عنوان الموضوع : اقرأوا وتمعنوا ثم قيسوا : قصة معلم الخامسة ابتدائي
مقدم من طرف منتديات العندليب

قصة معلم للتنطاوي

قلت لصديق لي أديب: إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات، فما رأيتك أسففت إسفافك في هذه الأيام، وإني لأشك أأنت تكتب ما تكتبه، أم يجري به قلمك وأنت نائم، فتأخذه فتضع عليه اسمك؟ فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك ومحا آيتك؟

قال: دعني يا فلان دعني… فإن سراج حياتي يخبو، وشمعتي تذوب، وما أخالني إلا ميتا عما قريب، أو دائرا في الأسواق مجنونا… انتهيت… بعت رأسي وقلبي برغيف من الخبز.

قلت: أربع عليك أيها الرجل وأخبرني ما بك، فلقد والله أرعبتني.
قال: وماذا بي إلا أني معلم. إني معلم في مدرسة ابتدائية.. نهاري نهار المجانين، وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر، ومتى أكتب، وأنا أروح العشية إلى البيت مهدود الجسم، مصدوع الرأس، جاف الحلق، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ مئة حماقة، وأصحح مئة كراسة، فأعمي عيني بقراءتها، والإشارة إلى خطئها، وبيان صوابها، وتقدير درجاتها، فإذا انتهيت من هذا كله –ولا يقرأ تلميذ من كل هذا شيئا، ولا ينظر فيه- عمدت إلى دفتر تحضير الدروس، وهو الموت الأحمر، والبلاء الأزرق، الذي صبَّ علينا هذا العام صبا، فكتبت فيه ماذا أنا فاعل غدا في الفصل، دقيقة دقيقة، ولحظة لحظة... وماذا أنا قائل من كلمة، أو مقرر من قاعدة، أو ضارب من مثل، حتى إذا بلغت آخر كلمة فيه، استنفدت آخر قطرة من ماء حياتي، فسقطت في مكاني قتيلا، فحملت إلى السرير حملا.. فنمت نوما مضطربا تملؤه الأحلام المزعجة، والصور المرعبة، فأحسُّ كأن أمامي ركام الدفاتر التي سأصححها غدا، فلا أنجو منها حتى أبصر المفتش يتكلم من فوق المآذن، فلا يدع قاعدة من قواعد التربية، ولا نظرية من نظريات التعليم، ظهرت في فرنسا أو إنكلترا، إلا أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذا قد حشيت بهم المقاعد حشوا، وصفوا على الشبابيك، ووضعوا على الرفوف، مما لا يرضى عنه منهج من مناهج التربية، ولا قانون من قوانين الصحة، فإذا انمحت هذه الصورة، رأيت كأني أفهم تلميذا وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دبيرة (زلقطة) يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل، ذهب يستنجد القانون فينجده القانون الذي حرم العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم، وشدّ لسانه بنسعة... ولا أزال في هذه الأحلام تنوء بي، فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعورا أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول إلى المدرسة لا أستطيع التأخر ولو طحنتني الأوجاع، أو أحرقتني الحمّى، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة، وعنده أربعة أشهر ((عطلة الصيف)) يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض، حرم الراتب ومنع العطاء (كان هذا قانون تلك الأيام)!

أغدو إلى المدرسة، فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي، لم يجدوني أهلا لأكبر منهم... فلا أنفك أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزّق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم، ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم، فأنفق ساعة كاملة، أقلِّب أوجه القول، وأستقري عبارات اللغة، لأفهمهم كيف يكون (الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءا منه) فلا يفهمون من ذلك شيئا، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي ساعة ثم أقول: من فهم؟

فيرفع ولد أصبعه. فأحمد الله على أن واحد قد فهم، وأقول:

قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف.

فيقول: يا أستاذ هذا داس قدمي!!.

فأصيح به: ويحك أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم أن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟

فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي!؟

فأصيح بالآخر: لم دست على رجله يا شيطان؟

فيقول: والله لقد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضُّني في أذني.

فأغضب وأصرخ في وجهه: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟

فيقول: ليس الآن، ولكنه عضّني أمس.

ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدعي والمدعى عليه، ويزلزل الفصل، فأضرب المنصة بالعصا، وأسكتهم جميعا مهددا من يتكلم بأقسى العقوبات، ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟… فيخنسون ويُبْلسون فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط!

وينفخ في الصور، فتقوم القيامة، ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم ترجع إلى درس القرآن. فأقول:

من يحفظ سورة الفاتحة؟

فيتصايحون: أنا… أنا… أنا.

سكوت! واحد فقط… اقرأ أنت.

الحمد لله رب العالمين… إياك نعبِد.

فأقول: إياك نعبُد.

فيقول: نعبِد.

ويحك: نَعْ بُ د.

فيقول: نَعْ بِ د.

انتبه يا بني: نَعْ بود.

فيقولها.

حسن. قل نعبُد.

فيقول: نعبِد.

فلا نزال في نعبُد ونعبِد حتى ينتهي الدرس. ولا يلفظونها إلا بالكسر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ.

* * * * * * * * * *

ولا أزال في هذا البلاء بياض نهاري، ولا يأتي المساء وفيَّ بقية عقل، أو أثر من قوة، ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتاباتي.

وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام الدراسي، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوَّات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة. أفتلومني بعد، على أني لا أجوِّد في هذه الأيام؟

قلت: هذه والله حالي فلست ألومك، فرَّج الله عني وعنك!

قرأتها ... أعجبتني .. فرغبت مشاركتم إياها .....
أو ليس هذا فعلا حالنا ؟؟؟؟؟؟؟؟
مطرووووووووووح للنقاااااااااش



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

بارك الله فيك على القصة يا اختي

=========


>>>> الرد الثاني :

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة العمري محمود
بارك الله فيك على القصة يا اختي

وفيك بارك الله

و أسعدك وصبحك بكل خير و عافية

يومك موفق




=========


>>>> الرد الثالث :

الله الله،من اروع ما نُقل ومن أحلى ما قرأت
رأيت صورتي في هذه الاسطر،ترى ايتشارك كل المعلمين في م ختلف انحائ الوطن العربي؟؟دائما اتساءل ظننتني وحدي وقد خف عني حمل التفكير ونسيت نفسي اذ ان معظم المعلمين يعانون ما اعاني
بوركت جداأخيتي،مبكية هذه الاسطر ومضحكة في نفس الوقت
الله المستعان،قدرن الله وجعل ما نفعل في ميزان حسناتنا



=========


>>>> الرد الرابع :

شكرا على هذه القصة فعلا هذا ما نعانيه في الفصل و يقول الجاهلون بهذا الميدان أننا مرتاحون ولا نتعب أبدا,اللهم أعنا على مهنتنا وآداء مهمتنا.

=========


>>>> الرد الخامس :

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الدّرة النّآدرة
الله الله،من اروع ما نُقل ومن أحلى ما قرأت
رأيت صورتي في هذه الاسطر،ترى ايتشارك كل المعلمين في م ختلف انحائ الوطن العربي؟؟دائما اتساءل ظننتني وحدي وقد خف عني حمل التفكير ونسيت نفسي اذ ان معظم المعلمين يعانون ما اعاني
بوركت جداأخيتي،مبكية هذه الاسطر ومضحكة في نفس الوقت
الله المستعان،قدرن الله وجعل ما نفعل في ميزان حسناتنا


صدقا عزيزتي هذه صورتنا كلنا وهذه يومياتنا
لست وحدك فكلنا في ركب واحد وهم واحد
ومعك حق تضحك الشفاه من لفظها ويستفرغ ـ أكرمكم الله ـ الجوف من هول مرارتها
ومرارة ما تصوره من واقع عصيب نعيشه يوميا ..
عزاؤنا أن جهودنا ستثمر ولو بعد حين
أسأل الله أن يعيننا على أداء مهمتنا بأمانة و أن نحصد طيبا من زرعنا هذا
شكرا لمرورك


=========


المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hanane_k
شكرا على هذه القصة فعلا هذا ما نعانيه في الفصل و يقول الجاهلون بهذا الميدان أننا مرتاحون ولا نتعب أبدا,اللهم أعنا على مهنتنا وآداء مهمتنا.

لا يشعر بالجمر إلا من يدوس عليه
و إرضاء الناس غاية لا تدرك
لو فكر كل رب أسرة كيف يقلق ويتعب ويشتكي من أولاده وهم عددهم لا يزيد عن أربعة موزعون على غرف مجهزة في حين يلوم معلما على انفلات أعصابه وقد حشر في حجرة واحدة عنده أضعاف ما في بيته ربما لعشر مرات أو أكثر من فئات وبيئات مختلفة لانحنى له و لعرف الجاهلون قدر المعلم ولوفوه التبجيل....

شكرا لمرورك


بارك الله فيك أخي الكريم فقد ابتسمت ابتسامة عريضة ، اتسع صدري طربا وفرت بعض همومي هرولة ، وقلت في نفسي كان الله في عونك يا جمال ، ما أصعب هذه المهنة ، فلعل الله ينفعنا بها يوم لاينفع مال ولا بنون

السلام عليكم .. اشكرك على القصة التي تصور يوميات معلم متفاني ومخلص ويرجو من كل قلبه النجاح والتفوق لتلاميده .والجزاء من المولى عز وجل ..وفقنا الله ونور طريقنا لخدمة وطننا الغالي على قلوبنا ...دمتم بخير .

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جمال عصام برجي
بارك الله فيك أخي الكريم فقد ابتسمت ابتسامة عريضة ، اتسع صدري طربا وفرت بعض همومي هرولة ، وقلت في نفسي كان الله في عونك يا جمال ، ما أصعب هذه المهنة ، فلعل الله ينفعنا بها يوم لاينفع مال ولا بنون

و فيك بارك الله

و أنا أرد أيضا كان الله في عونك يا جمال وفي عوننا جميعا

وفرج الله عنا وعنكم

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عطوفة
السلام عليكم .. اشكرك على القصة التي تصور يوميات معلم متفاني ومخلص ويرجو من كل قلبه النجاح والتفوق لتلاميده .والجزاء من المولى عز وجل ..وفقنا الله ونور طريقنا لخدمة وطننا الغالي على قلوبنا ...دمتم بخير .

وعليكم سلام الله تعالى ورحمته وبركاته

العفو أختي عطوفة

ونعم الجزاء حين يكون الجازي الواحد الأحد العاطي بلا عدد

أسأل الله تعالى التوفيق والرشاد

شكرا لمرورك

اذا اشتكى كل الناس لا لشيء سوى لانهم لا هم لهم و لا غم فلا يجدر بنا ان نشتكي و كلنا هم و غم لاننا ببساطة نحمل مشعل الامل و رسالة خير الانام فلندع المولى ان يجعل لنا بكل حرف نلقنه حسنات و بكل كلمة ابعادا عن الزلات و بكل جملة نقاوة من الذنوب و الخطايا و السيئات و بكل فقرة شفاءمن الاسقام و عافية من البلاء و النائبات فاجب دعانا يا مولانا يا بديع الاراضين و السماوات


المشاركة الأصلية كتبت بواسطة noussalou
اذا اشتكى كل الناس لا لشيء سوى لانهم لا هم لهم و لا غم فلا يجدر بنا ان نشتكي و كلنا هم و غم لاننا ببساطة نحمل مشعل الامل و رسالة خير الانام فلندع المولى ان يجعل لنا بكل حرف نلقنه حسنات و بكل كلمة ابعادا عن الزلات و بكل جملة نقاوة من الذنوب و الخطايا و السيئات و بكل فقرة شفاءمن الاسقام و عافية من البلاء و النائبات فاجب دعانا يا مولانا يا بديع الاراضين و السماوات

بوركت يا أختنا فما عند الله خير وأبقى

ولكنها النفس البشرية التي لا تهدأ وتحب أن تعطى مساحة للترويح وما تشارك الهموم سوى تخفيف حملها و تهوينها

شكرا لمرورك

الشكوى لغير الله مذلة .و الذي يتعب من عمله يغيره. و الذي لا يحب عمله لايحس بحلاوة تعبه.
المعلم يؤدي رسالة. ويذوب تعبه عندما يرى نتائج عمله.

الشكوى لغير الله مذلة .تشارك الهموم بغية تخفيفها ليس شكوى

و الذي يتعب من عمله يغيره. لو سلمنا بمقولتك هذه لغير كل الناس فهم مخلوقون والمخلوق يتعب ويتألم ......

و الذي لا يحب عمله لايحس بحلاوة تعبه. هذا أكيد و أرى أخي أنك تقر أن الكل يتعب فحتى محب عمله يتعب ....

المعلم يؤدي رسالة. ويذوب تعبه عندما يرى نتائج عمله.كلنا نوافقك ونعترف بهذه .. والثمر الطيب حصاده

يأتي بعد سنوات من التعب والرعاية


تشرفت بمرورك أخي الفاضل