغته، وبشعوره المبكر بحاجته إلى تنسيق مفرداتها حسب أصول وقواعد، غير العرب». أقول: مع قِدَم اللغة الصينية فلا يمكن أبداً مقارنتها بلغة العرب لأنها مجرد كتابة بحيث كل كلمة لها صورة معينة وليست هناك أبجدية، وكل منطقة في الصين تلفظ تلك الكلمة بشكل مختلف تماماً، مع غياب معظم التفصيلات النحوية. فسكان الصين لا يمكنهم التفاهم بين بعضهم بالنطق، ولكن في الكتابة فقط!
فضل العرب على العجم
هذه مسألة مهمة جداً، لكثرة الخلط فيها. ففضل العرب على غيرهم ثابت. وقد ثبت في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): «بعثت من خير قرون بني آدم؛ قرناً فقرناً؛ حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه». وفي «صحيح مسلم» من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله (ص) قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».
وهذا فضل جنس لا فضل شخص. فجنس العرب أفضل بمجموعهم فقط. بمعنى عندك في المدرسة صفين، صف فيه نسبة المتفوقين أكثر، فهو أفضل بمجموعه، ومع ذلك فقد يكون في الصف الثاني شخص متفوق على طلاب الصف الأول، والمدرسة لا تميّز في المعاملة بين الطلاب. أين المشكلة؟ العرب إلى اليوم فيهم نسبة الفقهاء والعلماء والمجاهدين أكثر من غيرهم، مع اعتبار قلة عددهم بالنسبة للمسلمين. ذلك أنه لا يمكن لمسلم أن يفهم القرآن والحديث فهماً كاملاً بغير إتقان اللغة العربية. وقد قال سيدنا معاوية من قبل: «والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد (ص) لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به». فإن قصّر العرب قصّر المسلمون. ومجرد كون المرء عربياً لا يعطيه أي فضل، لأن كل شخص يتفاضل بعمله. فهل تستطيع أن تفخر بانتسابك لصف متفوق وأنت كسول؟! بل لعله يكون عاراً عليك أكثر... تعرف اللغة العربية وتفهم القرآن ثم لا تعمل به. وأرجو أن يكون في هذا توضيحاً للمسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": «باب تفضيل جنس العجم على العرب نفاق. فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانيهم وسريانيهم، رومهم و فرسهم وغيرهم، وأن قريشاً أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله (ص) أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفساً وأفضلهم نسباً. وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي (ص) منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم أنفسهم أفضل. وبذلك ثبت لرسول الله (ص) أنه أفضل نفساً و نسباً، وإلا لزم الدور. ولهذا ذكر أبو محمد بن حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها: "هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم. فكان من قولهم: أن الإيمان قول وعمل ونية". وساق كلاماً طويلاً إلى أن قال: "ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول الله (ص): حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق. ولا نقول بقول الشعوبية و أرذال الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لهم بفضلهم، فإن قولهم بدعة و خلاف". وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم. وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل، كما قيل: "القبائل للعرب والشعوب للعجم". ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب. والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق، إما في الاعتقاد، وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك».
ومن أدلة تفضيل العرب، ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله (ص) قال: «إن الله اصطفى كِنَانَةَ من وَلَدِ إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». قال شيخ الإسلام: «هذا يقتضي أنَ إسماعيل وَذريتَهُ صَفْوَةُِ وَلَدِ إبراهيمَ، فيقتضي أنهم أفْضَلُ من وَلَدِ إسحاق. ومعلوَمً أنَّ ولد إسحاق -الذين هم بنو إسرائيل- أفضلُ العَجَمِ لما فيهم من النبوة والكتاب، فمتى ثبت الفضل لهؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى. وتدل أيضاً أن نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس. وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه».
قال شيخ الإسلام: «بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب لكفر (لأن منهم رسول الله (ص) وعامة أصحابه)، ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان». وقال: «وأيضاً فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء، كتب الناس على قدر أنسابهم. فبدأ بأقربهم نسباً إلى رسول الله (ص)، فلما انقضت العرب ذكر العجم. هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس، إلى أن تغير الأمر بعد ذلك».
قال شيخ الإسلام (19|29): «وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم». لكنه استدرك فقال: «لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب». والعرب هم من يتكلمون العربية. والتاريخ يشهد عجز العجم عن حكم العرب بشكل جيد إلا في النادر. وأحسن دولة لهم كانت دولة المماليك. كان في أقوى قوتها في أول عهدها زمن بيبرس، ثم لم تلبث أن ضعفت لأن حكامها ما أرادوا الاعتماد على العرب في الجيش، وإنما استقدموا العبيد ليدربوهم على القتال، خوفاً من انقلاب العرب عليهم. وهذا دوماً كان مصدر ضعف لهم. ثم لم يعد يكفي العبيد الأتراك فجاءوا بالعبيد الشركس فانقلبوا عليهم، ثم هؤلاء بدورهم أصابهم الضعف لنفس السبب حتى انهارت الدولة. فسبب الضعف أنهم دوماً أقلية لا يريدون الاعتماد على العرب. أما العثمانيون فهم مثال على الفشل الذريع في حكم العرب. وكانت دولتهم أقوى قبل أن يحكموا بلاد العرب لأن جيشهم توزع على بلاد شاسعة، مع رفضهم في نفس الوقت الاعتماد على العرب في مناصب قيادية. قال المتنبي:
وإنّما الناس بالملوك * وما تفلح عُربٌ ملوكها عجم
لا أدبٌ عندهم ولا حسب * ولا عهودٌ لهم ولا ذمم
وقد اخترت لكم المصنف المشهور المسمى: "مسبوك الذهب، في فضل العرب، وشرف العلم على شرف النسب" للمؤلف الإمام مرعي بن يوسف الحنبلي الكرمي (1033هـ) نسبة إلى قريته طور كرم في أرض فلسطين فك الله أسرها. وعلى صغر حجم هذا الكتاب إلا انه من أنفس ما كُتب في هذا الموضوع. وتكمن قيمته العلمية في توسطه واعتداله وموضوعيته وابتعاده عن الحمية والعصبية، بل نهج منهجا شرعياً لا يكتب إلا ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة.
قال المؤلف ما خلاصته: وأرض العرب هي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم (البحر الأحمر) إلى بحر البصرة (الخليج العربي). ومن حجر اليمن إلى أطراف الشام. إذا تقرر هذا، فاعلم أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، كما إن جنس الرجل أفضل من جنس المرأة من حيث الطائفة والعموم. وأما باعتبار أفراد أو أشخاص، فقد يوجد من النساء ما هو أفضل من ألوف من الرجال كمريم وفاطمة وعائشة. وقد يوجد من العجم ما هو أفضل من ألوف من العرب، كصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي. ويصح أن نقول أن واحداً منهم مثل بلال، أفضل من جعفر الصادق وموسى الكاظم وأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد...
و أما العَقْلُ الدَّالُ على فَضْلِ العَرَب: فقد ثبتَ بالتَوَاتُرِ المَحْسُوسِ المُشَاهَدِ أنَّ العَرَبَ أكْثَرُ النَاس لسَخَاءً، وَكَرَماً، وَشَجَاعَةً، ومروءةً، وَشَهَامةً، وبلاغةً، وفَصَاحَةً. وِلساَنُهم أَتُم الألْسِنَةِ بياناً، وَتَمْييزاً للمعاني جمعاً وفَرْقاً بجمعِ المعاني الكثيرةِِ في اللَّفْظِ القَليلِ، إذا شاء المتكلِّمُ الجَمْعِ. ويميّزُ بين كلِّ لفظين مشتبهين بلفظٍ آخر مختصرٍ، إلى غيرِ ذَلكَ من خَصَائِصِ اللَسانِ العربيِّ. ولهم مكارمُ أخْلاَقٍ مَحموَدة لا تَنْحَصِرُ. غريزةٌِ في أنفسهم، وَسَجِيَّة لهم جُبلُوا عليها. لكنْ كانوا قبلَ الإِسلامِ طَبِيعةً قَابِلَةً للخيرِ ليسَ عندَهم عِلْمٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّماءِ، وَلاَ هُمْ أيضاً مُشْتَغلُونَّ ببعضِ العُلُوَم العَقْلية المَحْضَة كَالطِّبِّ أو الحِسَاب أو المَنْطِقِ (مثل اليونان والهند). إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم. إنَما علمُهُمْ ما سَمَحَتْ بهِ قًرَائِحُهُمْ مِنَ الشِّعْرِ والخُطَبَ أو ماَ حَفِظُوه مِنْ أنْسَابهِمْ وأيَّامِهم، أو ما احْتَاجُوَا إليه في دنياهم مِنَ الأنواء والنُجوَم، أو الحُروب، فلما بعثَ الله محمداً فيهم... فَأخذوا هذا الهدي العظيم بتلكَ الفِطْرةِ الجيدةِ فاجتمِعََ لهم الكَمَال التَامُ بالقوة المَخْلُوَقَةِ فيهم، والهُدَى الذي أنزلَهُ عليهم. واعلم أنًهُ ليسَ فَضْلُ العَرَبِ ثمَّ قُرَيْشٍ ثُم بني هَاشِمٍ بمجردِ كَوَْنِ النبي (ص) مِنْهُمْ كما يُتَوهمُ -وإنْ كانَ هوَ عليه السلام قد زَادَهُمْ فضلاً وشرفاً بلا ريب- بل هُمْ في أنْفُسِهِمْ أفْضَلُ وَأشرفُ وأكْمَلُ. وبذلكَ ثَبَتَ لَه عليه السلام أنَّهُ أفضل نَفْساً وَنَسَباً، وإلا لَلَزمَ الدَّوْرُ وهو بَاطِلٌ.
وبالجملة فالذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأن قريشاً أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله (ص) أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق أجمعين، وأشرفهم حسباً ونسباً، وعلى ذلك درج السلف والخلف. قال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكَرْمَانيُّ صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة، التي قال فيها: "هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها. وأدركت من أدركت من أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، وأن من خالفها أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق". وساق كلاما طويلا إلى أن قال: "وَنَعْرِفُ للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ونحبهم... ولا نقول بقول الشعوبية" -وأرادَ الموالي الذين لا يُحبونَّ العرب ولا يقرُّونَّ بفضلهم-، "فإن قوَلهُمْ بِدْعَةٌ وخلاف".
إذا علمتَ هذا فاعلمْ أنَ الذي يرجعُ إليه ويعوَلُ في الفَضْلِ عليه هو الشَرفُ الكسبيُّ الذي منه العلم والتقوَى، وهو الفضل الحقيقي -لا مجرد الشرف الذاتي الذي هوَ شرف النَسب- بشهادةِ القران ِوشهادة النبيّ عليه السلام وشهادةِ الأذكياء مِنَ الأنام... فمنَ الغُرورِ الوََاضِحِ، والحُمْقِ الفَاضِحِ أنْ يفتخرَ أحدٌ مِنَ العَرَب على أحد مِنَ العجم بمجردِ نَسَبهِ، أو حَسَبهِ، ومن فَعَلَ ذلكَ فإنه مخطئ جَاهل مغرورٌ. فَرُبَّ حبشي أفضل عند الله تعالى منَ ألوَف مِنْ قريشٍ. قال الله تعالى في مثلِ ذلك: {يَا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ و أنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقبائلَ لتعارَفوا، إنِ أكْرَمكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}. وقال تعالى: {وَلأمَة مُؤْمِنَةٌ خَيرٌ مِنْ مُشْركَةٍ وَلَوَْ أعْجَبَتْكُمْ... وَلَعَبْدٌ مُؤْمنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}...
واعلم أن لفظَ الأعراب هوَ في الأصل اسم لسكان باديةِ العَرَبِ، وإلاَّ فكلُّ أمَّةٍ لها حاضرة وبادية، فباديةُ العَرَب الأعراب، وبادية الروم الأرْمَن، وباديةُ الفُرْس الأكْرَاد، وباديةُ التُرْكِ التركُمَان، فسائر سكان البوادي لهم حكم الأعراب سوَاء دخلوا في لفظِ الأعراب أم لم يدخلوَا. فجنسُ الحاضرة أفضل من جنس البادية، وأما باعتبار الأفراد فقد يوجد من أهل الباديةِ ما هو أفضل من ألوفٍ من أهل الحاضرة.
وأما الرطانة: التي هي التَكلمُ بغير العربيةِ تشبهًا بالأعاجم، فقد قالَ عمرُ بنُ الخَطَّابِ: "إيَّاكم وَرَطَانة الأعاجم. وانْ تدخلوَا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم". وفي لفظ آخر عن عمرَ: "لا تَعَلّموَا رَطَانَةَ الأعاجمِ، ولا تدخلوَا على المشركين في كنائسهم يوَم عيدهم فإن السخطة تنزلُ عليهم". وقالَ الإِمامُ مالك فيما رواه ابنُ القاسم في "المُدونة": "لا يُحرِمُ بالأعِجمية، ولا يدعو بها، وَلا يحلف". وقال: "نهى عمر عن رطانةِ الأعاجم". وسئلَ الإِمام أحمد عن الدعاءِ في الصلاة بالفارسية فكرهه، وقال: "لِسَانُ سوء". ومذهبهُ أنَ ذلكَ يُبْطِلُ الصلاة. وَكَرِهَ الإِمامُ الشافعي لمن يعرف العربيةَ أن يسمي بغيرها، أو أن يتكلم بها خالطاً بالعجمية، وهو ظاهرُ كلامِهِ فيما حكاه عنه ابن عبدِ الحكم. انتهى.
الفخر بالأنساب وأثرها على الكفاءة في النكاح
روى ابن أبي شيبة (2|336) وكذلك الطبري في تهذيب الآثار، أن جماعة من الصحابة قالوا لسلمان الفارسي (ر): «صل بنا يا أبا عبد الله أنت أحقنا بذلك». فقال: «لا أنتم بنو إسماعيل الأئمة ونحن الوزراء». صححه الألباني في الإرواء. وروي عن سلمان قوله: «اثِنْتَانَ فَضَلْتُمُونَا بِهَا يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لاَ نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ وَلاَ نَؤُمُّكُمْ». وفي رواية: «إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم. إن الله هدانا بكم». قال ابن أبي حاتم في "العلل" (2|406 #1215) : «سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي (اختلف فيه قول ابن معين) قال: قال سلمان: "... لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم" . قال أبو محمد (ابن أبي حاتم): ورواه شعبة عن أبي إسحاق عن أوس بن ضمعج (ثقة) عن سلمان. قلت: أيهما الصحيح؟ قالا: "سفيان أحفظ من شعبة، وحديث الثوري أصح"». قلت: قد تابع شعبةَ عمارُ بن رزيق عند البيهقي، وهو ثقة، وكذلك عبد الجبار بن العباس (فيه خلاف شديد) عند الطبراني في الكبير وعند البزار. قال البيهقي: «هذا هو المحفوظ موقوف». وأبو إسحاق ثقة ثبت يتحمل تعدد الروايات، وإن كان قد ضعف حفظه بآخره، فسفيان وشعبة ممن سمعوا منه أولاً. وقد صرح أبو إسحاق بالسماع في رواية شعبة كما في مسند ابن الجعد وسنن سعيد بن منصور، فذهبت مظنة التدليس.
قال شيخ الإسلام: «إسناده جيد. وهذا مما احتج به الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى الأعجمي، واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقاً لواحد معين، بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح، حتى أنه يفرق بينهما عند عدمهما، واحتج أصحاب الشافعي و أحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة». وقد اعتبر ابن تيمية -في موضع آخر- قول سليمان (ر): اجتهاداً منه، وقرر الذي يُقدِّمُ في الصلاة وفي النكاح: كفاءة الدين. وقرر أنه لا يوجد نص صريح عن النبي (ص) فيما قاله سلمان. قال مجموع الفتاوى (19|26): «وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنسب، لا يقول به أكثر العلماء. وليس فيه نص عن النبي. بل الذي ثبت في الصحيح عنه أنه قال:"يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله"، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة. فإن كانوا في السُّنة سواء، فأقدمهم هجرة. فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً. فقدمه بالفضيلة العِلمية ثم بالفضيلة العمَلية. وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة، ثم الأسبق إلى الدين باختياره، ثم الأسبق إلى الدين بسنه. ولم يذكر النسب. وبهذا أخذ أحمد وغيره، فرتب الأئمة كما رتبهم النبي، ولم يذكر النسب. وكذلك أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة، لم يرجّحوا بالنسب. ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم. واحتجوا بقول سلمان الفارسي أن "لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا تنكح نساءكم". والأولون يقولون إنما قال سلمان هذا تقديماً منه للعرب على الفرس، كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه حقك عليَّ كذا. وليس قول سلمان حكما شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله. ولكن من تأسّى من الفرس بسلمان، فله به أسوة حسنة. فإن سلمان سابق الفرس (للإسلام)».
أقول: أما التخليط بين فضل العرب وبين الكفاءة بين النكاح فلا يجوز، وشتان بين الأمرين. فإن فضل العرب كجنس لا كشخص. ومجرد كون المرأة عربية، لا يعني فضلها على الأعجمي، وإن كان العرب بالجملة أفضل من العجم، لا لمجرد كونهم عرباً بل لأن أهل الفضل فيهم أكثر من غيرهم. والمسلم الصالح وإن كان أعجمياً كفء لكل مسلمة صالحة وإن كانت هاشمية. وقد زوج النبي (ص) زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه، وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة وهو وأبوه عتيقان، وتزوج بلال من أخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية القرشية مع أنه حبشي أسود، وغير ذلك كثير.
سُئِل ابن جبرين: يرى بعض الناس أن التفاخر بالأنساب شيء محمود ويستدلون بقوله تعالى {ورفع بعضكم فوق بعض درجات}، فما رأيكم؟ قال: «هذا ليس بصحيح على الإطلاق. فإن الفخر بمجرد النسب لا يجـوز. وقد ورد في الحديث "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا أو ليكونن أهون على الله من الجعل يـد هده الخـراء بأنفه". فالفخر بالحسب من أمور الجاهلية. قال (ص): "إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالأباء. إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي. الناس كلهم بنو أدم، وأدم من تراب". فالإنسان يشرف بأفعاله، ولا ينفعه شرف آبائه وأجداده. وقال الشاعـر : إذا افتخرت بأقوام لهم شرف * قلنا صدقتَ ولكن بئس ما ولدوا».
وسُئل ابن عثيمين: ينتشر بين سكان نجد وغيرهم قصر الزواج على ناس وتحريمـه على آخرين لأن هناك تفرقة فهذا حرفي وهذا صانع وهذا خضيري وهذا قبيلي، فهل قصر الزواج على فئة دون فئة يقره الشـرع؟ قال: «اختلف العلماء فيما تعتبر فيه الكفاءة في النكاح. والصحيح أنها تعتبر في الدين لقوله تعـالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}. ويــدل لذلك أن النبي زوج زيد بن حارثة مولاه زينب بنت جحش وهــي قرشية وأمها هاشمية. وزوج أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وهي قرشية. وزوج أبا حذيفة وهو قرشي مولاه سالماً ابنة أخيه. وزوج عبد الرحمن بن عوف (ر) بلال وهو حبشي وعتيق لأبي بكر. وبذلك يتبين أنه لا حرج في الشرع أن يتزوج قبيلي من العجـم والموالي وما يسمى عند الناس خضيري. والعكس أيضاً صحيــح فلا مانع أن يتزوج الخضيري القبيلية».
حال قبائل العرب اليوم في الجزيرة
بعد الفتوحات الإسلامية الكبيرة، انتقلت عاصمة الخلافة من المدينة المنورة إلى الكوفة بالعراق بعصر علي رضي الله عنه، ثم انتقلت إلى دمشق في عصر معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فأصبحت صورة شبه الجزيرة العربية فارغة من الذكر سوى مكة و المدينة لأنهم تخص الشعائر الإسلامية من حج و عمرة. و أصبحت صحاري نجد في طي النسيان لأن العيون و الناس اتجهت إلى دول الأمصار مثل مصر و العراق و الشام و فارس. ولذلك لم يهتم المؤرخون بأخبار القبائل العربية بالجزيرة العربية و لا أخبار بلدانهم: متى أنشئت؟ فلا تجد من يذكرهم إلا قليل مثل مؤرخين الدول، مثل بعض ما ذكره الطبري عن بعض الأحداث و تاريخ خليفة بن خياط وما يأتي عرضاً في كتابات مؤرخين آخرين.
ويوجد مؤرخين بمكة و المدينة تجدهم يذكرون طرفاً من أحداث القبائل، كابن فهد المكي و ابن زيني دحلان و العاصمي، على أنهم لا يذكرون من أخبار القبائل إلا ما حدث بين القبيلة و الدولة فقط. و أول من أرّخ أخبار بادية نجد في حد علمي، هو حسين بن غنام الأحسائي، ثم تبعه جماعة كابن بشر و ابن عيسى. لكن غالب المؤرخين يذكرون حقبة قريبة جداً، و لا تجد ما يشفي الغليل. وخلال تلك العصور الطويلة التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً، تغيّرت مسميات القبائل، فلم تعد تٌنادى بأسمائها الأولى إلا القليل منها. كما حدثت تغيّرات أساسية بسبب ظهور بطون جديدة و تكاثر عشائرهم. كما أن الكثير من القبائل قد هاجرت إلى البلدان الأخرى. ونزلت قبائل في أماكن أخرى مثل قبيلة حرب الخولانية حيث هاجرت بالقرن الرابع الهجري من اليمن إلى الحجاز، وهاجرت قبائل بني سليم بالقرن الخامس الهجري إلى إفريقيا.
وهناك قبائل مختلفة تحالفت مع بعضها، ثم مع مرور الزمن التحمت ببعض ونشئت قبيلة جديدة أصولها مختلفة. فكثير من القبائل الكبرى اليوم، لا يُعرف عن تاريخها أكثر من مئتي عام فقط، ولا نعرف ماضيها ولا متى تأسست ومن كان مؤسسها. وتجد لها أكثر من موقع على الانترنت كل واحد يزعم أصلاً مختلفاً لها، عدا عما ذكروه في الكتب المعاصرة. وكل هذا بسببب اختلاط القبائل. فلو دخلنا من باب التفرعات، نجد تفرعات لبعض القبائل صارت أحلافا لقبائل أخرى وكونت قبائل جديدة وضاع نسبها القديم وتم خلط أصولها.
فضل قريش على العرب
الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأن قريشاً (كجنس لا كأفراد) أفضل العرب. وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة، منها ما أخرجه الشيخان في الصحيحين: الناسُ تَبَعٌ لقريشٍ في هذا الشأن: مُسلمِهُم تبعٌ لمسلمهِم، وكافِرُهُم تبع لكافرهِم. والناس معادن: خِيارهُم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام إذا فقهوا (ب 3235، م 3389). إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين (ب 3239، م 3392). لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان (ب 3240، م 3392).
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: «وأما قوله (ص): "الناس تبع لقريش في الخير والشر" فمعناه: في الإسلام والجاهلية، كما هو مصرح به في الرواية الأولى. لأنهم كانوا في الجاهلية رؤساء العرب، وأصحاب حرم الله، وأهل حج بيت الله. وكانت العرب تنظر إسلامهم، فلما أسلموا وفتحت مكة، تبعهم الناس، وجاءت وفود العرب من كل جهة، ودخل الناس في دين الله أفواجا. وكذلك في الإسلام هم أصحاب الخلافة والناس تبع لهم. وبين (ص) أن هذا الحكم مستمر إلى آخر الدنيا ما بقي من الناس اثنان». قلت: وهذا يقتضي أن "الناس" هنا تعني العرب. ومعلوم أن الناس في الصين مثلاً لا متعلق لهم بهذا، وهم ليسو تبعاً لقريش. على أن المسلمين هم تبعٌ للعرب، والعرب تبعٌ لقريش. أما داخل قريشٍ نفسها، فلم يأت حديث ينص على بطنٍ فيها دون آخر. أبو بكر من بني تيم، وعمر من بني عدي، وعثمان من بني أمية، وعلي من بني هاشم. والستة الذين رشحهم عمر للخلافة هم من بطون شتى. فدل على أن سائر بطون قريش تصلح للخلافة.
أهل البيت بين الغلو والجفاء
أهل البيت اليوم وتحديداً ذرية الحسن والحسين حصراً، بين غلو الشيعة والصوفية وبعض المحسوبين على أهل السنة الذين يجعلونهم كعائلة مقدسة فوق العالمين، وبين بعض الجهلة والشعوبيين الذين ينكرون فضل بني هاشم وقريش فضلا على فضل العرب على باقي الناس. قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (27|472): «إن بني هاشم أفضلُ قريش، وقريشاً أفضلُ العرب، والعربُ أفضل بني آدم». وهذا المسألة كثر فيها الغلط لأن هذا الفضل هو تفضيل الجنس وليس تفضيل الأفراد. فليس لأحد من بني هاشم أن يفتخر بنسبه وإن كان نسباً شريفاً، إذ أن الفضل لا يحصل له بذلك النسب بل يحصل بالعمل وحده. وإنما معنى فضل قوم أن نجد فيهم من الفضلاء (أي بعملهم وأخلاقهم) أكثر مما نجد في غيرهم من الناس. فإن الهاشمي الذي ليس من هؤلاء الفضلاء فالذم عليه أكثر من باقي الناس. وهذا واضح إن شاء الله، فإن الفاسق الذي ينشئ في أسرة علمية فاضلة، يكون عليه الذم أشد من الفاسق الذي ينشئ في بيئة بعيدة عن الإسلام.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (27|472): «إن بني هاشم أفضلُ قريش، وقريشاً أفضلُ العرب، والعربُ أفضل بني آدم». وقال في منهاج السنة (4|600): «ولا ريب أنه لآل محمد (ص) حقا على الأمة لا يشكرهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحقه سائر بطون قريش. كما أن قريشا يستحقون من المحبة والموالاة مالا يستحقه غير قريش من القبائل. كما أن جنس العرب يستحق من المحبة والموالاة ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم. وهذا على مذهب الجمهور الذين يرون فضل العرب على غيرهم وفضل قريش على سائر العرب وفضل بني هاشم على سائر قريش. وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره. والنصوص دلت على هذا القول كقوله (ص) في الحديث الصحيح: "إن الله اصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم". وكقوله في الحديث الصحيح: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا". وأمثال ذلك. وذهبت طائفة إلى عدم التفضيل بين هذه الأجناس. وهذا قول طائفة من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى في "المعتمد". وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية، وهو قول ضعيف من أقوال أهل البدع، كما بسط في موضعه وبيّنا أن تفضيل الجملة على الجملة لا يقتضي تفضيل كل فرد على كل فرد، كما أن تفضيل القرن الأول على الثاني والثاني على الثالث لا يقتضي ذلك. بل في القرن الثالث من هو خير من كثير من القرن الثاني. وإنما تنازع العلماء هل في غير الصحابة من هو خير من بعضهم على قولين...».
أما عن مطالبة الشيعة بحصر الخلافة والملك بأيدي مدعي النسب إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، فالتاريخ يشهد بأنها دعوة ليس فيها مصلحة للمسلمين. فهل في من حكم من ذرية الحسنين على كثرتهم من يوازي معـشار عمر بن عبد العزيز؟ أو صلاح الدين؟ أو يوسف بن تاشفين؟ أو نور الدين زنكي؟ هذا مع كثرة من حكم منهم، ومع أنهم أخذوا فرصة أكثر من غيرهم. أما عن دعوى ظلم الحكام لهم، فاقرأ وتبصر وراجع ما كتب المؤرخون عن مقاتل الطالبيين لتعلم أن العلويين قتلوا بعضهم البعض في سبيل السلطة، وارتكبوا مجازر تقشعر لها الأبدان. فإن قيل أنهم تفرغوا للإنتاج العلمي، فأين هذا الإنتاج؟ هل ألف أحد منهم مثل صحيحي البخاري ومسلم أو مثل موطأ مالك؟! وهل كتب أحدهم مثل كتاب الأم للشافعي؟ وهل من كتب على الأقل في السيرة مثل ابن إسحاق أو في التفسير مثل الطبري؟ فإن كان لا، فإن هذا دليل على أنهم بشر مثل باقي الناس منهم الصالح ومنهم الطالح، وليس عندهم علم ليس عند غير الناس، وليس لهم قدرات فائقة تجعل لهم ولاية بغير عمل. وقد حكموا دولاً كثيرة في المغرب (كالأدارسة) وفي المشرق وفي اليمن وفي غيرها، فوجدناها مثل باقي الدول في عصرها، بل دولة بني أمية في الأندلس قد فاقت دولة الأدارسة في المغرب قوة وحضارة وكثرة في العلماء.
ادعاء النسب العلوي
يكثر في أيامنا هذه ترديد مقولة أو قاعدة «الناس مؤتمنون على أنسابهم، ما لم يدعوا شرفا». ونرى كثيرا من الباحثين و مدعي العلم و العامة يستخدم هذه القاعدة ليثبت صحة انتسابه لقبيلة أو عائلة ما. و كثير ممن يدعون النسب الشريف يدندنون حول هذه المقولة ليثبتوا انتسابهم إلى الرسول الأعظم. بل يعتقد بعض الناس أن هذه المقولة هي حديث نبوي شريف، وهذا اعتقاد خاطئ و لا يستند إلى أي دليل معتبر. وكثير من العامة يروون المقولة مكتفين بجزئها الأشهر، متناسين تتمة العبارة و هي «ما لم يدعوا شرفا». وهذا المقالة تنسب إلى الإمام مالك. وهي -على فرض ثبوتها- قاعدة فقهية (تستخدم في مسائل اللقطاء و إلحاق ولد الفراش، والمواريث، و ما شابهها من مسائل فقهية) وليست قاعدة أنساب. بل إنها لم ترد ابتداء في كتب الأنساب المعتبرة. بل نقلها كتاب متأخرون كتبوا في علم الأنساب دون دراية، مما ساعد في انتشار المقولة واعتبارها قاعدة في الأنساب لا تقبل الجدال. و يذكر الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "معجم المناهي اللفظية" حول أصل المقولة: «هذا لا أصل له مرفوعا. ويذكر علماء التخريج أنه من قول مالك وغيره من العلماء. وإلى هذه الساعة لم أقف عليه مسندا إلى الإمام مالك أو غيره من العلماء».
ومعنى المقولة أن الناس مؤتمنون على أنسابهم ما لم يدعوا الشرف ويثبت خلاف ما يدعون. فإذا ما ادعوا نسباً شريفاً أو ثبت خلاف ما يدعون، سقطت القاعدة و لم يعتد بها. قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "فقه النوازل" (1|122): «وهاهنا فائدة يحسن تقييدها والوقوف عليها وهو أن هذا (أي المقولة السابقة) ليس معناه تصديق من يدعي نسباً قبلياً بلا برهان، ولو كان كذلك لاختلطت الأنساب، واتسعت الدعوى، وعاش الناس في أمر مريج، ولا يكون بين الوضيع والنسب الشريف إلا أن ينسب نفسه إليه. وهذا معنى لا يمكن أن يقبله العقلاء فضلاً عن تقريره. إذا تقرر هذا، فمعنى قولهم "الناس مؤتمنون على أنسابهم" هو قبول ما ليس فيه جر مغنم أو دفع مذمةٍ ومنقصة في النسب، كدعوى الاستلحاق لولد مجهول النسب». وعموماً فهذه القاعدة تعتبر هشة لا يعتد بها دائما. و مما يدل على ذلك أنك تجد أفرادا يتنسبون إلى قبيلة واحدة أو أسرة واحدة يختلفون حول انتسابهم إلى جد معين، و تجد اختلافهم كبيرا. و كثير ممن اشتغلوا بعلم الأنساب و ألّفوا فيه وتعمقوا، لا يثقون بهذه القاعدة و لا يعتدون بها، لأنه ثبت لهم أن الناس قد يجهلون أنسابهم.
وردت أحاديث صحيحة عديدة في التحذير و الوعيد لمن انتسب لغير أبيه وهو يعلم، و لا شك أن مثل هذا الأمر مدعاة لاختلاط الأنساب و ضياع للحقوق و كذب صريح. فقد ورد في صحيح البخاري (6|539) عن أبي ذر (ر) أنه سمع النبي (ص) يقول: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار». و كذلك في صحيح البخاري (12|54 #6768) عن أبي هريرة (ر) عن النبي (ص) قال: «لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر». ولعل أكثر نسب في الدنيا افترى أقوام الانتساب إليه هو نسب فاطمة رضي الله عنها. وأكثر من ادعى هذه الدعوة هم الشيعة والمتصوفة لنيل الدنيا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
اخطاء العلامة بن خلدون و قسوته عى العرب رحمه الله
الشيخ عبدالرحمان بن خلدون من العلماء الاجلاء الذين اسسوا علم الاجتماع و لكنه ليس نبيا و انما هو كمثله من العلماء يؤخذ منه و يرد و قد نبه الى بعض اخطائه و قد رد عليها الكثير من العلماء في ابواب التاريخ والعقيدة والحديث ، وممن رد عليه في بعض المسائل : الهيثمي وابن حجر والغماري والشيخ عبد الرزاق حمزة والعلامة الألباني و غيرهم .
و من المأخذ الكبرى و الاخطاء و الزلات الكبرى التي وقع فيها هذا العالم المسلم الجليل رحمه الله و غفر له ما كتبه و ما أصدره من احكام قاسية وغريبة في حق العرب , وفي بعضها ذم صريح لهم , وإنقاص من مكانتهم و فضائلهم الطيبة التي اقرتها السنة الشريفة و اقرها علماء جمهور الامة الاسلامية .
فمن كلامه رحمه قوله في المقدمة عن العرب : (إن العرب بدون التدين فهم أشبه بالبهائم بخلاف الأمم الأخرى )
و قد افترى هنا إفكا مبينا رحمه الله وأتى جهلا ومينا ، وإن لم تكن هذه هي الشعوبية التي تغض من قدر العرب ولا تقر بفضلهم فليس في الأرض شعوبي!
ولست هنا بسبيل سرد فضائل العرب وخصائصهم التي تميزوا بها ، فيكفيني أن أصدع قائلاً ـ مع كرهي للحديث عن الأممية ولكن مكرهٌ أخاك لا بطل ؛ ـ : ( ليس في الأرض قديما ولا حديثا مسلمٌ يشهد الشهادتين إلا وهو مدينٌ للعرب ، إذ منهم محمدٌ عليه صلوات الله وسلامه ، ومنهم حمَلة النور الأوائل ، والجيلُ الذي لا مثيل له في التاريخ ، فمنهم خاتم الأنبياء ، ومنهم سيد الأولياء أبو بكر ، ذلك هو الفضل العظيم .
فإن قال قائل : ليس لكم أن تذكروا ـ في معرض الحديث عن تباين الأمم وفضلها ـ خاتم النبيين لأنه بُعث للناس كلهم ، قلتُ : من يمنع تميما أن تسمو بقيس بن عاصم ؟ ومذحجا أن تبذخ بعمرو وإقدامه ؟ وطيئا أن تحتج بحاتم وكرمه؟ ولعمري لئن جرّدنا فزارة من بني بدرها ، وبكرا من شيبانها ، وتغلب من كليبها فلن يبقى للمنافر مفخرة ، وللمنازع حجة!
أفيصح ـ في رؤيتكم ـ أن تفخر الروم ببطارقتها و وتنخر الفرس بمرازبتها، زرافات ووحدانا ، و أما العرب فحماهم مباح ، وفضلُهم لا يخصهم وحدهم بل هو للكافة متاح! تلك إذاً قسمة ضيزى .
وما ذكرت ـ أعلاه ـ من فضل العرب إلا مثالاً واحدا من الجيل الأول ، فكيف بما قبله وما بعده ؟
أما قول ابن خلدون إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، فإن أراد بالملك : أن يملكوا سائر الأمم ويتصدروا سائر الأعراق في قيادة الإسلام وسياسة الناس ، فهو صحيحٌ لا غبار عليه .
وأما إن أراد مطلق الملك ، أي لا يحصل لهم حضارة أبدا ويكون سيلهم زبدا أو كما عبّر أحد المعلقين : يصيرون أشبه بالبهائم ، فإنه قولٌ منكر لا أظن ابن خلدون قصد إليه أو حام حوله .
فأين ذهب مُلك تبع الذي قال الله فيه : ( أهم خيرٌ أم قوم تبع ) وأين طارت حضارة بلقيس التي قال تعالى فيها حكاية عن الهدهد : (وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ) ثم المحاورة التي دارت بينها وبين وزرائها : (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون * قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد ) الآيات ، إلى قوله : ( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين )
ولا يجهل ذو عقل أن التبابعة ملوك حمير ، وحمير من العرب ، وهذا استدلال من التنزيل الذي هو أصدق قيل ، على أنه قد كان لمن يعبد الشمس من العرب ،حضارةٌ وعمارة ونظام وشورى ومفاخر في قياس أهل الدنيا .
وأما خراب ما اعتمره العرب وأثاروه من البلدان ، فهذا من سنن الله في خلقه كافة ، وليس خاصاً بالعرب ، لقوله تعالى : ( وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا ) فكل هذه المدن والقرى لا بد أن تضمحل ، وقد يموت البلد ويهجره أهله ، ثم يعمره قوم آخرون .
واعتبر ـ في حضارتهم العمرانية ـ بحال العراق الذي لم يكن فيه مدن مشهورة ولا قلاع معمورة ، سوى مدائن كسرى ونحوها ، فلما أتى العرب بنوا ـ على حداثة عهدهم بالصحراء ـ مدنا عظيمة بلغت الغاية في العلم والأدب والقوة والترف والغنى ، كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط وغيرها .
فإن قلت: إنما بنوا هذه المدن حين تلبسوا بالإسلام وهذا جارٍ على رأي ابن خلدون لا إشكال فيه ، قلتُ : فأين ذهب ـ على حين جاهليتهم ـ المدن المشهورة المسماة بأسمائهم وأسماء ملوكهم في اليمن مثلا؟ وأين سد مأرب المشهور وقد كانوا في رغد عيش حتى وصفهم تعالى بقوله : (بلدة طيبة ورب غفور ) ، وقبلهم اشتهر قوم عاد وثمود وهم كفرة فجرة ، بالبناء والتفنن فيه ، قال تعالى : ( أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) ( أتتركون فيما ههنا آمنين في جنات ونعيم )
قال بن خلدون رحمه الله في المقدمة :
(من عوائد العرب الخروج عن ربقه الحكم وعدم الانقياد للسياسة فهم متنافسون في الرئاسة وقل أن يسلم الأمر احد منهم إلى غيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل ولو على كره..كره من اجل الحياء فيتعدد الحكام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام فيفسد العمران و ينتقض..)
وقال أيضاالعرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثرعظيم من الدين على الجملة والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض.. للغلظة والأنفة وبعد الهمة و المنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد و التنافس.. العرب بغير الإسلام لا يساووا قلامة ظفر..)
رحم الله بن خلدون(1332م- 1406م)..فهل تراه قال ذلك لخيبة حظه فى دنيا السياسة والسلطة..وتلك الخيبة حين يعبرعنها مثقف عادة ما تكون ثقيلة وساخطة..وقد أنبأنا التاريخ عن خيبات كثيرة لمثقفين راحوا وغدوا على باب السلطان فما ابتلت جوانحهم شوقا إلى السلطة والنفوذ ولاجفت أقلامهم فى المدح والذم ولاخفت أقدامهم فى سعيهم الجموح.. بل زاد حنقهم وضيقهم من الدنيا والناس..ظهر ذلك فى كتاباتهم..وأرائهم التي خلفوها وراءهم.
على انه ما كان يصح لابن خلدون قول ما قاله على العرب فى مقدمته..ولا حتى بحق أي شعب عربيا كان أم غيرعربي خصوصا أن الدين والعقل يرفضان هذا الوصف المعمم الذى جاوزالحقيقة وجاء ناضحا برؤية شخصية مريرة لابن خلدون وكان يجب أن لا يقوم بتعميمها فيصف العرب قاطبة بالتوحش والغلظة وأنواع الشرور الأخرى..نستطيع أن نفهم وجود أخطاء بطبائع البشر أيا ما كانوا وأينما كانوا..لكن من المستحيل استيعاب فكرة تعميم ظاهرة التوحش والغلظة ووقفها على شعوب الأمة العربية . وهو الأمر الذى يجب ان يكون موضع نقد علمي وموضوعي من المفكرين العرب دون إنقاص من القيمة العلمية والفكرية لابن خلدون أما أن تحتفي به أجيال الأمة جيلا بعد جيل دون إشارة لتلك الأخطاء المبالغ فيها وغيرها مما احتوته المقدمة دون قراءات نقدية لأفكارها التي تأثرت بالعوامل الاجتماعية والسياسية التي عاشها الرجل فهو مما لايقبل ..وأود أن أشير هنا الى السلوك العربي إذا قيس بسلوك شعوب أخرى ما كان أبدا ليوصف بالتوحش والغلظة وإلا فبماذا نصف الرومان الذين كانوا يتسلون بمصارعة العبيد حتى الموت أو يلقون بإنسان لمصارعة أسد أو نمر بينما يجلس المتفرجون على المدرجات يهتفون مبتهجين بالمشهد الدموي الذي يشاهدونه.. فهل هناك وحشية أكثر من ذلك.. وهل يذكر التاريخ مجزرة واحدة ارتكبها العرب في مدينة واحدة كما حدث في هيروشيما.. بل هل سجل العرب ضمن حروبهم منذ واحد على عشرة من الأرقام التي سجلتها أوروبا فى القرون الوسطى او فى الحربين الأولى أوالثانية في أعداد القتلى؟!إن كان العرب وحوش فماذا نسمي ما حدث للهنود الحمر فى أمريكا على يد الأوربيين..وماذاعن محاكم التفتيش.؟
الدكتورعماره فسرأقوال بن خلدون بأنها كانت عن الأعراب الموغلين فى البداوة والتوحش قبل أن يتدينوا بالإسلام فتتهذب طباعهم..وهذا تفسير مريح نفسيا لكنه ليس تفسيرا مانعا..يلغى غيره ..
لذلك نجد من فسرهذه القسوة باعتبارها نتيجة أزمة نفسيه عاشها بن خلدون تزامنت مع فترة أليمه في تاريخ الأمة العربية فشاهد حاله احتضار مؤسفة لخير أمه أخرجت للناس..فكان مثقلا بالمرارة والنقمة عندما وجدهم غارقين فى نزاعاتهم الداخلية ورأى بعينيه سقوط دولة المغرب وانهيار دولة المشرق تحت أقدام الأسبان والتتار وكان شاهدا مباشرا على هذا الانهيار ناهيك عن أسره فى أيدى تيمورلنك إمبراطور الخراب(1336م-1405م)
العديد من المستشرقين ومراكز البحوث فى الغرب اعتمدت على مقدمة ابن خلدون بوصف الشعوب العربية بالمتوحشة والتأكيد على أنهم بالفعل شعوب متوحشة غير حضارية لا يعرفون إلا(مضارب الخيام و السرارى و الخصيان وحروب الثأروالنزاع على ناقة وبئرماء )وغيرها من التوصيفات الفاسدة التي يرددها الغرب استنادا إلى مقدمة ابن خلدون وشهادة عصره على أبناء أمته حتى ان أحد مراكز الأبحاث بالوطن العربي الممولة من الخارج تحمل اسم ابن خلدون كنوعٍ من التذكيرأو تثبيت فكرة التوحش والغلظة التي أُلصقت بالعرب من قبل ابن خلدون نفسه. وقد يكون الدافع بالفعل آن الرجل علامة من العلامات البارزة فى علم الاجتماع و فلسفه التاريخ..
لايمكن أبدا ونحن نقول ذلك أن نحصر بن خلدون فى دائرة القسوة على العرب وكيل التهم لهم ..ونغفل مكانته الكبرى في تاريخ الفكر الإنساني ..فالحق الحقيق آن الرجل هو المنشئ الأول لعلم الاجتماع ..عالج فيه ما يطلق عليه الآن(المظاهر الاجتماعية)أوما اسماه هو(أحوال الاجتماعي الإنساني) وكان بحق سابقا لعصره وتأثر به عدد كبيرمن المفكرين الغربيين الذين جاءوا بعده مثل: العالم الإيطالي جامبا فيكو(1667م-1744م) والعالم الالمانى افرايم ليسنج (1729م-1781م) كما تأثر به جان جاك روسو(1712-1778) والإنجليزي مالتس(1766م-1842م) فى فكره التزايد السكانى..وهو اول من تحدث عن التحولات الديموجرافيه و الدياليكتيك(الصراع) قبل جورج هيجل(1770-1831م) وكارل ماركس (1818م-1883م).
ابن خلدون حارب الجهل ومظاهرالشرك والتفرقة السياسية والتخلف وسعى لوحدة المسلمين ودفع الأذى عنهم وغامر بنفسه بمقابلته لتيمورلنك المعروف بشراسته ودمويته لحماية دمشق من الاستباحة والترويع المغولي.
على الجانب الشخصي كان بن خلدون كمعظم المثقفين الكبار نرجسيا شديد الاعتزازبنفسه وشديد الثقة بنبوغه..قوى الشخصية جامح الطموح ..كان انتهازيا أحيانا ووفيا أحيانا ..كما انه كان يجيد فهم حركه السياسة في عصره ومجتمعه..وصفه بعض الباحثون بانه كان(عالم سياسي بكل جدارة وسياسي عالم بكل اقتدار بما في كلمة سياسة من مراوغة وتملق وما في كلمة علم من نزاهة وأخلاق.)كان يسعى الى المناصب ويحبها ويفتعل المكائد ضد زملائه عند الملوك والسلاطين ويقال انه كتب تقريرا إلى تيمورلنك حين غزا دمشق عن جغرافية المغرب.كان مجاملا متواضعا حسن العشرة وهو خارج السلطة ولكن كان قاسيا مغرورا حين يتولى منصب .
على أنى توقفت كثيرا عند قوله في مقدمته أن(الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم وهذا لما قدمناه من أن كل أمرتحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية.وفي الحديث الصحيح:ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه..و إذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية.)فهل كان مصلح الشرق جمال الدين الأفغاني موقنا بهذه الحقيقة الخلدونية؟؟فعمل على تأسيس(تنظيم) العروة الوثقى..والتنظيم ما هو إلا(العصبية) التى كان يشير إليها بن خلدون..ناهيك عن إيمان الأفغاني الكامل بان الشرق لن ينهض أبدا فى غياب الإسلام..وهل نقترب أكثر ونقول أن رواد الإصلاح الذين استمروا على نهج الأفغاني من بعده(الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا والأستاذ حسن البنا) اعتقدوا اعتقادا نهائيا بأنه لا إصلاح للأمة إلا بأمرين حاسمينالإسلام) و(التنظيم).. وهو ما ذكره بن خلدون بوضوح حين قال: (العرب بغير الإسلام لا يساووا قلامة ظفر)..(الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم ).
ولعل مما جعل هذه الرؤية الخلدونية قويه فى أذهان الإصلاحيين الكبار أنها كانت نابعة من تشخيص دقيق ومعاصر للحظه(انكسار كبرى)أصابت الأمة(سقوط قرطبة و بغداد)..وهى اللحظة التى لا زالت تفرخ وتتكاثر انكسارات تلو انكسارات حتى الآن .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
أخطاء المؤرخ ابن خلدون في كتابه المقدمة -دراسة نقدية تحليلية هادفة- . للدكتور الجزائري خالد علال كبير
لتحميل الكتاب الدخول لهذا الرابط مكتبة صيد الفوائد : https://www.saaid.net/book/open.php?cat=88&book=3796
الفصل الثالث نماذج من الأخطاء في مقدمة ابن خلدون من هذا الكتاب النفيس
نماذج من الأخطاء في مقدمة ابن خلدون
أولا: في الحديث النبوي .
ثانيا : مسألة تحكم المعاش في احوال الناس .
ثالثا: في أعمار الدول .
رابعا: في التقليد و التمذهب .
خامسا: في موقفه من العرب.
سادسا: في دفاعه عن هارون الرشيد و المأمون .
سابعا: في دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي .
ثامنا: في دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين .
تاسعا: في دفاعة عن ابن تومرت الموحدي .
عاشرا: أخطاء تاريخية متفرقة في المقدمة و العبر .
نماذج من الأخطاء في مقدمة ابن خلدون
تحتوي مقدمة ابن خلدون على أخطاء كثيرة ،و صواب كثير أيضا ، و نحن نركز على أخطائه و مجازفاته دون صوابه و روائعه ، لأننا خصصنا كتابنا هذا لأخطائه ، نذكر منها طائفة متنوعة فيما يأتي من هذا الفصل إن شاء الله تعالى .
أولا : في الحديث النبوي:
ذكر ابن خلدون أحاديث نبوية كثيرة في مقدمته ، جمعتُ منها طائفة ورد معظمها بصيغة الإثبات و الجزم ، دون تمييز بين صحيحها و سقيمها ، منها مجموعة من الأحاديث الضعيفة ، أولها حديث يقول : (( ألا و إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله ))[1] ، هذا حديث صحيح المعنى لكنه ضعيف[2] .و ثانيها حديث مفاده أنه لما نزل الوحي على رسول الله-عليه الصلاة و السلام- ذهب إلى زوجته خديجة –رضي الله عنها- و أخبرها بما حدث له ، أرادت اختباره ، فقالت له : (( اجعلني بينك و بين ثوبك )) ، فذهب عنه ذلك ، و عرفت أنه ملك و ليس شيطانا ،و قالت له (( إنه ملك و ليس شيطانا ))[3] . هذا الحديث لم أعثر عليه في المصادر الحديثية ،و لكنه ضعيف لأن الذهبي ذكره في سِيَر أعلام النبلاء بإسناد منقطع[4] .
و ثالثها حديث يقول : (( لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرما[5])) ، قال عنه الترمذي : غريب ، و ضعفه محمد ناصر الدين الألباني[6] . و رابعها حديث يقول : (( سيروا على سير أضعفكم )) ، ذكره كل من علي القاري الهروي و محمد ظافر المدني في الأحاديث الموضوعات[7] .
و رواية ابن خلدون لتلك الأحاديث الضعيفة و سكوته عنها هو خطأ فاحش ، كان عليه أن يتجنبه ، لأنه نسب إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ما لم يثبت أنه قاله ، و لأنه أوقع القارئ لمقدمته في الخطأ ، عندما جعله يتعبد بأحاديث و يعتقد أنها لرسول الله ، وهي ليست له .
لكنه –مقابل ذلك – أورد في مقدمته أحاديث أخرى صحيحة ، منها قوله عليه الصلاة و السلام (( إن فيكم محدثين ، و إن منهم عمر )) ، ذكره دون الإشارة لدرجته و راويه ، لكنه حديث صحيح ، رواه البخاري بلفظ مغاير بعض الشيء و المعنى واحد[8] . و الحديث الثاني قوله عليه الصلاة و السلام : (( اللهم اِمض لأصحابي هجرتهم ،و لا تردهم على أعقابهم))[9] . ذكره ابن خلدون دون الإشارة لدرجته ، و هو حديث صحيح أخرجه البخاري[10] و غيره .
و الحديث الثالث قال فيه ابن خلدون : (( و في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه و سلم- قال : الرؤيا ثلاث : ( رؤيا من الله ، و رؤيا من الملك ، و رؤيا من الشيطان )) ،و قد ذكر ابن خلدون هذا الحديث عندما تكلم عن الرؤيا و أنواعها و قسمها إلى ثلاثة أنواع ، و هي : رؤيا من الله ، و رؤيا من الملك ، و رؤيا من الشيطان ، ثم ذكر أن ذلك الحديث يتطابق مع ما ذكره هو عن أصناف الرؤيا[11] .
لكنني لما رجعتُ إلى المصادر الحديثية لم أجد الحديث كما رواه هو بالضبط ، و إنما وجدته يخالف ما رواه هو بعض الشيء ، و ممضمونه أن الرؤيا ثلاث: بُشرى من الله ، و حديث النفس ، و تخويف من الشيطان[12] . فلا توجد فيه رؤيا من الملك ، ذكرها محل حديث النفس ، مع الاختلاف في اللفظ بين الحديثين كما هو واضح ، و لعل ذلك سهو منه .
و أشير هنا إلى أمرين في علم الحديث ، لهما علاقة بما نحن فيه ، أولهما موقف ابن خلدون من مسألة تقديم الجرح على التعديل ، فقال عنها : (( إلا أن المعروف عن أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل )) ، و قال أيضا إن الجرح مقدم على التعديل عند الأكثرية[13] . و قوله هذا ناقص ،و غير صحيح على إطلاقه ، لأن المعتمد في علم الجرح و التعديل ، هو أنه إذا اجتمع الجرح و التعديل في راو واحد معروف و غير مجهول ، قُدم الجرح إذا كان مُفسرا ، و أما إذا كان مُبهما غير مُفسر ، قُدم التعديل على التجريح . و هناك رأي آخر ضعيف يعتمد في التقديم و التأخير على العدد ، فإذا زاد عدد المُعدلين على الجارحين قُدم التعديل ، و إذا قلّ عدد المُعدلين قُدم الجرح ، لكن هذا الرأي ضعيف و غير مُعتمد في علم الجرح و التعديل[14] .
و الأمر الثاني يخص مسألة الإجماع على صحة ما في صحيحي البخاري و مسلم ، فقال عنها ابن خلدون : إن الإجماع قد اتصل في الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول ، و العمل بما فيهما ، و الإجماع على صحة ما فيهما[15] . و نحن لا ننكر ما للصحيحين من مكانة مرموقة بين كتب السنة النبوية ، فهما في المقدمة بلا شك ، اتبع فيهما مؤلفاهما منهجا علميا صارما متكاملا ، جمع بين الإسناد و المتن معا ، لكننا لا نوافق ابن خلدون عندما قال إن إجماع الأمة قد انعقد على قبولهما و صحة ما فيهما ، فإن رأيه هذا غير صحيح ، بدليل الشواهد الآتية :
أولها ما ذكره الحافظ أبو عمرو بن الصلاح (ق: 7ه ) ، فإنه مع قوله إن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول ، فإنه اعترف بوجود خرق لذلك ، عندما قال عنهما : (( سوى أحرف يسيرة تكلّم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ ، كالدارقطني و غيره ، و هي معروفة عند أهل هذا الشأن ، و الله أعلم ))[16] .
و الشاهد الثاني قول الفقيه محي الدين بن شرف النووي(ق:7ه ) ، ذكر فيه أنه قد (( استدرك جماعة على البخاري و مسلم ، أخلا بشرطهما فيها ، و نزلت عن درجة ما التزماه ، و قد سبقت الإشارة إلى هذا ، و قد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في بيان ذلك ، كتابه المُسمى بالاستدراكات و التتبع ، و ذلك في مائتي حديث مما في الكتابين ، و لأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك ، و لأبي علي الغساني الجياني في كتابه تقييد المُهمل في جزء العلل منه ، استدراك أكثره على الرواة عنهما ، و فيه ما يلزمهما ، و قد أُجيب عن كل ذلك أو أكثره ))[17] .
و الشاهد الثالث هو ما ذكره شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية(ت 728ه) ، فإن له أقوالا كثيرة عن مكانة الصحيحين و نقدهما ، و ليس فيها القول بانعقاد الإجماع الكامل الشامل على صحة ما في الصحيحين ، منها قوله : (( و الذي أُنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا ، و أما سائر متونهما فمما اتفق علماء الحديث على صحتها ، و تصديقها ، و تلقيها بالقبول)) . و قال أيضا (( قد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما –أي البخاري و مسلم- و وافقوهما على صحة ما صححاه ، إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا ، غالبها في مسلم ، و قد انتصر لهما طائفة فيهما، و طائفة قررت قول المنتقد ، و الصحيح التفصيل ، فإن فيها مواضع منتقدة بلا ريب ))[18] .
و قال أيضا : (( و أما الغلط فلا يسلم منه أكثر الناس ، بل في الصحابة من قد يغلط أحيانا و فيمن بعدهم ، و لهذا كان فيما صُنف في الصحيحين أحاديث يُعلم أنها غلط ، و إن كان جمهور متون الصحيحين مما يُعلم أنه حق )) . و من الأحاديث التي غلط فيها مسلم و رُد عليه فيها ، حديث خلق الكون في سبعة أيام ، و حديث صلاة النبي –عليه الصلاة و السلام- في الكسوف بثلاث رُكوعات ،و بأربع ، و برُكوعين ، و الصواب أنه لم يصل إلا برُكوعين . و قد نُوزع مسلم في عدة أحاديث مما خرّجها ، و كان الصواب فيها مع من نازعه . و أما البخاري فإن جمهور ما أنكر عليه مما صححه ، كان فيه قوله راجحا على قول من نازعه . و من الذين نازعوا مسلما في حديث خلق الكون في 7 أيام : الحافظان يحيى بن معين ، و البخاري ، و غيرهما[19] .
و قال أيضا : (( لكن جمهور-لاحظ- متون الصحيحين متفق عليها بين أئمة الحديث ، تلقوها بالقبول و أجمعوا عليها )) . و قال (( و لهذا كان أكثر متون الصحيحين مما يُعلم صحته عند علماء الطوائف من الحنفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية ، و الأشعرية ))[20] .
و واضح من أقواله أنه لم يقل بالإجماع الكلي الشامل لكل ما في الصحيحين ، وإنما قال إن الإجماع شمل أكثر ما في الصحيحين ، و اعترف بوجود من انتقد الشيخين فيما ذكراه في صحيحيهما ،و بوجود أحاديث مُنتقدة غلط فيها الشيخان .
و الشاهد الرابع هو ما قاله المحقق ابن قيم الجوزية في حديث مسلم عن خلق الكون في 7أيام ، فقال إنه يُخالف القرآن الكريم صراحة ، الذي نص على أن الله خلق الكون في 6 أيام ، ثم ذكر أن ذلك الحديث هو غلط و لا يصح رفعه للرسول-عليه الصلاة و السلام- و إنما هو من قول كعب الأحبار [21] .
و الشاهد الخامس هو نقد الحافظ ابن كثير لحديث مسلم في خلق الكون ، فذكر أن كبار المحدثين قد انتقدوه في ذلك الحديث ، منهم علي بن المديني ، و البخاري، و البيهقي ، و قالوا إنه من كلام كعب الأحبار و ليس من كلام أبي هريرة ، و إنما بعض الرواة وَهَم فنسبه إلى أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- ، ثم قال ابن كثير إن في متن ذلك الحديث (( غرابة شديدة ، فمن ذلك ليس فيه خلق السموات ،و فيه ذكر خلق الأرض و ما فيها في سبعة أيام ، و هذا خلاف القرآن الذي ذكر خلق السموات في يومين ، و الأرض في أربعة أيام[22] .
و الشاهد السادس هو موقف الحافظ ابن حجر العسقلاني ، فإنه وافق ما قاله ابن الصلاح في وجود مواضع في الصحيحين متنازع فيها ، و هي مُستثناة من الإجماع و التلقي بالقبول ، و عندما أورد قول ابن الصلاح : (( و قد أُجيب عن أكثره )) ، عقّب عليه بقوله : (( هو الصواب ، فإن منها ما الجواب غير منتهض كما سيأتي ))[23] .
تلك الشواهد هي لكبار علماء المسلمين ، و فيها إقرار بأن الإجماع لم يحصل على كل ما في الصحيحين ، و إنما حصل على أكثر ما فيهما ، و أن فيهما ما هو مختلف فيه ،و ما هو غير صحيح. و هي شاهدة أيضا على أن النقد الموجه إلى الصحيحين أو إلى أحدهما ، ليس جديدا ، و إنما هو قديم يعود إلى القرن الثالث الهجري و ما بعده .
و أما الشواهد المتبقية فهي لبعض العلماء المعاصرين المعروفين ، أولها موقف الشيخ محمد الغزالي ، فإنه انتقد مسلما في روايته لحديث مفاده أن رجلا سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن أبيه –كان قد تُوفي- أين هو ؟ ، فقال له : (( إن أبي و أباك في النار )) ، هذا الحديث أنكره الشيخ الغزالي ، لأنه يُعارض الثابت في القرآن من أن كل نفس بما كسبت رهينة ، و عدم تعذيب أهل الفترة ، لقوله تعالى (( و ما كنا مُعذبين حتى نبعث رسولا ))[24]-سورة الإسراء 15- .
و الشاهد الثاني هو قول للشيخ ناصر الدين الأباني ، قال إن الحديث الذي رواه الشيخان أو أحدهما ، هو حديث قد تجاوز القنطرة ، و دخل في (( طريق الصحة و السلامة و لا ريب في ذلك ، و أنه هو الأصل عندنا ، و ليس معنى ذلك أن كل حرف أو لفظة أو كلمة في الصحيحين ، هو بمنزلة ما في القرآن لا يمكن أن يكون فيه وهم ، أو خطأ في شيء من ذلك من بعض الرواة ، كلا فلسنا نعتقد العصمة لكتاب بعد كتاب الله تعالى أصلا ، فقد قال الإمام الشافعي : (( أبى الله أن يُتم إلا كتابه )) . و لا يمكن أن يدعي ذلك أحد من أهل العلم ، ممن درسوا الكتابين دراسة تفّهم و تدبر مع نبذ التعصب ، و في حدود القواعد العلمية الحديثية ، لا الأهواء الشخصية ، أو الثقافة الأجنبية عن الإسلام و قواعد علمائه ، فهذا مثلا حديثهما الذي أخرجاه عن ابن عباس : (( أن النبي – صلى الله عليه وسلم- تزوّج ميمونة و هو مُحرِم ))، فإن هذا من المقطوع به أنه صلى الله عليه و سلم تزوّج ميمونة و هو غير محرم ، ثبت ذلك عن ميمونة نفسها ، و لذلك قال العلامة المحقق محمد بن عبد الهادي في تنقيح التحقيق –و قد ذكر ذلك الحديث- : (( و قد عُد هذا من الغلطات التي وقعت في الصحيح ، و ميمونة أخبرت أن هذا ما وقع ، و الإنسان أعرف بحال نفسه ))[25] .
و الشاهد الأخير –أي الثالث- هو للشيخ يوسف القرضاوي ، فإنه عندما ذكر حديث مسلم السابق الذكر (( إن أبي و أباك في النار )) ، قال إنه يُعارض الثابت من القرآن ، من أن كل نفس بما كسبت رهينة ، و عدم تعذيب أهل الفترة ، ثم ذكر أنه توقف في هذا الحديث حتى يظهر له فيه شيء يشفي صدره ، و قال إنه وجد من تحفظ على هذا الحديث ، و هما العالمان : الأبي –لم أجده- ،و محمد السنوسي(ت895ه)[26] .
و تعقيبا على هؤلاء أقول: أولا تبين من الشواهد السابقة إن ما قالها ابن خلدون من حصول الإجماع على صحة ما في الصحيحين ، هو قول غير صحيح ، و قد اتنقدهما العلماء كما انتقدوا الكتب الحديثية الأخرى ، لكنهم شهدوا لمؤلفيهما بالأمانة و التثبت و صحة جمهور ما روياه من الأحاديث ، إلا قلة منها اتنقدوهما فيها .
و ثانيا إن وجود أحاديث قليلة غير صحيحة في صحيحي البخاري و مسلم ، لا يضر الإسلام شيئا ، فإنه اكتمل عندما توقف الوحي ، و قبل أن تظهر كتب السنة النبوية ، لقوله تعالى: (( اليوم أكملت لكم دينكم ،و أتممت عليكم نعمتي ، و رضيت لكم الإسلام دينا ))-سورة المائدة/3- . فالإسلام يكفيه القرآن و ما صحّ من السنة النبوية ، و لا يضره وجود أحاديث قليلة غير صحيحة ، في الصحاح و السنن و المسانيد ، فهي معروفة لدي أهل العلم ، فيُتجنب استخدامها ،و لا ضير في ذلك على الإسلام ، فإن ذلك يدل على قوته و أنه حق لا ينتصر إلا بالحق ، و قد اقتضت حكمة الله تعالى أن لا يُوجد كتاب معصوم إلا كتابه .
و ثالثا يجب أن لا ننسى أن الإمامين البخاري و مسلم لم يقولا أنهما لم يُخطآ فيما دوناه من أحاديث في صحيحيهما ، و إنما قالا إنهما دونا ما صحّ عندهما من أحاديث فقط ، و لم يدعيا العصمة و لا الصواب المطلق فيما دوناه[27] . و أما القول بأن كل ما في الصحيحين صحيح بإجماع العلماء ، فهو قول متأخر ظهر بعد وفاتهما بمدة طويلة نسبيا .
مع العلم أن الذين قالوا بصحة كل ما في الصحيحين ، لا يعني أنهم يقولون بعصمة البخاري و مسلم من الخطأ ، فهذا ليس من عقائد أهل السنة ، و هو باطل من دين الإسلام بالضرورة ، و إنما مقصودهم أنهما لم يُخطئا فيما كتباه ، لا أنهما لا يُخطئان ، فهما لم يُخطآ –حسب رأي هؤلاء- لدقة منهجهم و صرامته ،و حرصهم الشديد على تطبيقه ،و كثرة مراجعتهم و تدقيقهم لما كتباه ، لا أنهما لا يُخطئان ، مع العلم أن أي عمل بشري هو محتمل للخطأ و الصواب معا ، لكن ليس بالضرورة أن أي عمل يقوم به الإنسان لا بد أن يخطئ فيه ، فقد يُصيب و قد يُخطئ فيه ، و قد يجمع بين الخطأ و الصواب في عمل واحد . .
ثانيا : مسألة تحكم المعاش في أحوال الناس :
قال ابن خلدون عن مسألة المعاش : (( و اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش )) ؟. و المعاش عنده هو ابتغاء الرزق و السعي في تحصيله[28] .و قوله هذا هو الذي جعل الباحث محمود عبد المولى يقول عن ابن خلدون : (( يبدو لنا و كأنه رائد المادية التاريخية قبل كارل ماركس بقرون ))[29] . فهل ما قاله ابن خلدون صحيح ؟ .
أولا إن ابن خلدون لم يقصد بقوله في تأثير المعاش على أحوال الناس ، ما تدعيه الماركسية-الشيوعية- في زعمها أن المادية التاريخية-أي العامل الاقتصادي- هو المحرك الأساسي و الوحيد لسلوكيات الناس ، لأن هذه النظرية تقوم على الكفر و الإلحاد- المادية الجدلية - ، و هي بلا شك أنها باطلة ، جملة و تفصيلا ، ليس هنا مجال إثبات ذلك ، لكن تاريخ الماركسية نفسه شاهد على بطلان نظريته ، فقد حملت بذور فنائها في ذاتها منذ نشأتها ، ثم قضى عليها أبناؤها بأنفسهم قبل أعدائهم . و عليه فإنه يبدو أن ابن خلدون كان يقصد بقوله السابق شدة تأثير المعاش على الناس الذين بالغوا في طلب الدنيا ، و أنستهم خالقهم و أنفسهم ، قال تعالى (( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ))-سورة التكاثر /1- ،. فهو لم يكن ينكر العوامل الأخرى و تأثيرها القوي في أحوال الناس ، لذلك وجدناه ركز كثيرا على تأثير عامل المناخ و العصبية في العمران البشري ، و هذا كثير في مقدمته . و أما الزعم بأن ابن خلدون كان رائد المادية التاريخية ، فهو كلام باطل من أساسه ،و افتراء على الرجل العالم المسلم الفقيه .
و ثانيا إننا لا ننكر ما للمعاش من تأثير على البشر في حياتهم الدنيوية ، فهو ضروري لهم ، و طلبه جزء أساسي من حياتهم اليومية ، لكن الإنسان الذي هو عاقل مريد مسؤول ، هو الذي يتحكم في كيفية الاستجابة لتلك الحاجة الضرورية، و ليست هي المتحكمة فيه ، فلو كانت هي المتحكمة فيه ما اختلف الناس في كيفية الاستجابة لها ، فالأمر في النهاية له لا لها .
و ثالثا إن ابن خلدون قد بالغ عندما قال : (( أعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم ، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش )) ، فإن كلامه هذا مجمل يحتمل عدة تفسيرات ، فقوله : (( نحلتهم من المعاش )) ، يُحتمل أنه يقصد بكلمة نحلتهم ، طريقتهم في المعاش ، و يُحتمل نظرتهم للمعاش، و يُحتمل نصيبهم من المعاش، لأن من معاني : النِحلة ، الطريقة ، و المذهب ،و العقيدة ، و العطاء و الصدقة[30]. و أي احتمال رجحناه فإن ابن خلدون مبالغ فيه ،و يكون قد عكس الأمر عندما جعل الإنسان مسلوب الإرادة خاضعا لتأثيرات المعاش في مختلف أحواله ،و يصبح كالذي جعل العربة أمام الحصان ، لأن المعاش –مع تأثيره القوي على الناس- فإن تأثيره محدود ،و لا يشمل بالضرورة كل أحوالهم ، و يبقى تابعا للإرادة الإنسانية الحرة التي وهبها الله تعالى للإنسان و كرّمه بها . و ابن خلدون نفسه كان يقول بتعدد العوامل المؤثرة في سلوكيات البشر ، فهو هنا و إن ركز على عامل المعاش ، فكثيرا ما ركّز أيضا عل عوامل أخرى في مواضع عديدة من مقدمته ، كتركيزه عل عاملي المناخ و العصبية في تأثيرهما على أحوال الناس.
و رابعا إن مما يُثبت ما قلناه هو أن التاريخ البشري يشهد على أن عقائد و مذاهب كثيرة ظهرت قديما ، كالبوذية ، و البرهمية ، و الطاوية ، و اليهودية و المسيحية ، و أحدثها الإسلام ، و كان لها تأثير كبير على أفكار و سلوكيات أتباعها الكثيرين ، ،و هي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا مع تأثيرها الواسع على أتباعها ، رغم التغيرات الجذرية الكثيرة التي حدثت في طرق المعاش ،فهذه التغيرات المعاشية لم تغير تلك العقائد و المذاهب ،و لا أذهبت عنها أتباعها . ، مما يُثبت أن الزعم بأن اختلاف الأجيال يعود إلى اختلاف طرق معاشهم هو زعم غير صحيح .
و مما يُثبت ذلك أيضا أنه توجد مجتمعات كثيرة ذات طرق معاشية واحدة ،و متقاربة جدا في مستواها الاقتصادي ، لكنها مع ذلك مختلفة العقائد ، و المذاهب ،و اللغات ، و الأخلاق ، و السلوكيات ، و قد تكون متناحرة ، كما هو الحال في الهند و لبنان و العراق ، فأين تأثيرات طرق المعاش على هؤلاء ؟ ،و لماذا لم توحّد بينهم في أحوالهم المختلفة ، و هم يخضعون لطرق معاشية واحدة أو متقاربة ؟ .و قد نجد ذلك النموذج حتى في البيت الواحد ، فكم من عائلة ذات المستوى المعيشي الواحد أفرادها مختلفون في عقائدهم و أخلاقهم و سلوكياتهم ، فنجد فيه المسلم ، و النصراني ،و الملحد ،و العلماني . كما أننا كثيرا ما نجد مجتمعا تتعدد فيه طرق المعاش، و تتباين فيه المستويات الاقتصادية ، لكنه مع ذلك غالبية أهله على عقائد و سلوكيات و أخلاقيات واحدة ، أو هي الغالبة على ذلك المجتمع . و بذلك يتبين لنا أن اختلاف طرق المعاش ليس بالضرورة أنها تُفرّق بين عقائد الناس و سلوكياتهم . و أن وحدتها –أي طرق المعاش- ليس بالضرورة أنها تُوحد عقائدهم و سلوكياتهم .
و مما يُثبت ذلك أيضا أننا قد نجد في الفئة الواحدة من الناس ذات المستوى المعيشي الواحد ، نجد فيها تباينا كبيرا في العقائد و السلوكيات ، من ذلك طبقة الفقراء في الهند ، فرغم مستواهم المعيشي الواحد ، فإننا نجد فيهم المسلم ،و الهندوسي ، و السيخي ، و البوذي ، و النصراني ،و فيهم اللص ،و العفيف، و الزاهد ،و الساخط، و المتدين ، و الزنديق . و هذه الظاهرة قد نجدها أيضا في شرائح اجتماعية أخرى ذات مستوى معيشي واحد ، كالأغنياء ، و العلماء ، و الفلاحين ،و الطلاب . فهذه النماذج أدلة قاطعة على أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح ، لأنه بالغ في تضخيم مسألة المعاش ، و أخرجها من إطارها الصحيح ، و لم ينظر إليها نظرة صحيحة ، فحوّل الحبة الصغيرة إلى قبة كبيرة .
ثالثا : في أعمار الدول:
يرى ابن خلدون أن للدول أعمارا لا تتجاوزها ، و شبهها بعمر الإنسان، الذي يتدرج في النمو ، من الطفولة إلى الشيخوخة ثم الموت ، فكذلك الدول تبدأ بمرحلة النمو ، ثم الازدهار ، ثم التراجع و السقوط ، و قدّر عمر الدول بثلاثة أجيال ، أي 120 سنة ،و أنها لا تتجاوزها في الغالب ، و استشهد بقوله تعالى : (( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ،و لا يستقدمون ))-سورة الأعراف /34- .
و تعقيبا عليه أقول: أولا إنني أوافقه عندما قال إن لكل دولة أجلا لا تتجاوزه ، فهذه سنة الله في خلقه ، و التاريخ شاهد على ذلك ، و القرآن الكريم قرر ذلك بصراحة في آيات كثيرة[31] ؛ لكنني لا أوافقه عندما حدد عمر الدول بثلاثة أجيال في الغالب ، و قدرها ب 120 سنة ، و هذا خطأ بيّن و تحكّم محض ، و مجازفة في الحكم ، لا دليل له فيه من النقل ، و لا من العقل ، و لا من التاريخ ، و الشواهد على بطلان زعمه كثيرة جدا ، فلا توجد أية حتمية عقلية ،و لا واقعية تمنع الدول من تجاوز ذلك العمر . فهناك دول عاشت أقل من قرن كالدولة الأموية ،و دولة القرامطة ، و الدولة الأيوبية ، و المرابطية ، و السوفياتية ؛ و هناك دول أخرى عاشت أكثر من قرنين ، و بعضها أكثر من أربعة قرون ، كالدولة الفرعونية ، و الفارسية ، و العباسية ، و العثمانية ، و الفرنسية ، و البريطانية ، و اليابانية ، و الأمريكية ، فهذه الشواهد ليست استثناءات ، و إنما هي شواهد كثيرة و متنوعة .
و ثانيا إن تشبيهه حياة الدول و سقوطها بحياة الإنسان و موته ، هو تشبيه ناقص و غير دقيق ،و لا ينطبق على الحالتين تطابقا كاملا ، لأن الإنسان إذا شاخ و هرم لابد أن يموت ، أما الدول فلا تمر بالضرورة بهذه الدورة الحتمية إذا شاخت ، فالمجال أمامها مفتوحا لتتدارك نقائصها ، و تجدد طاقاتها و شبابها للنهوض من جديد بفضل جهود أبنائها ، فلا يوجد أمامها أي مانع حتمي يمنعها من ذلك ، فالإنسان مخلوق حي تتحكم فيه قوانين طبيعية حتمية صارمة لا يمكنه الانفلات منها ، لكن الدول لا تخضع لمثل تلك القوانين الصارمة ، لأنها مرتبطة بالجانب الاختياري من حياة الإنسان ، و هو مظهر من مظاهر حريته و إرادته ، و هذا لا يخضع لحتمية القوانين الطبيعية و صرامتها .
و ثالثا إني أُنبه هنا إلى أمرين هامين قد يعتقد كثير من الناس أن ابن خلدون هو أول من أشار إليهما و تكلم عنهما ،و هو أمر غير صحيح ، أولهما مسألة سقوط الدول ، التي تكلّم عنها ابن خلدون و حدد عمر الدولة بثلاثة أجيال كما سبق بيانه ، و هذه المسألة تكلّم عنها القرآن الكريم في آيات كثيرة دون تحديد صارم لعمر الدول ، و هو الأمر الذي أخطأ فيه ابن خلدون ،و هو نفسه استشهد بالقرآن الكريم للتأكيد على أن للدول أعمارا لا تتجاوزها ، و الآيات على ذلك كثيرة ، منها قوله تعالى : (( و تلك الأيام نداولها بين الناس ))-سورة آل عمران /140- ، و (( لكل أمة أجل ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون ))- سورة هود/8- ، و (( و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم، ما تسبق من امة أجلها و ما يستأخرون))-سورة الحجر /4-5- ،و قد توسع في هذا الموضوع ، المؤرخ الناقد عماد الدين خليل في كتابه التفسير الإسلامي للتاريخ[32] .
و الأمر الثاني يخص مسألة مرور الدول بثلاث مراحل في حياتها قبل سقوطها ، و هذا المسألة ربما يعتقد كثير من الناس أن ابن خلدون هو أول من أشار إليها ، و هذا غير صحيح ، فقد أشار إليها القاضي علي بن محمد الماوردي البغدادي(ت 450ه) ، في كتابه تسهيل النظر و تعجيل الظفر في أخلاق الملك و سياسة الملك ، فقال : (( و أعلم أن الدولة تبتدئ بخشونة الطباع ،و شدة البطش، لتسرع النفوس إلى بذل الطاعة ، ثم تتوسط باللين و الاستقامة ،لاستقرار الملك ، و حصول الدعة ، ثم تختم بانتشار الجور و شدة الضعف ، لانتقاص الأمر و قلة الخدم ))[33] ؟
رابعا : في التقليد و التمذهب :
كان المسلمون في القرون الأولى على صنفين في أخذهم للأحكام الشرعية ، الأول يمثل أهل الاجتهاد و الإفتاء ، و الثاني يُمثل المقلدين لما يقوله الصنف الأول ، و هم العوام و من ليس له القدرة على الاجتهاد من أهل العلم ، فكانوا يُقلدون من أرادوا من المجتهدين دون التزام بشخص معين ،و بلا تمذهب له ، ثم تغير الحال في القرن الرابع الهجري و ما بعده ، عندما أصبح العوام و أهل العلم كلهم مقلدين متمذهبين لإمام من الأئمة الأربعة المجتهدين المعروفين[34] . و في هذا يقول ابن خلدون : ثم انتهى ذلك إلى (( الأئمة الأربعة من علماء الأمصار ، و كانوا بمكان ما حسّن الظن بهم ، فاقتصر الناس على تقليدهم ، و منعوا من تقليد سواهم ، لذهاب الاجتهاد ، لصعوبته و تشعب العلوم التي هي مواده ، باتصال الزمان ،و افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة ))[35] .
و قال أيضا : (( و وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة ، و درس المقلدون لمن سواهم . و سدّ الناس باب الخلاف و طرقه لما كثُر تشعّب الاصطلاحات في العلوم . و لما عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد ،و لما خُشي من إسناد ذلك لغير أهله ،و من لا يُوثق برأيه و لا بدينه ، فصرّحوا بالعجز و الإعواز ،و ردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ، كل من اختص به من المقلدين . و حظروا أن يُتداول تقليدهم لما فيه من التلاعب ، و لم يبق إلا نقل مذاهبهم-أي الأئمة الأربعة- و عمل كل مقلد بمذهب من قلده منهم بعد تصحيح الأصول و اتصال سنده بالرواية ، لا محصول للفقه اليوم غير هذا . و مدعي الاجتهاد لهذا العهد مردود منكوص على عقبه مهجور تقليده ))[36] .
و كلامه هذا فيه عرض لواقع التقليد المذهبي ،و تبرير له ، و اعتراف به ،و إقرار له عندما لم ينتقده ، و فيه أيضا أخطاء و مجازفات و مغالطات ، نبين بعضها في النقاط الآتية ، أولا إن قوله (( اقتصر الناس على تقليدهم )) ، هو قول غير صحيح على إطلاقه ، و فيه أيضا مغالطة ، لأن الذي كان سببا في تقليد هؤلاء الأئمة و التمذهب لهم و ترك الاجتهاد ، ليس الناس مطلقا ، و أنما طائفة منهم ، تمثلت في بعض أهل العلم و السياسيين ، كان لها التأثير الأساسي في نشر التقليد المذهبي و تشجيعه و تعميقه بين الناس ، و يمكن إبراز ذلك و تركيزه في خمسة أسباب رئيسية ، أولها تعصب كثير من التلاميذ و تلامذتهم لآثار أئمتهم المجتهدين الذي حملهم على الجمود عليها و الدعوة إليها ،بدلا من السير على منهجهم و نبذ التقليد[37]. و الثاني تشجيع الخلفاء و الملوك المستبدين على التقليد كوسيلة لتجهيل المجتمعات ،لأن فتح باب الاجتهاد فيه ما ينقض عليهم أمرهم بسبب ظلمهم [38]. كما أن بعض أهل العلم اقترب من هؤلاء الخلفاء و الملوك ليتولى لهم القضاء حسب المذهب الذي يريدونه فساهموا كلهم في تكريس التقليد و التمذهب . والثالث السعي الدؤوب الذي قام به العلماء المقلدون في الدعوة إلى التقليد و محاربة الاجتهاد قولا و عملا .و الرابع ضعف همم المشتغلين بالعلم في عصر التقليد دفع كثيرا منهم إلى الاكتفاء بالحفظ و دراسة كتب المختصرات بدلا من المطولات و ممارسة الاجتهاد . وآخرها ظهور المدارس الطائفية التي كرست التقليد و التمذهب ،و دفعت كثيرا من الناس إلى دراسة المذاهب الأربعة ،طمعا في الأرزاق الموقوفة عليها[39] .
و ثانيا إن قوله بأن الناس قلّدوا الأئمة الأربعة دون غيرهم ، لذهاب الاجتهاد و صعوبته و تشّعب العلوم التي هي مواده ، هو قول غير صحيح ، لأن السبب في ذلك ليس ذهاب الاجتهاد و صعوبته ، و أإما هو ما صرّح به ابن خلدون نفسه ، عندما قال : (( و منعوا من تقليد سواهم )) ، فهذا المنع هو السبب ، و دافعه ليس ذهاب الاجتهاد و صعوبته ، و إنما دافعه التقليد و التعصب المذهبيين المذمومين ، حتى وصل الأمر بمعظم فقهاء المذاهب –في عصر التقليد- إلى جعل أقوال الأئمة الأربعة بمنزلة الكتاب و السنة ، و الإفتاء بوجوب اتباع مذاهبهم و تحريم ما عداها ،و منع تقليد غيرهم من الأئمة[40] .
كما أن قوله بأن الاجتهاد كان صعبا في عصر التقليد ، هو غير صحيح من الناحية التاريخية الواقعية ، لأن العلوم الشرعية كانت قد جُمعت و حُررت و قُننت و أُثريت ،مما يسهل على أهل العلم الاطلاع على مذاهب العلماء و مناهجهم .و لأن المؤسسات كانت متوفرة بكثرة و فيها كل المرافق المشجعة على التحصيل العلمي [41] .ولأن عصر التقليد قد شهد مئات من العلماء تميزوا بالموسوعية و الذكاء ، وحسن الفهم والتفرغ للعلم ، و ساهموا بقوة في خدمة مذاهبهم و نصرة طوائفهم[42] ،فلو بذلوا جهودهم في الدعوة للاجتهاد و محاربة التقليد ،لكان في ذلك خير كثير وهذا كله يبين أن ما قاله ابن خلدون لا يصح ،وأن كلامه في عمومه يصب في تيار تبرير التقليد و تكريسه .
و ثالثا إن قوله بأن من أسباب انتشار تقليد الأئمة الأربعة هو (( افتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة )) ، هو قول غير صحيح و فيه مغالطة ، بدليل الشاهدين الآتيين ، أولهما أن افتقاد المجتهدين الأحرار من خارج المذاهب الأربعة ، سببه انتشار التقليد و تكريسه و فرضه على الناس، الأمر الذي أدى إلى قتل الطاقات المتحررة المبدعة ، و تربية أهل العلم على العجز و الخوف و السلبية، و إبعادهم عن التعامل المباشر مع الكتاب و السنة ، و فقه السلف اللامذهبي، و مثال ذلك ما حدث لابن حزم الظاهري الأندلسي(456ه) ، علي أيدي المالكية بالأندلس ، فقد كان مجتهدا حرا محرما للتقليد ، فتألب عليه هؤلاء ، و حرّضوا عليه السلطان ، حتى إنهم منعوا بيع كتبه في الأسواق ، و ربما مزقوها ، و هذا بشهادة ابن خلدون نفسه[43] . و من قبله حدث نفس الأمر للفقيه المحدث بقي بن مخلد (ت276ه ) فإنه لما رحل إلى المشرق و حصّل علم أهل الحديث ، ثم رجع إلى الأندلس و شرع في نشر علمهم و لم يلتزم بالمذهب المالكي ، تعصب عليه مالكية الأندلس و استعانوا عليه بالسلطان[44] .
و الشاهد الثاني هو أنه رغم سيطرة التقليد و التعصب المذهبيين على أهل العلم في عصر التقليد ، فإن هذا العصر لم يُعدم من علماء كبار كانت لهم قدرات علمية فائقة و همم عالية، مكنتهم من ممارسة الاجتهاد ، و كانت لهم اختيارات فقهية حرة ، خالفوا فيها حتى مذاهبهم في بعض الأحيان ، منهم: أبو الخطاب الكلوذاني البغدادي(ت 510ه) ،و أبو الوفاء بن عقيل البغدادي(ت 513ه) ،و ابن الجوزي ، و ابن قدامة المقدسي(ت620ه) ،و أبو شامة المقدسي(ت665ه)، و العز بن عبد السلام، و تقي الدين بن تيمية، و ابن قيم الجوزية[45] . فوجود هؤلاء دليل دامغ على أن عصر التقليد المذهبي لم يكن يفتقد إلى المجتهدين الأحرار ، و إنما هيمنة التقليد على المجتمع ، و فرضه على أهل العلم ، هو الذي عطّل كثيرا من الطاقات ،و حاصر هؤلاء الأحرار من توسيع مجالات اجتهاداتهم ،و استحداث مذاهب جديدة ، ومن التحرر من القيود التي فُرضت عليهم ، و ما حدث لشيخ الإسلام ابن تيمية ، على يد المذهبيين المتعصبين معروف و مشهور ، فإنه لما كسر قيود التقليد المذهبي ،و مارس الاجتهاد الحر المطلق ، تألب عليه المقلدون المتعصبون ، و استعانوا عليه بالسلطان ، و ادخلوه السجن مرارا حتى مات بداخله ، سنة 728ه[46] .
و رابعا إن ابن خلدون كان سلبيا في موقفه من انتشار التقليد و التمذهب بين المسلمين ، فسكت عن سلبياتهما ، و بررهما و جوّزهما ، و أقرهما ، فلم يذكر أن انتشارهما بين العامة و الخاصة هو أمر مذموم ،و فيه تربية على العجز و السلبية، و تعطيل للطاقات ،و محاصرة للعقول الحرة ، و فيه مخالفة للنصوص الشرعية التي حثت على الاجتهاد و ذمت التقليد ،و فيه أيضا مخالفة لما كان عليه السلف الأول والأئمة الأربعة . حتى إنه عندما تطرق لموضوع كثرة التآليف في العلوم و إعاقتها للتحصيل العلمي ،و تكلّم عن بعض المصنفات الفقهية المالكية ،و ذكر أنها معقدة و معيقة للحفظ و الفهم[47] ، لم يشر إلى أن من أسباب هذه الظاهرة هو هيمنة التقليد و التعصب المذهبيين على أهل العلم في زمانه.
و سكت أيضا عن الآثار السلبية المدمرة التي ترتبت عن انتشار التقليد المتمذهب بين المسلمين ، منها أنه كان سببا في انقسام أهل السنة إلى طوائف متنافرة متناحرة ، و جرهم إلى الشتم و التكفير ،و اللعن و الطعن ، و الاقتتال و المقاطعة ، حتى لا يصلي بعضهم وراء بعض[48] .و أورثهم انحطاطا و تخلفا ،و جهلا و تعصبا،و بعدا عن الكتاب و السنة ،حتى صارت مذاهبهم كأنها ديانات برأسها[49].و أخذ من علمائهم جهودا و أوقاتا كثيرة خدمة للتقليد و التعصب ، و صرفهم عن التدبر في آيات القرآن و الآفاق و الأنفس ، لاكتشاف سنن الكون و الاجتماع و التاريخ .
و قد يتساءل بعض الناس : ألم يكن للتقليد المذهبي من إيجابيات ؟ أقول أولا : إن التقليد عجز و نقص و سلبية، لا يليق بأهل العلم ، و قد ذمه الشرع ،و نفر منه السلف الأول . ثانيا أنه لو بقي في إطاره المحدود ، كوسيلة لتعليم العوام و تربيتهم ، دون تمذهب و تعصب ، لكان فيه خير لهم و للمجتمع ، لكن فرضه على الناس بما فيهم أهل العلم ، قلب الوضع رأسا على عقب ، فأصبحت سلبياته كثيرة و مدمرة للفرد و المجتمع،و إيجابياته قليلة جدا ، لا تكاد تظهر .
خامسا : موقف ابن خلدون من العرب:
أصدر ابن خلدون أحكاما قاسية و غريبة في حق العرب ، و في بعضها ذم صريح لهم ،و إنقاص من مكانتهم ، فهل قصد بذلك أهل البادية ، أم أهل الحضر ، أم قصدهم كلهم بدوا و حضرا ؟ و ما هي الأحكام التي أصدرها في حقهم ؟ .
فبالنسبة للتساؤل الأول ، فقد ذهب الباحث فاروق النبهان إلى القول بأن ابن خلدون استخدم مصطلح العرب ، وقصد به الأعراب ،و هم أهل البادية الذين يسكنون الصحراء ، ثم قال إن كلام ابن خلدون لا يستقيم إلا إذا قلنا إنه يقصد الأعراب[50] ، فهل قوله هذا صحيح ؟
لقد تبين لي من تتبع أقوال ابن خلدون في أحكامه التي أطلقها على العرب ، أنه أطلق اسم العرب على العرب كلهم بدوا و حضرا معا ، و لكنه قد يطلقه على البدوا تحديدا، و قد يطلقه على الحضر فقط ، و قد يطلقه عليهم كلهم ، دون أن يفرق بينهم من حيث اللفظ ، و هو بلا شك يُدرك الفرق بين عرب البادية و عرب المدينة ، لكنه مع ذلك أطلق اسم العرب على الجميع ، حتى و إن قصد أحدهما تحديدا ، بحكم أن مصطلح العرب يشملهم جميعا ، فعرب البادية و عرب المدينة في النهاية كلهم عرب ، و قد نجد القبيلة العربية الواحدة ، تجمع بين سكن البادية و الحضر ، فبعض أفرادها يسكنون الحضر ، و آخرون يسكنون البادية ،و جميعهم عرب .
و بناء على ذلك فنحن لا نوافق ابن خلدون في تعميمه لذلك المصطلح ،و التسوية المطلقة بين الأعراب و أهل الحضر ، نعم كلهم عرب ، لكن لعرب البادية خصائص و وضعيات و أحوال تختلف عن عرب المدينة ، و قد فرّق الشرع بينهم ، قال تعالى (( الأعراب أشد كفرا و نفاقا ))-سورة التوبة /97- ، و (( و من الأعراب من يُؤمن بالله و اليوم الآخر،و يتخذ ما يُنفق قربات عند الله و صلوات الرسول، ألا إنها قربة ))-سورة التوبة /99- . و قد نهى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- أصحابه عن التعرّب ، أي الرجوع إلى حياة البادية[51] .
و الشواهد الآتية تثبت ما قررته عن ابن خلدون ، أولها إنه عندما تكلم عن زوال دول العرب ، قال إنهم في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس ، و حتى عندما كونوا دولا منذ زمن الخلافة الراشدة ، فقد زالت بسرعة ،و تقوّض عمرانها و أفقر ساكنه[52] . فواضح من كلامه أنه يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، فأهل التوحش و النهب ما عند الناس ، هم الأعراب ، و الذين كونوا الدولة الراشدة و الأموية و العباسية ، هم عرب المدينة .
و الشاهد الثاني هو إن ابن خلدون قال إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصيغة دينية ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة ، بسبب خُلق التوحش المتأصل فيهم [53] . و كلامه هذا صريح كل الصراحة في أنه يقصد أساسا العرب من أهل الحضر ، لأن الملك الذي حصل للعرب كان في أهل المدينة ،و فيهم ظهر الإسلام أساسا و كونوا دولته .
و الشاهد الثالث هو إن ابن خلدون قال إن العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك ، لأنهم أكثر الناس بداوة ، و من طبعهم نهب ما عند غيرهم ، و حتى إنهم عندما ملكوا كان ذلك بسبب الدين ، فلما تركوه نسوا السياسة ،و عادوا إلى بداوتهم[54] . و هذا أيضا نص صريح في أن ابن خلدون يقصد بمصطلح العرب ، البدو و الحضر معا ، فكلهم عرب و هم الذين قصدهم ، فهم أهل البادية الذين ينهبون ما عند غيرهم ، و هم الذين كونوا دولا باسم الإسلام ، و هم الذين عادوا إلى البداوة عندما تركوا الدين ، و عليه فإن ما ذهب إليه الباحث فاروق النبهان غير صحيح ، و لا يستقيم كلام ابن خلدون عن العرب إلا مع الذي ذهبنا إليه .
و أما عن الأحكام التي أصدرها ابن خلدون في حق العرب ، فسنذكر منها ثلاثة ، أولها إنه قال : (( إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط[55] )) ، بسبب طبيعة التوحش التي فيهم ، فلا يطلبون إلا الأمور السهلة ،و لا يركبون المخاطر ،و لا يذهبون إلى المزاحفة و المحاربة إلا دفاعا عن النفس[56] .
و أقول : أولا إن حكمه هذا خاطئ من أساسه ،و لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب ، شرعا و لا عقلا ، و ليس له في زعمه هذا دليل شرعي ، و لا عقلي ،و لا تاريخي ، فكيف سمح لنفسه بإصدار هذا الحكم المطلق الجائر المضحك ؟ ، نعم ليس له في ذلك دليل صحيح ، و هو حكم لا يصح إصداره في حق أي أمة من الأمم ، لأن كل الشعوب لها القابلية و الاستعداد للنهوض و السقوط ، و الانتصار و الانهزام ، و هي المتحكمة في زمام أمرها ، فإذا اجتهدت و توحدت انتصرت و حققت أهدافها ، و إذا تناحرت و تكاسلت و اختلفت فيما بينها ، انهزمت و ذهب ريحها و فقدت مكانتها بين الدول ، قال تعالى (( و تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/ 140-، و أما ما زعمه ابن خلدون فهو زعم باطل و مضحك ، بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة .
و ثانيا إنه لو كان العرب لا يتغلبون إلا على البسائط ما وصف الله تعالى العرب المسلمين بأنهم خير أمة ، في قوله تعالى (( كنتم خير امة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر))-سورة آل عمران/110- . و ما حملهم أيضا مسؤولية تبليغ رسالته إلى البشرية جمعاء ، و ما وعدهم أيضا بالنصر المؤزر ،و التمكين في الأرض ، في قوله تعالى : (( و عد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ،و ليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم ))-سورة المائدة /9- . و لاشك أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط ، لا يمكن أن يصفها الله تعالى بتلك الصفات ، و لا يُحملها تلك المسؤوليات الجسام ، و لا يعدها بتلك الانتصارات و التمكين في الأرض، و بما أنه وصفها و وعدها بذلك ، فلا شك أنها أهلا لذلك .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
تابع /كتاب اخطاء المؤرخ بن خلدون للدكتور خالد علال كبير
و ثانيا إن ما وعد الله به العرب المسلمين قد تحقق على أيديهم على أرض الواقع ، فحققوا انتصارات باهرة ، و هزموا دولتي الفرس و الروم ، و ملكوا أراضيهم و أموالهم ، و كانت لهم دول في المشرق و المغرب ، كدولة الراشدين ، و دولة بني أمية بالمشرق و الأندلس ، و دولة بني العباس ، و كانت لهم أيضا انتصارات باهرة في مقاومتهم للاستعمار الغربي الحديث ، فهل أمة تلك هي انتصاراتها يُقال فيها إنها لا تتغلب إلا على البسائط ؟ و هل الذي حققته هو من البسائط ؟ ، و أليس ما حققه العرب المسلمون من انتصارات لم تحققه شعوب إسلامية أخرى ؟ ، فمال بال ابن خلدون يخص العرب بذلك الحكم الجائر ، دون غيرهم من باقي شعوب العالم الإسلامي؟ ! .
و أما الحكم الثاني الذي أصدره ابن خلدون في حق العرب فهو أن (( العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب )) ، لأنهم أمة وحشية استحكمت فيهم عوائد التوحش و أسبابه ، فصار لهم خلقا و جبلة ، همهم نهب ما عند الناس ، و رزقهم في ظلال رماحهم ، و عندما تغلبوا و ملكوا تقوّض عمرانهم الذي بنوه ، و أقفر ساكنه ، و عندما اجتاح عرب بنو هلال و بنو سليم بلاد المغرب خرّبوها ، و كان ذلك في القرن الخامس الهجري[57] .
و قوله هذا غير صحيح على إطلاقه ، و هو مجازفة من مجازفاته ، بدليل الشواهد الآتية ، أولها إن العرب أنشئوا أوطانا و مدنا قبل الإسلام ، و بعضها ما يزال قائما إلى يومنا هذا ، كاليمن و مدنها القديمة ، و أخرى في باقي مناطق الجزيرة العربية ، كمكة المكرمة و المدينة المنورة . و أنشئوا أخرى في العصر الإسلامي ، و هي ما تزال عامرة إلى يومنا هذا ، كمدينة البصرة ، و الكوفة ، و الفسطاط ، و القيروان ، و بغداد و سامراء .
و الشاهد الثاني هو إن العرب أقاموا دولا بعضها عمر طويلا ، و بعضها الآخر لم يعمر طويلا ، شأنهم في ذلك شأن باقي دول شعوب العالم الأخرى ، فمن دولهم التي لم تعمر طولا الخلافة الراشدة عمرت 30سنة ، و دولة بني أمية بالمشرق ، عاشت 91سنة ، و أما التي عمرت طولا ، فمنها الدولة الأموية بالأندلس ، فقد عاشت أكثر من 200سنة ، و الدولة العباسية عمرت 524سنة . و مقابل ذلك هناك دول أخرى كثيرة ليست عربية عاشت أقل من قرن من الزمن ، كدولة القرامطة ، و الدولة المرابطية ، و الدولة الأيوبية . و بذلك يتبين أن ما زعمه ابن خلدون غير صحيح تماما ، و لا يختلف العرب عن غيرهم في مسألة سقوط الدول و استمرارها ، لأن الأمر يتوقف على أسباب و ظروف بشرية داخلية و خارجية كثيرة ، و لا دخل فيها للأعراق و الأجناس .
و الشاهد الثالث هو إن قوله بأن التوحش جبلة في العرب و متأصل فيهم مهما تحضّروا هو قول باطل من أساسه لا يصدق على العرب ،و لا على غيرهم من الأمم ، لأن البشر كلهم لهم استعداد للتحضر و النهوض و الرقي ، كما لهم استعداد للسقوط و التدهور و الانعزال و التخلف ، فالظروف البشرية الداخلية و الخارجية هي السبب الأساسي في نهوض أمة و سقوط أخرى . كما أن العرب لم يكونوا كلهم بدوا أجلافا ، فقد كانت لهم حضارات عامرة قبل الإسلام ، في جنوب الجزيرة العربية و شمالها ، و الإسلام ظهر بين الحضر بمكة و المدينة ، و لم يظهر بين الأعراب ، و نهى الصحابة عن التعرّب و العودة إلى حياة البادية ، مما كان له الأثر البعيد في دفع العرب المسلمين إلى إنشاء المدن و الإقامة فيها ، و ما يزالون يقطنونها إلى يومنا هذا بالجزيرة العربية و العراق و الشام و غيرها من البلاد .
و الشاهد الرابع هو إن مثال بني هلال و بني سليم الذي ذكره ابن خلدون ، لا يصدق على كل العرب ، و لا يخص بني هلال و بني سليم دون غيرهم من قبائل شعوب العالم ، و لا يصدق عليهم في كل زمان و مكان. فالأعمال التي صدرت عن هؤلاء في تخريبهم لكثير من مظاهر العمران بالمغرب الإسلامي ، ليست خاصة بهم و لا بالعرب عامة ، و إنما هي موجودة في كل بدو العالم تقريبا ، ببلاد المغرب و فارس و خراسان و الصين وغيرها . و مثال ذلك قبائل المغول ، فهي قبائل بدوية متوحشة ، اجتاحت المشرق الإسلامي و دمرته تدميرا خلال القرن السابع الهجري و ما بعده . و كذلك قبائل الغجر في أوروبا المعاصرة ، فهم يُفسدون و يُقلقون و ليسوا عربا . و عليه فإنه من الخطأ الفاحش إصدار ذلك الحكم على العرب بطريقة فيها تأكيد و تأبيد .
و أما الحكم الثالث ، فهو قوله : (( إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة))، بسبب خلق التوحش الذي فيهم ،و هم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة ، و المنافسة في الرياسة ، فقلما تجتمع أهواؤهم ))[58] .
و ردا عليه أقول: أولا إن ذلك الحكم لا يصح إطلاقه على أية أمة من الأمم ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الدين و الدولة ، فقد تظهر الدولة و يتخلف الدين ، و قد يظهر الدين و تتخلف الدولة ، و قد كانت للعرب دول في جنوب الجزيرة العربية و شمالها قبل أن يظهر الإسلام ، هذا إذا كان ابن خلدون يقصد بالدين الإسلام فقط ، أما إذا كان يقصد مطلق الدين ، فلا شك أنه كانت للعرب أديان قبل الإسلام ، مع العلم أن كل الدول المعروفة التي ظهرت في العصور القديمة كانت تقوم على الدين ، و لم يكن ذلك خاصا بالعرب دون غيرهم من الأجناس .
و ثانيا إن للعرب في العصر الحديث دول كثيرة معظمها لا يقوم على الدين ، و إن تظاهر به بعضها ، فهي لا تحتكم إليه في سياستها ،و لا في اقتصادها ، و لا في اجتماعها ، و لا في قانونها ، و لا في علاقاتها الخارجية ، و بعضها يُحارب الدين و أهله علانية ، فكيف إذن تمكنت هذه الدول من تكوين دول عربية بعيدا عن الدين في معظم أحوالها ؟ .
و يتبين مما ذكرناه إن ابن خلدون في استخدامه لمصطلح العرب كان يقصد العرب جميعا بدوا و حضرا ، و لم يخص البدو بأحكامه القاسية دون الحضر ، و قد ناقشناه فيها و بينا أنه كان مخطئا في إطلاقها عليهم جميعا ، و إن صدقت على بعضهم فلا تصدق عليهم كلهم ،و لا تخصهم دون غيرهم ، و لا تصدق عليهم –إن صدقت- في كل زمان و مكان .
سادسا : في دفاعه عن هارون الرشيد و المأمون و مدحه لهما :
دافع ابن خلدون عن الخليفتين هارون الرشيد و ابنه المأمون و مدحهما بحماس ، فقال عن الأول : إن ما يُروى من معاقرته للخمر و سكره مع الندماء، هو مُنكر لم يثبت ، فقد رُوي أنه كان مصاحبا للعلماء و الأولياء ، و يغزو عاما و يحج عاما ، و يصلي في اليوم مائة ركعة . و مما يُبعد ذلك عنه أنه كان قريبا من جده أبي جعفر المنصور و ابنه المهدي ، فجده كانت له مكانة في العلم و الدين ، و والده كان يتورع في كسوة جديدة لعياله ، فكيف يليق بالرشيد معاقرة الخمر ،و هو قريب من جده و أبيه ، و حتى أشراف العرب كانوا يتورعون من شرب الخمر في الجاهلية ،و الرشيد و أباؤه كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ، و يتصفون بالمحامد و أوصاف الكمال[59].
و ردا عليه أقول: أولا إن مسألة تضارب الروايات في أخلاق هارون الرشيد و سلوكياته معروفة في كتب التراجم و التواريخ ، و هي تحتاج للنقد و التحقيق إسنادا و متنا ، للوصول إلى أمر صحيح في هذه القضية . لكن الذي يهمنا نحن هنا ليس إثبات ذلك أو نفيه ، و إنما الذي يهمنا هو هل أصاب ابن خلدون في طريقة استدلاله في دفاعه عن الرشيد و مدحه له ، أم لم يُوفق في ذلك ؟ ، فهو لم يحقق روايات ،و لا جمع كل ما ثبت عن سلوكيات الرشيد لكي نحتكم إليها ، و لا احتكم إلى النصوص الشرعية ، و إنما معظم ما قاله هو دعاوى و تهويلات و مزاعم وجهها كما يريد ، و الدعوى –كما نعلم- لا يعجز عنها أحد ، أما الدليل الصحيح فلا يقدر على الإتيان به كل أحد .
ثانيا إن أحوال الرشيد المروية عن ترفه و زهده و لهوه ، هي أحوال كلها تدخل في إطار الإمكان العقلي ، ،و لا نستطيع ترجيح حالة على أخرى دون دليل صحيح ، لأنه لا يغيب عنا أن كثيرا من الخلفاء و الملوك و الأمراء عُرفوا في تاريخنا الإسلامي بجمعهم بين مظاهر التدين و اللهو و الانحراف ، لأسباب و أغراض كثيرة ، الله أعلم بها و بنوايا أصحابها . و عليه فإن احتجاج ابن خلدون بما رُوي عن زهد هارون الرشيد ليس دليلا قاطعا لإثبات ما ذهب إليه ، لأنه رُويت عنه أيضا أحوال أخرى مخالفة لذلك ، و الفيصل هنا هو تحقيق كل ما رُوي عن أخلاقه ، قبل اتخاذ موقف نهائي منه ؛ مع العلم أن جمع الرشيد بين تلك المظاهر يبقى ممكنا في حقه ، و ليس مستحيلا ، لأنه قد يُثبت التحقيق العلمي صحة تلك الروايات على اختلافها .
و ثالثا إن قوله بأن مما يدفع عن الرشيد تلك الاتهامات قربه من جده و ابنه المعروف عنهما بعض التدين ، هو قول لا يصلح أن يكون دليلا ، لأن الإيمان و التقوى و الزهد و الصلاح ، هي صفات لا تُورث، و إنما هي تُكتسب بالإخلاص و اليقين و العمل الصالح ، و ليس بالضرورة أن الرجل الصالح يكون أهله مثله صالحين ، فها هو نوح-عليه السلام- كانت زوجته و ابنه غير صالحين ، و لوط-عليه السلام- لم تكن زوجته صالحة ، و إبراهيم –عليه السلام- كان والده كافرا ، و رسولنا الكريم-عليه الصلاة و السلام- كان عماه أبو طالب و أبو لهب كافرين .
و رابعا إن دفاعه عن هارون الرشيد في مسألة معاقرته للخمر ، هو دفاع ضعيف جدا ، لأنه لا يُوجد مانع يمنعه من شرب الخمر إلا التقوى ، أما الاحتجاج بما كان عليه جده فهذا ليس دليلا أصلا . و أما قوله إن أشراف العرب كانوا يتورعون عن شرب الخمر في الجاهلية ، فهذا غير صحيح ، فقد كان العرب-في الغالب الأعم- يشربونها هم و أشرافهم و مواليهم و عبيدهم ، و حتى الصحابة كانوا يشربونها قبل التحريم ، و من المعروف أن قريشا لما خرجت إلى غزوة بدر ، خرج معها كل أشرافها ، و قال أبو لهب –لما جاء خبر نجاة العير- و هو من كبار أشرافها ، قال : (( و الله لا نرجع ، حتى نرد بدرا ، فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزور ، و نطعم الطعام ، و نسقي الخمر ، و نعزف القيان ))[60]. و قد شرب أحد الصحابة الخمر حتى بعد تحريمها , و أُقيم عليه الحد[61] . و عليه فإن شرب هارون الرشيد للخمر ممكن ، و دليل ابن خلدون في دفعه عنه ضعيف .
و خامسا إن قوله بأن الرشيد و أجداده كانوا يتجنبون المذمومات في دينهم و دنياهم ،و التخلق بالمحامد و أوصاف الكمال ، هو قول ليس صحيحا على إطلاقه ، فقد يصدق على بعض سلوكياتهم ، أما عامتها فلا يصدق عليها بحال ,و الشواهد على ذلك كثيرة ، منها إنهم من أجل الملك قتلوا بحق و بغير حق، و سفكوا الدماء ،و هتكوا الأعراض، و نقضوا العهود، و ارتكبوا مجازر رهيبة ، قُتل فيها خلق كثير لا يُحصيهم إلا الله تعالى[62] . و معروف عنهم-على ما يُروى- أنهم أعطوا الأمان للأمويين بالعهود و المواثيق ، ثم لما جمعوهم نقضوها و قتلوهم شر قتلة[63] .
و الشاهد الثاني هو أن العباسيين لما استولوا على الحكم بالقوة ، توارثوه فيما بينهم ، و هذا ليس سلوك من يتجنب المذمومات في دينه و دنياه ، لأنهم أولا أخذوا الحكم بالقوة و لم يعطه لهم المسلمون . و ثانيا إنهم توارثوا الحكم و حرموا المسلمين من حقهم الشرعي في اختيار من يحكمهم ، لمدة 524سنة ، و هو حق أعطاه إياهم الشرع الحكيم . و ثالثا إنهم أداروا ظهورهم للعلويين الذين تعاونوا معهم ،و قتلوا كثيرا منهم بحق و بغير حق .
و أما موقفه من المأمون ، فقال مدافعا عنه : (( و أين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه و علمه ، و اقتفاء سنن الخلفاء الراشدين من آبائه ،و أخذ بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة ، و مناظرته للعلماء و حفظه لحدود الله تعالى في صلواته و أحكامه ، فكيف تصح عنه أحوال الفساق المستهزئين ))[64] . و قوله هذا غير صحيح في معظم جوانبه ، و هو من مجازفاته الغريبة ، و الشواهد الآتية تثبت ذلك قطعا .
أولها إن قوله بأن المأمون أخذ بسير الخلفاء الراشدين الأربعة ،و تسميته لبعض أجداده بالخلفاء الراشدين ، هو قول مبالغ فيه جدا ، و لا يصدق عليه-أي المأمون- في أهم ما تميز به الخلفاء الراشدون ، فهم وصلوا إلى الحكم بالشورى و البيعة و الاختيار ، و أما العباسيون فوصلوا إليه بسفك الدماء ، ثم توارثوه بدون اختيار من المسلمين و لا مشورة منهم ، و فرضوا أنفسهم عليهم بالقوة ؛ فدولتهم دولة ملك لا دولة خلافة ، و أنما سميت خلافة مجازا و تجاوزا و تضليلا ، بدليل أن رسول الله –عليه الصلاة و السلام- صحّ عنه أنه قال : (( اقتدوا بالذين من بعدي ، أبو بكر و عمر ))، و قال (( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين من بعدي)) ، و (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون بعد ذلك ملكا ))[65] . فدولة بني العباس مُستثناة من الخلافة الراشدة الممدوحة المطلوب الاستنان بها ، فهي إذن مذمومة . و كيف يكون المأمون على سنة الخلافة الراشدة ،و قد أعلن جهارا نهارا أن أفضل الناس بعد النبي –صلى الله عليه وسلم- ، هو علي ابن أبي طالب[66] ، مخالفا بذلك النصوص الشرعية ، و أقوال علي و غيره من الصحابة ، و حقائق التاريخ الثابتة ، و أقوال السلف ، في أن أفضل الناس بعد رسول الله هو أبو بكر ثم عمر[67] .
و الشاهد الثاني هو أ ابن خلدون مدح المأمون في علمه و مناظراته ، و سكت عن انحرافاته الفكرية ،و أعماله الخطيرة التي أثّرت سلبا على الحياة العلمية عند المسلمين ، فقد كان معتزليا يقدم الشرع على العقل ، و ينفي صفات الله تعالى ، و ينكر تكلّمه ، مخالفا بذلك صريح القرآن الكريم و السنة النبوية ،و ما كان عليه السلف الصالح[68] . و هو الذي أشرف على ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ، و صرف عليها أموالا طائلة من أموال الأمة ، فترجم كثيرا من ضلالات و كفريات و انحرافات اليونان و الفرس و الهنود[69] ، و لم يُفرق بين ما ينفع الأمة و ما يضرها ، و ما يصح ترجمته و ما لا يصح ، فكان عمله في عمومه كارثة على جوانب كثيرة من الحياة الفكرية عند المسلمين ، ضرره أكثر من نفعه ، فأحدث نزاعا مريرا بين علماء الإسلام ، و الفلاسفة المشائين المسلمين ، ما تزال آثاره السلبية قائمة إلي يومنا هذا .
و الشاهد الثالث هو أن ابن خلدون بالغ في مدح المأمون في دينه و سلوكه ، و نسي الأخطاء و الجرائم التي ارتكبها في حق الرعية ، فقد ذهبت طائفة منهم ضحية سياسته الخرقاء ، عندما فرض على الناس القول بخلق القرآن بالقوة ، و من عارضه و لم يستجب له عاقبه ، فامتحن العلماء ، و سجن بعضهم ، و بعضهم مات في السجن ، و عندما حضرته الوفاة أوصى خليقته المعتصم بمواصلة امتحان الناس بالقول بخلق القرآن[70] .
و الشاهد الرابع هو أن ابن خلدون كال المديح للمأمون و وصفه بصفات لا يستحقها ، و نسي أو تناسى أنه –أي المأمون- كان من رؤوس المعتزلة القائلين بخلق القرآن ، و كبار علماء السلف قد ذموهم ، و كفروا القائلين بخلق القرآن ، منهم : سفيان الثوري، و سفيان بن عيينة ، و يحيى بن معين ، و وكيع بن الجراح، و احمد بن حنبل، و يزيد بن هارون ، و عبد الله بن المبارك ،و علي بن المديني ، و غير هؤلاء كثير[71] ، فتدبر ذلك . و عليه فلا يصح لابن خلدون المبالغة في مدح المأمون و إلحاقه بالخلفاء الراشدين في الأخذ بسيرهم ،و قد ذكرنا طرفا من أخطائه و جرائمه سكت عنها ابن خلدون .
سابعا : دفاعه عن إدريس بن عبد الله العلوي:
دافع ابن خلدون عن نسب إدريس بن إدريس بن عبد الله العلوي، و قال إن الطاعنين فيه قالوا إن إدريس هذا هو ابن مولاهم راشد ،و ليس ابن إدريس الأكبر ، و هؤلاء الطاعنون في نسبه هم العباسيون و من أيدهم ، محاولة منهم لوضع حد لدولة الأدارسة العلوية بالمغرب الأقصى ، ثم قال ابن خلدون : (( على أن تنزيه أهل البيت عن مثل هذا من عقائد أهل الإيمان ، فالله سبحانه قد أذهب عنهم الرجس ، و طهرهم تطهيرا ، ففراش إدريس طاهر من الدنس ،و منزه عن الرجس بحكم القرآن))[72] .
و ردا عليه أقول: أولا إنني لا أناقش مسألة صحة نسب إدريس من بطلانه ، و إنما أناقش ابن خلدون و أرد عليه في طريقة الاستدلال التي اتبعها في إثبات صحة نسب إدريس، لأنني أرى أن دليله كان ضعيفا جدا، و استدلاله بالقرآن كان خطأ.
و ثانيا إن آية التطهير لا تدل على ما ذهب إليه ابن خلدون ، و يجب فهمها ضمن سياقها الذي وردت فيه ، فالله تعالى يقول: (( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء، إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، و قلن قولا معروفا ،و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ، و أقمن الصلاة و أتين الزكاة ، و أطعن الله و رسوله، إنما يُريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا ،و اذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة ، إن الله كان لطيفا خبيرا)) –سورة الأحزاب/32-34 –
فهذه الآيات خاطبت زوجات الرسول-عليه الصلاة و السلام- و أمرتهن بجملة أوامر، فبدأها الله تعالى بالأوامر و ختمها بها ، و أثناءها قال الله تعالى: (( و إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت و يُطهركم تطهيرا )) فجاءت الآية بصيغة المذكر لأن رسول الله داخل معهن ، و هو أول أهل البيت ، كما أن الآية قالت أهل البيت و لم تقل آل البيت ، و الأهل أخص ،و الآل أعم ، فالآية ليس فيها توسيع لتشمل الآل .
و واضح أيضا أن آية التطهير مُعلق تحقيقيها بتطبيق الأوامر و لا تتحقق إلا بها ، لذلك قال تعالى : (( إنما يُريد الله ليذهب )) ، فهذه الإرادة متوقفة على الالتزام بتلك الأوامر ، فمن التزم بها طهّره الله تعالى ،و من لم يلتزم بها لا يُطهره .
و هذا التطهير الموعود ليس خاصا بأهل البيت فقط ، بل هو يعم كل المسلمين ، فكل مسلم قام بتلك الأوامر يُطهره الله تعالى ، لقوله : (( خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها ))-سورة التوبة/ 103- ،و (( و لكن يُريد الله ليطهركم و يتم نعمته عليكم )) –سورة المائدة /6- .
و عن تلك الآية يقول ابن تيمية ، إنها كقوله تعالى(( ما يُريد الله ليجعل عليكم من حرج ،و لكن يريد ليطهركم ،و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)) ، و الله تعالى لم يُخبرنا أنه طهر جميع آل البيت ، و أذهب عنهم الرجس ، فإن هذا كذب على الله ، فكيف و نحن نعلم أن من بني هاشم من ليس بمطهر من الذنوب، و لا أذهب عنهم الرجس . و معنى تلك الآيات هو أن الله تعالى يحب ذلك لعباده ، و يرضاه لهم ، و يأمرهم به ، فمن فعله حصل له هذا المراد المحبوب ، و من لم يفعل لم يحصل له ذلك ، كقوله تعالى (( يريد الله ليُبين لكم ،و يهديكم سنن الذين من قبلكم ،و يتوب عليكم ))[73]-سورة النساء/26- .
و بناء على ذلك فإن ما ذهب إليه ابن خلدون غير صحيح ، عندما زعم أن إدريس بن إدريس مُطهر سلفا ، لأنه من آل البيت ، و هذا فهم خطأ لآية التطهير ، فلا يتطهر إلا من آمن و اتقى ، سواء كان من أهل البيت ، أو من آل البيت ، أو من أبناء الصحابة ، أو من باقي المسلمين .
و ثالثا إن مما يُبطل زعم ابن خلدون من طهارة آل البيت لمجرد أنهم من آل البيت ، هو أن التاريخ يشهد بأن في آل البيت الصالح و الطالح، و أنهم تقاتلوا فيما بينهم مرارا ، و ما حدث بين العلويين و العباسيين من اقتتال و خيانات في صراعهم على الملك معروف في التاريخ لا يحتاج إلى توثيق . و ما ارتكبه العباسيون من قتل وسفك للدماء ، للوصول إلى السلطة معروف في كتب التواريخ ، فلما استحوذوا عليها توارثوها و حرموا المسلمين من حقهم في اختيار من يحكمهم ، و قطعوا الطريق أمامهم لممارسة ذلك الحق المكفول شرعا .
ثامنا : دفاعه عن نسب العُبيديين الإسماعيليين:
دافع ابن خلدون عن العبيديين الإسماعيليين المعروفين بالفاطميين ، في ادعائهم للنسب العلوي ،و صحح انتسابهم إليه ، و خطّأ العلماء الذين أنكروا ذلك ، و قال إنهم غفلوا عن الشواهد و الأدلة التي تُثبت صحة دعوى العبيديين في انتسابهم لعلي بن أبي طالب[74] . و ذكر خمسة أدلة لإثبات ما ذهب إليه ، نذكرها فيما يأتي تباعا .
أولها إنه قال إن العبيديين لو كانوا كاذبين مدعين للنسب العلوي لانكشف أمرهم سريعا ، ثم قارن حالهم بالقرامطة في ادعائهم للنسب العلوي ، كيف تلاشت دعوتهم ،و تفرق اتباعهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، فساءت عاقبتهم و ذاقوا وبال أمرهم ، فلو كان حال العُبيديين كحال القرامطة لأنكشف أمرهم بسرعة[75] .
و ردا عليه أقول : أولا لا يوجد دليل من النقل و لا من العقل يقول إن الكاذب لا بد أن ينكشف أمره بسرعة في هذه الدنيا و يعرفه الناس و يفشل في تحقيق مراده ، فكم من أكاذيب و أباطيل موجودة في الأديان و المذاهب و الدعوات و الأحزاب السياسية ، و لا يعرفها أكثر أتباعها , و لم ينكشف أمرها لديهم ، و هم يعتقدون أنها صحيحة و يموتون من أجلها ، و لهذا أخبرنا الله تعالى أنه هو الذي يحكم بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه بحق و بغير حق ، رغم أنه سبحانه أنزل كتابه المعجز المؤيد بالبراهين الدامغة ، لأن الكذابين نجحوا في نشر أكاذيبهم لحجب نور الإسلام عن أكثر شعوب العالم ، و هي شعوب مُغيبة و مُخدرة ، و مُغرر بها ، و لا تعلم حقيقة الإسلام ، و هي على ضلال بسبب أعمال هؤلاء الماكرين الأفاكين الذين نجحوا قرونا طويلة في ممارسة لعبتهم القذرة في صد شعوب العالم عن الإسلام ، باستخدام الكذب و الشبهات و المغالطات و غيرها من أساليب الصد عن سبيل الله تعالى .
و ثانيا إن ما قاله عن القرامطة من أنهم لما كانوا كاذبين في ادعائهم للنسب العلوي ، تلاشت دولتهم و ظهر خبثهم و مكرهم سريعا ، هو كلام غير صحيح ، و مغالطة مفضوحة ، لأن القرامطة أسسوا دولة كغيرهم من كثير من مؤسسي الدول ، فاستمرت دولتهم نحو قرن من الزمن ، بجنوب الجزيرة العربية ، و حققوا انتصارات كثيرة على العباسيين و شكّلوا عليهم خطرا داهما ، حتى إنهم دخلوا الحرم المكي سنة 317 ، و قتلوا بداخله الحجيج ، و أخذوا الحجر الأسود إلى عاصمتهم بالبحرين ،و بقي عندهم عدة سنوات ، و لم تقدر الدولة العباسية على استرجاعه ، و لا على القضاء عليهم ، و قد وصل نفوذ هؤلاء إلى بلاد الشام[76] . فهؤلاء على كفرهم و زندقتهم دامت دولتهم نحو قرن من الزمن ، و هي فترة ليست بالقصيرة ، فدول أخرى غير مطعون في نسبها عاشت نفس الفترة ، فالدولة الأموية عاشت 91 سنة ، و الدولة المرابطية عاشت نحو 91 سنة ، ، و أكثر من ذلك ، فإننا نجد الدولة الراشدة المؤمنة لا يزيد عمرها عن 30 سنة ، و دولة الصحابي عبد الله بن الزبير استمرت نحو13 سنة .
و ثالثا إن قوله بأن العبيديين لو كانوا كاذبين لانكشف أمرهم سريعا كما انكشف حال القرامطة ، هو قول غير صحيح ، و من مغالطاته ، لأن العبيديين هم أيضا انكشف أمرهم و خبثهم و زندقتهم ضلالهم بسرعة ، فإنهم لما ظهرت دولتهم بالمغرب الإسلامي(سنة 296ه) و أظهروا ادعاءهم للنسب العلوي ، أنكر عليهم ذلك العارفون بالنسب العلوي بمكة و المدينة ، و قد كان هذا (( الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين ، و في أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يُدلّس أمرهم على أحد ، أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه ))[77] . و قد ألف الزاهد الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن الحسن العلوي الدمشقي(ت ق: 4ه) كتابا عن العلويين ، نفى فيه زعم عبيد الله المعدي انتمائه للبيت العلوي ، و بالغ في نفيه ، و قال إنه دعي و نحلته خبيثة ، مدارها على المخرقة و الزندقة[78] .
و ضلالاتهم و منكراتهم هي أيضا ظهرت مبكرا ، فما إن أسسوا دولتهم حتى أظهروا ذلك جهارا نهارا ، فسبوا الصحابة و اضطهدوا أهل السنة ، و قتلوا منهم الآلاف ، مما حدا بعلماء السنة بالقيروان إلى إصدار فتوى بارتداد و زندقة هؤلاء ،و الدعوة إلى حمل السلاح لمقاومتهم[79] .
و رابعا إنه لا توجد علاقة حتمية بين الكذب و سرعة الانكشاف ، فقد ينكشف الكذب و قد لا ينكشف لمعظم الناس و يستمر قرونا عديدة ، فالأرض تموج بالعقائد و المذاهب الباطلة ، و لم ينكشف كذبها و زيفها لمعظم أتباعها ، كما هو حال اليهود و النصارى و الهنود و البوذيين ، و معظم الفرق الإسلامية على نفس ذلك الحال ، لأن القائمين عليها هم على قدم وساق لضمان استمرار أكاذيبهم و مفترياتهم .
و خامسا إنه لا توجد علاقة حتمية بين سرعة السقوط و الكذب ، و لا بين طول الأعمار و الصدق ، لكن مقتضى زعم ابن خلدون هو وجود هذه العلاقة ، و هي بلا شك علاقة باطلة بدليل الشواهد الآتية ، منها أن هناك رجالا صادقين مؤمنين أسسوا دولا فلم تُعمر طويلا ، كدولة الراشدين ،و دوله الصحابي عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- . و أن هناك رجالا كاذبين هم أيضا أسسوا دولا لم تعمر طويلا ، كدولة بابك الخرمي ،و دولة صاحب الزنج .
و منها أيضا دولة الحشاشين الإسماعيلية بقلعة ألموت ببلاد فارس، كانت دولة رافضية ضالة منحرفة مفترية على الله و رسوله و المؤمنين ، و مع ذلك عمرت أكثر من 170 سنة . و كذلك دولة برغواطة البربرية بجنوب المغرب الأقصى ، فقد كذب ملوكها على الله و رسوله الأكاذيب الكبار ، و فيهم من ادعى النبوة ، و أحلوا لرعيتهم المحرمات ،و شرعوا لهم صلوات من أهوائهم ، و مع هذا دامت دولتهم نحو 300 سنة[80] ، على كفرها و زندقتها ، و قد عمرت أكثر من دولة العبيديين الإسماعيليين ، التي دامت 271سنة .
و يتبين مما ذكرناه أن التاريخ يُثبت عكس ما زعمه ابن خلدون ، و هو أن الكذابين هم الذين عمرت دولهم مدة طويلة ، و أن الصادقين المؤمنين لم تعمر دولهم –على قلتها-إلا قليلا ، حتى إن تاريخنا الإسلامي الطويل ، على كثرة دوله لم تتكرر فيه الدولة الراشدة إلى يومنا هذا .
و أما الدليل الثاني –الذي اعتمد عليه ابن خلدون – فمفاده أن مما يدل على صحة نسب العبيديين في ادعائهم للعلوية ، هو أن أتباعهم بعد سقوط دولهم ظلّوا يوالونهم ،و خرجوا مرارا للمطالبة بالخلافة ، و يقولون بالوصية لأئمتهم ، فلو ارتاب هؤلاء في (( نسبهم لما ركبوا أعناق الأخطار في الانتصار لهم ، فصاحب البدعة لا يُلبس في أمره ، و لا يشبه في بدعته ،و لا يكذب نفسه فيما ينتحله ))[81] .
و قوله هذا غير صحيح ،و فيه تمويه و مغالطة ، تُبطله المعطيات الآتية : أولها إن كل أصحاب الأديان و المذاهب ، ما صح منها و ما بطُل ، لا يرتابون-في غالبهم- في عقائدهم و يركبون الأهوال من أجلها ، لكن هذا لا يدل بالضرورة على أن أفكارهم صحيحة ، لأن الحق لا يُعرف –بالضرورة- بتلك التصرفات ، و إنما الحق يُعرف أساسا بذاته و بالدليل الذي يحمله ، لذا فإن ثورة هؤلاء العبيديين للمطالبة بعودة دولتهم ليست دليلا على صحة نسبهم ، و إنما قد يدل ذلك على صدق ولائهم للعبيديين ، و هذا ليس دليلا على صحة نسب هؤلاء ، لأن كل الأديان و المذاهب لها أتباع مخلصون لها ، لكن إخلاصهم هذا ليس دليلا على صحة تلك العقائد و صوابها ، فكم من طوائف و ملل ضالة متحمسة لباطلها و ضلالها ! ، كحال اليهود في فلسطين ، فهم يدافعون عن دولتهم و يموتون من أجلها ،و مع ذلك فهم مغتصبون لفلسطين ، و لا يدل تعصبهم و موتهم من أجلها ، أنهم أصحاب حق في فلسطين .
و ثانيها إن صاحب البدعة الضال المنحرف الكذاب قد يلتبس أمره على كثير من الناس ، فيصدقونه و يُؤمنون بفكره ، و يضع لهم عقائد و تشريعات و ينشئ لهم مذهبا جديدا مزيفا ، و مع ذلك لا ينكشف أمره عند معظم أتباعه ، و الأمثلة على ذلك كثيرة جدا قديما و حديثا ، منها السبئية ، و الخرمية ، و الإسماعيلية ، و الإثنى عشرية ، و البهائية ، و القاديانية ، و غيرها كثير ، فثورة هؤلاء الأتباع انتصارا لمذاهبهم و تحمسهم لها ليس دليلا على صحتها ، فكذلك ثورة أتباع العبيديين بمصر لاسترجاع دولتهم ، فإنها لا تدل على صحة النسب العلوي ، على حد زعم ابن خلدون .
و الدليل الثالث مفاده أن عبيد الله المهدي الإسماعيلي لما دخل بلاد المغرب و استقر بسجلماسة عند المدراريين بجنوب المغرب الأقصى ، أرسل الخليفة العباسي إلى الأغالبة و المدراريين يُخبرهم بذلك و يحثهم على القبض على عبيد الله ، و هذا عند ابن خلدون دليل شاهد على صحة نسب العبيديين العلوي[82] . فهل ما ذهب إليه صحيح ؟ ، كلا إنه ليس حجة مقنعة ، لأن الخليفة لما سمع بانتقال عبيد الله المهدي إلى المغرب سعى إلى القبض عليه ، لأنه يمثل خطرا عليه و على الأغالبة و المدراريين على حد سواء ، لذلك أغراهم به ،و حثهم على وضع حد له ، لأنه يهدد الجميع ، و تصرّفه هذا لا يدل على صحة نسب عبيد الله المزعوم ، و قوله –أي الخليفة- لهؤلاء بأن الذي دخل بلادهم هو المهدي ، يعني أنه عرّفهم بأنه هو الذي يدعي المهدوية و يرفع شعار العلويين ،و تصرّفه هذا طبيعي و ضروري ، كان يتصرّفه مع أي خطر يتهدده من أي جهة كانت .
و دليله الرابع هو أبيات شعرية للشاعر الشريف الراضي الشيعي العلوي ، يقول فيه :
أليس الذل في بلاد الأعادي + و بمصر الخليفة العلوي
مَن أبوه أبي و مولاه مولاي + إذا ضامني البعيد القصي
و هو –أي ابن خلدون- في اعتماده على هذا الشعر متناقض مع نفسه ، لأنه استدل هنا بشعر للراضي لإثبات صحة نسب العبيديين العلوي ، ثم هو في موضع آخر من مقدمته يُشير إلى المحضر الذي كتبه العباسيون للطعن في العبيديين المدعين للنسب العلوي ، و يذكر من بين الأعيان الذين وقّعوا على المحضر الأخوان الشيعيان الراضي و المرتضي[83] . و قد أكدت ذلك مصادر تاريخية أخرى من أن الأخوين الراضي و المرتضي كانا من الموقعين على المحضر[84] . مع العلم أنه لما انتشر ذلك الشعر بين الناس ،و تكلّموا في قائله أنكر الراضي ذلك و حلف أنه لم يقله[85] .
و لا ندري هل تعمد ابن خلدون ذكر ذلك التناقض ، أم لم يتنبه له ؟ كما أن ذلك الشعر المنسوب للراضي ، إما أنه منحول عليه ، و إما أنه قاله نكاية في العباسيين قبل كتابة المحضر أو بعده ، بحكم العداء الموروث بين العباسيين و العلويين بسبب الحكم . مع أن موقفه الذي ذكره في المحضر هو الصحيح ، لأن أعيان بغداد من مختلف الطوائف وافقوا عليه ، و لأن الأدلة الكثيرة التي سبق ذكرها ، و التي سيأتي بعضها لاحقا ، كلها تؤيد ذلك ، و بذلك يتبين أن اعتماد ابن خلدون على ذلك الشعر في تصحيح نسب العبيديين ، هو اعتماد ضعيف جدا و لا يصح .
و دليله الأخير –أي الخامس- في تصحيحه لنسب العبيديين ، هو قوله بأن الانقياد للعبيديين و ظهور كلمتهم هو أدل شيء على صدق نسبهم[86] . و دليله هذا هو أيضا غير صحيح ، لأنه لا توجد علاقة حتمية بين الصدق و قيام الدول ،و بين الكذب و عدم نجاحها ، لأن قيامها يخضع لأسباب كثيرة جدا ، أهمها حسن التنظيم ،و توفر القوة المادية و المعنوية ، و حسن اختيار الظروف المناسبة داخليا و خارجيا . كما أنه لا يوجد دليل نقلي و لا عقلي و لا تاريخي يدل على أن ظهور الدول و انتصارها يدل بالضرورة على أنها و أصحابها على صدق و صواب ، فالله تعالى يعطي الدنيا لمن يُحب و لمن لا يُحب ، قال سبحانه (( كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك ،و ما كان عطاء ربك محظورا )) –سورة الإسراء /20- ،و (( تلك الأيام نداولها بين الناس )) –سورة آل عمران/140- ، لكنه سبحانه لا يُدخل الجنة إلا من يُحب، و لا يُخلّد في النار إلا من لا يُحب ، و هذا معروف من دين الإسلام بالضرورة .
و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة جدا ، فمن الدول التي أسسها كذابون ضالون منحرفون : دولة القرامطة ، و دولة الحشاشين ، و دولة العبيديين ، و دولة البرغواطيين ، و دولة اليهود . و منهم أيضا كذابون فشلوا في تكوين دول لهم ، كزعيم الحركة الرواندية ، و صاحب الزنج ، و أستاذ سيس ،في ثوراتهم على العباسيين في القرنين الثاني و الثالث الهجريين .
و في مقابل هؤلاء هناك صادقون كثيرون أسسوا دولا ، كدولة الخلافة الراشدة ، و دولة عبد الله بن الزبير ، و دولة الزنكيين ، و دولة الأيوبيين ، و دولة المرابطين ، و منهم أيضا صادقون فشلوا في تكوين دول لهم ، كالحسين –رضي الله عنه- ،و العلويين السنيين الذين فشلوا في خروجهم على الأمويين و العباسيين .
و النصارى في زماننا هذا ظاهرون ،و يُهيمنون على العالم ، و يزعمون أنهم على دين المسيح-عليه السلام- ، فهل هذا الظهور دليل على صدق ديانتهم و صوابها ؟ ، طبعا لا ، لأنهم على دين محرف بشهادة القرآن الكريم ،و السنة النبوية ، و البراهين العقلية و العلمية الكثيرة ، فالظهور الدنيوي إذن ، ليس دليلا بالضرورة على الصدق و لا على الكذب ، و إنما صدق الدعوات و صحة أفكارها يقوم أساسا على الحق الذي تحمله المؤيد بالأدلة النقلية و العقلية و العلمية الصحيحة .
و بذلك يتبين أن أدلة ابن خلدون في إثبات صحة انتساب العبيديين للعلويين ، هي كلها لا تصح ، و فيها كثير من المغالطات و التمويهات و المخالفات لكثير من حقائق المنقول و المعقول و التاريخ . و في مقابل ذلك نجد أدلة إثبات كذب هؤلاء في انتسابهم للعلويين ، قوية و راجحة ، نذكر منها ما يأتي :
أولها إن كثيرا من البيوتات العلوية أنكرت ما زعمه العبيديون من انتسابهم للعلويين ، و قالت إنهم خوارج كذبة[87] . و ثانيها هو إن هؤلاء العبيديين –لما أقاموا دولتهم- أظهروا كفرا بواحا ،و ادعى بعضهم الألوهية ، و سبوا الأنبياء و الصحابة ،و سفكوا الدماء ، و أحلوا الخمر و أباحوا الفروج[88] . و من كان هذا حاله فهو كذاب في انتسابه للإسلام ، و كذاب أيضا في زعمه أنه على منهاج علي بن أبي طالب و بنيه- رضي الله عنهم- ، فما كان علي و أولاده على مذهب هؤلاء العبيديين الزنادقة ، و إنما كان هو و بنوه على مذهب أهل السنة و الجماعة . و إذا كان ذلك هو حال العبيديين فإنهم على الأرجح هم أيضا كذبة في انتسابهم للعلويين .
و الدليل الثالث هو أن العبيديين لما كوّنوا دولتهم ارتكبوا في حق أهل السنة بالمغرب الإسلامي جرائم نكراء ، و أقاموا لهم دار النحر ذبحوهم فيها كالكباش ظلما و عدوانا ، مما دفع علماء القيروان إلى إصدار فتوى بكفرهم و زندقتهم و الدعوة لحمل السيف لجهادهم[89] . فهذه التصرفات التي قام بها هؤلاء العبيديون ، هي دليل قوي على أنهم ليسوا من العلويين ، لأن العلويين الذين انتسبوا إليهم و هم علي و أولاده ، كانوا من أهل السنة و لم يكونوا رافضة أصلا ، فهذه المخالفة دليل قوي علىكذبهم .
و الدليل الرابع هو أن هؤلاء العبيديين عندما ادعوا النسب العلوي كانوا في مرحلة التستر و الكتمان ، نظموا خلالها جماعتهم و ادعوا فيها ما شاءوا ، بعيدين عن أعين الناس ، و عليه فنحن من حقنا أن نشك في كل ما زعموه ،و ننكر الدعاوى التي لا دليل عليها و تردها الشواهد التاريخية ، خاصة و أنه قد ثبت أنهم بالفعل كانوا كذبة ضالين منحرفين .
و الدليل الخامس يتمثل في المحضر الذي كتبه كبار علماء بغداد و قضاتها و أعيانها ، في سنة 402 هجرية ، أنكروا فيه دعوى العبيديين انتسابهم للبيت العلوي ، و شهدوا عليهم بالكذب و
[1] ابن خلدون : المقدمة ، ص: 73 .
[2] الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1198 .
[3] المقدمة ، ص: 74 .
[4] ج 2 ص: 116 .
[5] ابن خلدون : المصدر السابق ، ص: 310 .
[6] النرمذي: سنن الترمذي ، ج 4 ص: 494 ، 495 . و الألباني: الأحاديث الضعيفة ، ج3 / 1171 ، 1727 .
[7] علي القاري: الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ط2، بيروت ، المكتب الإسلامي، ص: 236 . و محمد ظافر المدني: تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة ، ط1 ، دمشق ، دار ابن كثير ، 1405ه ، ص: 139 .
[8] البخاري: الصحيح ، ج 3 ص :1349 .
[9] المقدمة ، ص: 99 .
[10] صحيح البخاري، ج 4 ص: 1600 .
[11] المقدمة ، ص : 84 .
[12] مسلم : صحيح مسلم ، ج4 ص: 1773 . و ابن ماجة : السنن ، ج 2ص: 1285 . و ابن حجر: فتح الباري ، ط12 ص: 369 .
[13] المقدمة ، ص: 245 ، 352 .
[14] محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر ، دار رحاب، دت ، ص: 147 . و أصول التخريج و دراسة الأسانيد ، ص: 143 .
[15] المقدمة ، ص: 245، 353 .
[16] ابن الصلاح : مقدمة ابن الصلاح ، ص: 18 .
[17] النووي : شرح النووي على صحيح مسلم ، ج 1 ص: 27 .
[18] منهاج السنة النبوية ، ج 4 ص: 25 ، 59 .
[19] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج1 ص: 250 ، 256 ، 257 .
[20] نفس المصدر ، ج 1 ص: 257 ، ج 18 ، ص: 70 .
[21] المنار المنيف ، ص: 72 .
[22] البداية و النهاية ، ج 1 ص: 17 .
[23] ابن حجر: مقدمة فتح الباري، حققه محب الدين الخطيب ، بيروت ، دار المعرفة ، 1379، ص: 246، 346 .
[24] يوسف القرضاوي: كيف نتعامل مع السنة النبوية ، الجزائر ، دار المعرفة ، ص: 97، 98 .
[25] ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، مقدمة الألباني ، حققه نخبة من العلماء ، ط9 ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، ص: 23 .
[26] القرضاوي : المرجع السابق ، ص: 97، 98 .
[27] أنظر مقدمة الصحيحين .
[28] المقدمة ، ص: 90 ، 301 .
[29] محمود عبد المولى : ابن خلدون و علوم المجتمع ، ليبيا-تونس ، الدار العربية للكتاب، 1980، ص: 89 .
[30] علي بن هادية : القاموس الجديد ، ص: 1206-1207 .
[31] للتوسع في ذلك انظر : عماد الدين خليل : التفسير الإسلامي للتاريخ ، ص: 255 و ما بعدها .
[32] انظر ص : 255 و ما بعدها .
[33] نقلا عن الطالب : زهير ديلمي : النظرية السياسية عند الماوردي ، رسالة ماجستير في التاريخ الإسلامي ، كلية العلوم الإنسانية و الاجتماعية ، قسم التاريخ ، جامعة الجزائر ، 2004-2005 , ص: 210 .
[34] ولي الله الهلوي: الانصاف ، ص: 68و ما بعدها ، و 87 و ما بعدها .
[35] المقدمة ، ص: 361 .
[36] نفس المصدر ، ص: 355 .
[37] أبو زهرة :تاريخ الجدل ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1980، ص :296 .
[38] نفس المرجع ص: 297 .
[39] انظر مثلا: عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
[40] أبو شامة : مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول، ضمن مجموع هدى المدرسة السلفية ، الجزائر ، دار الشهاب ، 1988 ، ص: 217، 218 ، 227 . و المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط و الأثار ، القاهرة ، مكتبة الثقافة الدينية ، دت ج2 ص: 344 . و ابن خلدون: المقدمة، ص: 361 . و عمر سليمان الأشقر: المدخل إلى دراسة المدارس و المذاهب الفقهية ، ط2 ، الأردن ، دار النفائس ، 1998، ص: 176 .
[41] انظر مثلا : عبد القادر النغيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
[42] راجع مثلا علماء القرنين الخامس و السادس الهجريين ، في كتاب شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي .
[43] المقدمة ، ص: 354 .
[44] الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 630-631 .
[45] هؤلاء الذين ذكرناهم معروفون بالاجتهاد ، لكن انظر مثلا : ابن ردب البغدادي: الذيل على طبقات الحنابلة، ج1 ص: 148، 190 ، 192 . و ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب ، ج 7 ص: 155 و ما بعدها .
[46] للتوسع في ذلك انظر: ابن كثير : البداية و النهاية ، الحوادث ما بين سنتي: 700-728ه .
[47] المقدمة ، ص: 454 .
[48] انظر : ابو شامة : ذيل الروضتين ص : 18 . و السبط بن الجوزي : مرآة الزمان ، ج 8 ص : 414 .و ابن كثير: المصدر السابق ج 12 ص : 249 ، و ج 13 ص :119 ، 120 .و ابن الجوزي : المنتظم ج 10 ص: 22 ، 33 . و ابن تيمية : خلاف الأمة في العبادات و مذاهب أهل السنة الجزائر دار الشهاب 1988 ، ص : 111 ، 113 .
[49] السيد سابق : فقه السنة ، ج 1 ص : 10 .و جابر فياض العلواني : أدب الاختلاف في الإسلام ص : 147 .
[50] فاروق النبهان : الفكر الخلدوني ، ص: 370 .
[51] الألباني: الأحاديث الصحيحة ، ج 5 / 2244 .
[52] المقدمة ، ص: 118 .
[53] نفس المصدر ، ص: 119 .
[54] نفسه ، ص: 119 ، 120 .
[55] البسائط التي يقصدها ابن خلدون هي الأمور غير المعقدة السهلة التناول ،و هو قد فسرها بذلك عندما شرح ذلك الحكم الذي أطلقه في حق العرب . المقدمة ، ص: 117 . و علي بن هادية : القاموس الجديد ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ص: 149 .
[56] نفس المصدر ، ص: 117 .
[57] نفس المصدر ، ص: 118 – 119 .
[58] نفسه ، ص: 119 .
[59] نفس المصدر ، ص: 14 .
[60] البوطي: فقه السيرة ، ص: 157 .
[61] البخاري: الصحيح ، باب ما يُكره من لعن شارب الخمر و أنه ليس بخارج عن الملة ، ج 6 ص: 2489 .
[62] الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 1 ص: 158 .
[63] انظر مثلا : عبد العزيز سالم: تاريخ المسلمين و آثارهم في الأندلس ،بيروت ، دار النهضة العربية ، 1981، ص: 174، 175 .
[64] نفس المصدر ، 16 .
[65] الألباني: الصحيحة ، حديث رقم : 1142 ، 2735 . سنن أبي داود من تحقيق الألباني ، حديث رقم : 4607 .
[66] ابن كثير : البداية ، ج 10 ص: 177 .
[67] للتوسع في هذا الموضوع انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية .
[68] عن أعمال المأمون انظر البداية و النهاية ، الحوادث بين سنتي : 212 – 218 هجرية . و عن عقائد السلف انظر مثلا : صديق حسن خان : قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر .
[69] للتوسع في ترجمة العلوم القديمة إلى اللغة العربية ،و أشهر الذين ترجموها أنظر : ابن النديم : الفهرست . و ابن أبي أصيبعة : عيون الأنباء في طبقات الأطباء .
[70] انظر مثلا : ابن كثير: البداية ، ج 10 ص: 267 . و الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ، ج 8 ص: 216 ، ج 19 ص: 313 ، ج 24 ص: 299، 300 .
[71] انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 12 ص: 506 .و تذكرة الحفاظ ، ج 2 ص: 428 . و عبد الله بن احمد بن حنبل : السنة ، ج 1ص: 102، 103 ، 108، 110 ، 111، 112 ، 115 ، 122، 124 ، 128 .
[72] المقدمة ، ص: 20 .
[73] منهاج السنة النبوية ، ج 2 ص: 173 .
[74] المقدمة ، ص: 17 ، 18 .
[75] نفسه ، ص: 17 .
[76] أخبار هؤلاء معروفة في كتب التواريخ ، انظر مثلا : ابن كثير : البداية ، ج11 ص: 73 .
[77] نفس المصدر ، ج 11 ص: 421 .
[78] الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269-270 .
[79] نفس المصدر ، ج 15 ص: 151 .
[80] ابن خلدون : العبر ، ج6 ص: 276، و ما بعدها . و السلاوي: الاستقصاء ، ج 1 ص: 170 .
[81] المقدمة ، ص: 17 .
[82] كتاب العبر ، ج 3 ص: 449 .
[83] المقدمة ، ص: 30 .
[84] انظر مثلا : الذهبي: السير ، ج 15 ص: 132 . و ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 .
[85] ابن الأثير : الكامل ، ج 6 ص: 447 .
[86] كتاب العبر ، ج 3 ص: 449، 450 .
[87] ابن كثير : البداية ، ج 11 ص: 421 . و الذهبي: السير ، ج 6 ص: 269 – 270 .
[88] ابن كثير : نفسه ، ج 11 ص: 421 .
[89] الذهبي: المصدر السابق ، ج 15 ص: 151 .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
شكرااا
استاذ الطيباوى و انت انسان طيب و تحب الخير لأمتك
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة allamallamallam ![]()
شكرااا
استاذ الطيباوى و انت انسان طيب و تحب الخير لأمتك
شكرا الباحث المجتهد الاريب الكريم علام علام على ردكم الكريم الاكرم
بارك الله فيكم و جعلكم ذخرا لهذا المنتدى الطيب و نورا و مشكاة لبعث المودة و صلة الرحم بين كافة المسلمين عربا و امازيغا .