عنوان الموضوع : كان.. يا ما كان.. البكالوريا في عام 1992 تحضير بكالوريا
مقدم من طرف منتديات العندليب

كان.. يا ما كان.. البكالوريا في عام 1992- 2 / 2 مؤامرة منسية، عمرها عـشرون سنة !!..


يوميات محارب في معاركه الأخيرة
عندما أخذت أقلب أوراقي القديمة لأعِـدّ هذه الفقرات، تكملة لما تقدم من أخواتها في الحلقة السابقة، انتابني نفس ذلك الشعور الذي كان يسيطر عليّ أثناء تسلسل الحوادث التي سأروي فيما
يلي أطرافا منها. وهو شعور مزيج من العَجَب لصُـرُوف الزمن؛ والخوفِ المستقر بين الضلوع مما تخـَـبِّـئـُه الأيام القادمة للوطن من تطورات قد تكون مُخيِّـبة لكل الآمال التي نسّجَـتـْها أجيال الاستقلال، بخيوط نورانية من أحلام الصِّـبا، وطموحات وردية لشبيبة متوثبة، كانت تريد أن تطوي مراحل العمر طيًّا لتعويض ما ضاع من عمر الوطن تحت كابوس الاحتلال الفرنسي اللئيم... فإذا بها أجيال للشقاء.. يُمزق بعضُها بعضًا بواسطة تلك القيم والمقومات نفسِها التي كانت بالأمس مصدرَ القوة المعنوية الضاربة التي أتاحت، للأجداد والآباء، تلك المقاومة الأسطورية، وكانت الحِصنَ الحصين الذي حَمَى الأمة، وهي في أخطر مراحل تاريخها، من دمار شامل محقق لكيانها التاريخي الأصيل !!ولكي أمَكـِّن قرائي من أن يعيشوا معي بعضًا من أجواء تلك العواصف المزعزعة لمراكز القوة المعنوية لدى البشر، مهما أوتـُوا من نصيب العَزم والثبات... وأن يتصوروا ذلك الدُّوَار الذي يضعُ الانسان، في كل مرة يصاب به، على حافة الإغـْمَاء والغـَشيَان.. لولا ما يَمُن الله به، جل وعلا، في أسوإ الأوقات وأحرج اللحظات، من إيمان يجدد لديه، باستمرار، تلك القدرة العجيبة على الصبر والاحتمال... نعم، لقد اخترت، لأمَكـِّن قرَّائي إذن من استحضار تلك الأحاسيس، أو ما هو قريب منها، أن أعرض عليهم ما أعرض، من وقائع هذه الحلقة الثانية، ضـمن تـسلسل تاريخي مُرتب، بحيث تأتي عـلى نمط كـتابة المذكـرات الـيومية. وذلك لبيان نوعية وحجم الأذى الذي تستطيع أن تـُحْدثه آلة الضغط العالي، المتواصل، عندما تديرها "اللوبيات" المُتـَكـتـِّلة حول
شعارات الحقد والكراهية.. مكتفيا بأمثلة منتقاة، اسْـتعْـِرضُها حسب ترتيبها الزمني، لكي يتمكن القارئ من أن يستخلص، من تلقاء نفسه، طبيعة النتيجة المرسومة التي كان ينبغي أن تـُفضِـيَ إليها، حتما، هاتيك التصرفات الاستفزازية، التي لم يستطع أصحابها، في غـَمْرة الـِهـسْـتيريا التي أصابتهم، أن يحافظوا لأنفسهم على ذرّة من الرُّشد تتيح لهم التمييز بين المصالح العليا للأمة؛ وبين أهوائهم الجامحة نحو بلوغ الغايات الآثمة التي ارتأوا أنها قد حانت يومئذ فرصة فريدة لبلوغها في تلك الأجواء الاستثنائية التي وفرتها الأزمة التي قوَّضت أركان المؤسسات الهشة في البلاد، وزلزلت معظم أركان النظام?...ومن الواضح أننا لسنا هنا بصدد القيام يجَـرْدٍ لحصيلة ما قمنا أو ما لم نقـم به من الأعمال والنشاطات.. وإنما ينحصر الأمر كله في تسليط الضوء الكاشف على جوانب مختلفة من تفاصيل المكيدة التي كان تسريب مواضيع البكالوريا الجزائرية في شهر جوان / حزيران 1992 تتويجا مأساويا لها، ومحنة قاسية للمجتمع بأسره.. وسنعرض لأهم المحطات التي مرت بها مسيرة المؤامرة، من مسلسل الاستـفزازات والعراقيل المُمَهِّدة لها، إلى التفاصيل المُرْعبة التي ظهر بها الفعـل الشنيع في أثناء أيام الامتحان الأربعة. ثم أخيرا إلى النتائج التي آلت إليها محنة المؤسسة التربوية عبر أهم مواعيدها السنوية..


أولا تذكير موجز بالسياق السياسي للوقائع المعروضة
من أجل انتخابات نزيهة ونظيفة.. كان هذا شعار الأخ/ سيد أحمد غزالي، الذي أوكل إليه الرئيس الشاذلي بن جديد مهمة تشكيل الحكومة الجزائرية بمرسوم مؤرخ في يوم 05 / 06 / 1991 -
مع تكليفه بإجراء هذه الانتخابات قبل نهاية السنة الجارية1991. وقد تم إعلان التشكيلة يوم 18 / 06 من السنة نفسها. وجرت الانتخابات بالفعل، طبقا للتعليمات الرئاسية، في يوم 26 ديسمبر
من هذا العام، وجاء وزير الداخلية إلى مقر هيأة التلفزة الوطنية ليعلن نجاح الجبهة الإسلامية بأغلبية مقاعد الدورة الأولى؛ وقال لا يهم من هو الفائز بها، لأن الفائز الحقيقي هو الجزائر، ومسار الديمقراطية فيها... ولم تمض إلا أيام قليلة حتى أصدر المجلس الدستوري قراره الـرسمي بـصحة تلك الانتخابات، ثم صدرت الجريدة الرسمية بذلك، فالقرار وبأسـماء الـنواب الذيـن صح انتخابهم في الدور الأول. ولم يَخـْـفَ إلا على الذين لم يكونوا يتابعون عن كـَـثــَبٍ الرَّجّـة العظمى التي أحدثتها تلك النتائج في كل مفاصل النظام الحاكم؛ أن الحديث المتكرر عن إلغائها قد تجاوز مراحل الهمس به، إلى مباشرة التشاور (ضمن دوائر القرار الفعلي) حول أقصر الطرق، وأقلها تكلِفة، لتحقيق مطلب ذلك الإلغاء والتوقيف. ثم نضج? ?القرار، واتضحت? ?طرق اتخاذه بصفة رسمية، فكان لا بد حينئذ من إلباسه رداءَ الواجهة الشرعية القانونية، من خلال المؤسسات الرسمية وكان لا مَحِـيصَ من المرور بمجلس الوزراء..
ــ يوم 27 / 12 / 1992ـ انعقد مجلس الحكومة لدراسة نتائج الانتخابات التشريعية التى كانت دورتها الأولى قد جرت قبل أيام قليلة، كما أسلفت. وكانت المرة الأولى، فيما أذكر، التي ينعقـد
فيها المجلس بكامل أعضائه. فإن وزير الدفاع، اللواء خالد نزار، لم يسبق له الحضور. ووزير الخارجية، الأخ لخضر إبراهيمي لم يحضره إلا في مرات قليلة، وبالأخص عندما يكون ضمن جدول الأعمال مناقشة الاتفاقات والمعاهدات الدولية التي ستعرض للتصديق عليها في مجلس الوزراء. وسبب عدم حضور الوزيرين المذكورين بانتظام هو أن قطاعي العلاقات الدولية والاتصالات الخارجية، من ناحية؛ وشؤؤن الدفاع الوطني والمسائل العسكرية، من ناحية أخرى، خارجة عن اختصاصات رئيس الحكومة الدستورية، لأنها من الصلاحيات الحصرية لرئيس الدولة. فدلَّ حضورُهما معًا على أهمية هذا الاجتماع..
ــ يوم 12 / 01 / 1992 ـ قدم الرئيس الشاذلي بن جديد استقالته، أو ما سُـمِّي كذلك، بعد الظهر. ودُعِينا على عجل إلى اجتماع في قصر الحكومة على الساعة السادسة والنصف مساء. وانعقد
المجلس بكامل أعضائه للمرة الثانية. وكان جدول الأعمال المطروح يتضمن نقطتين اثنتين، الأولى دراسة المشكلة التي طرحتها استقالة الرئيس مع حل المجلس الشعبي الوطني، وهو ما يثير مشكلة الفراغ الدستوري في قمة السلطة... والنقطة الثانية هي "مشكلة الدور الثاني للانتخابات التشريعية"... طلب رئيس الحكومة أن يتناول كل الوزراء الكلمة، الواحد بعد الآخر، تـَـبَعـًا لوضع جلوسهم حول طاولة الاجتماع، حتى تظهر مواقف الجميع بكل جَـلاء... ولو وُجـدَ في بلادنا قانونٌ يُنـَظم عملية فتح خزائن الأرشيف الحساس أمام الباحثين، بعـد مرور فترة معينة، كأن تكون عشرين سنة.. مثلا، لتمكينهم من الاطـِّلاع على ما يهمهم أو يعنيهم منها. لو كان ذلك ممكنا عـندنا اليوم لاستـطاع أي باحث "يزور" المحاضر الصوتية الخاصة بمجلس الحكومة في التاريخ المذكور، أن يستنتج بكل بساطة، أن كل المتكلمين قد تناولوا بصفة خاصة النقطة الثانية من جدول الأعمال، وأنهم ذهبوا جميعا إلى ضرورة توقيف المسار الانتخابي، وإن جاء ذلك بعبارات، ونبرات صوتية مختلفة... إلا واحدًا منهم.. قـد شـَذ عن الجميع، هو كاتب هذه الفقرات... فقد كان حَذرَ من العواقب الوخيمة التي ستنتج عن توقيف الدور الثاني من الانتخاب، بعد "الابتهاج بنجاح الديمقراطية والجزائر"، وبعد تصديق المجلس الدستوري لها، واعتمادها رسميا بنشرها في الجريدة الرسمية.. وكانت حجتي أن الانسياق وراء المبالغة في التهويل والتخويف التي ظلت تبثها "أقليات ساحقة"!.. معروفة المواقف والخلفيات، ستؤدي إلى إغراق البلد في مآسي لا نهاية لها.. وكان الرأي عندي أن في الدستور من الضوابط، والتدابير الاحتياطية.. ما يتيح لقيادة البلد معالجة كل الحالات الطارئة التي تتصاعد أصوات التخويف من حدوثها. وأقل تلك الضوابط ما بيد رئيس الدولة من صلاحيات حل المجلس الوطني في كل حين.. ولكن قطار المأساة كان قد انطلق قبل انعقاد المجلس.. وهيهات أن يقوى صوت الأناة، والتريث، على توقيفه أو تخفيف اندفاعته المجنونة. وكل المطلوب من المجلس هو توفير المبرر الشرعي للإجراءات المتخذة خارجه..
أنا من الجيل الذي نشأت بواكير إدراكه السياسي الوطني في عز الثورة الجزائرية، أواخر الخمسينيات، ونحن تلاميذ في الثانويات؛ فكانت جبهة التحرير، قائدة الكفاح الوطني الثوري هي الإطار المرجعي الأسمى لمواقفنا وتحليلنا لواقع بلدنا المجاهد، ورسم آفاق مستقبلنا الذي لم نكن نتصوره لحظة واحدة بمَعْزل عن مستقبل الوطن نفسه. وقد بقيتُ طـَوَال عمري منتميا لهذا الإطار الفكري، لم أحد عنه أبدا، ولم أغـيّرْه حتى حين كنتُ أبتعـد عن هياكله وأقاطع مؤسساته عندما أراها مالت عما أعتقده الحق والصواب، أو أجد أن قيادته لا تمثل، أو لم تعد تمثل ذلك الخط الفكري الناظم لعقيدة جبهة التحرير التي هي علة وجودها، والمبرر الأساسي لاستمرارها... لقد شعرت بضرورة تقديم هذه التوضيحات ليُعْلم أنني، حين انفردت بذلك الموقف قي أجواء تلك الفترة الصعبة للغاية ومناخ توجيه الاتهامات السريعة لكل من يخالف الأفكار الرائجة، أو يجانب مسالك الرأي المعبَّـدة.. لم أغير حزبي، الذي كنت يومئذ عضوا في لجنته المركزية.. وكان واجب الدفاع عن سلامة الوطن، وأمن الوطن يفوقان عندي كل الاعتبارات الحزبية كيفما كانت طبيعتها... ومما لا ريب فيه أن هذا الموقف لم يرفع أسهمي في بورصة القيم السياسية..
ــ يوم14/ 01 /1992 اجتمع المجلس الأعلى للأمن، واتخذ مجموعة من القرارات أهمها إنشاء المجلس الأعلى للدولة، وتوقيف المسار الانتخابي. ثم نـُـصِّب المجاهد محمد بوضياف، رحمة الله عليه، يوم 14 / 01 / 1992، رئيسا لهذا المجلس. وبدأت مرحلة جديدة للوطن سـتـنمو فيها الآفات سِراعًا، كأزهار الشر، حتى حوّلت الحياة فيه إلى جحيم لا يُطــاق
مسلسل الاستفزاز المـمـهد للفــعـلة الشـنعاء
ــ يوم 28 / 01 / 1992 ـ وصلتْ إلى ديواني رسالة مصحوبة بمجلة صغيرة اسمها "السِّـيـتال" (La Sittelle)... وهو اسم يطلق على طائر صغير، يوجد نوع منه في الجزائر، في مرتفعات
منطقة القبائل، يقال إنه في طريقه إلى الانقراض، ويسمى "السيتال القبائلية".. عندما تصفحت هذا العدد رقم صفر، ولا أظن أنه كان له ما بعده. وكانت هيأة تحريره مكونة، أساسا، من مجموعة من أستاذات اللغة الفرنسية العاملة بمعهد بوزريعة للغات الأجنبية. في افتتاحيته أن المجلة موجهة لأساتذة اللغة الفرنسية في التعليم الثانوي.. وقد عجبت أن توجه لهم هذه المطبوعة بصفة خاصة، دون اتصال بوزارة التربية، أو تشاور معها!.. وشدّ انتباهي فيها أنها في ركن منها قد شنت هجوما كاسحا على تجْـِربة "الأقسام الخاصة" التي سمتها الصحافة (أقسام الموهوبين).. وفي ركن آخر توجيه لأولئك الأساتذة نحو مراكز التوثيق التابعة للسفارة الفرنسية، مع عناوينها قي قسنطينة وعنابة ووهران وتلمسان وتيزي وزو وسكيكدة وبجاية... وزاد عجبنا حين رأيناها تشير إلى أنها ممولة من وزارة التعليم العالي، بوصفها "مشروعا بحثيا جامعيا"!! وأن عنوان مقرها هو معهد اللغات الأجنبية في بوزريعة.. وسيكون لهؤلاء الأستاذات نشاط متميز في مقاومة مشروع وزارة التربية الخاص بتدريس اللغة الإنجليزية في التعليم الابتدائي.
ــ يوم 09 / 02 / 1992 ـ وصلت رسالة من مصالح ولاية الجزائر إلى مديرية التربية بالعاصمة تستطلع رأيها في الملف الملحق بها. وطلب لإنشاء مدرسة خاصة في أحد فضاءات حديقة
الحيوانات بابن عكنون، مقدم من المدعوة / مليكة ?ريفو.. وكان جواب مديرية التربية برفض المشروع، لأنه مخالـف لأحكـام أمريــة 16 إبريل 1976، السارية يومئذ. وذلك بعد تنقل فريق
تفتيشي إلى مقر المدرسة لمعاينة حقيقتها فإذا بهم يجدون شبه تلك المدرسة في الحديقة المذكورة، قد بدأت العمل، إن صحت تسمية ذلك الشيء بـ"العمل..." ولم تنتظر لا موافقة الوزارة ولا
صدور رخصة الولاية التي تبين، بوضوح، أن الولاية منغمسة تماما في التواطؤ... طلبنا إغلاقها فلم تغلق، وهي إلى الآن في مكانها، إذ بقِـيَـت خارج أحكام القـانـون حتى صدر التشريع الذي
سمح بفتح المدارس الخاصة... ومعلوم أن المعنية نفسها كانت قد استفادت من تواطؤ مماثل حين فـُـتِحتْ لها "مدرسة" خارج القانون، في روضة أطفال بالمركب السياحي في تيبازة. ولم
يستجب الوالي لإغلاقها (24 / 02 / 1991) إلا بعد التهديد بوضع كل تفاصيل الموضوع في متناول الصحف لإطلاع الشعب على تفاصيلها، ونشر تقرير المفتش التي زارها لكشف الواقع
البائس لهذا الوكر السري..وكان الوالي نفسه محلَّ ضغوط شديدة تمارس عليه لعدم إغلاقها...
ــ يوم 15 / 02 / 1992 ـ كانت مديرة ثانوية الشيخ بوعمامة قد حولت إلى مصالح الوزارة رسالة مبعوثة إليها من مدير "الديوان الثقافي الفرنسي" بالجزائر، بصفة مباشرة وكأنه ليس في البلد
لا وزارة خارجية، ولا وزارة تربية.. وهو يخاطب مديرة ثانوية جزائرية كما لو كانت عونا من أعوانه، أو كما لو أن الثانوية المعنية مؤسسة فرنسية فوق أرض فرنسية.. فحولت نسخة منها
إلى وزير الخارجية طالبا تنبيه السفير الفرنسي إلى التقيد بالأعراف الدبلوماسية. وموضوع الرسالة معرفة الأساتذة الفرنسيين الذين ترغب الجزائر في تجديد عقودهم للسنة الدراسية القادمة.
وهؤلاء هم الذين يدرسون البرنامج الفرنسي لمن يسمون "أبناء الدبلوماسيـيـن". كلفت مدير التربية بأن يبحث أمر الأساتذة الفرنسيين، وأن يوافيني بقائمة كل الأساتذة الذين بإمكاننا تعويضهم
بأساتذة جزائريين، من الذين كانوا يدرسون تلك المواد نفسها باللغة الفرنسية قبل تعريبها. فوردتني قائمة بأسماء سبعة عشر مدرسا نستطيع تعويضهم بعناصر جزائرية، بكل يُسْـر لا يقلون
عن أولئك علما ولا كفاءة. ثم خاطبنا وزارة الخارجية بإخبار المعنيين بانتهاء مهمتهم في ثانوية بوعمامة، مع رسالة شكر وتقدير على المهمة التي قاموا بها لدينا..
عندما وصلت رسائلنا.. قامت القيامة في المديريات المعنية بوزارة الخارجية، لأن الأمر أخذ أيضا من زاوية كونه يعني أبنائهم.. وقد أتاحت لنا فرصة متابعة الموضوع أن نكتشف حقيقة
مذهلة، هي أنه تحت غطاء منح من يُسمَّوْن أبناء الدبلوماسيين تعليما فرنسيا محضا، عن طريق برنامج فرنسي كامل، وبواسطة أساتذة فرنسيين... كان المئات من أصحاب النفوذ،
والوضعيات المتميزة، و"الأكتاف الحامية"، والجيوب المنتـفخة يحصلون لأبنائهم، منذ القسم المعادل عندنا للسنة الأولى الإكمالية، أو المتوسطة، على تعليم مخالف مائة قي المائة للتعليم
الممنوح لثمانية ملايين تلميذ جزائري.. وتبين الإحصاءات الرسمية وقتئذ، أنه من بين 486 تلميذا مسجلا في المرحلة الثانوية (أي الطور الثاني الثانوي)، 99 تلميذا فقط، (أي بنسبة 20,37
%)، هم من "أبناء الدبلوماسيين" (والملحقين بهم من أبنــاء أفراد الوكالات الجزائرية في الخارج، كمكانب الخطوط الجزائرية وغير ذلك..) والباقي هم ممن لا حق لهم قي ذلك التعليم، لو
كان في البلد قانون يطبق. وقي التعليم المتوسط، أو ما يسمى الطور الأول الثانوي في مصطلحاتهم، من بين العدد الإجمالي البالغ 509 تلاميذ، يوجد من أبناء الدبلوماسيين والملحقين بهم 137
تلميذا فقط،(أي بنسبة 26,9 %)والباقي أي 372? تلميذا لا مكان لهم هنا حسب القانون..
جمعت هذه الثانوية كل أنواع المشاكل.. فهي زيادة على كونها ثانوية تأوي كما رأينا مرحلة التعليم المتوسط.. بل إنها تشتمل ايضا، في داخلها، ابتدائية أيضا... وليست ابتدائية فقط، بل هي،
إلى ذلك، تحَصِّـلُ رسوما، من أولياء التلاميذ الصغار مقابل توفير وجبة الغداء لهم كل يوم. وذلك ما يطرح مشاكل خطيرة تتعلق بالمحاسبة المالية، وكيف تسير تلك الأموال، ومن هو
المسؤول عن شراء المواد، ومن يحاسب من؟ في وضعية كلها غير شرعية.. بالإضافة إلى مسؤولية حراسة أطفال ما بين الخامسة والعاشرة، أو الحادية عشرة من العمر، خارج وقت
الدراسة! لأن الأطفال يبقون في المدرسة من الثامنة صباحا إلى الخامسة عصرا.. وعندما حاولنا أن نعيد الأمور إلى بعض نصابها، وتحديد المسؤوليات، قامت الدنيا ولم تقعد، وتظاهر
الأولياء، واعتصموا عند باب الثانوية / الابتدائية، وكتبوا العرائض، وكتبوا ما كتبوا في الصحف المتلهفة دوما على نشر ما يأتيها منهم..
ــيوم 17/02/ 1992 ـ انعقد مجـلس الحكومة لدراسة وثـيـقة عـنـوانها
"مخطط نشاط الحكومة"، وكان قد كلف بإعدادها فريق من الوزراء منهم الجيلالي اليابس الذي كلف بقطاعات التربية والتعليم.. فلما اطلعت، أثناء الجلسة على ما كتب عن التربية استأت
للغاية. فبينما كانت المقاطع التي تناولت التعليم العالي فيها التماس للأعذار له بأنها "تسيره ديمغرافيته"، أي كثرة الطلبة، بينما قال عن المنظومة التربوية ذات الملايين الثمانية قال عنها "
يتعين على المنظومة التربوية أن تباشر تقييما لا مجال فيه للمحاباة، لبيان ما تم إنجازه فيها؛ وتقديم اقتراحات بشأن الغايات المرسومة لها، وأنماط التنظيم التي ينبغي أن تعتمد فيها" ثم
أضاف، "كثير من الملاحظات المتداولة تبيح التصور الشائع عن مدرسة واقعة في فخ المناقشات الإيديولوجية حتى تحـولـت (المدرسة) بـمرور السـنـيـن إلى مؤسسة لتخريب الروح المدنية،
والقضاء على الشعور بالانتماء إلى أمة"!!
تناولت الكلمة
بعد العرض المقدم وقلت، بانفعال ظاهر، "والله، لو أن "حركيا" مثقفا أتيح له أن يكتب عن المدرسة الجزائرية، لاستحيا أن يكتب مثل هذا الكلام الوقح عن منظومتنا التعليمية، ثلاثين سنة
بعد استقلال البلاد"..
ــ يوم 22 / 04 / 1992 ـ دُعي أعضاء الحكومة والإطارات السامية إلى قصر الأمم لحضور حفل تنصيب "المجلس الاستشاري" المكون من ستين عضوا والذي سيقوم مقام الهيئة البرلمانية
التي حُلتْ مع بداية الأزمة. وألقى الرئيس خطابا. وما هي إلا لحظات قصيرة حتى تطرق إلى وضع المنظومة التربوية بألفاظ لم يسبق لأي مسؤول قي الدولة أن وصفها بها، منها قوله ـ
وكنت في حالة من الذهول وأنا أسمعه يقول ـ "إن منظومتنا التربوية منكوبة، ولا يمكن للتصريحات المريحة أن تغطي هذا الواقع المؤلم الذي يعاني منه تلاميذنا وأولياؤهم.. فمنظومتنا
التربوية تنتج جيشا من الضائعين، تقذف بهم إلى الشارع؛ كما تنتج حملة شهادات عاطلين عن العمل،وكل أولئك الذين يسمونهم /حيطيست/،والذين لا يملكون علما ولا كفاءة".
قدمت استقالتي الأولى في عهد الرئيس بوضياف، بعد هذا الخطاب احتجاجا على هذا التصور المُجْحف، والظالم، الذي أقحمه مستشاروه في خطابه عن المنظومة التربوية الوطنية، وكان
ذلك يوم الأحد 26 / 04 / 2016.. ولا مجال لسرد خبرها هنا بالتفصيل، فقد حاول الأخ غزالي أن يقنعني بالعدول عنها عدة مرات، ثم كلف الرئيس الأخ سي علي كافي عضو المجلس الأعلى
للدولة بدراسة الموضوع معي، وإبلاغي بأنه لا يقصدني. وقلت لسي علي كافي كيفما يكون الأمر فإن كرامتي تأبى لي أ ن أقبل منصب وزير على مدرسة منكوبة.. ثم استقبلني الرئيس
بوضياف لمدة قاربت الساعتين إلا ربعا قلت له كل الذي لم يسمعه إلا مني من حقائق المنظومة وأعـدائها. وألح علي أن أسحب الاستقالة... ففعلت. وقد رويت كل تفاصيل هذه الاستقالة،
وظروفها وسياقها، والمناقشات التي دارت بيني وبين الرئيس بشأنها في كتابي "معركة المصير والهوية في المنظومة التعليمية " ،في الفصل الذي عنوانه"المدرسة والمؤامرة، خلفيلت ووقائع
". فليرجع إليها من يريد ..
ــ يوم 09 / 05 / 1992 ـ تسلمت رئاسة الجمهورية، برقية من المدعوة سمية بن موسى الساكنة في الأبيار، تطلب "مقابلة لتسليم عريضة ممضاة من ألف تلميذ ثانوي قلقين على مستقبلهم".
والبرقية مصحوبة برسالة مكتوبة بالفرنسية، يقول فيها من كتبها باسمهم "...نحن خائـفون عـلـى مستقبلنا لأنــنا لسـنا مرتاحين للتعليم الذي نتلقاه... المدرسة الجزائرية لم تعلمنا التفكير...
ولكنها قامت بحشو أدمغتنا بمعلومات تعتمد على الذاكرة وليس على النقد... ونطلب منك سيادة الرئيس أن لا تسمح بتطبيق الإصلاحات الأخيرة.." واستقبل فوج من التلاميذ، ومنعت الآنسة /
سمية بن موسى من مرافقتهم... ولخص موظف العلاقات العامة مطالب التلاميذ بقوله "قلقهم من وضعية التعليم الثانوي ـ المطالبة بعدم تطبيق الإصلاحات ـ عدم رضاهم عن الإجراء الذي
سيطبق ابتداء من السنة الدراسية القادمة بتدريس الفرنسية ابتداء من السنة الخامسة أساسي بدلا من السنة الرابعة..".
وكان مما استنتجه الموظف الذي استقبل التلاميذ، " ـ الطلبة الذين استقبلهم لا يمثلون كل الطلبة، وإنما هم من طلبة ثانوية المقراني2 ـ القوائم المرفقة عدد إمضاءاتها 650 إمضاء، وليس ألفا ـ
العريضة بلغة فرنسية سليمة فوق مستوى تلميذ المرحلة الثانوية ـ رفض التلاميذ للإجراء الخاص باللغة الفرنسية في الابتدائي يؤكد وجود استغلال لبراءتهم، وإلا فإن الاجراءات لا تعنيهم".
ويستخلص كاتب التقرير عن المقابلة ما يلي: "مما سبق يُستنتج أن هناك جهة تهدف إلى إثارة مشاكل ومتاعب في قطاع التربية والتعليم الذي عرف استقرارًا في أدق الظروف التي يمر بها
المجتمع، وذلك عبر التلاميذ الذين ما جاءت إصلاحات هذه المنظومة إلا تجسيدا لتطلعاتهم، وتجاوبا مع طموحاتهم، ومواكبة لتطورات العصر".
ــ يوم 01 / 06 / 1992 ـ في غمرة مشاكل التحضير لامتحان البكالوريا الوشيك، وعقد الاجتماعات المتوالية حول جوانب الاستعدادات المرافقة... بلغني، قبل يومين أو ثلاثة من الموعد، أن
الرئاسة تعد العدة للاحتفال بيوم الطفولة العالمي، في الفاتح من شهر يونيو، وأن قطاعات أخرى هي التي سيحضر مسؤولوها إلى الرئاسة للاشتراك في الاحتفال الذي سيقام بهذه المناسبة.
وكرهت أن يكون غيابي مناسبة أخرى للإشاعات، والتكهنات، والتهريج... فعزمت على أن أحتفل بيوم الطفل بطريقـتي، فكلفت ديواني بإعداد زيارة رسمية لمركز صغار المكفوفين بناحية
العاشور، في ضواحي العاصمة، بعد ظهر اليوم الأول من ذلك اليوم. فكانت فرحة عارمة لمدير المدرسة وتلاميذها ومعلميها، وكانوا أعدوا احتفالا متواضعا بإمكانات ضئيلة فإذا بالوزير
ومساعديه يمضون معهم عدة ساعات، وإذا بهم يمكـَّنون من طرح كل مشاكلهم أمام أحد أعضاء الحكومة، ولعل ذلك لم يحدث لهم إلا في مرات نادرة، وقد يكون ذلك لأول مرة.. وكان أهم ما
اشتكوا منه أنهم ليست لهم كـتـب مطبوعة بطريقـة "البراي"، فـلـذلك هم مُجبَرون على كتابة كل الـنصوص على ألـواحهم الـخاصة، بـعـد إمـلائها علـيهم، ثم يـبـدأ الدرس.. وفي ذلك من
التضييع للوقت ما فيه. وقد أخذت عهدا على نفسي، قبل مغادرة المدرسة، أن أبذل ما أستطيع لحل هذه المشكلة. وبالفعل، وجهت تعليمات مكتوبة إلى مدير الديوان الوطني للمطبوعات
المدرسية بشأن اتخاذ ما يلزم من التدابير السريعة لاقتناء مطبعة حديثة للطبع بالبراي، لتوفـير جميع الكتب المدرسية اللازمة لدراسة التلاميذ المكفوفين. وكم سرني، بعد سنتين، أو نحو ذلك،
أن ألاقي مدير المطبوعات المدرسية، فيقول لي مبتهجا، "لقد نفذت تعليماتك الخاصة بمطبعة البراي".. وأرسل لي، بعد أيام، الجزء الأول من القرآن الكريم، وفيه عشرة أحزاب من الذكر
الحكيم، مطبوعة بالبراي...
في مساء ذلك اليوم بثت التلفزة، في نشرة الثامنة، صور الحفل الذي انتظم في الرئاسة. وقد أظهرت طفلا جميلا، يرتدي برنوسة خفيفة بيضاء، وهو يلقي كلمة بمنتهى الطلاقة والفصاحة،
حتى لقد قيل لي إن الرئيس بوضياف قد أعجب به كثيرا، وقال لمن كانوا بجنبه، من يزعم بعد اليوم أن في تعلم العربية مشكلة !؟
بَـيْـد أن الذي فاجأني أنا، هو منظر الوزيرين الواقـفـين إلى يمين الرئيس وشماله، عندما كان طفل "المدرسة الجزائرية المنكوبة" يلقي كلمته في اليوم العالمي للطفولة... إنهما وزير الإعلام
والثقافة، أبو بكر بلقايد؛ ووزيرة الشباب والرياضة، ليلى عسلاوي... هذا، والطفولة الجزائرية كلها في المدارس، والطفل الذي تكلم تلميذ في مدرسة، والذي يحتفل مع الرئيس بالطفولة،
وزير الإعلام ووزيرة الشباب والرياضة!!... والمهم أن التلفزة عرضت صورا من احتفالنا مع الطفولة المكفوفة، وقد شاهدها من شاهدها فلم يسأل أحد لماذا غاب وزير التربية عن حفل
الرئاسة، ولم يتساءل أحد، هل الوزير أقيل أو استقال؟..
هذا غـَيْضٌُ مِن فــَيْض..
بعد صدور الجزء الأول من هذه المقالة، في الأسبوع الماضي، عكفت على إعداد الجذاذات التي أدير عليها هذا القسم من الجزء الثاني، فاستوفيت نحو عشرين منها، بدا لي أنها من التنوع
والأهمية بحيث تعكس ما أريد نقله لقرائي من معاني الحصار الذي كان مضروبا علي بالمكائد والاستفزازات والعراقيل.. ولكنني حين بدأت تحريرها ظهر لي بوضوح أنني مضطر إلى
الاكتفاء بنحو الثلث منها، وإلا لاحتجت إلى عدة حلقات لبسط مضامينها كلها.. فلذلك أتصور أن ما قدمته منها يفي بالغرض الذي قصدت إليه... والآن، وأنا يخيل لي أن القارئ الكريم قد
أحاط بالظرف الاستثنائي الذي كنت أعمل فيه، وأنا أحارب على كل تلك الجبهات،من اليسير عليه أن يتصور ملامح الفئات التي لا حل لمشكلتها معي إلا بذهابي!..
يوم الخديعة الكبرى
كان تاريخ امتحان البكالوريا قد حددت له أيام السادس والسابع والثامن والتاسع من شهر جوان 1992. وكان خوفي يشتد كلما اقتربنا من هذا التاريخ. وكان يلازمني إحساس عميق بأن شيئا
ما خارقا للعادة لا بد أن يحدث في واحد من تلك الأيام. وأذكر أنني في واحد من أواخر الاجتماعات التي عقدتها للأفواج العاملة في إطار الديوان الوطني للامتحانات والمسابقات شددت على
ضرورة المحافظة على أقصى درجات اليقظة والانتباه.. وأضَفـْتُ من كان يريد بالمنظومة التعليمية شرا فلن يجد فرصة مواتية كالتي توفرها أيام البكالوريا التي تكون الأنظار كلها موجهة
نحوها. كان عدد المترشحين في ذلك العام 375.000 تلميذ، وكان وراء كل مترشح أسرته الكبيرة والصغيرة. وكانت الصحف كلها معبأة بقوة لمتابعة كل شاردة وواردة تعنى التربية والتعليم.
جاء مدير ديوان الامتحانات ذات صباح وملامح الخوف بادية عليه فقال كان عندنا دائما، على مدار أيام السنة شرطي يلازم الحراسة أمام مدخل الديوان ليلا ونهارا؛ ولكن منذ ثلاثة أيام لم
يظهر له أثر، ونحن على أسبوعين من الموعد الكبير، تاريخ بدء البكالوريا...طمأنته، وبعد خروجه كلمت المدير العام للأمن الوطني، فوعد بأنه سيعالج الأمر حالا، وكعادتي أنا أثق في
المكتوب أكثر مما أثق في المقول، فأتبعت المكالمة فورا برسالة رسمية.. وبعد ساعات أخبرني مدير ديوان الامتحانات بأنه قـد التحق بمؤسسته شرطي الحراسة..
وأتذكر أنني كالمت في الهاتف الأمين العام للرئاسة، أياما قليلة قبل موعد الامتحان، أطلب منه أن يعرض على الرئيس أن يشرف على انطلاق امتحان البكالوريا، من أي مركز امتحان
يختاره الرئيس ومصالحه المختصة. وكان في ذهني انها ستكون فرصة لاتصال الرئيس بشباب اليوم من الجيل الذي يجتاز آخر مواعده مع المرحلة الثانوية.. ولما لم يأت الجواب في الأجل
المعقول، لم أعاود الاتصال، وقلت في نفسي لعل مصالح الأمن لم تنظر إلى الفكرة بعين الاستحسان... ومع كل ما كان يجيش في نفسي من المخاوف والهواجس، لم أكن أبدا أتصور أن الذي
سيحدث هو الذي حدث بالفعـل، وأن عملية المؤامرة ستتم بتلك الفظاعة، وبذلك الحجم من اللامسؤولية وانعـدام الضمير. والواقع أن جزءا كبيرا من مخاوفي كانت ذات طبيعة أمنية، تخص
سلامة المترشحين، أو إحداث بلبلة في مراكز الامتحان، ولكنها تمت، وبلغ المتآمرون الغاية القصوى من مآربهم التي كان من أهدافها أيضا زعزعة ثقة المجتمع في مؤسسته التعليمية،بعد أن
ظلوا يوجهون لها الضربات الموجعة بلا انقطاع.
من المدية كانت الانطلاقة الرسمية
انطلق موكب السيارات في ساعة مبكرة من صباح اليوم السدس من شهر جوان نحو مدينة المدية التي اخترنا أن تكون البداية منها. فأشرفنا من أحد مراكزها الامتحانية على فتح الغلاف
الخاص بموضوع المادة الأولى المبرمجة لذلك اليوم. ثم جُلت في مختلف أقسام ذلك المركز ثم خرجت منه إلى مراكز أخرى في المدينة نفسها، توقفت عند كل واحد منها مطولا حتى حان
وقت الرجوع إلى العاصمة فعدت بكل سرعة لأن كان علي أن أصل إلى مجلس الحكومة المبرمج لذلك اليوم عند الساعة الواحدة ظهرا. ولكنني وصلت مع ذلك متأخرا بنحو نصف ساعة..
وما إن جلست في مكاني حتى نظر إلي رئيس الحكومة وقال لي أعطنا أخبار "الباك"، كيف تسير الأمور؟ قلت له، ضاحكا، البكالوريا لا يستطيع المرء أن يحكم على سلامة سيرها حتى
ينتهي آخر يوم فيها.. وأنا لن أتنفس الصُّعَدَاء حتى تدخل جميع أوراق الطلبة إلى ديوان الامتحانات. ثم أعطيت عرضا موجزا عما رأيته في المدية. وانتقل المجلس إلى بحث النقاط المسجلة
في جدول أعماله.
لم يكن عندنا يومئذ الهاتف المحمول. وإنما كان عندنا هاتف مركب في السيارة، ولكنه قليلا ما يُستـنفع به. وهو حتى حين يوصل المكالمة، فإنها تكون من الرداءة بحيث يحرص المتصل على
إنهائها بكل سرعة.. وكنت في المدية قد اتصلت بديواني في الوزارة من مكتب مدير المركز، ولم يكن في الأخبار ما يدعو إلى القلق. وحين خرجت من قصر الحكومة، متوجها إلى وزارة
التربية، حاولت أن اتصل بالأمين العام أو برئيس الديوان أو بمدير ديوان الامتحانات.. فلم أفلح في ربط الاتصال بأي واحد منهم. كانت المسافة قريبة، ولكن الطريق كان مزدحما بالسيارات،
ولم تكن عادة الوزراء يومئذ الخروج من الطابور،والسير في الاتجاه المعاكس. لم أفعل ذلك حتى وأنا متأخر عن موعد مجلس الحكومة.. ولكن الداهية الدهياء كانت في انتظاري!
مـن ثانوية الشيخ بوعـمامة خرجت أنباء الفاجعة
كان إخفاقي في ربط الاتصال الهاتفي قد بعث في نفسي شيئا من التشاؤم. ولم يكن ذلك الإحساس كاذبا، فمجرد وصولي إلى المكتب جاءني رئيس الديوان حاملا إلي الأنباء المزعجة. فما الذي
وقع بالضبط؟.. في حدود الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد السابع جوان 1992، تقدم أساتذة من ثانوية بوعمامة (ديكارت، سابقا) الواقعة بحي المرادية، لى مديرة مؤسستهم وأبلغوها بأنهم
كانوا في انتظارها منذ الساعة الثامنة صباحا، لإعلامها بما لديهم من المعلومات عن البكالوريا. وأهمها أنهم تحصلوا على موضوع امتحان مادة العلوم الطبيعية لشعبة العلوم، قبل موعد
انطلاق الامتحان. وأن لديهم موضوع مادة الفلسفة المقرر لفترة ما بعد الظهر،لنفس اليوم ولنفس الشعبة.
لم تكن الثانوية المذكورة مركزا امتحانيا ولذلك كانت المديرة تترأس مجالس الأقسام. ومع أنه لم يكن يفصل بين الثانوية المذكورة وبين المقر المركزي لوزارة التربية إلا الشارع الرئيسي
المؤدي إلى ساحة المرادية، (شارع بكين) فإن المديرة لم تتصل بالوزارة مباشرة، ولكنها ظلت تحاول الاتصال بمفتش أكاديمية الجزائر "لأمر عاجل"، ولم تتمكن من مقابلته إلا في حدود
الواحدة والنصف ظهرا. فنقلت إليه المعلومات السابقة. وتأكد أن موضوع الفلسفة هو فعلا موضوع شعبة العلوم لذلك اليوم.
وقد تبين لنا أن الموضوع أكبر وأشمل من حادثة تسريب سؤال، أو حتى موضوع بأسره. وبدأت ترد الأخبار في المساء من كل مراكز الامتحان بالعاصمة لتؤكد حجم الكارثة.. وفي اليوم
الثاني لم يبق مركز لم يسجل أن معظم التلاميذ كان بأيديهم مواضيع كل مواد ذلك اليوم لا يحاولون إخفاءها أو التستر عليها، ودارت المسألة إلى المسخرة والاستهزاء بالتربية: وزارة،
ومنظومة، وامتحانات.. وتبين أن ذلك كان هو المطلوب. وانتهت الأيام الثلاثة لأغلب شعب البكالوريا بمأساة وطنية. وتبين أنه لا يمكن أن تكون الحوادث المسجلة أمرا قام به فرد أو جماعة
أفراد عاديين همهم الأوحد نجاح أقاربهم،أوبيع الموضوعات مقابل أثمان معينة..
لقد لوحظت منذ اليوم الأول سيارة "غولف" حمراء قريبة من ثانوية عمر بن الخطاب، بأعالي ديدوش مراد، توزع الموضوعات على عموم الناس.. ولم تسرب الموضوعات الرئيسية
وحدها، بل إن الفاعلين الذين فتحوا الخزانة الحصينة في ديوان الامتحانات أخذوا حتى الموضوعات الاحتياطية المعدة كبدائل يتم اللجوء إليها في حالة الطوارئ،وذلك لمنع كل احتمال
لمعالجة الأمر بصفة عاجلة، لأن إعداد مواضيع بديلة يتطلب وقتا أطول..
وطرح الموضوع مع رئيس الحكومة ثم في مجلس الحكومة في اليوم الأخير للامتحان،ولم تأت معلومات مؤكدة تثبت إن التسريب شمل ولايات أخــرى غــير ولايتي الجزائر وتيبازة،
وذهبتُ إلى مقر التلفزيون لتقديم كل ما لدى الحكومة من المعلومات، ولطمأنة التلاميذ المترشحين وأسرهم بأنه لن يضيع أي حق من حقوقهم، وأن الأمر أكبر من تسرب، لأنه يحمل ملامح
عملية تخريبية على أوسع نطاق.. وكان عيد الأضحى سيحل بعد يومين. وعندما عدت إلى منزلي في آخر ذلك اليوم الطويل وجدت كل أفراد الأسرة مُجمِعة على أن نذهب إلى "بلدتنا"
لإمضاء عطلة العيد مع الجد والجدة، رحمة الله عليهما. وفي اليوم الثاني للعيد، ونحن بعدُ مجتمعون إلى مائدة فطور الصباح، وإذا بامرأة من معارفنا تقرع الباب، فتخبر الوالدة التي فتحت
لهـا بأن زوجة أخيها، وهم جيران دارنا في العاصمة، أخبرتها أنها خرجت في الصباح الباكر فوجدت باب داري مفتوحا على مصراعيه، فدقت الجرس فلم يجب أحد، فأسرعت إلى محافظة
الشرطة لإخبارهم، وكانت تخشى أن يكون أمر مرعب قد حل بالوزير وأسرته. وقالت إن الشرطة والدرك الآن في الدار وقد أقاموا حراسة حولها..
ركبت السيارة في اللحظة نفسها مع أفراد أسرتي، وتوجهت نحو العاصمة لا ألوي على شيء.. ووصلت فوجدت منظرا في الدار لا يتصوره إنسان لم يبق شيء على الإطلاق لم يطرح
أرضا، أفرغتْ الدواليب، ونثرت محتويات الخزائن والحقائب أرضا، وبُقرت بطون المحافظ.. حتى ما كان في الثلاجة والمجمد كانت الأرض من نصيبه.. لم يبق شيء يخف حمله من
الأجهزة الإلكترونية والملابس والأحذية لم يأخذه زوار الليل... أما مصوغات الزوجة والبنات، وكانت في صندوق عادي بدولاب الملابس، فقد أخذه أولئك الزوار كاملا، وكنا، حين قررنا
السفر فجأة، في شغل شاغل عن التفكير في وضعه في مكان آمن..
كان أعوان الدرك عاكفين على نقل البصمات.. وكان الذين تسلقوا الجدار وكسروا خشب النافذة قد جُرح أحدهم بفعل الزجاج المكسور، وقد بقي دمه في أكثر من مكان من الغرفة التي دخل
منها. بل إن بعض الجيران عرفوا واحدا مربوط الإصبع على أنه أحد المتسلقين.. وبعد أيام كلمت محافظ الشرطة الذي تقع دارنا في منطقة اختصاصه، أسأله هل من جديد فقال معتذرا "والله
ياسي... نحن متأسفون،نحن مشغولون كما تعرف بالأوضاع ...".
بين يدي الرئيس بوضياف
عدنا إلى الاجتماع في مجلس الحكومة وكان الرأي أن يعاد البكالوريا في كل أنحاء الوطن كله، وألح البعض منهم على ضرورة معاقبة مدير ديوان الامتحانات عقابا شديدا، ورفضت رفضا
تاما أن يُعاقب المدير قبل أن يتم التحقيق الجدي، ويثبت فيه أن ما وقع ناتج عن تهاون أو إهمال المدير.. وإذا كان له من مسؤولية فهي إهماله تغيير التركيبة الرقمية للصندوق المحصَّن الذي
توضع فيه مواضيع الامتحانات، أي تلك التي كان يستعملها المدير السابق الذي كنت نحيته في بداية تعييني... ولم يكن الحديث عن المدير إلا ذريعة لتحميل المسؤولية للوزير بعد ذلك.. واشتد
النقاش مع الأقلية التي تريد معاقبة المدير، وكان من بينهم وزير الداخلية الذي قلت له، أين التحقيق الذي يخبرنا عن هوية الغولف الحمراء التي كان من فيها يوزعون أوراق الموضوع؟ فقال
لي: هل أنت تتهم الشرطة، فأجبته بحدة إن الشرطة هي شرطة الجزائر، وليست شرطة وزير الداخلية! فخفـَّتْ لهجته في الحين، خوفا على هيبته أمام الزملاء، وقد خشي أن يسمع مني ما هو
أشد، وهو الذي لم يتعود أن يعارضه أحد، ولكن "جريدتهم" ذكرت في صباح الغد أنه وبّخني، واشتدت لهجته معي!!.. وفي تلك الجلسة قلت لرئيس الحكومة إن ما وقع في البكالوريا شيء يدل
على انهيار تام للضمير والأخلاق، ولولا أنني لا أريد أن أسبب للحكومة ولرئيسها مزيدا من المتاعب والمشاكل لقدمت استقالتي فورا، فإن كان ذلك لا يؤثر فأنا الآن مستعد لكتابتها.. وانتهت
الجلسة بقرار إعادة الامتحان، واستدعاء النقابات وجمعيات أولياء التلاميذ في العاصمة وتيبازة لطلب مساعدتها والتشاور معها. وعقد اللقاء معها في الغد، 15 جوان. وفيما كنا في استراحة
بعد الظهر قال لي الأخ / غزالي رئيس الحكومة الرئيس بوضياف يريد أن يرانا. ذهب كل واحد منا في سيارته وفي صالونات الرئاسة فوجئت بوجود وزير الداخلية الجنرال العربي بلخير،
ووزير الاتصال والثقافة أبو بكر بلقايد... فاكتملت عندي التفاصيل التي كانت تنقصني.. وإلا فما معنى وجودهما هنا؟؟ ودخلنا عند الرئيس بوضياف فبدا لي في هيأة من فهم التمثيلية كلها..
وبعد أن شرحت له كل ملابسات الحادث والأشياء المثيرة فيه، قلت له سيدي الرئيس لا يمكنني بعد الآن أن أبقى يوما آخر في منصبي. قلت ذلك بتصميم. فقال لي محاولا جرّي إلى مناقشة
شيء آخر غير الاستقالة، قبل ذلك نعيد امتحان البكالوريا ثم نرى؛ فقلت له حرفيا "لو بقيت لأعيد الامتحان لأعادوا فعلتهم، ولكنها ستكون حينئذ أدهى وأمر"... فسكت الرئيس كمن فهم أننى
بلغت نقطة اللاعودة..
خرجت من الرئاسة مباشرة إلى وزارة التربية. كتبت استقالتي وحملتها إلى قصر الحكومة حيث كان ممثلو النقابات وجمعيات أولياء التلاميذ في انتظار مواصلة التشاور. سلمت رسالة
الاستقالة إلى رئيس الحكومة، دون أن يعلم بها أطراف الاجتماع. واقترب موعد نشرة الثامنة، فطلب مني رئيس الحكومة صياغة بلاغ الاستقالة فصغته. وحرصت على إخبار زوجتي
بالقرار وأوصيتها بأن تخبر أولادي قبل موعد النشرة.
وكان ما كان، وقتل الرئيس بوضياف في تلك الظروف المأساوية بعد 14 يوما من استقالتي، واستقالت الحكومة، وعين الأخ عبد السلام بلعيد رئيسا لها، فـعـين الأخ/ أحمد جبار وزيرا
للتربية، وتمثلت مهمته في إعادة امتحان البكالوريا، وكانت نسبة النجاح فيه قريبة من 12 %، وعاد بعد نحو سنتين إلى وظيفته في جامعة باريس بعد أن أتم إلغاء كل الإجراءات التي كنا
اتخذناها، وبدأنا تطبيق بعضها، وفي مقدمتها مسألة اللغة الإنجليزية، والتعليم التأهيلي، والأقسام الخاصة للموهوببن.. وانتهى قلق المتآمرين... ولا غالب إلا الله، رب العرش العظيم.





>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

إيه يا بلد



رب العباد سريع الحساب شديد العقاب

=========


>>>> الرد الثاني :


=========


>>>> الرد الثالث :


=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========