عنوان الموضوع : كيف يجدد المعلم نفسه
مقدم من طرف منتديات العندليب
إعداد الأستاذ / أحمد بن محمد حسبو
مقدمة
الحمد لله الذي شرف من يشاء من عباده المؤمنين، بأن شملهم بقول خير المرسلين : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " ، فجعلهم من خدام القرآن وحامليه ، ومتعلميه ومعلميه ، ومحبيه ومتبعيه ، وحافظيه ومتقنيه يبشرون به العامل ، ويوقظون به الخامل ، ويجيبون به السائل ، يعلمونه الصغار ، ويقرئونه الكبار ، وينشرونه في سائر الأمصار ، ويقومون به الليل والنهار ، يرجون به وجه الواحد القهار ، العزيز الغفار .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
مهما استفحلت علل الأمم ففي كتاب الله شفاؤها . ومهما تراكمت غياهب الظلم ففي نور القرآن جلاؤها ومهما ران على القلوب ففي آي الذكر الحكيم نقاؤها وصفاؤها .
[ فكتاب الله فينا خالدٌ
إنه يشعل في أنفسنا
إنه يبعث في أرواحنا
فتح الدنيا به أسلافنا
وتركناه فَهُنَّا بعدهُ
... ... تنجلي آياته في كل حينْ
جذوة الدين وعز المؤمنينْ
قوة هائلة لا تستكينْ
من ربى الغرب إلى السور المكينْ ( )
وغدونا مضغة للآكلينْ ] ( )
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، بإذن ربه حول العرب من رعاة للغنم ، إلى قادة للأمم ، ومن بدو عاشوا حياة الظلم والجلافة ، إلى عمالقة أقاموا ميزان العدل وازدانت بهم الخلافة ، صلوات الله على الرحمة المهداة ، والنعمة المسداة ، والأسوة المرتضاة ، والمربي الذي سينجح المربون ما ترسموا خطاه ، وسلم تسليماً كثيراً ما سجدت لله جباه ، وترنمت بذكره شفاه .
وبعد …
فقد كانت البشرية تعيش في تخبط وتيه ، توزع ولاءاتها بين طواغيتَ ، وأصنام وكهان ومشعوذين ، حيث أسلمت يدها _ كالأعمى _ لهؤلاء يقودونها كيف شاءوا ، وأينما أرادوا .
فجاء كتاب الله ليعدل مسارها ، ويرفع قدرها ، وينظم سيرها ، فقال تعالى : [ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ] ( ) ، فتحولت هذه الأمة من همج رعاع ، إلى دعاة خير جابوا به الأصقاع ، فبنوا بالأخلاق الفاضلة قلاعاً ، وتفانوا في ذات الله حباً وانصياعاً .
ثم دار الزمان دورته ، وأصبح الحال كما قال الشاعر :
[ وما فتئ الزمان يدور حتى
وأصبح لا يرى في الركب قومي
وآلمني وآلم كلَّ حرٍّ
... ... مضى بالمجد قوم آخرونا
وقد عاشوا أئمته سنينا
سؤال الدهر أين المسلمونا ؟ ] ( )
واليوم بدت تباشير العودة المحمودة ، واليقظة الرشيدة ، من إقبال الشباب إلى كتاب ربهم ، يتحلقون حوله ويتنسمون عبيره ، ويقبسون أنواره ، ويشهدون أسراره ، ويلتفون حول مشايخه ومعلميه ، وينهلون من علمهم ويتتلمذون على أيديهم ، في حلقات المساجد المباركة والتي أقامتها جمعية تحفيظ القرآن الكريم
بالطائف ، ومثيلاتها في بلد الحرمين الشريفين ، وما يشابهها من خلاوي وكتاتيب حفظ القرآن الكريم في البلاد الإسلامية .
شكر وتقدير
ومن الواجب على المسلم الذي يحب الله وكتابه أن يدعو لهؤلاء القائمين على جمعيات التحفيظ الخيرية عامة وللقائمين على جمعية تحفيظ الطائف خاصة بالتوفيق في مسيرتهم وأن يشكرهم على حسن صنيعهم . حتى يعم الخير ، ويسكن القرآن كل قلب ، ويحرك كل لسان ، ويعطر كل أذن ، ويسعد كل بيت . وما ذلك على الله بعزيز ، وفقهم الله فيما يعملون ، وجزاهم خيرا على ما يقدمون .
محتويات البحث
أولاً : أسباب اختيار الموضوع .
ثانياً : تحية .
ثالثاً : تعليم القرآن : أ _ شرف هذا العمل .
ب _ العوامل الدافعة لإتقان العمل وإعطائه حقه : وتشمل :
{ تقوى الله ، إدراك شرف العمل ، فهم الواقع ، بعد النظر ، هم يصبحه ويمسيه }
ج _ شخصية معلم كتاب الله : أهم مقوماتها :
1_ مقومات عقدية .
2 _ مقومات سلوكية وأخلاقية .
3 _ مقومات خارجية ( المظهر ) .
4 _ مقومات مهنية .
5 _ ملامح الشخصية ( نبرات الصوت _ تعابير الوجه )
6 _ التجربة .
رابعاً : التجديد : 1 _ تجديد الإخلاص .
2 _ تجديد الإيمان .
3 _ تجديد الطريقة ( الإبداع ) .
4 _ رفع المستوى .
خامساً : الكفايات التدريسية : وفيها خمسة محاور :
المحور الأول : كفاية التخطيط والإعداد .
المحور الثاني : كفاية التنفيذ .
المحور الثالث : كفاية التقويم .
المحور الرابع : كفاية التخصص .
المحور الخامس : كفاية إدارة الحلقة .
سادساً : الاستبانة وشهادة الواقع .
سابعاً : وختاماً المعلم الذي نريد .
ثامناً : التوصيات . ...
تاسعاً : المراجع .
أولاً : أسباب اختيار المعلم كموضوع للبحث
1_ إن معلم القرآن هو تاج رأسنا ، وغرة جبيننا ، وإنسان عيننا ، وواسطة عقدنا ، فالآمال عليه معقودة ، والأنظار إليه مصوبة ، فأردتُ أن يكون هذا الحديث معه حباً صافياً ، ونصحاً خالصاً ، ليعتز برسالته ، ويقوم بمهمته .
2_ أن معلم القرآن هو محور ارتكاز العملية التعليمية وكل ما حوله وسائل مساعدة ، وعناصر مساندة ، إذا غابت فلربما تأثر دوره لكنه لا ينعدم ، على العكس ما إذا توفرت كل العوامل والوسائل والعناصر وغاب هو ، فلا عمل ولا تحفيظ ولا حلقات.
3_ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ خيركم من تعلم القرآن وعلمه } ( ) وتلك شهادة ممن لا ينطق عن الهوى تفيد أن متعلم القرآن ومعلمه هو خير زمانه ، وأفضل عصره ، فيُنتظَرُ ممن جمع قطبي الخيرية على قدره ، ويؤَّملُ منه على حجمه .
[ قيل لرجل : نريد منك شغيلاً : أي حاجة صغيرة ، قال : اطلبوا لها رجيلاً : أي بعض رجل ، أما أنا فللكبار ] ( ).
ولا أكبر من مهمة إرجاع أمة بأسرها ، إلى كتاب الله ، ولا يفترض أن يكون أكبر همة ، ولا أوفر عزمة ممن شهد له بالخيرية ، واستضاء باطنه بالأضواء الربانية .
4_ المعلم هو الأهم : لأن كل إنسان يحتاج أن يكون معلماً ولو لبعض الأحيان وهو في بيته ، أو في الشارع ، أو في المسجد ، لذلك قيل هي مهنة من لا مهنة له ، وليس كل إنسان في حاجة أن يكون مديراً ، أو طبيباً ، أو مهندساً لذلك فضلت التحدث في هذا الموضوع .
5_ لأن المعلم هو الشخص الذي سيتولى تنفيذ التعليمات والقرارات والعمل بالتعميمات ، والمتابعة المباشرة للطالب ومواجهة المشكلات ، ولن يستطيعها إلا معلم ناجح ، حدد مهمته ، وحمل رسالته ، وعرف وجهته .
6_ إن حامل القرآن هو صنعة الله في أرضه ، ومنحته لخلقه ، قال تعالى : [ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ] ( ) قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو رزين وغير واحد : { ربانيين : أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن : فقهاء ، بما كنتم تعلمون : من التعليم } .
وهذا أمر الله لرسوله أن يطلب كل الناس أن يكونوا علماء بكتاب ربهم ، حافظين له ، معلمين له ، فاستحق صاحب هذه المكانة أن يوجه الخطاب إليه ، وتعلق الآمال _ بعد الله _ عليه .
7_ كما أن في المستشفيات من المصحات ، ووسائل العلاج واستئصال الداء ، والمساعدات من أَسِرَّةٍ ، وأجهزة وحاملات ، ومختبرات ، وأجهزة قياس ، وإدارات ، ولكن الطبيب هو الذي يقرر ماذا يستعمل ، ومتى ، وكيف وبأي قدر ، كذلك فمعلم القرآن هو فارس الميدان ، وبطل الحلبة ، وقائد المعمعة ، وطبيب المصحة ، الذي يعايش الطالب ويسمعه ، ويرقبه ، ويشهد تصرفاته ، ويعرف مستواه ، ويتابع أحواله ، ويؤثر فيه ويعرف مواطن الخلل فيه فيصف الدواء بحكمته ، ويستأصل الداء بمهارته ، بعد فضل الله وتوفيقه . لذلك فضل الباحث التحدث عنه والكلام إليه .
ثانياً : تحية
تحية إلى من يطأ الثرى بقدميه ، ويستنشق الهواء برئتيه ، تحية إلى من ينفق من مشاعره وأحاسيسه قبل أن ينفق من أوقاته ، وينفق من دمه ونفسه أضعاف ما ينفق من تعليمه وتوجيهاته ، تحية إلى من يحاول أن يرد المعوج إلى طريقه والمنحرف إلى سبيله ، والناد إلى جادته ، والعاق إلى بره ، والجافي إلى عقله ، والمفرط إلى صوابه ، والفاسق إلى دينه تحية إلى من حجز لنفسه في المسجد جلسته ، ليحجز لنفسه في الجنة درجته . وجعل من أبناء المسلمين أبناءه ، فغدا عليهم شفيقاً ، وبهم رفيقاً ، يسعى لزيادتهم كما وكيفاً ، ويجتهد في تعليمهم شتاءً وصيفاً .
تحية إلى من حبس حاجته في صدره ، ولم يبح إلا بحاجة واحدة هي أن يتفيأ الجيل المسلم ظلال القرآن ، ويستنشق عبير الإيمان ، ويفيء إلى طاعة الرحمن ، ولأجل هذا يضحي بالغالي والرخيص ، ويجود بالبسيط والنفيس .
تحية إلى من لم يشغل نفسه بماذا أخذت ؟ ولكنه يسأل : كم أعطيت ، كم وجهت ، كم علمت ، كم أفدت ونصحت ، ماذا أثرت ، سؤالَ اللائم نفسَه ، وقبل أن يتهم طلابه يتهم نفسه ، يقول : لعلي لم أجرد نيتي ، لعلي لم أحسن طريقتي ، لعلي زدت في قسوتي ، لعلي أفرطت في تجاوزي ومسامحتي ، تحية إلى خير الأمة ، كما شهد بذلك نبي الأمة ، حين قال كما روى البخاري ، عن فضل المقرئ والقارئ : [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] ، فحاز الخيرية من طرفيها تعلم وعلم ، وقرأ وأقرأ ، وصلح وأصلح ، ورشد وأرشد ، تحية إلى من سكن القرى والهجر واصطحب معه النور الذي لا يخبو يبدد الظلام ، ويوقظ النيام ، ويبارك به الأيام .
الناس في متاجر الدنيا وهو في متجر الآخرة ، ومعية الملائكة .
الناس أرصدتهم في البنوك ، ورصيده هو في القلوب .
الناس تبني مدائن من تراب ، وهو يبني مدائن من فكر وقيم وآداب ، ويعلي قلاع القرآن تناطح السحاب .
وأخيراً تحية لمن فجر في حياتنا ينابيع القرآن دفاقة ، وأجرى في صحاري العقول أنهار الحكمة رقراقة ، تحية وسلاماً إلى معلم القرآن ، في كل زمان ، وكل مكان .
ثالثاً : تعليم القرآن
أ _ شرف هذا العمل :
ليس هناك أشرف ولا أفضل ولا أسمى من عمل ، كلام الله مادته ، وبيت الله مكانه ، وحامل كلام الله معلمه ، وقلوب يانعة ونفوس طاهرة تلامذته ، تتوافر فيه الطهارة الحسية والمعنوية ، وتنقطع فيه العلاقة بالأمور الدنيوية وكفى قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم [ خيركم من تعلم القرآن وعلمه ] ( ) وقوله : [ إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت ، ليصلون على معلم الناس الخير ] ( ) .
ذكر النووي _ رحمه الله _ قوله : [ وأعلم أن المذهب الصحيح الذي عليه يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ، والله أعلم ] ( ) . فليس أفضل من متجرد محتسب حبس نفسه ، وأقعد جسمه ، يذكِّر بالقيم الخالدة ، ويغرس المبادئ الطاهرة ، ويسكب النور في قلوب الشباب ، يضيء جوانحهم ، وينير حياتهم ، ويبارك عمرهم ، ويرقى بهم من سفوح البهيمية ، إلى ذرا الطهر والنورانية .
ب _ العوامل الدافعة لإتقان العمل ، وإعطائه حقه :
1_ تقوى الله تعالى ومراقبته : بأن يستشعر المعلم قول الله سبحانه :[ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ]( ) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم { إنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها وأدى الذي عليه فيها }( ) ، وقول سلمان رضي الله عنه : { اتق الله عند همك إذا هممت ، وحكمك إذا حكمت ، ويدك إذا قسمت }( ) ، فحاور نفسه دائماً : ماذا قلت لهم ، ماذا قومت من سلوكهم ، ماذا أفدتهم ، ما مدى تأثيري عليهم هل نجحت في تحبيبهم في القرآن ؟ أم كنت _ على أنفسهم _ عوناً للشيطان ؟ .
هذا الشعور لو سيطر على إحساس المعلم ، وألهب مشاعره ، سيدفعه إلى بذل المزيد ، واقتراح الجديد ، والنهوض بطلابه في مسيرة حفظهم لكلام ربهم .
2_ إدراك شرف هذا العمل : فلا يغيب عن ذهن المعلم أبداً قول الرسول صلى الله عليه وسلم : خيركم من تعلم القرآن وعلمه ، ولا يغفل عن قوله : { من علم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت } ( ) ولا ينسى قوله صلى الله عليه وسلم : { لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم } ( )
فإذا أدرك شرف عمله كان على مستواه ، ومن أدرك شرف الكتاب الذي يحمله كان على قدره خلقاً ومنهجاً .
فالقرآن حكيم [تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ] فليكن صاحبه حكيماً .
والقرآن عزيز [وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ] فليكن صاحبه عزيزاً .
والقرآن روح [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ] فليكن معلمه روحاً لا تلامس شيئاً إلا حركته بفضل الله .
والقرآن مهيمن [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ] فليكن معلمه مهيمناً على من حوله ، قائداً لهم ، مؤثراً فيهم .
والقرآن شفاء [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ] فليحمل صاحبه هذا الشفاء ، وليحسن تقديمه .
أما يوم يحقر المعلم نفسه ، ويرى عمله دون الأعمال ، ويرى نفسه أقل من الناس ، ولا يبصر جلال رسالته ولا شرف مهنته ، ولا يرى أنه _ حقاً _ على ميراث الرسول ، وأنه عن تبليغه وتعليمه مسؤول ، وأنه حامل النور إلى القلوب والعقول ، فإذا وقع في ذلك فقد تمت هزيمته ، وفشلت مهمته .
3_ فهمه للواقع المحيط به : فمعلم القرآن أمل أمته البسام ، وفجرها الوليد ، وفهمه لحاضر أمته ، وما تُستَهدف به حتى تنصرف عن كتاب ربها ، يجعله يستميت في رسالته ، ويتفانى في مهمته ، فهل يدرك معلم القرآن [ أن جيلاً مسحوراً بدأ يطفو على سطح الحياة ، في مختلف بقاع الأرض ، ومنها بلا شك بلاد الشعوب الإسلامية
هذا الجيل بهرته الأضواء المرتعشة فتهاوى فيها كما يتهاوى الفراش في النار الموقدة ، في الليل البهيم ] ( ) .
فإليك يا حامل الذكر الحكيم ، ويا معلم القرآن الكريم :
يا من إلى الله تدعو
لك المدائح تترى
إنا نعيش بعصر
الخير فيه توارى
وكم رأينا شباباً
عن الهدى قد تخلى
ويلبسون ثياباً
لا يستر الثوب جسماً
... ... وترتجي منه أجرا
شعراً وإن شئت نثرا
يموج ظلماً ونكرا
وأنت بالعصر أدرى
في لجة الغي سكرى
وقال قد عشت حرا
ويطلب الجسم سترا
من الحياء تعرى
فاستنقذ من استطعت ، وافهم واقع أمتك .
لقد زار بعض الدعاة أحد السجون ، فلما كلموهم ودعوهم قال السجناء : أين أنتم قبل أن ندخل السجن ؟ لقد تأخرتم كثيراً .
فانتشل أبناء المسلمين من هوة الضياع ، من أزقة الدنيا ، وشوارع الهوى ، ومن نواصي الحياة ، وأجمعهم على مائدة القرآن بشوق ولهف ، وحب وشغف .
فإذا أدركت ذلك كله سيشتد عزمك ، ويتضاعف همك ، ولن يبقى لديك وقت لتشكو من طلابك ، لأن وقتك كله قد استنفذ في استنقاذهم ، والأخذ بأيديهم .
4_ بعد النظر وعمق البصيرة : فالصغير الذي أمامك سيغدو عما قريب رجلاً . والمراهق الذي أزعجك قد يكون في قادم الأيام بطلاً .
فلا تقف بفكرك عند حاله اليوم ، ولكن تخيله غداً ، فهذا يجدد أملك ، ويضاعف صبرك ، فتمهل ، ولا تتعجل ودائما تأمل قول من سبقك :
أنت نشء وكلامي شعلٌ
منتهى أملي قريباً أن أرى
... ... عل شدوي مضرمٌ فيك حريقاً
قطرة فيك غدت بحراً عميقاً
فلا تيأس فلرب قطرة تغدو بحرا عميقا ، ولرب كلمة تعيد إلى قدمه طريقاً ، والبذرة التي أودعتها تربتها لو لم تتهيأ لها عوامل الإنبات اليوم ، ستبقى مخبوءة حتى تتهيأ لها تلك العوامل ، وتشق طريقها إلى عالم الأحياء ، بإذن فالق الحب والنوى .
[ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ ] ( )
5_ هم يصبحه ويمسيه : فالفرق بين حامل الرسالة وصاحب الأمانة ، كالفرق بين النائحة الثكلى والأخرى المستأجرة
لقد كان الأنبياء منتهى أملهم أن يُخلَّي بينهم وبين الناس ، والمعلم _ ولله الحمد _ قد خُلي بينه وبين طلابه ، فماذا هو فاعل ، وماذا هو إذا لم يحسن استغلال الفرص لربه قائل ؟! .
الآن بين يديك قلوب عطشى ، وأرواح ولهى ، وعقول حيرى ، فاسكب _ يا رعاك الله _ فيها أنوار ما تحمله ، وارو غليلها بفيض ما ترتله .
واعلم أن : [ من كملت معرفته لله عز وجل صار دالا عليه ، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا ، يعطي القوة حتى ينهزم إبليس وجنده ، ويأخذ الخلق من أيديهم ] ( ) .
فَفَجِّر في قلبك بركان الغيرة ، واحمل هموم جيل يعاني من الحيرة ، قال جعفر بن سليمان : [ سمعت مالك بن دينار يقول : لو استطعت ألا أنام لم أنم مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم ، ولو وجدت أتباعاً لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها : النار النار ] ( ) .
ولك في رسولك أسوة ، وفي منهجه قدوة ، حين خوطب : [يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ ] [ وإنها لكلمة عظيمة رهيبة ، تنزعه من دفئ الفراش في البيت الهادئ ، والحضن الدافئ ، لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء ، وبين الشدِّ والجذب في ضمائر الناس ، وفي واقع الحياة ] ( ) .
فيا من حملت الكتاب المنزل على محمد ، هذه حياة محمد ، ويا من أخذت ميراثه فهذه تركته ، فاحمل وتحمل وغير مفاهيم نفسك يتغير كل ما حولك .
ج _ شخصية معلم كتاب الله تعالى :
المقصود بشخصية معلم القرآن : انسجام مجموعة صفات وسمات مع بعضها البعض لتميزه عن غيره ، وإذا كانت الإنس والجن قد انبهروا بسماع القرآن ، حُقَّ لمن يرى حامله ومعلمه أن ينبهر به وبشخصيته وسلوكه .
ولهذه الشخصية مقومات تقوم عليها
1_ مقومات عقدية :
فيشترط أن يكون معلم القرآن سلفيَّ العقيدة ، سُنيَّ المنهج ، يلتزم بالفرائض والواجبات ، ويجمل به أن يأتي بالنوافل والمستحبات ، حتى يخاطب طلابه بفعاله قبل مقاله ، وحتى يستفيد الطلاب بلحظه قبل لفظه ، وبرؤيته قبل روايته ، وبصمته قبل كلامه .
2_ مقومات سلوكية أخلاقية :
فيتصف بأخلاق الصلحاء من زهد ، وترفع ، وتعفف ، وقناعة ، فيزهد فيما عند الناس ، ليطمح الناس فيما عنده
ذكر في ترجمة أبي سعيد _ الحسن البصري رحمه الله _ أن رجلا غريبا مر بالبصرة وهو لا يعرفها ، فسأل من قابله : ما هذه البلدة ؟ قال : البصرة ، قال : من سيد البصرة ؟ ، قال : الحسن ، قال : بم سادهم ؟ ، احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم !
والناس جبلوا على أن من نظر لما في أيديهم يزهدون فيه والعكس صحيح .
ولصاحب القرآن ومعلمه أن يختار نهجه ويبني لنفسه في نفوس من حوله احتراماً وتقديراً .
قابل هشام بن عبد الملك سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عند الكعبة ، فقال يا سالم : سلني حاجتك ، قال سالم : أستحي أن أسأل في بيت الله غير الله . فانتظر هشام حتى خرج سالم من المسجد الحرام ، فتبعه وقال : الآن خرجنا فسلني حاجتك ، قال سالم : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ قال هشام : من حوائج الدنيا ، أما حوائج الآخرة فلا يقدر عليها إلا الله ، قال سالم : عجباً ، فإني لم أسأل الدنيا ممن يملكها ، فكيف أطلبها ممن لا يملكها .
ولك عزيزي المعلم أن تتصور كم ارتفع قدر سالم وكبر في عين هشام على الرغم أنه رفض عرضه ، ولربما أصابه بالحرج .
وهكذا الناس ، يطمعون في نفيسك إذا ترفعت عن رخيصهم ، ويزهدون فيك ، وينفضون أيديهم منك إذا استشرفت لعاعة في أيديهم ، كذلك حرص كل نبي داعية أن يعلنها لقومه في بداية الأمر وأول المشوار بقوله : [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ] ( ) ، جعلك الله أفقر خلقه إليه ، وأغنى الناس عن الناس به .
ومن المقومات الأخلاقية تفقد أحوال طلابه ، ومعرفة أخبارهم ، قال ابن جماعة : [ وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة غيابا زائداً عن العادة ، سأل عنه ،وعن أحواله ، وعن ما يتعلق به ، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل ، فإن كان مريضاً عادة ، وإن كان في غم خفف عنه ] ( )
ومن المقومات الأخلاقية تجنب مواضع التهم حتى لا يساء به الظن ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : [ … إنها صفية ] ( ) ، أعظم الأسوة ، وأفضل القدوة .
فيجب أن يدرك معلم القرآن أن صمته تعليم ، ونطقه تعليم ، وجلوسه تعليم ، وتعليمه تعليم ، وهذا عمرو بن عتبة يقول لمعلم ولده : [ ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك ، فإن عيونهم معقودة عليك ، فالحسن عندهم ما فعلت ، والقبيح ما تركت ] ( ) .
3_ مقومات تتعلق بالمظهر :
منها : خلو الجسم من الأمراض المعدية ، أو العوائق الشديدة التي تمنع من القيام بالعمل ، ومنها : سلامة الصوت وخلوه من عيوب النطق كالفأفأة ، والتأتأة ، وحبس اللسان ، وضعف الصوت .
ومنها : المظهر الحسن ، والملبس النظيف ، والهندام الطيب ، والرائحة الزكية ، فاللباس من أول الأشياء التي تعطي انطباعا للآخرين عن لابسه مبدأيا ، فليراع لونه ، وبساطته ، ونظافته ، وتناسقه ، وقبل هذا كله شرعيته مع أناقة غير مبالغ فيها .
4_ مقومات مهنية :
من حفظ للقرآن كاملاً ، مجوداً ، إذ لا يليق أن يطالب غيره بما لم يلزم به نفسه .
ومنها : حسن التصرف في المواقف بلباقة اجتماعية ، وحضور سريع .
ومنها حسن التعاون مع الإدارة حتى تتناغم الجهود ولا يعاكس بعضها بعضاً ، فالمطلوب التناغم لا التصادم والتآزر لا التناحر .
5_ الملامح :
وتشمل نبرات الصوت ، وتعابير الوجه .
أ_ الصوت : إن الكلام هو وسيلة الاتصال ، وهل كانت معجزة القرآن الكريم التي خضعت لها رقاب العرب إلا في البلاغة والفصاحة ؟! ولقد أجرى العلماء أبحاثا وخرجوا بنتائج منها : أن نسبة تأثير الكلمات والعبارات في المستمع 7 % ، ونبرات الصوت 38 % ، بينما تعابير الوجه والجسم والعيون 55 % .
ب_ الوجه : البر شيء هين ؛ وجه طليق ؛ وكلام لين . فالتجهم والعبوس يمثل حواجز عالية بين المعلم وطلابه وينسف جسور المودة ، والوجه هو مرآة صاحبه ، قال تعالى : [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ] ( ) ، وقال سبحانه : [تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ] ( ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : [ تبسمك في وجه أخيك صدقة ] .
فليتصدق المعلم على طلابه وليوقن أن طالبه قبل أن يقرأ عليه آيات ربه ، يقرأ أولاً ملامح وجهه ، وسطور جبينه .
وليحذر المعلم من ابتسامة ساخرة تخرج ميتة فتصيب الآخرين بالإحباط والصدود .
6_ التجربة :
المعلم الناجح يبدأ من حيث انتهى الآخرون ، ويستفيد بما مر به المعلمون ، فهو دائم السؤال لغيره ، ودائم الاتصال بزملائه ، يسأل عن موقف مشابه كيف تصرفوا فيه ، وعن مشكلة قريبة كيف تغلبوا عليها .
فالخبرة في عالم الواقع من خلال تجربة أبلغ من التعاميم النظرية ، أو التعليمات الإدارية ، ويوم تنقل الخبرات أو التجارب من معلم إلى معلم أو من حلقة إلى حلقة فهي بمثابة شرايين تضخ في جسم العمل كله .
وهذا من بركات الشورى التي مدح الله بها المؤمنين بقوله : [ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ] ( ) .
والتي أثنى عليها عمر بن عبد العزيز بقوله : المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاح بركة ، لا يضل معهما رأي ، ولا يفقد معهما حزم :
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعنْ
ولا تكن الشورى عليك عضاضةً
... ... برأي نصيح أو نصيحة حازمِ
فإن الخوافي قوةٌ للقوادمِ
فالسؤال عن التجربة تجرد وتواضع ، وحرص وجهد واجتهاد ، وسعي للأفضل . وإهداء التجربة سمو ، وإخلاص وحكمة ، وفهم ، وبصيرة .
وبالعموم فإن البحث عن التجربة من المقومات الأساسية للشخصية السوية .
تجربة من الواقع : سأل معلم معلماً آخر عن طالب مبرز في حفظه ، ذكي في عقله ، حسن في صوته ، ولكنه انقطع ولا أدري ماذا أفعل . قال الآخر : سأقول لك شيئاً فعلته مع شبيهه ، قال : قل . فقال : اذهب إلى مدرسته ، وقابل مرشده ، واجتمع به عنده ، فإن ذلك سيشعره بمدى اهتمامك به ، وحرصك عليه . وكان ، فذهب وكانت الزيارة المدرسية نهاية انقطاعه ، وبداية انتظامه من نفس اليوم حتى ختم القرآن الكريم بفضل مولاه .
ولا يعيبني أن أضم تجارب وعقول الآخرين إلى عقلي ، كما لا يضيرني أن أضيف تجاربي إلى الآخرين . فالعقول يلقح بعضها بعضاً ، ولا قيمة لما عندي بدون أناس يستفيدونه ، والعكس صحيح فكما أفيد أستفيد ، وكما أعطي آخذ وكما أكمل غيري فغيري يكملني .
إن بعض القول فنٌ
إن تجد حسنا فَخذه
تك كالحقل يردُّ
ربما كنتُ غنياً
ربَّ غيمٍ صار لمَّا
ما لصوتٍ أغلقت
يا أخانا أنت إن
وإذا طفت بكرمي
قد سكبتُ الحب كي
فهو بالإنفاق يبقى
... ... فاجعل الإصغاءَ فنا
واطَّرحْ ما ليس حسنا
الكيلَ للزارع طنا
غير أني بك أغنى
لامسته الريح مُزْنا
من دونه الأسماع معنى
راعيت فجري صار أسنى
زدته خصبا وأمنا
تشرب فاشرب مطمئنا
وهو بالإمساك يفنى
خامساً : التجديد
1_ تجديد الإخلاص :
ليبقى العمل خالصا لمولاه ، فيوبخ النفس ، ويلومها لوما شديداً :
[ ويحك يا نفس احرصي
على ارتياد المَخْلَصِ
وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي
واعتبري بمن مضى
من القرون وانقضى
واخشي مفاجأة القضا وحاذري أن تخدعي ] ( ) .
2_ تجديد الإيمان :
حتى يحافظ على أن [ ينبعث في قلبه الافتقار الحقيقي لا العلمي المجرد ، إلى ملهم الصواب ، ومعلم الخير ، وهادي القلوب ، أن يلهمه الصواب ، ويفتح له طريق السداد ، فمتى قرع الباب فقد قرع باب التوفيق ، وما أجدر من أمل فضل ربه ألا يحرمه إياه ] ( ) .
3_ تجديد الطريقة ( الإبداع ) :
ومعنى الإبداع قدرة الفرد على التفكير الذي يمكنه من تجاوز المشكلات والمواقف الغامضة وتقديم البدائل الجديدة والخروج على المألوف .
صاحب القادسية : في معركة القادسية واجه الفرس المسلمين بالفيلة ، وكانت خيول المسلمين لأول مرة ترى الفيلة فخافت منها في اليوم الأول ، فقام أحد المسلمين ليلته ، وصنع فيلا من طين ، ووضعه أمام فرسه ليعوده عليه ، فلما أصبح الصباح تقدم هو المسلمين نحو الفيلة ، فقال له المسلمون : إن الفيل قاتلك ، فقال : لا ضير أن أُقْتَل ويفتح للمسلمين ، فتقدم ولم يخف فرسه الذي مرنه وقتل الفيل الأول فخافت الفيلة ، وولت الأدبار ، وانهزم الفرس ، فكان هذا إبداعاً . وقد ذكره الإمام القرطبي في تفسيره ( ) .
أرأيت الهدهد عندما قام بإبلاغ إدارته عن مخالفة وجدها ، ولم يكن في الأصل مكلفاً بها ، ولكنه قام بما يخدم مصلحة الأمة والإدارة والجماعة ، فكان إيجابياً وبادر فأحسن قولاً ، وأبدع فعلاً ، وكان هذا التصرف المبدع من هذا الطائر الصغير سبباً _ بتقدير الله _ في دخول أمة بأسرها في الإسلام .
ومعلم القرآن يجب أن يكون أحرص الناس على التجديد والتصرف حسب الموقف ، وابتكار أسلوب لكل موقف .
مثال : معلم حار في أمر تلميذه المشاكس ، الذي يشوش عليه ، فلا هو الذي يجلس للعلم ، ولا هو الذي يترك غيره يتعلم ، ثم جاءته الفرصة فأبدع في استغلالها حيث مات والد الطالب ، فشيعه المعلم ، وعزى الطالب ، وضمه ضمة حب ، وهمس في أذنه قائلاً : آن الأوان أن تحقق لأبيك الراحل أمنيته الغالية في حفظك لكتاب ربك ، وكان أن انتظم الطالب من يومه التالي ، وألقى السمع وهو شهيد .
ومن عوامل نجاح المعلم حرصه على تجديد طريقته وأسلوبه ، حتى وضع حلقته ، وطريقة الدرس … إلخ .
4_ رفع مستواه :
همة وحرص وتوثب وإصرار وعزيمة ، كلها كفيلة برفع مستوى الحفظ والقراءة والأسلوب والطريقة . أحد الأخوة ذكر لي أحد الدعاة المعاصرين _ حفظهم الله _ قال : فرق شاسع بين أول شريط سمعته لهذا الداعية ، وبين مستواه الآن ، فالأسلوب أفضل ، واللغة أعمق ، والطريق أجمل ، والإعداد أقوى ، والموضوع أشمل .
وقد قالوا : [ كن حمالاً في السوق ، ولكن قرر مع أول خطوة لك فيه أن تصير تاجراً ، أو عقارياً ، أو مدير شركة فستصير بإذن الله ] ( ) . المهم نية وطموح ،
وعزيمة وإصرار . ووالله لا يستوي حامل هم ، وطاعم فم . ولا يستوي من يجري وراء الفكرة ، ويركض خلف الخبرة ، ويلهث بحثاً عن التجربة ، ويحمل حلقته معه إلى منزله وإن تركها ، ومن لا يذكرها إلا حينما يسند ظهره إلى سارية المسجد ، إن ذكرها ، لا يستوي الرجلان ، ولا يستوي الفكران ، فهذا متجدد ، وهذا آسن ، وهذا متدفق ، وهذا راكد ، وهذا متطور ، وهذا جامد . ولا يليق أن يكون كل شيء حول المعلم في نماء ، وهو على حالته ، لم يزد ولم يسع للارتقاء .
سادساً : الكفايات التدريسية
وفيها خمسة محاور :
المحور الأول : كفاية التخطيط والإعداد :
وتشتمل على :
أ_ الإعداد الذهني للدرس : وتخيل ما فيه ، حتى لا يكون الأمر عشوائياً ، وتحديد الأهداف التي يريد تحقيقها من وراء هذا الدرس إن كان درس قرآن أو تجويد .
ب_ الإعداد العلمي : قراءة الآيات التي سيلقيها أو يسمِّعها اليوم _ مراجعة بعض المعاني مما يحتاج أن يوضحه _ تحضير درس التجويد الذي يريد شرحه .
المحور الثاني : كفاية التنفيذ :
وتشتمل على :
أ_ عوامل تحفيز الطلاب .
ب_ الوسائل المعينة كالسبورة ، وجهاز مسجل ، وبعض الجوائز والهدايا .
ج_ توظيف البرامج المختلفة لخدمة الأهداف المرجوة .
المحور الثالث : كفاية التقويم :
وهو تقرير ذهني يشتمل على :
هل حقق اليوم هدفه ؟ ، ما إيجابياته وسلبياته ؟ ، قياس مهارات التلاميذ ، فهذا نابه ، وهذا عاقل ، وهذا مرتب ، وهذا متكلم ، وهذا حسن الصوت … إلخ .
المحور الرابع : كفاية تخصصية :
وتشتمل على :
مدى تأثر المعلم بحلقته ، مدى تنوع مصادر معرفته ، مدى اطلاعه باستمرار ، مدى مواكبته لما يجد ويستحدث .
المحور الخامس : كفاية إدارة الحلقة :
وتشتمل على :
كيف يتصرف بحلقته ؟ ، كيف ينظمها ؟ ، كيف يديرها بطريقة ودود ؟ ، كيف يوزع اهتمامه على كل الطلاب ؟ كيف يشعر كل طالب أنه الأثير عنده ؟ ، كيف يراعي النوابغ ؟ .
كيف يوصل نصيحة إلى تلميذه في أزهى أثوابها ، وأجمل ألفاظها ، وألطف معانيها ، فهذا خلق نبوي ، وتعليم محمدي قال صلى الله عليه وسلم : [ ( لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ، ولكن ليقل لَقِسَت نفسي ) ، ويؤخذ من الحديث : استحباب مجانبة الألفاظ القبيحة ، والعدول إلى ما لا قبيح فيه ، وإن كان المعنى يتأدى بكل منهما ] ( ) .
تقول هذا جناءُ النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيئ الزنابيرِ
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يُقْلى بسوء تعبير
تجربتان :
الأولى : أحد النبهاء مر على شاب يلعب حارساً لمرمى فريقه ، كل اهتمامه حراسة المرمى لا يعرف إلا ذلك ، ولا يعيش إلا له ، فقال له عبارة تخير لفظها قال : " أسأل الله أن أراك حارساً لمرمى الإسلام من أعدائه " فاستولى عليه المعنى ، وأسَرَتْه العبارة
وترك ما هو فيه ، وأقبل على دينه ، وأصبح من الدعاة .
الثانية : سمعه يغني بصوت مؤثر ، فقال : " والله ما أجمل صوتك إذا كان بالقرآن " فترك ذلك وأقبل على القرآن الكريم .
هذا الداعية ومن يأتي بعده بفعله ذلك إنما يأسى بمعلم البشرية ، ومربي الناس ، فهذا منهجه ، وتلك طريقته فقد جاءه خالد بن الوليد رضي الله عنه ودخل عليه ، فما كان منه إلا أن قال : [ قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير ] ( ) .
ولن يحار معلم القرآن في العثور على عبارة رقيقة ، أو كلمة أنيقة ، مكان الجارح من الألفاظ ، أو الخادش من العبارات ، فالذي غاب من طلابه يقول له مثلاً : بالأمس أزعجتنا عليك ، والذي لم يحفظ اليوم يقول له : لقد حرمتنا الاستماع لصوتك ، والذي شوش عليه يقول لزملائه : أريدكم سكوتاً كفلان ، وخصوصا إذا صاحب ذلك بسمة غير متصنعة ، وإنما في القلب منشؤها ، وعلى صفحة الوجه مرآها .
ومن كفايات إدارة الحلقة : كيف يلتمس العذر للكرام منهم :
حيث يجتهد أن يدفع عن طالبه موقف الذل والخذلان ، وله في رسول الله أسوة ، وبه قدوة ، فالصحابة بعد الغزو جاءوا وقالوا : [ يا رسول الله نحن الفرارون ، قال : بل أنتم العكارون ، وأنا فئتكم ] ( ) . وقوله : أنا فئتكم : يمهد بذلك عذرهم ( ) لقوله تعالى : [ أو متحيزاً إلى فئة ] .
ومن هذه الكفايات : كيف يجدد المعلم مخزون الحب عنده ، ويضمن عدم نفاده ، حتى يُنزل طلابه منزلة أولاده ، قال الإمام النووي رحمه الله : [ويجريه – أي الطالب –مجرى ولده ، في الشفقة عليه ، والصبر على جفائه ، وسوء أدبه ويعذره في سوء أدب ، وجفوة تعرض لك منه ، في بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ] ( )
ومن أراد أن يربي فليوطن نفسه على التغاضي عن بعض الأمور ، ما دام التغاضي حكمة ، وهو نهج نبوي ، قال تعالى : [ عرف بعضه وأعرض عن بعض ] ، فليلتمس _ المعلم الكريم _ أسلوب النبي العظيم .
ومن هذه الكفايات : خلق الرحمة بطالبه وتلميذه :
قال ابن عباس رضي الله عنهما : [ أعز الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس
إلي ، أما والله إن الذباب ليقع عليه فيشفق علي ] { } ، فإذا فهم المعلم الكريم هذا فلسوف يشق عليه بل سيؤرقه كل ما يقع على جليسه _ لا أقول من الذباب فقط _ ولكن من خطفات الشيطان ، ونزغات الهوى ، وتفريط الأسرة وفسد الصحبة ، وسوى ذلك .
سادساً : الاستبانة وشهادة الواقع
أَجريتُ استبانة لأولياء أمور طلاب التحفيظ ، ومثلها لطلاب التحفيظ ، روعي فيها الآتي : وضوح الأسئلة تنوعها ، دقتها ، العشوائية ، الشمولية فتكاد تكون شملت أحياء الطائف كلها كالبخارية ، واليمانية ، والقطبية والريان ، وقروى ، والوشحاء ، والشرقية ، والفيصلية ، والوهط ، والشهداء ، ونخب وغيرها، ومرفق نماذج من هذه الاستبانة ، وكان عددها حوالي 30 عينة من الطلاب ، و30 عينة من أولياء الأمور ، وروعي كذلك ألا يطلب من ولي الأمر أو الطالب أن يكتب اسمه أو حلقته حتى تكون له الحرية التامة في الكتابة أو التعبير عن أفكاره وما يحسه .
أبرز النتائج :
1_ نسبة حوالي 95% يتفقون على أن ما يعجبهم في معلمهم هو خلقه وتواضعه حتى إن أحدهم ليعبر بقوله : لأنه شخصية فريدة في هذا العصر .
2_ وحول سؤال : من تفضل مدرسك الحالي ، أم السابق ولماذا ؟ ، الكل أجاب بما يراه ، لكن في التعليل النسبة العظمى بسبب حضوره المنتظم ، وعدم تمييزه بين الطلاب .
3_ طالب عمره 10 سنوات ، سئل : هل تحب معلمك ؟ ، قال : لا ، سئل : لماذا ؟ قال : لأنه عصبي ، قيل له : هل تتمنى أن تكون مثل معلمك ؟ ، قال : لا ، قيل له : من أفضل معلمك السابق أم اللاحق ؟ ، قال : السابق . ويتضح في إجابته الإتساق ، وعدم التناقض .
4_ سئل أحدهم : هل تريد أن تكون مثل معلمك في شخصيته ؟ ، قال : نعم ، ولكن ليس كثيراً ، قيل له : لماذا ؟ قال : أكون مثله في هداوته وعلمه وأخلاقه ، ولا أريد أن أكون مثله في بعض تصرفاته وكلماته الترويعية .
5_ وليُّ أمرٍ سئل : ما الصفات التي لا تعجبك في معلم ولدك ؟ ، قال : تأخره عن الصلاة .
6_ سئل طالب : ما الصفات التي تعجبك في معلمك ؟ ، قال : معرفته بأحوال الطلاب ، واختلاف قدراتهم .
7_ أحدهم سئل : اذكر موقفاً فعله معك معلم القرآن فرحت به ؟ ، قال : عندما منَّ الله عليَّ بختم القرآن الكريم أهداني كتابا في متشابهات القرآن الكريم .
ومن ذلك يتأكد لنا _ أخي المعلم _ أن للطلاب _ صغاراً وكباراً _ عيوناً ناقدة وبصائر مميزة ، وحساً فطرياً يميز ويقيم ويحس ويدرك ويفهم ويحب ويكره ، فليؤخذ هذا في الاعتبار ، وليضعه المعلم الكريم نصب عينيه .
سابعاً : المعلم الذي نريد
كريم النفس ، واسع الصدر ، عظيم الصبر ، متمكناً في قرآنه ، راسخاً في إيمانه ، داعية في سلوكه ، أسوة في عمله وفي منطوقه ، ويحمل هموم حلقته ، ويفهم واقع أمته
يسعد بتلميذه إذا حفظ آية ، ويفرح إذا بدت عليه أنوار الهداية ، يدعو لتلميذه بالثبات والصلاح ، والخير والفلاح ، ولا يتصيد أخطاءه ، وإنما منهجه في ذلك عمريٌ فاروقيٌ ، عندما أتى بسعيد بن عامر والي حمص حين اشتكاه أهلها إليه ، فأخذ في استجوابه ، ومع كل سؤال يوجهه إليه ، كان يضرع لمولاه قائلاً : اللهم إني أعلمه من خير عبادك فلا تخيب فيه فراستي .
المعلم الذي نريد يحزن على تلميذه ، ولا يحزن منه ، يقدم اللين على الشدة ، والرفق على الحدَّة ، يعاتب تلميذه بحب ، ويسامحه بمقدرة ، ويعلمه بتجرد .
يدرك قول القائل : خير الناس من مكنك من نفسه لتزرع فيها خيراً ، فيرى تلميذه خير الناس لأنه مكنه من نفسه
المعلم الذي نريد الذي يفتح عيادة القرآن وهو طبيبها ، ويرى تلاميذه أصنافاً شتى ، هذا يشكو قسوة قلبه ، وهذا يشكو ضعف شهيته في حفظه ، وآخر يشكو عسر فهمه ، وآخر يشكو صعوبة نطقه ، وآخر يشكو شهوة نفسه ، وآخر يشكو فساد طبعه ، وأخير يشكو جمود عينه ، وكلهم يريد حفظ كلام ربه .
فيداويهم بحكمته ، ويوجههم ببصيرته ، ويرقق قلوبهم بقراءته ، ويرفع همتهم بهمته ، ويفجر طاقاتهم بعزيمته .
أخي المعلم : لتكن أنت القارئ والمقرئ ، والصالح والمصلح ، والراشد والمرشد فأمتك اليوم أشد حاجة إليك حيث عولت عليك ، وأجلست أبناءها بين يديك .
فهنيئاً لك _ أخي معلم القرآن _ إن تك كذلك ، وأعانك الله إذ تحاول أن تكون ، وعفا عنك فيما عجزت عن بلوغه يوم لا ينفع مال ولا بنون .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصلى وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين
ثامناً : التوصيات
1_ أرى أن يطلب من كل معلم التجارب الميدانية ، تحت هذه المسميات ، مثلاً : تجربة في معالجة تسرب طالب ، تجربة ناجحة في تفعيل دور ولي أمر ، تجربة ناجحة في تنشيط طالب في حفظه ، تجربة ناجحة في تعليم الكبار ، وهكذا ، وكل يكتب تجاربه ، ثم يؤتى بها إلى الإدارة وينسق بينها بعد اختيار المناسب منها وتجعل في ملفات يهدى منها نسخة لكل معلم ، وبذلك يجد لكل مشكلة حلاً ، ولكل موقف شبيهاً .
2_ يكون هناك اجتماع نصف فصلي للمعلمين مع وضع جدول أعمال له ، بحيث يختار موضوع أو موضوعان تتم مناقشتهما أثناء هذا الاجتماع ، فكم في ذلك من فوائد ، ورفع لمستوى المعلم الفكري والمهني ، ناهيك عن منافع أخر سيشهدها اللقاء ، وسيلمسها المعلمون ، وإذا كانت مدارس المعارف تعقد اجتماعاتها شهرية أو عندما يجد أمر ، فلا أقل في تحفيظ القرآن من أن تكون نصف فصلية .
3_ شيء من المعالجة عند نقطة الابتداء _ عند اختيار المعلم _ وقبل تعيينه ، لو قُرر عليه منهج تربوي ( شرائط تعد _ كتب تختار _ أبحاث كهذا البحث إن وجد فيه ما يصلح _ ملف التجارب الذي ذكر في رقم 2 ) فيقرأها ويَسْمعها قبل تعيينه ، ثم يختبر فيها .
والمقصود تجنب تعيينه دون دراسة اعتماداً على توجيهه فيما بعد ، فليبق التوجيه لتحسين المستوى ، لا لإنشائه فليس كل قارئ مقرئاً .
المراجع
1_ القرآن الكريم .
2_ السنة المطهرة .
الكتاب ... المؤلف
3_ اعلام الموقعين ... ابن القيم
4_ تذكرة السامع والمتكلم ... ابن جماعة
5_ تربية المراهق في الإسلام ... محمد حامد الناصر
6_ التبيان في آداب حملة القرآن ... النووي
7_ رجال حول الرسول ... خالد محمد خالد
8_ الأسرة المسلمة ... مروان كجك
9_ في ظلال القرآن ... سيد قطب
10_ عيون الأخبار ... ابن قتيبة
11_ صناعة الحياة ... محمد الراشد
12_ العقد الفريد ... ابن عبد ربه
14_ المسار ... محمد الراشد
15_ علو الهمة ... محمد أحمد إسماعيل
16_ المنطلق ... محمد الراشد
17_ الأعمال الكاملة ... هاشم الرفاعي
17_ مسرحية همام ... علي أحمد با كثير
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
شكرا أختي على الموضوع الجميل
=========
>>>> الرد الثاني :
=========
>>>> الرد الثالث :
=========
>>>> الرد الرابع :
=========
>>>> الرد الخامس :
=========