عنوان الموضوع : سؤال في العلوم الشرعية اولى ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب
السؤال: مالفرق بين جمع ابو بكر الصديق و عثمان بن عفان للقران الكريم من حيث الاسباب و الكيفية?
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
please wine rakoum
=========
>>>> الرد الثاني :
اسفة اختي ..................
=========
>>>> الرد الثالث :
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
سببه: بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت بعض قبائل العرب، فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيوش؛ لقتال المرتدين، وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة -رضوان الله عليهم- وفيهم حفاظ القرآن، وكانت حروب الردة شديدة، قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حَفظته، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة.
وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال: "أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.
قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) (رواه البخاري).
تاريخ هذا الجمع:
هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة، وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة.
أسباب اختيار زيد بن ثابت لهذا الجمع:
ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت لأمور، منها:
- أنه كان من حفاظ القرآن الكريم.
- أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: "قرأ زيد بن ثابت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام الذي توفاه الله فيه مرتين... إلى أن قال عن زيد بن ثابت: إنه "شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف -رضي الله عنهم أجمعين-".
- أنه من كُتَّاب الوحي للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
- خصوبة عقله، وشدة ورعه، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعظم أمانته، ويشهد لذلك قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". وقوله نفسه -رضي الله عنه-: "فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ".
منهج زيد في هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يحفظ القرآن كله في صدره، وكان القرآن مكتوبًا عنده، ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه، ولا على ما كتب بيده، وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب، ولهذا يقول الزركشي -رحمه الله تعالى- عن زيد: "وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم"، وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كُتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ويظهر لي أن من حِكَم ذلك أن زيد بن ثابت لا يكتب القرآن هنا لنفسه، وإنما يكتبه للأمة، وما دام كذلك فلابد أن يكتبه بمشهد من الأمة وحضورها، بل ومن صدورها مما تلقته عن نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والله أعلم.
وقد رسم أبو بكر لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر ابن الخطاب -رضي الله عنهم-: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه".
وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال: "من كن تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به".
وقد بيَِّن زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله -رضي الله عنه-: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"؛ وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يقوم على أسس أربعة:
- الأول: ما كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال.
- الثالث: أن لا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال السخاوي معناه: "من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: "وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ" . وكذا مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الرابع: أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن عمر -رضي الله عنه- ينادي: "من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به"، ولم يقل من حفظ شيئًا من القرآن فليأتنا به.
مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
- جُمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان، وظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.
- أهمل في هذا الجمع ما نسخت تلاوته من الآيات.
- أن هذا الجمع كان على ما ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة.
- أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق، واختلف العلماء في السور: هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان -رضي الله عنه-؟
- اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر؛ لأنه إمام المسلمين.
- أن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يُلزِم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف؛ لذا بقي الصحابة يقرءون بما سمعوه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان في ذلك بعض المنسوخ في العرضة الأخيرة.
مكانة هذا الجمع:
ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على صحته ودقته، وأجمعوا على سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها، حتى قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين" .
ومع التصريح من علي -رضي الله عنه- فقد زعم قوم أن أول من جمع القرآن هو علي -رضي الله عنه- وقد رد عليهم الألوسي فقال: "وما شاع أن عليًا -رضي الله عنه-- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخلف لجمعه، فبعض طرقه ضعيفة، وبعضها موضوع، وما صح فمحمول كما قيل: على الجمع في الصدر، وقيل: كان جمعًا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم".
ولهذا روي أن أول من جمعه عمر -رضي الله عنه-، كما روي أن أول من جمعه سالم مولى أبي حذيفة، أقسم أن لا يرتدي برداء حتى يجمعه، وكل ذلك محمول على ما حمل عليه جمع علي -رضي الله عنه-، بل ذكر ابن حجر وغيره أن جمع علي -رضي الله عنه- كان حسب ترتيب النزول، وذكر النهاوندي -أحد مفسري الشيعة- "أن الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين -عليه السلام- كان فيه بيان شأن نزول الآيات، وأسماء الذين نزلت فيهم، وأوقات نزولها، وتأويل متشابهاتها، وتعيين ناسخها ومنسوخها، وذكر عامها وخاصها، وبيان العلوم المرتبطة بها، وكيفية قراءتها".
وإن صح هذا -مع استحالته- فليس هو بجمع للقرآن وإنما هو كتاب في علوم القرآن، وإنما قلت: مع استحالته، فلأن جمعه حسب ترتيب النزول غير ممكن، فقد سأل محمد بن سيرين عكرمة مولى ابن عباس فقال: "قلتُ لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا".
تسميته بالمصحف:
لم يكن "المصحف" يطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وإنما عرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن، فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه "المصاحف" أنه قال: "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه: المصحف".
خبر هذا المصحف:
بعد أن أتم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ لأن عمر -رضي الله عنه- جعل أمر الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان -رضي الله عنه- لنسخه بعد ذلك، ثم أعاده إليها -لما سيأتي- ولما توفيت حفصة -رضي الله عنها- أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها، فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان -رضي الله عنه-.
جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-:
سببه: عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين، وكان كل صحابي يقرأ بما سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي بعضه ما لم يثبت في العرضة الأخيرة، وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب -رضي الله عنه-، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا. وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح "أرمينية" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام، فكان الشقاق والنزاع يقع بينهم، ورأى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- اختلافهم في القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل منهم قراءته، واعتياده عليها، واعتقاده أنها الصواب، وما عداها تحريف وضلال، حتى كفـَّر بعضهم بعضًا، فأفزع هذا حذيفة -رضي الله عنه- فقال: والله لأركبن إلى أمير المؤمنين -يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه- وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة، فقد كان المعلم يُعلـِّم بقراءة، والمعلم الآخر يعلِّم بقراءة، فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر، فبلغ ذلك عثمان -رضي الله عنه-، فقام خطيبًا وقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا".
فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي الله عنهما- وأخبره بما جرى، تحقق عند عثمان ما توقعه، وقد روى البخاري في "صحيحه" قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "إنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ... ".
تاريخ هذا الجمع:
كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-.
فكرة الجمع:
لما سمع عثمان -رضي الله عنه- ما سمع، وأخبره حذيفة -رضي الله عنه- بما رأى، استشار الصحابة فيما يفعل، فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول الحافظ ابن حجر- من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف.. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت.. قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل".
اللجنة المختارة:
اختار عثمان -رضي الله عنه- أربعة لنسخ المصاحف هم:
زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة من قريش.
فقد سأل عثمان الصحابة: "من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت قال: فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح، قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد".
المنهج في هذا الجمع:
بعد ما اتفق عثمان مع الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- على جمع القرآن على حرف، سلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمة على سلامته ودقته.
- فبدأ عثمان -رضي الله عنه- بأن خطب في الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون: "قراءة أُبيّ" و"قراءة عبد الله"، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذكر كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم، لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم".
- وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك، فأرسلت بها إليه، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على أدق وجوه البحث والتحري.
- ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة، وأمرهم بنسخ مصاحف منها، وقال عثمان للقرشيين: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم".
- إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أية علامة تقصر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعًا، مثل:
أ- (فَتَبَيَّنُوا) التي قرأت أيضًا: (فتثبتوا).
ب- (نُنشِزُهَا) قرأت أيضًا: (نَنشُرُها).
أما إذا لم يمكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل:
أ- (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ) هكذا كتب في بعض المصاحف، وفي بعضها: (وأوصى).
ب- (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ). بواو قبل السين في بعض المصاحف، وفي بعضها بحذف الواو.
وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان -رضي الله عنه- بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية، حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد، وكان زبيد بن الحارث في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه، وبين يديه مصحف أهل المدينة.
مزايا جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه-:
تميز هذا الجمع بمزايا عديدة، منها:
- كُتب القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة هو حرف قريش، وقد كتب مجردًا حتى يحتمل أحرفًا أخرى، فإن لم يحتمل إلا حرفًا واحدًا كتب بلسان قريش، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "جمع عثمان -رضي الله عنه- الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها لما كان ذلك مصلحة".
- إهمال ما نسخت تلاوته؛ فقد كان قصد عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.
- الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه؛ فقد روى ابن أبي داود في "المصاحف" عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فقلت لكثير، وكان فيهم فيمن يكتب هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت ظنًا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله".
- الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما لم يثبت. وقد كان الهدف من جمع القرآن الكريم في عهد عثمان -رضي الله عنه- تجريده مما لم يثبت من القراءات في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان بعض الصحابة يقرأ بقراءة كان سمعها من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم تثبت في العرضة الأخيرة.
- كان مُرتَّب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن؛ قال الحاكم في "المستدرك": "إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السور، وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنهم أجمعين-".
الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان -رضي الله عنهما-:
كان معنى "الجمع" ظاهرًا في جمع القرآن في عهد أبي بكر، فقد كان القرآن مفرقًا فأمر بجمعه، كما قال المحاسبي: "كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء".
إذاً فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر -رضي الله عنهما-؟!
ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس، ويذكرون فروقـًا.
قال القاضي أبو بكر في "الانتصار": "لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك".
وقال ابن التين وغيره: "الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض؛ فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجًا بأنه نزل بلغتهم".
ونستطيع أن نستخلص أهم الفروق، وهي:
- أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، وذلك حين استحرَّ القتل بالقراء في حروب الرِّدَّة، أمَّا جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه- فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة.
- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- يشمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد هو حرف قريش مع تجريده، حتى يحتمل أحرفًا أخرى.
- أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يلزم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، أما عثمان -رضي الله عنه-؛ فألزمهم باتباعه بمشورة الصحابة وإجماعهم، لذا مُنعت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ولم يثبت في العرضة الأخيرة، وظهر بذلك ما يُعرف بالقراءة الشاذة، ولو صَحّ سندها وثبت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، وبهذا يظهر أن ضابط القراءة الشاذة التي صح سندها ولم يقرأ بها الأئمة كونها نسخت في العرضة الأخيرة.
- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- كان مرتب الآيات، وفي ترتيب السور خلاف، أمَّا جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور باتفاق.
- أنَّ الجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بمعنى الجمع في مصحف واحد، وأما الجمع في عهد عثمان -رضي الله عنه- فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة.
إنفاذ المصاحف:
بعد أن أتمَّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان -رضي الله عنه- إلى آفاق الإسلام بنسخ منها، وأرسل مع كل مصحف مَنْ يوافق قراءته، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السُّلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم، وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم.
موقف الصحابة من هذا الجمع:
وبعد أن أنفذ عثمان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يُحرق، وبعث إلى أهل الأمصار: "إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم".
وقد رضي الصحابة -رضي الله عنهم- ما صنع عثمان، وأجمعوا على سلامته وصحته. وقال زيد بن ثابت: "فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".
وروى ابن أبي داود عن مصعب بن سعد، قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرَّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم يُنكِر ذلك منهم أحد".
وروى سويد بن غفلة، قال: قال علي -رضي الله عنه-: "لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"، وعند ابن أبي داود قال: قال علي في المصاحف: "لو لم يصنعه عثمان لصنعته".
ولم يُنقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل عثمان -رضي الله عنه- إلا ما روي من معارضة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وينبغي أن نعلم أن معارضته -رضي الله عنه- لم تكن بسبب حصول تقصير في الجمع، أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة النسخ للمصاحف، ولهذا قال: "أُعْزَلُ عن نسخِ المصاحف ويتَوَلاَّها رجل، والله لقد أسلمت وإنَّه لفي صُلب رجلٍ كافرٍ".
وروى الترمذي عن ابن شهاب، قال: "فبلغني أن ذلك كَرِهَه مِن مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقد دافع أبو بكر الأنباري عن اختيار زيد بقول: "ولم يكن الاختيار لزيد.. إلا أن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ، ولا ينبغي أن يظنَّ جاهل أنَّ في هذا طعنًا على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، لأن زيدًا إذ كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك
موجبًا لتقديمه عليه، لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كان زيد أحفظ منهما للقرآن
=========
>>>> الرد الرابع :
جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
سببه: بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت بعض قبائل العرب، فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيوش؛ لقتال المرتدين، وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة -رضوان الله عليهم- وفيهم حفاظ القرآن، وكانت حروب الردة شديدة، قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حَفظته، فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة.
وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- أنه قال: "أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه-: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: عُمَرُ هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ.
قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-؟! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ) (رواه البخاري).
تاريخ هذا الجمع:
هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة، وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة.
أسباب اختيار زيد بن ثابت لهذا الجمع:
ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت لأمور، منها:
- أنه كان من حفاظ القرآن الكريم.
- أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: "قرأ زيد بن ثابت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام الذي توفاه الله فيه مرتين... إلى أن قال عن زيد بن ثابت: إنه "شهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف -رضي الله عنهم أجمعين-".
- أنه من كُتَّاب الوحي للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
- خصوبة عقله، وشدة ورعه، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعظم أمانته، ويشهد لذلك قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-". وقوله نفسه -رضي الله عنه-: "فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا كَلَّفَنِي مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ".
منهج زيد في هذا الجمع:
من المعلوم أن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- كان يحفظ القرآن كله في صدره، وكان القرآن مكتوبًا عنده، ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه، ولا على ما كتب بيده، وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب، ولهذا يقول الزركشي -رحمه الله تعالى- عن زيد: "وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم"، وقال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفائدة التتبع: المبالغة في الاستظهار، والوقوف عند ما كُتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ويظهر لي أن من حِكَم ذلك أن زيد بن ثابت لا يكتب القرآن هنا لنفسه، وإنما يكتبه للأمة، وما دام كذلك فلابد أن يكتبه بمشهد من الأمة وحضورها، بل ومن صدورها مما تلقته عن نبيها -عليه الصلاة والسلام-، وثبت في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-. والله أعلم.
وقد رسم أبو بكر لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر ابن الخطاب -رضي الله عنهم-: "اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه".
وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال: "من كن تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به".
وقد بيَِّن زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله -رضي الله عنه-: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"؛ وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يقوم على أسس أربعة:
- الأول: ما كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال.
- الثالث: أن لا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال السخاوي معناه: "من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-: "وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ" . وكذا مما ثبت في العرضة الأخيرة.
- الرابع: أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فإن عمر -رضي الله عنه- ينادي: "من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به"، ولم يقل من حفظ شيئًا من القرآن فليأتنا به.
مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-:
- جُمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان، وظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه.
- أهمل في هذا الجمع ما نسخت تلاوته من الآيات.
- أن هذا الجمع كان على ما ثبت في العرضة الأخيرة من الأحرف السبعة.
- أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق، واختلف العلماء في السور: هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان -رضي الله عنه-؟
- اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر؛ لأنه إمام المسلمين.
- أن أبا بكر -رضي الله عنه- لم يُلزِم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، ولم يكن هذا من مقاصده لما أمر بكتابة المصحف؛ لذا بقي الصحابة يقرءون بما سمعوه من الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان في ذلك بعض المنسوخ في العرضة الأخيرة.
مكانة هذا الجمع:
ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على صحته ودقته، وأجمعوا على سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها، حتى قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين" .
ومع التصريح من علي -رضي الله عنه- فقد زعم قوم أن أول من جمع القرآن هو علي -رضي الله عنه- وقد رد عليهم الألوسي فقال: "وما شاع أن عليًا -رضي الله عنه-- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخلف لجمعه، فبعض طرقه ضعيفة، وبعضها موضوع، وما صح فمحمول كما قيل: على الجمع في الصدر، وقيل: كان جمعًا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم".
ولهذا روي أن أول من جمعه عمر -رضي الله عنه-، كما روي أن أول من جمعه سالم مولى أبي حذيفة، أقسم أن لا يرتدي برداء حتى يجمعه، وكل ذلك محمول على ما حمل عليه جمع علي -رضي الله عنه-، بل ذكر ابن حجر وغيره أن جمع علي -رضي الله عنه- كان حسب ترتيب النزول، وذكر النهاوندي -أحد مفسري الشيعة- "أن الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين -عليه السلام- كان فيه بيان شأن نزول الآيات، وأسماء الذين نزلت فيهم، وأوقات نزولها، وتأويل متشابهاتها، وتعيين ناسخها ومنسوخها، وذكر عامها وخاصها، وبيان العلوم المرتبطة بها، وكيفية قراءتها".
وإن صح هذا -مع استحالته- فليس هو بجمع للقرآن وإنما هو كتاب في علوم القرآن، وإنما قلت: مع استحالته، فلأن جمعه حسب ترتيب النزول غير ممكن، فقد سأل محمد بن سيرين عكرمة مولى ابن عباس فقال: "قلتُ لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا".
تسميته بالمصحف:
لم يكن "المصحف" يطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وإنما عرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن، فقد روى السيوطي عن ابن أشته في كتابه "المصاحف" أنه قال: "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم: السفر، وقال بعضهم: المصحف، فإن الحبشة يسمونه المصحف، وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه: المصحف".
خبر هذا المصحف:
بعد أن أتم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ لأن عمر -رضي الله عنه- جعل أمر الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان -رضي الله عنه- لنسخه بعد ذلك، ثم أعاده إليها -لما سيأتي- ولما توفيت حفصة -رضي الله عنها- أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها، فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان -رضي الله عنه-.
جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-:
سببه: عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين، وكان كل صحابي يقرأ بما سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفي بعضه ما لم يثبت في العرضة الأخيرة، وكان أهل الشام يقرؤون بقراءة أبي بن كعب -رضي الله عنه-، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرؤون بقراءة عبد الله بن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فيكفر بعضهم بعضًا. وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح "أرمينية" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام، فكان الشقاق والنزاع يقع بينهم، ورأى حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- اختلافهم في القراءة، وبعض ذلك مشوب باللحن، مع إلف كل منهم قراءته، واعتياده عليها، واعتقاده أنها الصواب، وما عداها تحريف وضلال، حتى كفـَّر بعضهم بعضًا، فأفزع هذا حذيفة -رضي الله عنه- فقال: والله لأركبن إلى أمير المؤمنين -يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه- وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة، فقد كان المعلم يُعلـِّم بقراءة، والمعلم الآخر يعلِّم بقراءة، فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر، فبلغ ذلك عثمان -رضي الله عنه-، فقام خطيبًا وقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا، وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا".
فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي الله عنهما- وأخبره بما جرى، تحقق عند عثمان ما توقعه، وقد روى البخاري في "صحيحه" قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: "إنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ؛ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلاَفَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ... ".
تاريخ هذا الجمع:
كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى-.
فكرة الجمع:
لما سمع عثمان -رضي الله عنه- ما سمع، وأخبره حذيفة -رضي الله عنه- بما رأى، استشار الصحابة فيما يفعل، فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول الحافظ ابن حجر- من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف.. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا، قال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف، قلنا: فنعم ما رأيت.. قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل".
اللجنة المختارة:
اختار عثمان -رضي الله عنه- أربعة لنسخ المصاحف هم:
زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة من قريش.
فقد سأل عثمان الصحابة: "من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت قال: فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح، قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد".
المنهج في هذا الجمع:
بعد ما اتفق عثمان مع الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- على جمع القرآن على حرف، سلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمة على سلامته ودقته.
- فبدأ عثمان -رضي الله عنه- بأن خطب في الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون: "قراءة أُبيّ" و"قراءة عبد الله"، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذكر كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم، لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم".
- وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك، فأرسلت بها إليه، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على أدق وجوه البحث والتحري.
- ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة، وأمرهم بنسخ مصاحف منها، وقال عثمان للقرشيين: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم".
- إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أية علامة تقصر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعًا، مثل:
أ- (فَتَبَيَّنُوا) التي قرأت أيضًا: (فتثبتوا).
ب- (نُنشِزُهَا) قرأت أيضًا: (نَنشُرُها).
أما إذا لم يمكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل:
أ- (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ) هكذا كتب في بعض المصاحف، وفي بعضها: (وأوصى).
ب- (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ). بواو قبل السين في بعض المصاحف، وفي بعضها بحذف الواو.
وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان -رضي الله عنه- بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية، حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد، وكان زبيد بن الحارث في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه، وبين يديه مصحف أهل المدينة.
مزايا جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه-:
تميز هذا الجمع بمزايا عديدة، منها:
- كُتب القرآن على حرف واحد من الأحرف السبعة هو حرف قريش، وقد كتب مجردًا حتى يحتمل أحرفًا أخرى، فإن لم يحتمل إلا حرفًا واحدًا كتب بلسان قريش، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "جمع عثمان -رضي الله عنه- الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها لما كان ذلك مصلحة".
- إهمال ما نسخت تلاوته؛ فقد كان قصد عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه؛ خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد.
- الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه؛ فقد روى ابن أبي داود في "المصاحف" عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فقلت لكثير، وكان فيهم فيمن يكتب هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت ظنًا إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله".
- الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما لم يثبت. وقد كان الهدف من جمع القرآن الكريم في عهد عثمان -رضي الله عنه- تجريده مما لم يثبت من القراءات في العرضة الأخيرة للقرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان بعض الصحابة يقرأ بقراءة كان سمعها من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم تثبت في العرضة الأخيرة.
- كان مُرتَّب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن؛ قال الحاكم في "المستدرك": "إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جُمع بعضه بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق، والجمع الثالث هو في ترتيب السور، وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنهم أجمعين-".
الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان -رضي الله عنهما-:
كان معنى "الجمع" ظاهرًا في جمع القرآن في عهد أبي بكر، فقد كان القرآن مفرقًا فأمر بجمعه، كما قال المحاسبي: "كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء".
إذاً فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر -رضي الله عنهما-؟!
ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس، ويذكرون فروقـًا.
قال القاضي أبو بكر في "الانتصار": "لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك".
وقال ابن التين وغيره: "الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته؛ لأنه لم يكن مجموعًا في موضع واحد، فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك ببعضهم إلى تخطئة بعض؛ فخشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجًا بأنه نزل بلغتهم".
ونستطيع أن نستخلص أهم الفروق، وهي:
- أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، وذلك حين استحرَّ القتل بالقراء في حروب الرِّدَّة، أمَّا جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه- فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة.
- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- يشمل ما بقي من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد هو حرف قريش مع تجريده، حتى يحتمل أحرفًا أخرى.
- أنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- لم يلزم الناس باتباع المصحف الذي كتبه، أما عثمان -رضي الله عنه-؛ فألزمهم باتباعه بمشورة الصحابة وإجماعهم، لذا مُنعت القراءة بما نسخ من الأحرف السبعة ولم يثبت في العرضة الأخيرة، وظهر بذلك ما يُعرف بالقراءة الشاذة، ولو صَحّ سندها وثبت قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- بها، وبهذا يظهر أن ضابط القراءة الشاذة التي صح سندها ولم يقرأ بها الأئمة كونها نسخت في العرضة الأخيرة.
- أنَّ جمع أبي بكر -رضي الله عنه- كان مرتب الآيات، وفي ترتيب السور خلاف، أمَّا جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور باتفاق.
- أنَّ الجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بمعنى الجمع في مصحف واحد، وأما الجمع في عهد عثمان -رضي الله عنه- فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة.
إنفاذ المصاحف:
بعد أن أتمَّت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان -رضي الله عنه- إلى آفاق الإسلام بنسخ منها، وأرسل مع كل مصحف مَنْ يوافق قراءته، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السُّلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري، وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم، وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يُرحل إليهم.
موقف الصحابة من هذا الجمع:
وبعد أن أنفذ عثمان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يُحرق، وبعث إلى أهل الأمصار: "إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم".
وقد رضي الصحابة -رضي الله عنهم- ما صنع عثمان، وأجمعوا على سلامته وصحته. وقال زيد بن ثابت: "فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان".
وروى ابن أبي داود عن مصعب بن سعد، قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرَّق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك، وقال: لم يُنكِر ذلك منهم أحد".
وروى سويد بن غفلة، قال: قال علي -رضي الله عنه-: "لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"، وعند ابن أبي داود قال: قال علي في المصاحف: "لو لم يصنعه عثمان لصنعته".
ولم يُنقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل عثمان -رضي الله عنه- إلا ما روي من معارضة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، وينبغي أن نعلم أن معارضته -رضي الله عنه- لم تكن بسبب حصول تقصير في الجمع، أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة النسخ للمصاحف، ولهذا قال: "أُعْزَلُ عن نسخِ المصاحف ويتَوَلاَّها رجل، والله لقد أسلمت وإنَّه لفي صُلب رجلٍ كافرٍ".
وروى الترمذي عن ابن شهاب، قال: "فبلغني أن ذلك كَرِهَه مِن مقالة ابن مسعود رجالٌ من أفاضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقد دافع أبو بكر الأنباري عن اختيار زيد بقول: "ولم يكن الاختيار لزيد.. إلا أن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيٌّ، ولا ينبغي أن يظنَّ جاهل أنَّ في هذا طعنًا على عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، لأن زيدًا إذ كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك
موجبًا لتقديمه عليه، لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- كان زيد أحفظ منهما للقرآن
=========
>>>> الرد الخامس :
مالفرق بين جمع ابو بكر الصديق و عثمان بن عفان للقران الكريم من حيث الاسباب و الكيفية
=========
مليح سؤال صريح
و جواب رائع