حصرت الجدران الاربع حياتها,لذلك لا عجب ان تراها بعقل طفلة وهي في منتصف فترة المراهقة,فابتعدت عن عالم الصديقات والنقاشات البسيطة لتغطس في قعر المسائل الرياضية والمشاكل الطبيعية والمحلولات الكيميائية..
كل ما كان يعذبها ويرهق تفكيرها هو مرض امها العضال الذي كرهت من اجله السكري وكل اعراضه ونتائجه لما تراه من كثرة الام امها واقرب مخلوق لقلبها..
سارت بها الايام الى ان وجدت نفسها في الجامعة,الحرم الجامعي,منطقة التفجر الايجابي او السلبي,فهناك من يتفجر عطاء وبحثا ودراسة وهناك من يتفجر تحللا وتهتكا وانفلاتا حيث لا حسيب ولا رقيب ..
منذ ان وطئت اقدام صفا الجامعة لاحظت الفرق الشاسع بينها وبين روادها,كانما وصلت للتو عبر كبسولة الزمن من فترة ما قبل الانفتاح الاخلاقي على العولمة..
اغشى عينيها اوان الطيف المتعاقبة على نظرها,اختنق صدرها بكميات العطور المختلطة المتزاحمة على انفها وزاغت نظراتها من كمية الماكياج التي تصبغ ملامح كل من مر من حولها..
بحركة عفوية القت نظرة على ملابسها وحذائها,كانت تلبس ملابس تبدو في خضم هذا البحر الهائج كانما هي قادمة من الروضة كانت ملابس من مختارات امها وذوقها وتنتعل حذاء بلا كعب ولا الوان لكنه يفي بالغرض..المساعدة في المشي السريع
رفعت يدها ومررتها على شعرها المعقوص خلف راسها بلا أي لمسة تجميلية..ياالهي .
ساحة الجامعة كانت تعج بالبشر كانما هي سوق بلا سلع,مشت بتان وهي تتطلع لما حولها في دهشة وحب استطلاع..
الى ان وصلت الى المدرج..
كان واسعا..
شاسعا..
حاشدا..
لا تعرف احدا,كانما نبتت من العدم..
الحصة الاولى من اول يوم دراسي كانت بالنسبة لصفاء رحلة استكشاف,جمعت فيها بين احاسيس متضادة..
كانت حائرة ومتلهفة..
خائفة ومتطلعة..
مشدوهة ومتوترة..
هكذا مر اليوم الاول بالنسبة لصفاء..
ولدى عودتها الى البيت اصرت على استبدال ملابسها الطفولية بما يليق بسنها ومكان دراستها..لم تعارض الام بل وجدت في الامر فرصة للتقرب من صغيرتها وتحقيق حلمها الذي لم تستكلمه بسبب زواجها المتسرع وحملها ثم مرضها..
اختارت من الملابس بعض البدلات المتناسقة الى جانب الاكسسوارات الانثوية الرقيقة والبسيطة وكذا مواد التجميل والعناية بالبشرة..احست بانها كبرت حقا وانها تعيش فترة شبابها التي لطالما خبأها الاهتمام بالتحصيل العلمي والسعي الى اعلى المراتب ونسيت انها..انثى
وحان الوقت لتتذكر ذلك..
كانت طيبة,ساذجة,بسيطة ولكنها ذات عزة نفس واباء,لذلك ما كان يستطيع احد ان يغضبها لانها كانت تصمت بالايام ولا تتكلم اذافة الى امتناعها عن الاكل ..
كان غضبها مزعجا لكل من حولها..
لم تكن لتعلم بان هذا الغضب سيغير حياتها..
الى مدى لم تتصور وقوعه يوما..
سارت عجلة الايام بها في الاستكشاف والتحصيل ..اعاد لها تغير مظرها والاهتمام بنفسها..الثقة بالنفس
كانت تلبس باحتشام وتكاد تذوب خجلا لو مرت بجانبها من نسيت اكمال ارتداء هندامها..
فبدت نيقة في اتزان..
جميلة ببساطة وعفوية..
راضية عن نفسها وعن مظهرها..
الى ان التقت بعفاف..
لشدة وحدتها في الحرم الجامعي وجدت نفسها تسقط في براثن صداقة فرضت عليها فرضا,فقد كانت عفاف تتربص بكل من هي حديثة العهد بالحياة الجامعية,كانت مستهترة..مندفعة..
لا يعرف قاموسها الخجل ولا الحياء..لكنها كانت حلوة الكلام وعذبة الحديث وتعرف كيف تكسب قلوب السذج..وصفاء كانت من اسذج السذج..في البداية ابدت تفهما وتعقلا وحبا في كسب صداقة صفاء..ثم من بعد حاولت تشكيكها في نفسها وجربت ان تجردها من حيائها ومن خجلها فسخرت من هندامها ومن تسريحتها وجرتها الى معقل المحاضرات والمناقشات والسجالات الفكرية..
وهناك راته صفاء..
كان شابا وسيم المظهر,بهي الطلعة,قوي البنية ..اضافة الى انه كان نجم المساجلات والنقاشات بلا استثناء..كان لا يقهر في نقاش..لا يهزم في حوار..فرات فيه فارسا قوي الشكيمة,كما حلمت دوما..قوته الفكرية تعكس عمق فهمه وتفهمه..روحه المرحة تعكس نقاء سريرة ..اصبح هاجسها ملاحقة كل مظاهرة يتزعمها..كل سجال يقوده..كل مكان يقصده..
غير انها كانت من حين لاخر تراه يقهقه وسط جمع من الفتيات..فتيات من مختلف الالوان والاجناس والاصناف..
لكن عفاف كانت تقول لها وابتسامة ماكرة على طرف شفتها: هذا من ضروريات نشاطه..ولاحظت اعجاب صفاء به..
ولذلك تقربت اليها اكثر واعلنت استعدادها لمساعدتها في نيل قلبه..واشارت عليها بان امثاله لا يحبون الفتاة الخجولة,الملفوفة في طن منالقماش,كونه يحب ما قل ودل..
وانه يحب الشعر الغجري المتمرد ..
والجسم المتعالي عن كل الالبسة..
يحب الابتسامة اللعوب والغمز الذكي المحبوب..
فغرت صفاء فمها في دهشة: امعقول..لا اظن يبدو لي من النوع الذي يكره ان يشوه الماكياج وجه من ينظر اليها
فانى لنجم مفكر مثله بهكذا اخلاق,لابد انه يكره ما قلت..ولابد ان يعرف مدى حبي له
ابتسمت عفاف في خبث قائلة: كيف له ان يعرف اذا لم تقولي له؟
- ماذا؟ انا اقول له؟ لا لا لا استطيع
-لم لا؟
- لان كرامتي..
قاطعتها في حماس: أي كرامة لابد ان يعرف ثم من ادراك انه لن يفرح بذلك ويقدره..جربي
حركت راسها في نفي حازم..مستحيل
ولكن كيف سيعرف حبي له..كيف سيلحظني وسط بحر من الفتيات؟
ومن ادراني انه لا ينتظر تصريحي ليعلن لي هو كذلك حبه
ماذا سيحدث..محال ان يجرحني فهو يظهر لي قوي الشخصية ومتفهم للغاية..
لم تستطع النوم تلك الليلة وهي تفكر في اقتراح عفاف..وفي الغذ كانت قد قررت ..رمقته من بعيد وهو ينتظر احد زملائه..
وبخطى مترددت سارت باتجاهه..كانت خائفة..
خائفة على كبريائها وانفتها..
لكنها تحسن الظن فيه واكيد انه لن يصدها
لا يبدو الا متفهما لمشاكل الناس ومقدرا لمواقفهم..
هكذا عرفته من خلال الخطب والمحاضرات..
من خلال المظاهرات ودفاعه عن المظلومين والحقوق المنتهكة..ومشت..
ويالتها لم تذهب..ابدا..
ترددت في بادئ الامر لكنها تشجعت وهي ترمق طيفا وهميا لعفاف يشير اليها بيديه ..ان تقدمي
نظر اليها في تساؤل وهي تحاول البدء في الكلام..
كانت العبارات تخونها..
والخجل يلعثم مخارجها فتسقط الكلمات مكبلة بحبل من الحياء..
ابتسم في غموض وهي تصارحه ثم تحولت الابتسامة الى قهقهة عالية مجلجلة وهو ينظر اليها في ازدراء..
دهشت وخرست في شدوه..
بعدما انتهى من ضحكاته نظر بحزم اليها وقال: اتظنينني ساهتم بمثلك..
ثم عاد لقهقاته..
بحروف مختنقة قالت: لكنك تعرف ..بانك..بانك متفهم
ربت على كتفها في سخرية وهو يقول: نعم..انا اظهر كذلك وانت تظهرين ولكن ياصغيرتي هذه مظاهر..والان اذهبي يا صغيرة..
حملقت فيه وهي مازالت في صدمة ورجلاها لا تكادان تحملانها..
ضمت اليها كتبها والدموع تخنق صدرها وتضبب الرؤية امامها..
لا ترى شيئا..فقط ضحكاته..صدى كلماته..مشت..
ومشت..
وفجاة استفاقت على بوق سيارة عنيف يصم اذنيها..كادت ان تدهس
اين هي الان..ماهذا المكان
اين البيت..اين غرفتي
اين وسادتي ..
مسحت عينيها بطرف كمها وهي تحاول تبين موقع بيتها..
ما ان دخلت حتى اسرعت الى غرفتها واغلقت ورائها الباب..
بكت وبكت بلا توقف وهي تشهق في قوة..بكت كرامتها..بكت سذاجتها..بكت سخافتها..بكت المظاهر الخادعة..
تبا لقلبي وللحب..تبا للمشاعر
هكذا رددت دون توقف..
لم يشف البكاء المها كانت تتقطع في قسوة..
والغضب يشعل اللهيب في اعماقها,حطمت كل ما تمكنت من النيل منه..
كانت امها تدق على الباب في خوف ووجل وتحاول فتح باب الحجرة وهي تسمع شهقاتها وبكائها..
ولم تكن تدري بان صفاء في هذه اللحظة تحاول الانتحار..
لكن قلب الام انبأها بان الامر خطير..
اما صفاء فكانت انفاسها تتخافت في خطر..
وجسمها يبرد شيئا فشيئا وهي تسمع صرخات امها الملتاعة ومن بين الضباب المسيطر على عينيها ترى شخصا ينحني عليها ثم يستعمر الظلام ناظريها وتسقط في حفرة عميقة..
ومظلمة
استفاقت لترى نفسها على سرير ابيض ورائحة الدواء تزكم انفاسها اضافة ال عشرات الخراطيم المتصلة بجسمها..
حاولت رفع يدها الى جبهتها لتزيح بعض الخصلات النافرة..لكنها اكتشفت بان يدها تستقر فيها بعض الابر والضمادات..
اين انا..
ماذا افعل هنا..
ماذا حدث..
اسر ع اليها بعض الممرضين وبعضهم جرى ليجلب الدكتور المناوب,كان الكل يتاكد من الاجهزة المتصلة بجسمها الرقيق و يحاولون طمأنتها ..كانت تشعر بالخوف والرعب ان صح التعبير
ولم تتوقف عن السؤال عن امها..
اين امي..
كانوا يتجاهلون اجابة سؤالها المتكرر,يحاولن التركيز مع حالتها وعدم انتكاستها..
بعد فترة نقاهتها عرفت ان امها لم تستطع تحمل ما جرى وبان مرضها قد قضى عليها..
كانت صدمتها قوية,فامها كانت اقرب مخلوق لقبلها,اعطف من على الارض عليها..
وهي تسببت في مقتلها..
عاشت لفترة على المهدئات والمسكنات ثم المنومات..
تانيب الضمير يعذبها..
وهذا اضعف جسمها وقلبها..
حار الاطباء في حالتها..
الى ان جاء الطبيب النفسي بعدما اشتكى اليه المناوبون من ان الفتاة تريد الموت ولا تستجيب للدواء..
داووا جسمها ولكن قلبها يصر على التوقف عن النبض..
جلس معها بالساعات يشرح لها ويقوي ايمانها ويداوي جراحها..
تخلى ان كل مرضاه ليركز على حالتها..
كانت احيانا تفتح عينيها في منتصف الليل لتجده بجانبها نائما بعدما اعياه السهر,تذكرت امها وذكرت حماقتها..
تعبت من البكاء. والعويل,هذا يقتلها,مدت يدها لتحركه في رفق,حينما فتح عينيه فوجئ بها ووجهها الشاحب غارق وسط بحر من الدموع..
نظر باشفاق اليها وانبوب الهواء يخترق انفها في قسوة وهي ترتجف في خوف وحزن..
- احس بالعالم ينهار من حولي
- لا باس انا معك
- اريدك ان تساعدني..تعبت
- انا هنا لمساعدتك هكذا اجاب وابتسامة مشفقة ترتسم على جانب فمه
- ساحكي لك حكايتي وكيف تسببت بموت امي..انا قاتلة
سردت على مسامعه حكايتها ولم تقاطعها الا عبراتها التي كانت تخنقها,وشهقاتها التي تمزق نياط قلبها,كان يتمع في اشفاق وهو يحني راسه لئلا ترى دموعه التي تتمرد على عينيه ..اشفق على صغر سنها وسذاجتها..
اشفق على قلبها وجسمها البض..
اشفق على طائر مثلها من عواصف الزمن وصقور الارض..
فانى لها بمعرفة ما يدور وما يجري في هذه الدنيا..
بدا في علاجها النفسي محطما اغلال تانيب الضمير وبان الموت قضاء وقدر ولا نفع حذر من قدر,وعمل على اكسابها الثقة في نفسها,شغل وقتها بالدراسة والتحصيل لتلحق بما فاتها..
كانت حالته التي نذر نفسه لها ولمساعدتها,تابعها وحاول عصر مخيلته ليعتني بما تحتاجه كفتاة..
فغيرت صفاء شكلها ولبست ما يزيدها ثقة في نفسها..
درس معها فن الخطابة والالقاء وكيفية التغيير..ونجح
وهكذا وفي اخر السنة الدراسية وفي حفلة التخرج التي يرأسها من جرحها من زمن..استدعيت صفاء لنيل شهادتها
وحضر الحفلة طبيبها الذي لطالما شجعها وتكفل بحالتها..
وحينما جاء وقت تسلم الجائزة,اصرت صفاء على اهداء بعض الشعر الذي قرضته بنفسها..
اعتلت المنصة في ثبات واعين الكل تتابعها لكنها كانت تهتم بزوج من الاعين الحبيبة الى قلبها..اعين طبيبها
كانت تبدو كنجمه الحفلة بلا استثناء ..جميلة وفاتنة وكم تبدو البسمة الحزينة فائقة الجمال
حينما ان دورها في القاء كلمتها نظرت الةى النجم السابق الذي بدا مشدوها وهو يحملق بلا وعي ..حدجته في سخرية قائلة:
يقال بان المظاهر خادعة,وكلنا نخدع ولكن المخدوع معذور والمخادع محتقر ومنفر.. احيانا لا نرى من نحبهم حقا ويسقط في طريقنا من لا نرغب به..
فنقصد شخصا ونتفاجا بشخص اخر..فكان
يرفرف قلبي كلما رايته
فكانما ركب للقلب جناحان
احببته في صمت ولاحقته
بنظراتي من بين كل الركبان
بالوردي تصطبغ الدنيا لمرآه
وفي عيني عوض البؤبؤ قلبان
اطيربخفة في السماء محلقة
وارتقي سلما ما له من بان
**** الظهر تبدو واضحة
فالنفس متيمة والقلب ولهان
في يوم عن بعد وقفت ارقبه
وقد تشاغل بجمع من الشبان
اغمضت عيني حالمة في وله
وجرفتي بعمق احلام اليقظان
رايته في البياض متسربلا
ويمتطي جوادا ابضا بجناحان
يجوب العيون عني باحثا
وينتهي التنقيب بالاقتران
ارفل في ثياب العروس جذلة
ويتربع هو عرش السلطان
هيه انت يا انستي المحترمة
وفتحت عيني على انسان
مكفهر الوجه منتفخ الاوداج
عفوا أمعي انت متكلم سيدي
نعم ولا اقصد من غيرك تان
استطرد غاضبا بصوت منكر
ومن دهشتي اتسعت العينان
الا تخجلين من ملاحقتي عمدا
فنظراتك حاصرتني عامان
اما علماك ابواك الادب ابدا
لتعاكسيني بوجه غير خجلان
اتتطلعين الي وانا ابن من
فلتة الزمان وزينة الايام
اتحلمين بحبي وودي يوما
فانا عاشق الجمال الفتان
لا ارضى بغير الشعر الاصفر
والعيون الفاقعة الالوان
افقت من دهشتي في غضب
اشعل دمائي لحد الغليان
واكفهر الجو مرعدا ومبرقا
وتقافزت امامي صنوف الجان
اتخاطبني بكلامك يا اجذب
اجب ايا خريج الموريستان
أأعاكسك انت يا ..عدم
أعلق اسمي بلائحة العميان
ماذا فيك يشد النظريا نظري
ابطنك المتقدم اماماك شبران
ام تراه طولك الفارع شاهقا
وانت ككرة خرج منها رجلان
فالجميل يستحي لجماله
ومن هو مثلك ماله ثان
مالك خرست محملقا في
اشدني يا نسل فصيلة الغيلان
صمت لبرهة استرد نفسي
وقد تراجع امامي في خذلان
بحدة استدرت على عقبي
مستغفرة من رب به القاني
اصطدمت بالحبيب بغتة
وتطايرت الكتب لمتران مربعان
هب لجمع الشتات في همة
بلطف اعتذر وحدجته بعدوان
اصر على تفقد ضربتي
فقلت اليك عني انت الثاني
ما في يكفيني ويزيد بوفرة
لا طاقة لي للكلام والامتنان
صفوي متعكر ومهتز بدني
والحمام الابيض سار غربان
صمت طويل ساد القاعة ثم انفجر طوفان من التصفيقات وابل من التشجيعات,لم تهتم بكل هذا وهي تنظر الى طبيبها الذي قام وهو يصفق في فرح ,كانت روح السخرية والدعابة تعكس فوزهما على عقبات الزمن..
والتقت نظراته بنظراتها..ومن خلال حركات شفتيها قرأ: شكرا لك..ثم ارتسمت ابتسامه واسعة على شفتيها معلنة انتهاء الليل وبزوغ الفجر..