زهران علوش ومقاتلو (جيش الإسلام) السعودي
السعودية تشكل جيشها على حساب الجيش الحر
رهان الساعات الأخيرة
السعودية في سوريا: مشاغبة بائسة
عبدالحميد قدس
كان الاتفاق بين الرياض وواشنطن على تقاسم أدوار متقن، بأن تواصل الأولى تمويل وتجهيز الجماعات المسلّحة في سوريا فيما تخوض الثانية جولات التفاوض مع المعسكر الآخر الداعم للنظام السوري.. وكان يمكن لهذا الاتفاق أن يصمد طويلاً، طالما أن أمد الصراع مفتوح، والأهم طالما أن كفتي ميزان الحرب لم تمل لصالح النظام، والأشد أهمية من ذلك طالما أن أطراف التفاوض لا يجمعها موضوع آخر سوى الموضوع السوري. السعودية حاولت اختزال ملفات المنطقة في الملف السوري، فوضعت كل رهاناتها وثقلها فيه، اعتقاداً منها بأنه الملف الذي سوف تجني منه ثماراً في الملفات الأخرى قاطبة، الايراني، اللبناني، العراقي، اليمني..وغيرها.
لم يكترث رئيس الاستخبارات السعودية بندر بن سلطان بالتحذيرات من تحوّل الجماعات القاعدية التي تدعمها السعودية الى قوة تهديد لأمن المنطقة. فقد شكّكت الحكومات وأجهزة الاستخبارات الغربية في قدرة بندر وحلفائه الاقليميين خصوصاً في الاردن والامارات وغيرهم في احتواء أخطار الجماعات المسلّحة في حال فشلت الحرب ولم تسقط النظام السوري. ومع ذلك، واصل بندر السير في المخطط نفسه، حتى مع بروز بوادر تمرد بعض الجماعات المسلّحة على رعاتها، كما حصل بين جماعات قاعدية مع تركيا، رغم التسهيلات التي وفّرتها الاخيرة لها للدخول والعمل في سوريا.
صحيفة (الغارديان)، نشرت في 8 نوفمبر الجاري تقريراً حول محاولات السعودية شراء الثورة السورية تحت غطاء التمويل والتدريب، بهدف السيطرة على الثورة السورية ووضع اليد على قرارها. وكتب آيان بلاك في تقريره أن السعودية تخوض حربين في سوريا في محاولة لإنزال الهزيمة بنظام بشار الأسد. وقال بأنها ستدفع ملايين الدولارات لتسليح وتدريب آلاف المقاتلين السوريين من أجل تشكيل قوة جديدة تساعد على إسقاط نظام الأسد، وفي الوقت ذاته تغيير ميزان القوة بين المعارضة المسلحة، حيث إن الكفة حاليا لصالح التنظيمات الجهادية المتشددة. ونقل بلاك عن مصادر سورية وعربية وغربية إن الجهود السعودية تركزت على تعزيز لواء جيش الإسلام، الذي أنشئ في أواخر سبتمبر الماضي باتحاد 43 كتيبة مقاتلة، وتوصف على أنها طرف جديد هام على الساحة الثورية المنقسمة.
وبناء على تقرير نشرته مجلة (فورين بوليسي) فإن كتائب من جيش الإسلام ستُدرب بمساعدة باكستانية، وتشير التقديرات إلى أن تعداد قوتها من 5 آلاف إلى أكثر من 50 ألف. لكنَ دبلوماسيين وخبراء حذروا من شكوك جدية حول تداعياته، وكذلك المخاوف من (المتطرفين العائدين) من سوريا.
ويشير التقرير الى أن رئيس الاستخبارات السعودية، الأمير بندر بن سلطان، يضغط أيضا على الولايات المتحدة للتخلي عن معارضتها لتوريد صواريخ مضادة للطائرات والمضادة للدبابات إلى جيش الإسلام. كما يُطالب الأردن بالسماح لاستخدام أراضيه كطريق للإمدادات إلى سوريا المجاورة.
ويتزعم جيش الإسلام، القائد الميداني زهران علوش، وهو داعية سلفي والرئيس السابق للواء الإسلام، واحد من القوى الثورية المكاتلة الأكثر فعالية في منطقة دمشق. ويدعي التقرير أن «علوش» عقد مؤخراً محادثات مع الأمير بندر جنبا إلى جنب مع بعض رجال الأعمال السعوديين الذين يمولون الكتائب الثورية المنضوية تحت راية «جيش الإسلام». ويرى كاتب التقرير أن إصرار السعودية على التدخل المؤثر في الساحة الثورية السورية تزامن مع سخطها على سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا وإيران، منافستها الإقليمية للمملكة. ويقول خبراء إن السعودية تخاطر بالاعتماد على التمويل والأسلحة من أجل النفوذ والضغط العسكري على الأسد دون وضع إستراتيجية سياسية واضحة والتركيز على تقوية الجماعات ذات الطابع السني بشكل علني.
من جهته كتب يزيد صايغ، باحث رئيسي في مركز كارنيجي للشرق الأوسط، مقالاً مطوّلاً في 29 أكتوبر الماضي بعنوان (توحيد المتمردين في سورية: السعودية تنخرط في النزاع)، جاء فيه: (خلال الأسابيع الماضية أعلن العديد من الجماعات السورية المتمرّدة موجة من الاندماجات والتحالفات. من الناحية النظرية، يمثّل الاتجاه بادرة مطلوبة تشير إلى أنه يجري في نهاية المطاف تجاوز معضلة التفتّت الشديد في صفوف المعارضة. ومن شأن مثل هذا التطوّر أن يكمل ظهور بضعة تجمّعات متعدّدة الكتائب و»جبهات» مهيمنة في التمرّد المسلح خلال العام الماضي).
واعتبر الصايغ أن هذا المسعى السعودي سوف يؤول الى مزيد من الاستقطاب في صفوف المتمرّدين. ومن المحتمل أن يكون قادة المعارضة المعترف بها حالياً أول الخاسرين، أي الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة والمجلس العسكري الأعلى للجيش السوري الحر. ففي آخر اجتماع لها عقد يوم 22 تشرين الأول/أكتوبر، دعت مجموعة الدول الـ «11» الأساسية ضمن مجموعة أصدقاء سورية، والتي تشارك السعودية في عضويتها، التحالف الوطني إلى الالتزام بتمثيل المعارضة السورية في مؤتمر جنيف-2 . غير أن العديد من تحالفات المتمرّدين الجديدة، بما فيها تلك التي تتلقّى الدعم السعودي المكثّف، سحبت اعترافها بالائتلاف الوطني والمجلس العسكري الأعلى، أو هدّدت بذلك، وذلك ردّاً على استعدادهما المفترض لحضور المؤتمر.
الصايغ اعتبر قرار السعودية تمويل المتمردين أو مجموعات مختارة منهم هي مخاطرة بإضاعة فرصتها وتقويض أهدافها في سوريا.
وينقل الصايغ عن مطّلعين من الداخل على الشؤون السعودية أن عمليات تدريب خمسة آلاف من المتمردين تجري بالفعل في الأردن منذ بضعة أشهر بمساعدة مدربين باكستانيين وفرنسيين وأميركيين، على رغم أن مصادر أردنية على صلة بمصادر رفيعة تشير إلى عدد أقلّ من ذلك بكثير. وفي أي حال، لايمكن توقّع الكثير من المنشقّين الذين اختاروا مغادرة سورية وظلوا في مخيمات معزولة مخصصة للضباط في المنفى منذ ذلك الحين. وربما يكون هذا قد أثَّر في تفكير وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بن عبدالعزيز، ورئيس الاستخبارات العامة الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز، ونائب وزير الدفاع الأمير سلمان بن سلطان بن عبدالعزيز، الذين تم نقل ملف سورية إليهم. وتقضي خطة هؤلاء، المعروفين بموقفهم المتشدّد إزاء الوضع في سورية، ببناء جيش من المتمرّدين قوامه بين 40 و50 ألف عنصر بتكلفة «مليارات عدة من الدولارات»، وفقاً لمصادر مطّلعة.
يضيف الصايغ بأن الخطة على الأقل في خطوطها العريضة، نوقشت من جانب وزراء خارجية السعودية والأردن والإمارات، الذين التقوا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في 13 أيلول/سبتمبر. وقد أسفر ذلك اللقاء عن اتفاق على «تكثيف الدعم الدولي للمعارضة».
في أعقاب ما تعتبره السعودية «انشقاق» الإدارة الأميركية عن ائتلاف الدول الراغبة في دعم المعارضة السورية عسكرياً، اتّجهت إلى باكستان لتوفير التدريب للجيش الجديد. ولكن هذا الخيار يبدو صعباً، بحسب الصايغ، نظراً إلى تحدّيات الأمن القومي الكبرى التي تواجه القوات المسلحة الباكستانية قبيل انسحاب حلف شمال الأطلسي (ناتو) من أفغانستان، وغموض العلاقة بين المدنيين والعسكريين في باكستان في خضم عملية اختيار رئيس جديد لهيئة الأركان العامة. وينقل الصايغ عن مصادر وثيقة الصلة بوزارة الدفاع الباكستانية والاستخبارات العسكرية تأكيدها بأن القوات المسلحة كانت بالفعل متردّدة أو غير قادرة على تلبية طلب سعودي سابق لتوفير تدريب قوات خاصة للمتمرّدين السوريين. فهم يعتبرون أنه تتعذّر الاستجابة للاقتراح السعودي الجديد نظراً إلى نطاقه وحجمه.
ولكن الأهم من ذلك هو، بحسب الصايغ، أنه سيكون من الصعب العثور على مكان ثابت لإنشاء قاعدة لتمركز وتدريب القوة الجديدة. ففي الأردن تزداد المعارضة لأن تكون المملكة قاعدة خلفية للمتمرّدين أو دعم التدخّل العسكري الخارجي في سورية، وهي التي كانت ممراًّ للتدريب والأسلحة بتمويل سعودي منذ أواخر العام 2012. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المملكة جزءاً من محور واضح مع السعودية والإمارات بشأن سورية. لكن الخطة السعودية الجديدة تتطلب التزاماً أردنياً على نطاق يواجه معارضة داخل المؤسّسة الأمنية والعسكرية، وليس من المرجّح أن يتم تنفيذها.
السعودية تشتري جيشاً جاهزاً
الخيار البديل عن بناء جيش متمرد خارج سوريا هو ببناء جيش في الداخل من خلال دمج ورعاية الجماعات المسلحة الموجودة على الأرض غير أن ذلك أصبح أيضاً أكثر صعوبة لأن تحالفات المتمرّدين تتبدّل وتتكاثر.
في الشكل، تهيئ العديد من الجماعات المتمرّدة السورية نفسها لتلقّي تمويل وأسلحة من السعودية بالإعلان عن اندماجات وتحالفات. والواقع أن التنافس على التمويل الخارجي كان منذ فترة طويلة دافعاً قوياً للديناميكيات التنظيمية داخل التمرّد المسلح في سورية. ولايأتي كل هذا الدعم من مصادر حكومية. فقد أصبح من المألوف أن يرعى المانحون غير الحكوميين في السعودية والكويت والإمارات الجماعات المتمرّدة التي يختارونها، وهي تتكوّن في معظم الأحيان من السلفيين أو الجهاديين، كما تفاخر صفحات الفيسبوك الخاصة بهذه القوى.
من أبرز المجموعات الجديدة التي تتلقّى تمويلاً من الحكومة السعودية «جيش الإسلام»، الذي تشكّل في 29 أيلول/سبتمبر. تأسّس «جيش الإسلام» من 43 لواء وكتيبة متمرّدة في ريف دمشق تحت قيادة محمد زهران علوش، قائد لواء الإسلام المحلي (العمود الفقري لجيش الإسلام الذي تشكّل مؤخّراً)، والأمين العام لجبهة تحرير سورية الإسلامية. ومع أن «جيش الإسلام» نفى تقارير صحافية تحدّثت عن أنه يحظى برعاية سعودية، فإن هدفه المعلن المتمثّل في «توحيد جهود جميع الفصائل... وتشكيل جيش رسمي»، تزامن تماماً مع الهدف السعودي.
جاء تشكيل جيش الإسلام في أعقاب نشر «العلماء المسلمين في سورية» مقترحاً لتوحيد الجماعات الإسلامية المتمرّدة تحت لواء جيش واحد هو «جيش محمد»، بهدف معلن يرمي إلى بناء قوة من 100 ألف عنصر بحلول آذار/مارس 2015 و250 ألف عنصر بحلول آذار/مارس 2016. ومع أن مثل هذا الجيش سيتبنّى إيديولوجية وسطية وغير طائفية، وفقاً لمن كتبوا الاقتراح، فإنه مع ذلك سيتبع «نهج أهل السنة والجماعة»، معلناً بشكل لالبس فيه انتماءه السنّي. ومنذ ذلك الحين ناقش «جيش الإسلام» تشكيل جيش شامل باسم «جيش محمد» مع لواءي «التوحيد» و»صقور الشام» الإسلاميين «المعتدلين”.
بيد أن عملية التفتّت مضت إلى ما هو أبعد من ذلك. فعندما أعلن زهران علوش عن تشكيل «جيش الإسلام»، اشتكى العديد من شركائه الرئيسيين في جبهة تحرير سورية الإسلامية من أنهم لم يستشاروا، وانسحبوا من غرفة العمليات المشتركة لمنطقة دمشق احتجاجاً على ذلك. وبعدها شكّل خمسة منهم «تجمّع أمجاد الإسلام» في 4 تشرين الأول/أكتوبر. وفي أماكن أخرى، أعلنت أربع مجموعات سلفية معتدلة في منطقة البوكمال شمال شرق سورية عن تشكيل «جيش أهل السنة والجماعة» في 2 تشرين الأول/أكتوبر.
بعد يوم من تشكيل «جيش الإسلام»، أعلن لواء الحبيب المصطفى وكتائب الصحابة، إضافة إلى حركة أحرار الشام الإسلامية، والتي ربما تكون أقوى فصائل التمرّد في سورية، انسحابهم من غرفة مجلس الداعمين الكويتيين للثورة السورية في دمشق وريفها. واستشهد هؤلاء بما وصفوه هيمنة جماعات معيّنة، واقصاء جماعات أخرى، وعدم وجود رؤية متّفق عليها كسبب لانسحابهم.
يبدو أن الديناميكية التنافسية أيضاً قد دفعت 106 من الجماعات المتمرّدة غير الإسلامية من أنحاء سورية كافة إلى تشكيل «اتحاد السوريين الأحرار» في 13 تشرين الأول/أكتوبر، ومرة أخرى بوصفه «نواة الجيش السوري في المستقبل». وقد لايحول غياب الخطاب الإسلامي عن البيان التأسيسي لتلك الجماعات دون الحصول على الدعم السعودي، غير أن أحد المستفيدين من الدعم الأكثر تفضيلاً هو الداعية الإسلامي البارز الشيخ عدنان العرعور. إن ظهور العرعور في شبكة الجماعات المتمرّدة ضمن الخطة السعودية الجديدة، يسلّط الضوء على تركيزها على بناء جيش متمرّد سنّي.
يلفت الصايغ الى أن مقاربة السعودية في تمويل وبناء جيش متمردين خاص بها قد ترتد عليها، وقد التمس العذر لها في اعتقادها بأن تدخّلها سيكون حاسماً الآن وقد أصبحت تتولّى زمام السيطرة ومستعدة للالتزام بما يصفه أحد المطلعين توفير الأموال «بلا حدود»، وذلك على النقيض من الدور المتواضع الذي لعبته بين الأطراف التي تدعم التمرّد المسلّح في سورية قبل عام مضى. بيد أن هذه المقاربة قد تأتي بنتائج عكسية. فقبل عام من الآن كانت خطوط المعركة أكثر بساطة، حيث كان الجيش السوري الحر يقف في مواجهة نظام الأسد. أما اليوم فإن القيادة السعودية تسعى، كما أوضح رئيس المخابرات السابق الأمير تركي الفيصل، إلى شنّ معركتين، إحداهما ضدّ الأسد وعائلته، والأخرى ضدّ منتسبي القاعدة في سورية. غير أن الرياض لاتربح المعركة ضد الجهاديين، وقد تؤدّي جهودها إلى شقّ صفوف المعارضة أكثر.
ويبدو أن عدداً من الجماعات قد استنفرت في مواجهة الخطة السعودية. فالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهي جماعة تشكّل مظلة للمسلحين الجهاديين تشكّلت في العراق في العام 2006، تتحرّك بقوة ضد جماعات متمرّدة أخرى في شمال سورية منذ أواخر آب/أغسطس الماضي، وتنتزع السيطرة على المعابر الحدودية مع تركيا وتجبر المنتسبين للجيش السوري الحر في الرقة وحلب على المغادرة أو إعلان الولاء لها. وتعتقد (داعش)، إضافة إلى الجماعات الجهادية الأخرى، أنها مستهدفة من جانب الولايات المتحدة وحلفائها مثل السعودية. وقد توصلت الجماعة أيضاً إلى تفاهم مع شقيقتها جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة، وحركة أحرار الشام الإسلامية القوية لتنحية خلافاتهم جانباً وتشكيل مجلس قضاء مشترك وزيادة العمليات المشتركة ضد قوات النظام. ويتحمّل هذا المحور، جنباً إلى جنب مع العديد من الجماعات الجهادية الصغيرة التي استمرت في الظهور، العبء الأكبر من القتال ضدّ قوات النظام إلى الجنوب الشرقي من حلب. كما تعمل جبهة النصرة الآن على الحدود مع الأردن.
كلام الصايغ جاء قبل أن يصدر أيمن الظواهري في 9 نوفمبر قراراً باعتبار النصرة وحدها الممثل الوحيد لتنظيم القاعدة، وهي المسؤولة عن ولاية الشام، بينما تتولى داعش ولاية العراق.
على أية حال، لم تثبت شبكة التحالفات التي تقيمها السعودية نفسها في هذه المواجهة التي تلوح في الأفق. على العكس من ذلك، فقد أعلن لواء التوحيد، الذي تمت دعوته للانضمام إلى «جيش الإسلام» في تشكيل جيش أكبر هو «جيش محمد»، مراراً وتكراراً حياده في الحملة العنيفة التي شنّتها الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) منذ منتصف أيلول/سبتمبر في شمال سورية.
وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن الاندفاع السعودي لبناء جيش ذي طابع سنّي واضح يزيد احتمال تشتّت المتمرّدين، وتشتّت حتى الجماعات الإسلامية والسلفية الوسطية الملتقية عقائديّاً والتي تستهدفها الخطة السعودية. وتشمل الجماعات التي رفضت الانضمام إلى «جيش الإسلام»، على سبيل المثال، العديد من الفصائل المسلحة الرئيسة في منطقة الغوطة الشرقية وأعضاء من جبهة تحرير سورية الإسلامية، مايجعل وحدتها وتماسكها موضع تساؤل.
ولكن تركيز السعودية على الجماعات السنيّة السلفية يترك آثاراً مباشرة على العلمانيين المعتدلين. ففي الوقت الذي يتعمّق الاستقطاب داخل المعارضة السورية، يتسبّب تركيز الخطة السعودية على إنشاء جيش سنّي في إضعاف من لهم مصلحة مشتركة في منع صعود الجناح الجهادي للتمرّد المسلح. فقد سعى بعض أعضاء الائتلاف الوطني للانضمام إلى الركب، وتحدثوا بحرارة عن إنشاء «مجلس سياسي عسكري مركزي تحت قيادة إسلامية». بيد أن هذا يؤكّد فقط على تراجع حظوظ الائتلاف والمجلس العسكري الأعلى، وكلاهما كانا تحت رعاية السعودية منذ حزيران/يونيو الماضي، عندما أصبح أحمد الجربا الرئيس الجديد للائتلاف. ولذا فإن التركيز ذو الهدف الواحد على النهج العسكري يقوّض ما تبقى من مكانة وسلطة يتمتع بها الائتلاف الوطني والمجلس العسكري الأعلى داخل سورية.
وبهذا، تبدو خيبة أمل السعودية إزاء الائتلاف الوطني والمجلس العسكري الأعلى مفهومة. إذ فقدت قيادتهما صدقيّتها وهي تفتقر إلى استراتيجية لإلحاق الهزيمة بالنظام، سواءً عسكرياً أو سياسياً، من خلال وضع مقترحات محدّدة لتقاسم السلطة الانتقالية التي قد تقنع المكوّنات المؤسّسية والاجتماعية الرئيسة في النظام بالتخلي عنه. كما أن الائتلاف الوطني لايزال غير قادر على حكم المناطق المحرّرة.
بيد أن المقاربة السعودية، ومن خلال توجيه تدفّقات التمويل والأسلحة مباشرة للجماعات المتمرّدة على الأرض، بدل توجيهها كلية عبر المجلس العسكري الأعلى، تتعارض مع احتياجات الدعم العسكري. ومن خلال الالتفاف على المعارضة المعترف بها والاعتماد على التمويل الضخم لإنشاء جيش موحّد للمتمردين لا تضمن الرياض فعّاليته العسكرية ولاتفعل شيئاً لمعالجة القصور السياسي الحرج الذي تعاني منه المعارضة السورية.
كما أن التركيز على التأثير في ديناميكيات التمرّد والإشراف الدقيق عليها يعقّد العلاقات بين المدنيين والعسكريين على الأرض. فعندما أعلنت الهيئات المدنية تشكيل مجلس مدني موسَّع لمدينة دوما في الغوطة الشرقية في 13 تشرين الأول/أكتوبر، على سبيل المثال، أدان قائد جيش الإسلام زهران علوش تلك الهيئات بسبب تفريق «كلمة المسلمين وهذا حرام و شقّ للصف». وبرأي علوش فقد كان إعلان تلك الهيئات عن إنشاء هيئة قضائية مستقلّة أيضاً هو خروج لا عذر له على مجلس الشورى المحلي الذي ساهم في تأسيسه في آذار/مارس، و الذي يهيمن عليه.
كل هذه الأمور لها انعكاسات كبيرة على مؤتمر جنيف- 2 المقبل. إذ يواجه الائتلاف الوطني لحظة مصيرية في الوقت الذي يتناقص عدد شركائه. فقد انضمّت اثنتا عشرة جماعة متمرّدة، ينتمي معظمها شكلياً إلى الجيش السوري الحر، إلى جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة يوم 24 أيلول/سبتمبر تعبيراً عن رفضها للصفة التمثيلية للائتلاف. وفي 15 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت خمسون جماعة مسلحة أنها بصدد تشكيل «مجلس قيادة الثورة للمنطقة الجنوبية» وسحب اعترافها بالائتلاف الوطني لأن قيادته «فرطت بثوابت الوطن والثورة».
وبعد يومين، حذّر زهران علوش صراحة من أن «الائتلاف سيكون بمثابة (العدو) بالنسبة لنا، مثله مثل نظام بشار الأسد، إذا قرّر الذهاب إلى مؤتمر (جنيف 2) ، المرجح الشهر المقبل، للبحث عن حلّ سياسي للأزمة السورية». وفي 26 تشرين الأول/أكتوبر، اعتبرت تسع عشرة جماعة مسلحة، بما فيها مكوّنات «جيش محمد» الثلاثة، أن حضور المؤتمر و التفاوض مع النظام دون الثوابت يشكل «تجارة بدماء الشعب السوري و خيانة تستوجب المثول أمام القضاء و المحاكمة.
السعودية تطلق النار على رجلها
إن الشعور السعودي بالاستياء العميق تجاه سياسة الولايات المتحدة بشأن سورية، فضلاً عن توجهاتها في إيران، دفع رئيس المخابرات السعودية الأمير بندر بن سلطان بن عبدالعزيز إلى التحذير من حدوث «تحوّل كبير» في العلاقات الثنائية بين البلدين. ومن شبه المؤكّد أنه لايمكن حدوث تحوّل مستديم في السياسة بهذا الحجم. ولاريب أن اتساع رقعة الخلاف بين الرياض وواشنطن يجعل الأردن والائتلاف الوطني، وهما طرفان مهمان لنجاح خطط السعودية في سورية لكنّهما ليسا أقل اعتماداً على قوة ومتانة علاقاتهما مع الولايات المتحدة، في وضع غير مريح ولايمكن التمسك به.
بالإضافة إلى ذلك فإن الاختلاف بين المقاربتين السعودية والأميركية يزيد في تعقيد مؤتمر جنيف- 2 للسلام. ومع أن البيان الختامي لاجتماع مجموعة أصدقاء سورية الذي عقد في 22 تشرين الأول/أكتوبر وضع شروطاً صعبة للمشاركة في المؤتمر ومعايير صارمة للعملية الانتقالية تلبّي تطلّعات الائتلاف الوطني والسعودية، فإن إصرار الرياض على استبعاد طهران من مؤتمر جنيف- 2 يفتح الباب أمام حدوث خلاف آخر محتمل مع حلفائها، والذين أشار العديد منهم صراحة إلى استعدادهم لقبول المشاركة الإيرانية. وعلى أية حال، فإن هذه الشروط بدأت تتبدد منذ اعلان الائتلاف الوطني السوري المعارض في 10 نوفمبر الجاري عن الموافقة على المشاركة في مؤتمر جنيف 2 وما اشتراطها بدعم المسلحين له سوى ورقة زائدة.
قد تجادل القيادة السعودية بأن خطتها لزيادة الضغط العسكري على نظام الأسد سوف تجبره على قبول الشروط التي حدّدها أصدقاء سورية للمشاركة في مؤتمر السلام. وبدا أن تركي الفيصل يقول هذا عندما أكّد على الحاجة إلى مساعدة المعارضة على تحقيق «توازن على الأرض». ولكن هذا ينفيه الخلاف غير المتوقّع وغير المعتاد مع الولايات المتحدة، الأمر الذي يضرّ باحتمال أن تتمكّن الخطة السعودية من جمع المتمرّدين في جيش موحّد.
كانت السعودية تتطلع لمخرج مشرّف بالنسبة من المأزق الذي وضعت نفسها فيه بدعم الخيار العسكري والجماعات المسلّحة ورفض مؤتمر جنيف، فيما تتعرض لضغوطات شديدة من واشنطن لجهة المشاركة.
المشكلة الجوهرية هي أن السعودية بدعمها الجماعات المسلّحة وفشلها في توحيدها فقدت صدقيتها أولاً، وثانياً انها وجدت نفسها وهي تكرّر تجربتها في أفغانستان، حيث أسّست جماعات متباينة من المجاهدين تفتقر إلى إطار سياسي موحّد. ولم تتمكّن تلك القوى من حكم كابول بمجرد أن استولت عليها، ما مهّد الطريق لحركة طالبان للسيطرة عليها. وتبع ذلك ظهور تنظيم القاعدة، حيث وصلت ارتدادات ذلك فيما بعد إلى المملكة العربية السعودية نفسها.
الاعتماد السعودي على التمويل وتوفير الأسلحة كدعامتين رئيستين لاكتساب النفوذ، والتركيز على زيادة الضغط العسكري على النظام من دون وضع استراتيجية سياسية واضحة لإلحاق الهزيمة به في موازاة ذلك، كما التركيز على حشد وتعزيز المجموعات ذات الطبيعة السنّية، ينطوي على خطر المساهمة في الوصول إلى نتيجة مماثلة. ولذا ينبغي على القيادة السعودية أن تكون حذرة إزاء ماتفعله في سورية. فجيش محمد قد يعود إلى مكة في نهاية المطاف.
بندر يُغضِبْ أسياده
وفي 8 نوفمبر نشرت صحيفة (السفير) تقريراً عن الصراع الاستخباري الأميركي السعودي على سوريا، وسلّط الضوء على الموقف الأميركي الجديد من أداء بندر، والتبدّل في الموقف التركي من (جهادييه)، والذي انعكس في عودة الحرارة الى العلاقات التركية العراقية في زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو في 9 نوفمبر الجاري.
تقول الجريدة في تقريرها، وبحسب مصادر سورية مطلّعة أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري رفض لقاء الأمير بندر بن سلطان، خلال زيارته الرياض. ولم يظهر رئيس الاستخبارات السعودية في الاجتماع الذي ضم كيري والملك عبدالله ووزير خارجيته الأمير سعود الفيصل.
ويضيف محمد بلوط، معد التقرير، أن الاستياء يسيطر في أوساط الاستخبارات الأميركية من الاستراتيجية المستقلة التي بات يتبعها الأمير بندر في سوريا، والاتجاه إلى تكتيل الجماعات (الجهادية) في إطار عسكري واحد، وتعزيز مكانتها داخل «هيئة الأركان العليا للجيش الحر».
وطالبت الفصائل «الجهادية» بالحصول على عشرة مقاعد من أصل 30 في «هيئة الأركان»، فيما قدّم اللواء سليم إدريس موقعين في «هيئة الأركان» كان أحدهما قد شغر بعد اغتيال تنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام) (داعش) محمد كمال حمامي (أبو بصير)، والآخر بعد استقالة العقيد عبد الجبار العكيدي من رئاسة «المجلس العسكري لحلب».
ونقل بلوط عن مصدره السوري إن الأميركيين يشعرون بالغضب جراء التصريحات التي أدلى بها بندر بن سلطان، وهدّد فيها بوقف التعاون الأمني مع الاستخبارات الأميركية، بعد تخلي الرئيس باراك أوباما عن خيار الضربة العسكرية ضد دمشق. وأضاف المصدر أن الأوساط الأمنية الأميركية المعنية بتنسيق المساعدات العسكرية للمعارضة السورية تشن حملة على الأمير السعودي، وتصف استراتيجيته في سوريا بالغبية والخطرة، لأنها تهدد المصالح الأميركية عبر تشجيع الجماعات «الجهادية»، التي تشكل، برأي الأجهزة الأميركية، امتداداً لتنظيم «القاعدة»، لا سيما «جبهة النصرة».
ونقل بلوط عن مصادر أميركية أن بندر بات يشكل حجر عثرة في العلاقات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية. ونسب معارض سوري إلى مسؤول أمني أميركي في باريس قوله إن بندر لم يتعلم كثيراً من الأميركيين برغم إقامته سفيراً في واشنطن عقدين من الزمن. ويقول المصدر إن الملف السوري سيكون حصرياً من الآن فصاعداً في يد الملك عبدالله والفيصل. وقال أحد الخبراء الغربيين العاملين في ملف تسليح المعارضة السورية، لـ»السفير»، أنه من المنتظر أن يقوم السعوديون، تحت ضغط أميركي، بتخفيض عمليات تسليح وتمويل الجماعات التي تعتبرها الولايات المتحدة حليفاً لـ»القاعدة».
ومن دون انتظار أن يفي السعوديون بتعهداتهم كاملة، تتعاون الأجهزة التركية مع الأميركيين في اعتراض بعض عمليات الاستخبارات السعودية، بعد ظهور التباين في العمل ضد سوريا بين الاستخبارات الأميركية والأمير بندر. وقد طلب الأتراك من السعوديين في إنطاكيا والمناطق القريبة من الحدود مع سوريا إغلاق بعض غرف العمليات، التي يقومون من خلالها بتنسيق إمدادات الأسلحة نحو الشمال السوري.
ويختبر السعوديون، في المقابل، اقتراحاً جديداً لتأكيد الاستقلال عن الاستخبارات الأميركية والتركية في سوريا، عبر تطوير «جيش عشائري» انطلاقاً من الأردن، قادر على مقاتلة النظام السوري بمعونة وتوجيه خليجي وحيدين. ويقول خبير غربي أن مشاورات تجري بين الاستخبارات السعودية والإماراتية على تطوير الفكرة، وأن القرار قد اتخذ منذ أسبوعين بشأنه. ويقوم الاقتراح على تجنيد فرقتين من أبناء العشائر في الشرق السوري، تضم ٤٠ ألف مقاتل، يقودهم عشرات الضباط الذين يقيمون في معسكرات أردنية ويتعاونون مع الاستخبارات الأردنية والسعودية. وبحسب المصدر اقترح السعوديون رصد أربعة مليارات دولار لتنفيذ المشروع الجديد، على أن تستقبل السعودية المجندين من أبناء العشائر في معسكرات تقام في الطائف، وأن يشرف على تدريبهم ضباط باكستانيون.
في نهاية المطاف تواجه السعودية مأزقاً خطيراً وتجد نفسها بين خيار تسليح الجماعات المسلّحة وبناء جيشها الاسلامي! وبين استحقاق جنيف الذي بات التوافق عليه اجماعياً، ولم تعد السعودية قادرة على تحمل تبعات التسليح والسلام..وهذا ما سوف يجعلها مجرد لاعب ثانوي في المرحلة المقبلة إن لم ستواجه أخطار انغماسها في الأزمة السورية التي تركت تأثيراتها المباشرة على علاقاتها مع تركيا وقطر والولايات المتحدة والغرب عموماً باستثناء فرنسا التي تلعب على طريقتها في كسب الأرباح دون خسائر.