عنوان الموضوع : فتوى الأمير عبد القادر في وجوب الهجرة إلى دار الإسلام من تاريخ الجزائر
مقدم من طرف منتديات العندليب
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله وحده
وبعد: فإنَّ للأمير عبد القادر الجزائري رسالة علميَّة فقهيَّة مُحْكَمَة، عنوانها : (حسام الدين لقطع شُبَهِ المرْتدِّين)، تحدَّث فيها عن الحكم الشرعي في المسلمين الذين يرضون بالنزول تحت حكم الكافر ويخضعون لأحكامه، أو الذين يمدون جيش المحتلِّ الكافر بالمعونة والمساعدة، أو الذين يشاركون فعليًا في أعمال المحتلّ الصليبي وينفِّذون أوامره. وهذه الرسالة معتمدة على النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة، وفتاوى أئمَّة المسلمين، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهي محرَّرة وفق قواعد الفقه المالكي. وهي من أوائل الرسائل العلمية للأمير عبد القادر.
وهي بحق رسالة فريدة في موضوعها في ذلك العصر، تضارعُ رسالة العلاَّمة الونشريسي (أسنى المَتَاجِر في بيان أحكام مَنْ غلَبَ النصارى على وطنه ولم يُهاجر، وما يترتَّبُ عليه من العقوبات والزَّواجر). ويمكن لقارئ الرسالتين أن يعتمد عليهما في مسألة حكم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وغيرها من الأحكام المتعلِّقة بالموضوع.
وحديثي اليوم ليس عن مضمون رسالة الأمير بالتفصيل، وإنَّما عن التحريف التاريخي لحقيقة هذه الرسالة، الذي وقع فيه ناشر ومحقق تلك الرسالة: الدكتور محمد بن عبد الكريم.
فأقول: إنَّ للأخطاء التاريخية أسبابًا متعددة، أقف اليوم على أحدها:
ـ وهو أن بعض المؤرِّخين قد يعتمدُ في مسألة تاريخيةٍ ما على نتيجةِ دراسة أو بحث لأحد زملائه أو معاصريه، ظنًّا منه أن ذلك الباحث قد استقصى البحث، وتوصَّل إلى حقيقة تاريخية ثابتة، وهذا يريحه من بذل الجهد والوقت في تتبع تلك المسألة.
والمصيبة عندما يكون ذلك الباحث قد أخطأ، وتوصَّل إلى نتيجة باطلة، إما بسبب ضعفه العلمي أو قصوره البحثي، أو تأثُّره بعاطفة خاصة مرتبطة بالمسألة.
والنتيجة : يترسَّخ ذلك الخطأ التاريخي في أذهان الناس، بسبب شيوعه وكثرةِ الكتَّاب الرَّاوين له، فيصبح وكأنَّه حقيقة ثابتة!!
وهذا ما حصل مع بعض المؤرِّخين الجزائريين الكبار أمثال الدكتور أبي القاسم سعد الله حفظه الله ونفع به، وغيره، فإنهم اعتمدوا على نتيجة الدراسة التي نشرها د.محمد بن عبد الكريم بعنوان (حكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية)
وحاصلها بزعم الدكتور ابن عبد الكريم أنَّ: الأمير عبد القادر الجزائري كتب رسالة يوصي فيها الشعب الجزائري بالهجرة من الجزائر إلى بلاد المشرق!! فردَّ عليه شخص يُعرف بمحمد بن الشاهد برسالة تبيّن خطأه!!!
وأقول: رسالة الأمير هي: ((حسام الدين لقطع شبه المرتدين)) التي ذكرتها آنفًا، وهي رسالة فقهية مشهورة ومنشورة، وليس فيها أي ذكر للهجرة إلى المشرق مطلقًا، وإنما مفادها أنَّ الأمير يطالب الجزائريين النازلين تحت الحكم الفرنسي، أن يهاجروا إلى المقاطعات التابعة لدولته الإسلامية! وأنه لا يجوز لهم التودد إلى الحاكم المسيحي والاحتكام إليه، كما لا يجوز لهم أن يعينوا العدو الفرنسي على إخوانهم المسلمين.
وأمّا رسالة ابن الشاهد فهي ترد على أحد الشيوخ الذين هاجموه لأنه يساكن الفرنسيين ويخضع لحكمهم، ويتودد إليهم!
وابن الشاهد مات قبل أن يكتب الأمير رسالته بخمس سنوات على الأقل، وهذه وحدها فضيحة علمية لصاحب الدراسة الذي سمَّى عمله تحقيقًا، وكان السبب في تضليل بعض المؤرِّخين.
أضف إليها عشرات الحقائق التي تثبت على وجه اليقين أنَّ رسالة ابن الشاهد لا علاقة لها برسالة الأمير وليست ردًّا عليها.
وأنّ رسالة الأمير رسالة علمية شافية معتمدةٌ على النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة الصحيحة، وفتاوى أئمة المذهب المالكي.
وكنتُ كتبتُ ردًّا على رسالة ابن الشاهد، وأضعه اليوم بين أيدي القرَّاء والباحثين، ليروا بأنفسهم كيف تكون الجناية التاريخية! وقد اطَّلع على الرّد بعض الأساتذة المؤرِّخين الجزائريين، فسارع إلى الرجوع عن هذا الخطأ في الطبعة الثانية من أحد كتبه التي اعتمد فيها قديمًا على دراسة د.ابن عبد الكريم. والحمد لله رب العالمين.
تجلية الأمر ثم الإعلام
بصحة فتوى الأمير عبد القادر في وجوب الهجرة
من دار الكفر إلى دار الإسلام
تأليف الدكتور
خلدون بن مكي الحسني الجزائري
الحمد لله ربِّ العالمين ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمّا بعد :
فالأمانة العلمية شأنها عظيم ، وكلُّ من يريد حملَها عليه أن يعلمَ من نفسه القدرة على ذلك لأنَّه سيسأل أمام الله تعالى ، وأمام الناس عن كلامه وعلمه . ولذلك كان سلف هذه الأمَّة من العلماء الذين اشتهروا بالعلم والفهم والتقوى لا يُقْدِمون على الفتوى أو على إملاء الكتب حتى يشهد لهم العشرات من أئمة زمانهم أنهم أهلٌ لذلك ؛ ولا يكتفون بما حصَّلوا من العلوم وجمعوا ؛ فإذا عزموا على الخوض في الكتابة والبحث توكَّلوا على الله وأخلصوا له النيَّة ، لذلك تجد كتبهم قد خلَّدها الله عزَّ وجل ونفع بها الأمة وجنَّبهم الزلل .
قدَّمت بهذا الكلام ، ليرى القارئ الكريم كيف كان نهج علماء هذه الأمة ـ وهم الفحولُ ـ من الحيطة والحرص على الأمانة العلمية ، وكيف أصبح نهج بعض المعاصرين من كتَّابنا الذين يسرعون إلى الكتابة في الأمور الجليلة ، قبل أن يتحصَّل لديهم حظ مقبول من العلم والفهم ، أو تَرْسخَ لهم قدم في مضمار العلم والنظر فيه ، بَلْهَ شهادة العلماء فيهم .
ونتيجة لذلك ضاعت الحقائق ، والتبست الأمور على الناس وظهر الجهل بلباس العلم . ولعلَّ مجالَ تحقيقِ الكُتُبِ والرسائلِ والمخطوطات ، وصحة نسبتها إلى مؤلفيها هو من أدق مجالات العلم ، ولا يتصدى له إلاّ الراسخون فيه ، ولا يجرؤ على اقتحام مسلكه إلاّ فحلٌ مقتدرٌ مشهود له بذلك ، وصدق أبو الطيِّب عندما قال:
ما كلُّ منْ طلبَ المعالي نافذًا *******فيها ولا كلُّ الرِّجالِ فُحولا
وأمَّا إذا خاض هذا المجال من هو ليس أهلاً له فإنك ستجد العجب العُجاب في عمله من تصويبٍ للخطأ ، ورفعٍ للخسيس ووضعٍ للشريف ، وجَعْلِ المتقدم يسرق من المتأخر وجعلِ الأموات يردون بالفتاوى على الأحياء!!!
وهذا ما حصل مع صاحب كتاب : "حُكم الهجرة من خلال ثلاث رسائل جزائرية" وهو :
د.محمد بن عبد الكريم ، وقد ذيَّل العنوان بقوله "دراسة وتحقيق"، وهذا الكتاب نشرته الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر 1981. وسأعرض للقارئ الكريم بإيجاز عمل د.محمد بن عبد الكريم في تحقيقه ليتبين له صدقَ ما أقول ، فأبدأ مستعينًا بالله العليم الحكيم فأقول :
أولاً : إنَّ لغة الكاتب ضعيفة وهذا واضح لكل من يقرأ الكتاب ، وإني لأعجب منه كيف يحكم على لغة الرسائل التي يحققها من حيث الرصانة والبلاغة وحسن السبك وهو لا يحسن سبك الجمل!
فانظر إلى قوله ص 8 : " ... والدليل على ذلك لم يوجد ـ الآن ـ مسلم واحد من مسلمي الأندلس بقي على دين الإسلام بأرض الأندلس" .
وإلى قوله ص 9 : " ... وأخلوا البلاد للفرنسيين ، الذين ذلك ما كانوا يبغون .."
وإلى عجيب قوله ص 11 : " ... إن فرنسا كانت عاجزة أن تجعل أرض الجزائر "دار كفر" وبسبب هذا العجز قد شاء القدر أن تبقى "دار إسلام وإيمان" . ا هـ
وأكتفي بهذه الأمثلة .
ثانياً: إذا تأمّلتَ في الحواشي التي وضعها المؤلف ليفيد القارئ بمعلومة جديدة أو ليزيل الغموض عن أمرٍ ما ، وجدتَ أنَّ كثيرًا من هذه الحواشي قد زَوَّدَت القارئ بمعلومات خاطئة وشوشت عليه الفكرة الأصلية ، وهي تدلّ على ضعف المحقق العلمي. ومن ذلك مثلاً :
أ - حاشيته رقم (1) ص 62 تعليقًا على قول الأمير عبد القادر : "قال صاحب المغني .." قال في الحاشية : ((هو كتاب في أصول الفقه ، مؤلفه أبو محمد عمر بن محمد بن عمر الخبازي الحنفي المتوفى سنة 691هـ 1292م)).انتهى
والصواب أن كتاب "المغني" : هو كتاب في الفقه على المذاهب الأربعة وغيرها لمؤلفه "ابن قدامه المقدسي" وهو من الشهرة بحيث إذا أطلق لفظ كتاب المغني انصرف المعنى إليه وهو الكتاب الذي نقل منه الأمير والنص الذي نقله موجود فيه بلفظه ، فلو أن المحقق لم يضع تلك الحاشية لكان الأمر أهون.
ب - حاشيته رقم (1) ص 95 تعليقًا على قول الإمام الونشريسي : " ... لظاهر قوله r "إنَّ الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسها" ، قال في الحاشية : ((جاء في الجامع الصغير للسيوطي : "إنَّ الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".رواه ابن ماجه)).ا.هـ ولا أدري ما وجه المطابقة بين الحديثين ، وما فائدة هذه الحاشية .
والصواب أن يقول : لفظ الحديث : ((إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به))[رواه البخاري ومسلم] لو فعل ذلك لاستفاد القارئ معنى الحديث ودرجته، ولا يكون المحقق قد تصرَّف في كلام الإمام الونشريسي! ولكنه عَدَل عنه إلى حديث آخر ضعيف، ومختلف تمامًا في المعنى، والدرجة!!([1])
ج- حاشيته رقم (2) ص 114 تعليقًا على قول ابن الشاهد : " ... يا سادتي إنَّ المساجد إنما هي أمكنة تؤدى فيها العبادات ، وليست من الدِّين ، لأن الدين عند الله الإسلام"، قال في الحاشية: ((فيه إشارة إلى قوله r :"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا"))ا.هـ
و يا للعجب أيةُ إشارة هذه!! وكيف فهم الدكتور المحقق من لفظ الحديث أن النبي r يُشير إلى أن المساجد ليست من الدين؟!!
الصواب أن يقول : وهذا القول من ابن الشاهد شنيع ومردودٌ عليه ولم يقل به أحد، وهو خلاف الدين.
وأظن أن في هذه الأمثلة كفاية !
ثالثاً : عندما ذَكَرَ المحقق مؤلفي الرسائل وهم : الأمير عبد القادر الجزائري، والإمام الونشريسي، وابن الشاهد الجزائري، وضع حاشية قدرها صفحة كاملة وهو يعدد أسماء الكتب التي ترجمت للأمير عبد القادر وللإمام الونشريسي، في حين لم يضع حاشية تشير إلى من ترجم لابن الشاهد الجزائري.
وعندما بحثتُ عن ترجمة له فإنني وقفتُ على ثلاثة رجال بهذا الاسم ولكنهم كانوا في أزمان بعيدة عن زمن كاتب الرسالة إما قبله أو بعده! فيبقى هذا الشخص غير معروف الهوية!
ثم هل من أصول التحقيق أن تُذكر المراجع التي ترجمت للشخص دون أن يُذكر في المتن أي تعريف بالشخص؟ . . . وعادةُ المحققين أنهم يترجمون للشخص ثم يضعون حاشية بالمراجع التي ترجمت له للاستزادة. وانظر ما قاله ص 5 وهو يعرِّف بالرسائل :
((إحداها :"حسام الدين لقطع شبه المرتدين" لمؤلفها أبي محمد الحاج عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى الحسني الجزائري ، المعروف بـ : "الأمير عبد القادر" صاحب كتاب "المواقف" وغيره، المتوفى سنة 1300هـ = 1883م ، ثم عدد في الحاشية ثلاثة وعشرين مرجعاً ترجمت للأمير!
وأقول : إنني لم أجد أحدًا يعرِّف الأمير عبد القادر بالصورة التي عرفه بها الكاتب المحقق . وهي صورة جامدة لا تشعر بالاهتمام ، وقد لا يخطر ببال القارئ أنّ الكاتب جزائريٌ أيضًا!
وانظر كيف يعرِّف العلماء الأمير في معرض كلامهم إذا استشهدوا بأقواله ، فضلاً على تعريفهم له في كتب التراجم ، قال علاَّمة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله، في كتابه "قواعد التحديث" ص 372 : ((وقال السيدُ الشريفُ المشتهرِ فَضْلُه في سائر الأقطار الأمير عبد القادر الحسني الجزائري ثم الدمشقي في مقدمة كتابه "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل")).انتهى
وما قُلته بشأن الأمير يقال أيضًا بشأن الإمام العلاَّمة الونشريسي الذي لم يَنَل حقَّه من التعريف والإشادة بمكانته المرموقة! وأمَّا ابن الشاهد الجزائري فلم يذكر لنا المحقق مَنْ ترجم له ولا من عرَّف به، ولكنه أفادنا ـ من عند نفسه ـ أنه مفتي الجزائر العاصمة، وأنه غزير العلم بالنسبة إلى قطره في عصره! وأنا لم أعثر له على ترجمة أو تعريف.
رابعًا: وهنا بدأ بحث الدكتور المحقق في الرسائل من حيث موضوعها، والدافع إليها والهدف منها، فقال عن رسالة الأمير عبد القادر: ((إنَّ هدف الأمير بفتواه: إرواءُ ظمأ مستفتيه وإطلاع سائله على حكم الشرع فيمن بقي تحت ذمَّة الملَّة الكافرة ، ولم يهاجر إلى دار الإسلام والتي تحت حوزته بالغرب الجزائري)) . ثم زعم أن الغرض من رسالة الأمير هو مطالبة الجزائريين بالهجرة من الجزائر وتركها للفرنسيين ، وأن بقاءهم في الجزائر المحتلة يعتبر كفرًا ورِدَّة!! . ثم قال: ((وقد اغترَّ بذلك بعض الجزائريين فهاجر بعضهم إلى المشرق العربي وبعضهم إلى تركيا وبعضهم إلى المغرب الأقصى وبعضهم إلى ليبيا وبعضهم إلى تونس ، بيد أنَّ معظمهم لم يهاجر بل بقي في مسقط رأسه يكافح ويناضل ، حتى أذن الله بفجر الاستقلال المحبوب ..)) ثم تابع يقول : ((ونجد الأمير قد أخطأ في توقعه وخاب اعتقاده))!
ثم ختم تعليقَهُ على رسالة الأمير قائلاً : ((ولا ارتياب في أنَّ فتوى الأمير عبد القادر والذين انتصروا له قد أحدثت ردودَ فعل من أهل مدينة الجزائر ولا سيما علماؤها الذين يحكِّمون عقولهم في العواقب ويقدرون الحوادث حق قدرها، ويأخذون بالحذر المطلوب شرعًا وعقلاً عندما تشتدُّ الأزمات وتتأزم الأمور، ومن بين هؤلاء العلماء السيد محمد بن الشاهد مفتي الجزائر الذي ردَّ على مَنْ كفَّر أهل ملَّته برسالة كافية شافية ، منطقية شرعية ودامغة أيضًا)).انتهى
أقول : إن بوسع القارئ لهذا الكلام أن يرى بوضوح تحامل المحقق على الأمير عبد القادر، فهو في البداية يطعن في نية الأمير، وعبَّر عن ذلك بطريقة الغمز والهمز عندما قال : ((وهدف الأمير إرواء ظمأ مستفتيه)) ثم افترى عليه وقوَّله ما لم يقل، عندما قال : ((إن الغرض من الرسالة هو طلب الهجرة من الجزائر إلى خارجها وتركها للفرنسيين ومن لم يفعل فهو كافر))!!! ، ثم في نهاية المطاف يصفه بأنه لا يحكِّم عقله في العواقب ولا يقدر الحوادث حقَّ قدرها . . . إلى آخر كلامه المُشين.
مع أنَّ القارئ البصير إذا نظر في رسالة الأمير عبد القادر وجدها تنبِّه إلى مسألة أساسية وهي إنكار الأمير على بعض الجزائريين موالاتهم للكفار وتوددهم إليهم وتعاونهم معهم ضد إخوانهم المسلمين، ورفضهم للانضمام إلى جماعة المسلمين وإمامهم لمجاهدة الكفار، والدليل على ذلك ما قاله الأمير في الرسالة ص 48 :
1- ((...لأن أهلَ هذا الوقت كانوا يتمنَّون مجيء النصارى ويطلبونه ليجاهدوا فلمَّا ظهر الجهاد نكصوا على أعقابهم ، فهم في هذا كبني إسرائيل{إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}([2])، ثم بعد هذا أرادوا من سلطانهم أن يجاهد وحده ويتكلف ردَّ العدو عنهم وحده فهم في هذا أيضًا كبني إسرائيل إذ قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}([3])،ثمَّ بعد هذا صاروا ردءًا لِعَبَدَة الأصنام ومعينين لهم إمَّا بالنفس أو بالأموال، أو بهما، على من بقي مستمسكًا بعروة الإسلام)).انتهى
2- وكذلك قوله ص 54 : ((.. فاحذر من مخالطة الكفَّار وموالاتهم وموادَّتهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُم أَولِيَاءَ تُلقُونَ إِلَيهِم بِالمَوَدَّةِ وقد كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ..}([4]) ،وقال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عن الَّذِينَ قَاتَلُوكُم في الدِّينِ وأخرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُم وظَاهَرُوا على إِخرَاجِكُم أَنْ تَوَلَّوْهُم ومَنْ يَتَوَلَّهُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}([5]) ، وقال تعالى : {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُم عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}([6]).فهذه الآي القرآنية كلها ، أو أكثرها ، نصوص في تحريم الموالاة الكفرانية)).انتهى
3- وقوله ص 63 : ((وأمّا الذين يعتضدون بالكفار ويطلبون منهم الغزو على المسلمين ويستجيشون بهم فهم مرتدون ـ والعياذ بالله ـ قال البرزلي في "موازنه" : "أحفظُ أنّ أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين استفتى علماء "العدوة" في المعتمدِ بن عبَّاد فاتَّفقت فتواهم على أنَّ مجرد الاستجاشة بالكفار على المسلمين ردة")).انتهى
4- وقوله ص 61 : ((ومن شنيع حمق هؤلاء وضعف عقولهم أنهم يسمُّون طاعتهم للكفار مهادنة! وهل يسوغ لمن له أدنى عقل أن يتلفظ بذلك؟! كيف وأحكام الكافر وشرائعه وتصرفاته جاريةٌ على شريفهم ووضيعهم ، ويؤدُّون إليه المغارم ، ويحملون أثقاله إذا أراد الغزو على المسلمين ويقاتلونهم معه ، هذا ـ والله ـ لهذيانٌ لا يُعقل)).انتهى
وبعد كل هذا البيان من الأمير رحمه الله ـ لمسألة رفضِ بعض الجزائريين الانضمام لأميرهم وقائدهم والجهاد معه ولمسألة موالاتهم للكفار ـ يزعم المحقق الدكتور أن الأمير يطلب من الجزائريين الهجرة من الجزائر وتركها للفرنسيين وإلا فهم كفرة!! وليته ساق لنا شاهدًا واحدًا من رسالة الأمير يُفْهَمُ منه هذا الكلام الذي زعمه!
لقد حذَّر "الأمير عبد القادر" الجزائريين المتعاونين مع الفرنسيين والموالين لهم من خطورة فعلهم هذا ، وما يترتب عليه من عقوبة في الدنيا والآخرة وطالبهم بترك المناطق الخاضعة للاحتلال الفرنسي والانضمام إلى إخوانهم المسلمين في المناطق الخاضعة لحكم الأمير ، وشبَّه لهم ذلك بالهجرة من دار الكفر والحرب إلى دار الإسلام ، واستدل بفتوى الإمام مالك رحمه الله عندما قال: "تجب الهجرة من أرض الظلم والعدوان فكيف ببلد يكفرُ فيه بالرحمن". وهذا ما استنكره محققنا الفاضل!!!
مع أنه في مقدمة الكتاب ذكر تحت عنوان، علل وجوب الهجرة ، ما نصه : ((… ويلحق بعلة منع إقامة الدين علةُ الفسق والبدعة والمجاهرة بالمنكرات… وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال : "تهجرُ الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقرُّ فيها" واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه من أرض معاوية حين أعلن بالربا فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها ، رواه أهل الصحيح . وقال ابن العربي : قال ابن القاسم : سمعت مالكًا يقول : "لا يَحِلُّ لأحد أن يقيم ببلد سُبَّ فيها السلف" وهذا صحيح)).انتهى
فالعجب كل العجب من صنيع المحقق الدكتور كيفَ يجعلُ هذا الكلام أصلاً يُحتجُ به ودليلاً يُسْتَدَلُّ به ، ثم بعد ذلك ينكر على الأمير مثل ما صنع!!
ثمَّ إنَّ مطالبة الأمير للجزائريين بالهجرة إليه مطالبة شرعية لعدة أسباب :
1 ً- لأنها معتمدة على أدلَّة شرعية من الكتاب والسنة وفتاوى كل من سبق من العلماء .
2 ً- لأنه أميرهم وحاكم البلاد .
3 ً- لخوفه عليهم من الافتتان بالعدُو الكافر.
4 ً- لأنهم كانوا يقدِّمون المساعدات للعدو الفرنسي طوعًا وكرهًا، وهذا لا يجوز شرعًا.
5 ً- للاستعانة بهم على مجاهدة العدو الكافر، وهذا مأمور به شرعًا.
6 ً- لأنهم إن فعلوا ذلك أضعفوا العدوَّ واستبرؤوا لدينهم وعرضهم وأطاعوا إمامهم وهذا
هو المطلوب شرعًا.
وقد بيَّن الأمير في رسالته ، الأحكام الشرعية وأدلتها وأقوال الأئمة فيها على وجهٍ كافٍ شافٍ وأنصحُ كل مسلم بقراءتها .
- والتحقيق في المسألة، الذي كان يجب على الدكتور المحقق أن يقوم به ويوضح للقارئ سبب هذه الرسالة والدافع لها، هو: أن بعض القبائل الجزائرية خانت أميرها ولجأت للمستعمر الفرنسي وقدمت له الطاعة الكاملة، ورضيت به حاكمًا، وصار رجال هذه القبائل أداةً في يده يوجههم حيث يشاء وكونهم يعرفون البلاد ومسالكها استطاعوا أن يتسبَّبوا بالكثير من الأذى لدولة الأمير التي كانت فتيةً في حينها.
يقول الأمير شكيب أرسلان:
((... فجعل عبد القادر عاصمتَه مدينة معسكر، ورتَّب جنوده وباشر القتال، ولم يكن قتاله قاصرًا على الفرنسيين فحسب، بل اضطر أن يقاتل حُسَّادَه ورُقباءه من أهل البلاد أنفسهم، فقام بجميع ذلك أحسن قيام ... ولما كان الحسدُ والمنافسةُ هما أقتل أمراض المسلمين بحيث لا تثقلُ عليهم سلطةُ الغريب كما تثقل سلطة أخيهم، ثار على الأمير قبيلتا الدوائر والزمالة، وانضمتا إلى فرنسا، فطلب تسليم رؤسائهم إليه، فأبى الجنرال "تريزل" ذلك فبرز عبد القادر إلى القتال وانتصر على الفرنسيين في يوم المقطع ... وخضع له أهل هاتيك الأطراف ما عدا المرابط محمد التيجاني الذي أبى الاعتراف بإمارته فزحف عبد القادر بنفسه إلى (قصر عين ماضي) وحصره وبعد حصار خمسة أشهر افتتحه مع أنه حصنٌ منيع لم يتمكن الأتراك طول مدة حكمهم في الجزائر أن يدخلوه ..)).انتهى ([7])
وبسبب هذه الوقائع المؤلمة بدأ الأمير عبد القادر توجيه رُسُله إلى علماء المسلمين ليستفتيهم، وكانت أول رسالة يبعثها إلى سلطان المغرب لاستفتاء العلماء سنة 1252هـ وقد كلَّف السلطانُ عبد الرحمن بن هشام، الإمامَ علي بن عبد السلام التسولي المالكي الإجابة عن أسئلة الأمير .
يقول محمد باشا: ((قد كان الأمير يعاقب من يقع في أيدي ضباط الثغور من أشقياء المتنصِّرة كالدواير والزمالة والبرجية وغيرهم ممن يواصلُ العدُوَّ ويتسلل إلى مدنه بما اختلسه من المسلمين من عروض وماشية ، بما دون القتل إلا من تحقق ضرره للمسلمين ، فكان يأمر بقتله ، ثم بدا له أن يستفتي المحققين من علماء مصر وفاس في شأنهم وشأن مانعي الزكاة، والإعانة التي افترضها للقيام بأمر الجهاد وغير ذلك مما اضطره الحال إلى السؤال عنه تأكيدًا لحجته وتوطيدًا لمحجته، فأمر بتجهيز هدية عظيمة ذات قدر وقيمة واختار السيد ابن عبد الله سقَّاط لإيصالها إلى سلطان المغرب الأقصى)).انتهى([8])
- فالقارئ الكريم يرى بوضوح من خلال النصوص السالفة أنَّ المشكلة هي مشكلة القبائل العَمِيلة والخائنة والمتنصِّرة! كالدواير والزمالة والبرجية.
وقد جاءت فتوى الإمام التُسولي في كتابٍ بعثَهُ للأمير عالج فيه مسائل كثيرة منها :
1- ما يُفعل مع قبائل الزمان المنهمكين في المحرمات والعصيان .
2- في دليل عقوبة كاتم الجواسيس والغصَّاب وغيرهم ممن يستحق العقاب .
3- في حكم من ساكن العدوَّ الكفور، ورضي بالمقام معهم فيما لهم من البلاد والثغور.
وهذا الكتاب مثبتٌ في كتاب تحفة الزائر . ثم قام بدراسته وتحقيقه وطبعه مستقلاً الأستاذ عبد اللطيف أحمد الشيخ محمد صالح ( دار الغرب الإسلامي ) وهو مشكور على عمله المتقن .
ـ وأمَّا الفتوى الثانية فكانت فتوى الإمام عبد الهادي العلوي الحسني قاضي القضاة بفاس سنة 1256هـ :
((ولمّا رأى الأمير أنَّ بعض القبائل في الساحل القريبة بلادُهم من المدن التابعة للعدو مالوا إلى طاعته والدخول تحت ظلِّه وحمايته، أرسل إليهم من العلماء والأشراف من يعظهم ويحذرهم من مقت الله تعالى وغضبه، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا فيهم، ثم هددهم وأوعدهم وأمرهم بالخروج من مواطنهم واللحوق بإخوانهم المسلمين في الداخلية، فلم يقبلوا وتمادوا على ما هم عليه، فاعتزم حينئذٍ على غزوهم والفتك بهم، ثم توقف في شأنهم واستشار الفقهاء في أمرهم وبعث إلى قاضي فاس في ذلك لينظر ما عنده فيه، وزاد أسئلة أخرى عن أشياء متفرقة عرضت له ونصُّ ما كتبه إليه : ))الحمد لله حقَّ حمده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، من خادم المجاهدين والعلماء عبد القادر بن محي الدين إلى الشيخ الإمام علم الأعلام السيد عبد الهادي العلوي الحسني قاضي القضاة بفاس المحمية، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فما حكم الله في الذين دخلوا في طاعةالعدو الكافر باختيارهم وتَوَلَّوهُ، ونصروه، يقاتلون المسلمين معه ويأخذون مرتبة كأفراد جنوده، ومن ظهرت شجاعته في قتالهم للمسلمين يجعلون له علامة في صدره يسمونها "لتور" عليها صورة ملكهم! هل هم مرتدون أم لا؟ وإن قلتم بردتهم فهل يستتابون أم لا؟)).انتهى([9])
فأجاب القاضي عبد الهادي العلوي الأمير بفتوى شاملة ومفيدة، وهي مثبتة في كتاب تحفة الزائر وقد ذكر فيها أن أكثر الفقهاء أفتوا بردَّة من لاذ بالنصارى وقاتل معهم، ومنهم من لم يحكم بالردة، ثم تابع الكلام عن حكم سبي ذراريهم وأخذ أموالهم وغير ذلك.
ولما انقلب سلطان مراكش على الأمير وبدأ بالتعاون مع الفرنسيس، كتب الأمير رسالةً إلى السلطان وهذا نصها : ((... أما بعد : فإني كاتبتكم أولاً والتمست منكم كفَّ ضرر قبائلكم المجاورة لنا وتعديها على من تبعني، وسوء معاملتهم لهم لأنهم كلهم أولاد دين واحد وشريعة واحدة، فلم يأتني جواب عن ذلك ولم يحصل لهم ردعٌ من طرفكم ومع هذا كلِّه أنا صابرٌ ومتحمِّلٌ لما يجرونه كراهةَ سفكِ دماء المسلمين مدة ستة أشهر طمعًا في رجوعهم عن البغي والطغيان إلى العدل والإحسان مع قدرتي عليهم في كلِّ آن . فإن لم تردعهم الآن عن أفعالهم وترجعهم عن قبيح تصرفاتهم، ألتزمُ المحاماة عن حقوقي والمحافظة على شرف أتباعي ولذا بادرت بإخباركم والسلام عليكم)).انتهى([10])
وكتب الأمير إلى علماء مصر يستفتيهم في ذلك ونصه :
((... من خديم المجاهدين والعلماء والصالحين عبد القادر بن محي الدين إلى سادتنا العلماء الأبرار الأفاضل الأخيار رضي الله عنكم وأرضاكم وجعل الجنة منزلكم ومثواكم . . .جوابكم عما فعله بنا سلطان المغرب من المنكرات الشرعية التي لا تتوقع من مطلق الناس فضلاً عن أعيانهم فأمعنوا نظركم فيها شافيًا وأجيبونا جوابًا كافيًا ، خاليًا عن الخلاف ليخلو قلب سامعه عن الاعتساف …)).انتهى([11])
فأجابه العلامة الشيخ محمد عليش مفتي المالكية بالديار المصرية قائلاً :
((نعم يحرم على السلطان المذكور، أصلح الله أحواله، جميع ذلك الذي ذكرتم حرمته معلومة من الدين بالضرورة لا يشك فيها من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان …)).انتهى([12]) وسؤال الأمير بتمامه، وجواب الشيخ عليش بكماله ، مثبتان في كتاب "تحفة الزائر"، وكذلك في كتاب "فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" ـ المكتبة التجارية ص 328.
- وبعد هذا العرض الموجز للمشاكل التي واجهت الأمير عبد القادر، وكيف تعامل معها يظهر للقارئ البصير أنَّ الأمير ما كان ليقدم على أمر ذي بال ، إلا بعد أخذ المشورة والفتوى من علماء بلده وسائر بلاد المسلمين ، وكذلك يظهر للقارئ أنَّ الأمير رحمه الله لم يكن مفتيًا، ولا يُصدر الفتوى، بل كان حاكمًا قاضيًا يستفتي العلماء ، ويُمضي الأحكام الشرعية كما نصَّ عليها الفقهاء . وهذه الرسالة التي كتبها الأمير، ما هي إلا جواب عن سؤال قدمه إليه بعض الأعيان من خواصِّه يستفهم منه حكم هؤلاء العملاء والخونة والراكنين لأهل التثليث (كما جاء في مقدمة الرسالة) وهذا الجواب كان تلخيصًا لمجموع تلك الفتاوى التي حصل عليها الأمير من فقهاء المسلمين ، وتبسيطًا لعرضها . وقد أحسن الأمير رحمه الله في بيان المقصود بعبارة واضحة ، وأسلوب سهل وممتع ، كيف لا وهو الأديب الشاعر!
وكل الأحكام الشرعية التي ذكرها ضمن الرسالة هي أحكام صحيحة وإسقاطاتها موفَّقة ومناسبة للواقع الذي كان يعيشه ، وهي مستندة إلى مذهب الإمام مالك رحمه الله، وقد حرَّرها أئمةُ المذهب المتقدمون والمتأخرون ولا خلاف بينهم فيها .
إذن فالأمير ينقل فتاوى العلماء الصادرة بخصوص الوضع في الجزائر في زمنه ولا يقلِّد فتاوى العلماء في العصور القديمة كما زعم المحقق، وكان الفراغ من كتابة تلك الرسالة سنة 1258هـ . ولم تكن موجهةً لأي جهة سوى السائل وهو من الخواص.
خامسًا: وأمَّا الرسالة الثانية وهي رسالة الإمام العلاَّمة الوانشريسي، فقد زعم المحقق أنها تختلف عن رسالة الأمير في الحكم والهدف ، ثم قال إنَّ الونشريسي قد أصاب المحزَّ ولم يخطئ في توقُّعه ، ورسالتهُ رسالةٌ عظيمة مفيدة على خلاف رسالة الأمير!!
ولا أدري على أي شيء استند المحقق في زعمه ذلك، فإن القارئ إذا نظر في نصِّ السؤال الموجه للإمام الونشريسي، فسيجد أنَّ المسألة ليسَت كما زَعَم .
وإليكم نص السؤال الذي وجِّه للونشريسي :
((الحمد لله وحده ... جوابَكم ـ يا سيدي ، رضي الله عنكم ، ومتَّع المسلمين بحياتكم في نازلة وهي : أنَّ قومًا من هؤلاء الأندلسيين الذين هاجروا من الأندلس وتركوا هناك الدور، والأرضين، والجنات والكرمات وغير ذلك من أنواع الأصول وبذلوا على ذلك زيادة كثيرة من فائض المال، وخرجوا من تحت الملَّة الكافرة وزعموا أنهم فروا إلى الله سبحانه بأديانهم، وأنفسهم وأهليهم وذريَّاتهم وما بقي بأيديهم أو أيدي بعضهم من الأموال، واستقروا بحمد الله سبحانه، بدار الإسلام تحت طاعة الله ورسوله وحكم الذمَّة المسلمة، ندموا على الهجرة بعد حصولهم بدار الإسلام وسخطوا، وزعموا أنهم وجدوا الحال عليهم ضِّيقة وأنهم لم يجدوا "بدار الإسلام" التي هي دار المغرب هذه ، صانها الله ، وحرس أوطانها ونصر سلطانها ـ بالنسبة إلى التسبب في طلب أنواع المعاش على الجملة ـ رفقًا ولا يسرًا ولا مرتفقًا، ولا إلى التصرف في الأقطار أمنًا لائقًا، وصرَّحوا في هذا المعنى بأنواع من قبيح الكلام، الدال على ضعف دينهم وعدم صحة يقينهم في معتقدهم وأن هجرتهم لم تكن لله ورسوله كما زعموا، وإنما كانت لدنيا يصيبونها ، عاجلاً عند وصولهم ، جارية على وفق أهوائهم فلمَّا لم يجدوها وفق أغراضهم صرَّحوا بذمِّ "دار الإسلام" وشانه، وشتم الذي كان السبب لهم في هذه الهجرة ، وسبِّه، وبمدح دار الكفر وأهله والندم على مفارقته ... وحفظ عن بعضهم ـ أيضًا ـ أنهم يرومون إعْمَالَ الحِيلَة في الرجوع إلى دار الكفر معاودة للدخول تحت الذمَّة الكافرة كيفما أمكنهم . فما الذي يلحقهم في ذلك من الإثم ونقص رتبة الدين والجرحة؟...)).انتهى([13])
وبوسع القارئ أنْ يلمس أنَّ مفهوم الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام واضح عند السائل ولكنَّ المسألة في الذين ندموا على الهجرة وتمنوا العودة للعيش تحت الذمَّة الكافرة . أي إن المسألة هي الموالاة الكفرانية والرضى بالكفر. وهي المسألة ذاتها التي تعرَّض لها الأمير عبد القادر رحمه الله في رسالته . وانظر إلى جواب الإمام الونشريسي ، وسأنقل لك مقتطفات منه .
قال رحمه الله : ((... إنَّ الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل بظلم أو فتنة… )).([4])
وقال: ((... ولا يُسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية لعنه الله على معاقلهم وبلادهم ، إلا تصورُ العجز عنها بكل وجه وحال . لا الوطن والمال! فإنّ ذلك كله ملغى في نظر الشرع.. ))([15])
وقال: (( فلا تجد في تحريم هذه الإقامة وهذه الموالاة الكفرانية مخالفًا من أهل القبلة المتمسكين بالكتاب العزيز… ))([16]).
وقال : ((.. ثم لمّا نبغت هذه الموالاة النصرانية في المئة الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة ، وقت استيلاء ملاعين النصارى دمَّرهم الله على جزيرة "صقلية" وبعض كور الأندلس سُئل عنها بعض الفقهاء واستفهموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها، فأجاب: بأن أحكامهم جارية على أحكام من أسلم ولم يهاجر…وذلك لأنهم في موالاة الأعداء ومساكنتهم… بمثابة واحدة..))([17])
وقال : ((.. وإذا تقرر هذا فلا رخصة لأحد ممن ذكرت في الرجوع ولا في عدم الهجرة بوجه ولا حال ، وإنه لا يعذر مهما توصل إلى ذلك بمشقة فادحة أو حيلة دقيقة ، بل مهما وجد سبيلاً إلى التخلُّص من ربقة الكفر..))([18])
ثم قال : ((... وأمّا ما ذكرت عن هؤلاء المهاجرين من قبيح الكلام ؛ وسبِّ دار الإسلام وتمني الرجوع إلى دار الشرك والأصنام ، وغير ذلك من الفواحش المنكرة التي لا تصدر إلا من اللئام ، فإنه يوجب لهم خزي الدنيا والآخرة ، وينزلهم أسوأ المنازل ، والواجب على من مكَّنه الله في الأرض ويسَّره لليسرى أن يقبض على هؤلاء وأن يرهقهم العقوبة الشديدة والتنكيل المبرح ضربًا وسجنًا حتى لا يتعدوا حدود الله ..))([19])
وأما زعم المحقق أن الإمام الونشريسي لم يحكم بكفر هؤلاء فانظر إلى جواب الونشريسي قال رحمه الله : ((فإن محبَّة الموالاة الشركية والمساكنة النصرانية ، والعزم على رفض الهجرة والركون إلى الكفار والرضا بدفع الجزية إليهم، ونبذ العزة الإسلامية والطاعة الإمامية، والبيعة السلطانية، وظهور السلطان النصراني عليها وإذلاله إيَّاها ؛ فواحشُ عظيمة مهلكة قاصمة للظهور تكاد أن تكون كفرًا والعياذ بالله..))([20])
ـ ثم زعم المحقق أن الونشريسي قد أصاب المحزَّ في فتواه وذلك لعدة أسباب :
أولها؛ أن أرض الأندلس قد أصبحت دار حرب وكفر في عصره ، بدليل أن المسلمين هناك كانوا يمنعون من تأدية شعائر دينهم ، إلا خفية . . .
ثانيها؛ أن الإسبان بدؤوا يُنَصِّرون المسلمين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وكل ذلك لم يكن في الجزائر لذلك أخطأ الأمير عبد القادر عندما قاس الوضع في "الجزائر" على الوضع في "الأندلس".
وأقول :
إنَّ كلام الدكتور المحقق غير صحيح وغير دقيق، لأن الإمام الونشريسي كان يشدد على الأندلسيين في شأن الهجرة بعد سقوط غرناطة، وكان يذكِّرهم بالحال التي آلت إليها جزيرة "صقلية" وغيرها من المدن . كما جاء في جوابه عندما سئل عن ذلك، وجوابه مثبت في كتابه "المعيار المُعْرِب" 2/137.
وانظر إلى قول الونشريسي: (( … ومنها الخوف من سيران سيرهم، ولسانهم، ولباسهم وعوائدهم المذمومة إلى المقيمين معهم بطول السنين، كما عرض لأهل" آبُلّة " وغيرهم وفَقَدُوا اللسان العربي جملةً وإذا فُقد اللسان العربي جملةً فُقِدَت مُتَعَبَّدَاته .. ))([21]).
ثم استشهد الإمام الونشريسي بما روي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال : ((..وقد روي أن عمر بن عبد العزيز نهى عن الإقامة بجزيرة الأندلس، مع أنها كانت رباطًا لا يُجْهَل فضله، ومع ما كان المسلمون عليه من القوة والظهور ووفور العَدَدِ والعُدَد لكن مع ذلك نهى عنه خليفة الوقت المتفق على فضله ودينه وصلاحه، ونصيحته لرعيته خوف التغرير، فكيف بمن ألقى نفسه وأهله وأولاده بأيديهم عند قوتهم وظهورهم وكثرة عَددهم ووفور عُددهم، اعتمادًا على وفائهم بعهدهم في شريفهم، ونحن لا نقبل شهادتهم بالإضافة إليهم، فضلاً عن قبولها بالإضافة إلينا، وكيف نعتمد على زعمهم بالوفاء مع ما وقع من هذا التوقع ومع ما يشهده له من الوقائع عند من بحث واستقرى الأخبار في معمور الأقطار ..)).انتهى([22])
وعلى طريقة المحقق الدكتور، في التحليل والتفكير، فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز قد خاب توقعه وأخطأ في فتواه؛ لأن الأندلس دامت بعده ثمانية قرون بيد المسلمين، ولكن الدكتور المحقق محمد بن عبد الكريم لا يفرِّق بين الفتوى الخاصة بوقائع معينة وأزمنة محدودة، والتي يجب على الفقهاء اتخاذُها وعلى الحكَّامِ إمضاؤُها ، وبين سَيْر التاريخ ودورة الزمن ، وقضاء الله تعالى في أرضه وعباده!
وأمّا صورة الأوضاع في الجزائر في عصر الأمير عبد القادر فيوجزها لنا الأمير شكيب أرسلان فيقول :
((... ولقد كان الفرنسيس يظنون أنَّ الواسطة الوحيدة لنزع فكرة الاستقلال من رؤوس الوطنيين، وإماتة روح المقاومة، هي ملاشاة التعليم الإسلامي، وطمس معالم الشريعة التي يظنونها هي وحدها موقدًا للحمية الأهلية ... وجعلوا المسلمين هم الطبقة الدنيا في السياسة والإدارة والاجتماع وكل شيء . وقَصَروا إمتاعهم بالحقوق ـ التي يتمتع بها كل الخلق من سواهم ـ على تجنسهم بالجنسية الفرنسوية وقبولهم القانون الفرنساوي الذي يصادم الشريعة في كثير من الأحوال الشخصية ، بحيث لا يقدر المسلم أن يقبل العمل به إلا بعد أن ينزل عن إسلامه . وجعلوا كثيرًا من التمتع بالنعم والأعطية والمكافآت موقوفاً على التنصُّر. ولم يُرقَّ الجنرال (يوسف) رتبة جنرال إلاّ على هذا الشرط))!! ويتابع فيقول : (( … القانون الذي تمنح بموجبه في الجزائر الهبات العقارية للأوربي ولليهودي والجزائري الذي يرضى أن يتنصَّر ... ))
(( ولم يجتزئ الفرنسيس بهذه الوسائل الرسمية لتزهيد المسلمين في الاستمساك بعروة شريعتهم، بل فسحوا المجال للبعثات الدينية، وعضدوا "الكردينال لافيجري" في بث مرسليه الملقبين بالمرسلين البيض، والتقطوا كثيرًا من أطفال الفقراء من المسلمين وأيتامهم ونشَّؤوهم في المدارس الدينية)) ، (( ... ومما لا ينبغي أن ننساه أن الفرنسيين قلبوا كثيرًا من مساجد الإسلام في الجزائر كنائس فجامع "القشاوة" في نفس مدينة الجزائر هدموه وبنوا محله كنيسة، والمسجد المسمى بمسجد "ميزوّمرتو" حولوه كنيسة ، وكثير من الجوامع حولوها ثكنًا عسكرية وأنبارًا وكان في مدينة الجزائر يوم فتحوها 176 مسجدًا وزاوية فلم يبق منها إلا 48 فقط ! وأمّا الأوقاف وما استولوا عليه منها فذلك شرحه طويل ... وحسبك أنَّ ستمئة ألف ولد من أولاد الجزائريين لا يجدون مكتبًا يتعلمون فيه القراءة ، من أصلهم ستة آلاف في نفس مدينة الجزائر . وأمّا عدد الأطفال الذين ربّاهم الكردينال لافيجري وحده في الديانة المسيحية فكان أربعة آلاف يتيم مسلم!!! . وأما عدد الرجال الجزائريين الذين قتلوا في الحرب العالمية فداءً لفرنسا فكان نحو اثنين وستين ألفٍ . . )).انتهى([23])
وأقول :
أليس يكفي من العار أن يجهل باحثٌ جزائريٌّ تاريخ بلاده وما جرى فيها حتى يضيف إليه عارًا آخر وهو تجهيل الآخرين العالمين بتاريخ بلادهم وأحكام دينهم ، والتَّهكم بهم؟!
- لو امتثل الجزائريون، الخاضعون للحكم الفرنسي، طلبَ الأمير عبد القادر لكان خيرًا لهم، أفلا ترى إلى رفضهم الانضمام لسلطان الأمير وجيشه، ورضاهم بالبقاء تحت الحكم الفرنسي وما جرَّ من ويلات ومن احتلالٍ دام أكثر من مئة وثلاثين عامًا!!
فإن مساكنتهم للعدوِّ الكافر مكَّنت العدوَّ من استمالة كثير منهم، وشراء ذممهم، وتنصيرهم واتخاذ وجهائهم عملاء له . في حين أنهم لو انضموا للأمير لنجوا بدينهم ، ولفَوَّتوا على الكفار فرصة الاستفادة منهم ولأعانوا إخوانهم المجاهدين على طرد المستعمر فكلنا يعلم أن سبب تفوُّقِ الفرنسيين على الأمير في نهاية جهاده ، وقضائهم على دولته هو المعلومات والخدمات والخيانات التي قدّمها العملاء والخونة من الجزائريين . وما كان للفرنسيين أن يظفروا بذلك النصر دونهم . وها هم قد صدق فيهم ما قاله الإمام الونشريسي ، فقد فقدوا لسانهم العربي وصار جُلُّ كلامهم بالفرنسية وصارت العربية غريبة عليهم كالعجمية .
ولولا الصحوة الإسلامية التي منّ الله بها على الجزائريين في نهاية الاستعمار والتي كانت على أيدي رجالٍ من أمثال ابن باديس والإبراهيمي، لكان التخلص من ربقة المستعمر الكافر أمرًا بعيد المنال .
- وأعود لأنبِّه على أمرٍ هام وهو : أن الأمير طالب الجزائريين النازلين تحت حكم النصارى المستعمرين ، بالهجرة إليه والانضمام لجيشه ، ولم يطالبهم بالهجرة إلى المشرق وتركيا وتركِ الجزائر بالكلية وترك الجهاد لطرد المستعمر، كما زعم محققنا الفاضل ولا أدري كيف ساغ له هذا الكلام؟ والأمير كان قد فرغ من كتابة رسالته سنة 1258هـ وله من العمر 36 عامًا وبقي بعدها يجاهد الفرنسيين إلى سنة 1264هـ وله من العمر 42 عامًا . فلماذا بقي الأمير يجاهد ولم يهاجر، كما يرى المحقق؟!!
سادسًا: وأمَّا الرسالة الثالثة فهي رسالة : مفتي الجزائر الشيخ محمد بن الشاهد الذي كان مقيمًا في العاصمة "الجزائر" تحت الحكم الفرنسي، وقد زعم المحقق أنَّ هذه الرسالة هي ردٌ من ابن الشاهد على رسالة الأمير عبد القادر ؛ علمًا بأنها نُسخت سنة 1282هـ ومؤلفها ابن الشاهد، مات سنة 1253هـ؟!
وقد نالت هذه الرسالة ، من المحقق د.محمد بن عبد الكريم ، الحظ الأوفر من المدح والثناء والتعظيم لها ولِمُمْليها ابن الشاهد ، فقد قال عنها في المقدمة : ((رسالة كافية شافية منطقية شرعية، ودامغة أيضًا ، وقد احتوت على ميزات قلَّما توجد في غيرها . منها : سلاسة الأسلوب في جملها، وحسن السبك في مفرداتها، فلا مغالاة إن عددناها من رسائل النثر الفني بلاغة وإيقاعًا وهي مرتبة الأفكار وأصابت المحز، وعقلُ صاحبها عقلٌ ناضج وتفكيره سليم، وهي غزيرة العلم وكاتبها يتمتع بالثقة بالنفس)) . ثمّ ختم تعريفه بها بقوله : (( ومهما كان من أمر فإن رسالة ابن الشاهد تفوق رسالتي الأمير عبد القادر، وقدور بن رويلة .. بحُسْن السبك ودلالة الإقناع وحصول النتيجة . . . )).انتهى
- وأقول : إنني لا أدري ما سرُّ هذا المدح والتعظيم والإعجاب بابن الشاهد ورسالته؟
لأنَّ أوَّل ما يلفت نظر القارئ في رسالة ابن الشاهد هو كونها باقةً من الشتائم والإهانات والتهكمات والتحقير والتسفيه والطعن وما أشبه ذلك ، لكنّها نُظِمَت نظمًا مسجوعًا منمَّقًا ولعلَّ هذا الذي جعل المحقق يُعجب بها ويصفها بأنها من رسائل النثر الفني بلاغةً وإيقاعًا .
ودونكم بعض الأمثلة :
قال ابن الشاهد في أول رسالته : ((... ثم تَحُومونَ فيها حول تكفيرنا بسبب مُكثنا في هذه البلدة وعدم انتقالنا، فرَشَقتُمونا بسهام واهية أنشأَتها تخيلات أوهام هي عن اتباع الحق ساهية وبارتكاب الدعوى ومتابعتها للهوى لاهية، فأنتج لكم أنَّكم بمعزلٍ عن غرض الإصابة وأنكم من العلم في غاية البعد ومن الجهل في غاية القرابة، ولكن لما جَرَتْ بحور الأغراض بأفكاركم، وهاجت بقلوبكم أمواجُ الحقد والحسد حتى ظهرت من بين أظفاركم، عمدتم إلى تكفيرنا من غير استناد لدليل تقوم به الحجة ويشفى به غليل العليل، بل أتيتم بدلائل تخيَّلتم ، بتخيلاتكم الفاسدة وأفهامكم الرَّاكدة وأذهانكم الجامدة ، أنها تقوم علينا بها الحجة…))([24])
ثم قال : ((… كأنكم خشيتم أن يتفطن خصمُكم لما تقوم الحجة عليكم ، ويتم مُناه فيستضيء بأنوار العلم جبينه وتسودّ بسواد الجهل منكم الجباه . . . ))([25])
وقال ص113: (( ولكن عين الرضا منكم ضريرة، وعين السخط منكم منيرة، فلا يمكنكم أن تروا إلا المعائب وهذا في حقكم من أعظم المصائب، فلو أراد الله بكم خيرًا لعكس منكم العينين فتصفوا إذن منكم القلوب ولا تتعرضون لذكر المساوي والعيوب ولكن: {من يضلل الله فلا هادي له} .
وقال ص120: ((… من تلك الرسالة التي شددتم لها رحالكم ، وفَرَّحتم بالتَّفكه بها نساءكم ورجالكم ، قد تعرضنا لرده، وأبطلنا أُنسكم بفقده، ولولا خشية اعتقاد العامَّة صحته لكان الواجبُ أنْ يرمى في زوايا الإهمال، لأنه محض شُبَه وتلبيس وخيال لا يمكن أن يصدر عن النساء فضلاً عن مطلق الرجال ، ونقول بعد ظهور الحق واستيفائنا المقال: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} .
وقال ص121: ((لأنَّ هذا، لعمري، غاية الإقدام ، حيث استسهلتَ ارتقاء لمراقيها التي تزِلّ بها الأقدام مع عدم إتقانك للعلوم، وعدم تفرقتك بين المنطوق والمفهوم فكان الأحق ، والله ِ، أن تلزَمَ زوايا الخمول وتَسْلُك طريق التخلي عن الجَوَلان في مهامه الفضول وأن لا تجوس خلال هذه الديار، إلا إذا ركبت جواد السبق لذلك المضمار، كي تخلّص نفسك من ارتكاب هذه البشاعة ومن الوقوف بسوق النفائس مع فراغ ذات اليد وقلّة البضاعة))
ـ وقد علَّق على هذا الكلام المحقق الهُمام فقال ص15 من كتابه : ((إنها لتشبيهات بليغة مغشاة بطلاء السخرية والتهكّم ، وإنها لاستعارات جميلة جاءت في معرض الاعتداد بالنفس والاستعلاء على الخصم . ومثل هذا الأسلوب كثيرًا ما أفحم الخصوم ، وأوقعهم في "حيص بيص" بل كبَّل ألسنتهم، وبلبل أفكارهم ، وهم لا يشعرون)).انتهى
وأجدني غير مضطر للتعليق على هذا الكلام ، فسخفه ظاهرٌ، ولكنه يدلُّنا على نفسيَّة وعقليَّة المحقق ، وعلى السبب الذي لأجله أُعجب برسالة ابن الشاهد!!
وأمَّا من حيث غزارة العلم الفقهي في الرسالة وترتيب الأفكار وإصابة المحزّ بمقدمات واضحة المعالم واستنتاجات حاسمة لأسئلة السائل ، كما زعم المحقق فدونك مثالاً عليه : قال ابن الشاهد ص 114 :
((.. أي وكيف ندعي أننا متمكنون من إقامة ديننا مع هدم بعض المساجد، وتعطيل بعض آخر، وحفر المقابر، إلى غير ذلك ، فنقول: يا سادتي: إن المساجد إنما هي أمكنة تؤدى فيها العبادات، وليست من الدِّين ، لأن الدين عند الله الإسلام، والإسلام فسّره النبي بقوله : ".. شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ..." إلى آخر الأركان ، فظهر من تفسيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بهذه الأشياء أن الإسلام عبارة عن أفعال مخصوصة بعضها يُنسب للسان ، وبعضها ينسب للأركان فيلزم منه أن الدين عبارة عن تلك الأفعال المذكورة ، وهي تؤدَّى في المساجد ، والمساجد إنما هي أمكنة لها ، أي لتلك العبادات . ومعلومٌ أن المكان ليس منها، أي من تلك العبادات ضرورة أن الظرف ليس عين المظروف فالمكان ليس داخلاً في مفهوم الفعل حتى يلزمنا أن الأمكنة هي من جملة الدين وإنْ كنتَ في شك من هذا فأنت معذور بجهلك ولكن فاسأل العلماء يخبروك بذلك )).انتهى
وأقول : الذي أنا في شك منه هو أن يكون "ابن الشاهد" هذا مفتيًا أو عالماً أصلاً!! فإن الكلام الذي صدر عنه لتشمئز منه الأنفس ، وتنفر عنه الطباع السويّة! ، ولا أدري كيف ساغ للمحقق المدقق أن يمدحه ويعتبره تفكيرًا صائبًا، وعلمًا غزيرًا؟!
وقد ذكرتُ في البداية كيف أن المحقق استشهد لقول ابن الشاهد السالف بحديث النبي r : "وجُعِلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا" فوافق جهلُهُ جَهْلَ ابن الشاهد ووافق شنٌ طبقة!. إنَّ ابن الشاهد والمحقق أثبتا لنا بُعْدَهُما عن فهم الحقائق الشرعية البديهية والتي هي من ثوابت الدين ، أفلم يفطنا إلى قول الله تعالى : {ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجد اللَّهِ أنْ يُذْكَرَ فيها اسْمُهُ وسَعَى في خَرَابِهَا أُولَئِكَ ما كان لهم أنْ يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ لهم في الدُّنْيَا خِزْيٌ ولهم في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة: 114]
وإلى قول الله تعالى : {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ على التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يوم أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فيه فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ *أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أم مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ به في نار جَهَنَّمَ واللَّهُ لا يهدي القوم الظَّالِمِين}[التوبة: 108 – 109]
وإلى قوله عز وجل : {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فيها اسْمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عن ذِكْرِ اللَّهِ وإِقَامِ الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يومًا تَتَقَلَّبُ فيه القُلُوبُ والأبصَارُ}[النور: 36 ـ 37]
أم أنهما لم يفطنا لقوله r : "من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة" [متفق عليه] . وإلى أحاديثه r في فضائل المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى والمسجد النبوي! أم أنها في رأيهما، ليست من الدين ولا بأس بهدمها وخرابها وتعطيلها!!!
إن مسألة حكم المساجد في الإسلام وكونها من شعائره، مسألة لا خلاف فيها بين العلماء ومن يريد الاستزادة فليرجع إلى تفسير الآيات السالفة الذكر أو إلى كتب الحديث في أبواب الصلاة والمساجد.
ـ وبهذا يُعلمُ فساد قول ابن الشاهد : "إن المساجد ليست من الدين" وجهل المحقق عندما وافقه على هذا القول واستشهد له بما تقوم به الحجة عليه لا له . وأقول صدق الله العظيم :
{ذلك ومَنْ يُعَظِّم شَعَائِرَ اللَّهِ فإنَّهَا مِنْ تقوى القُلُوب}[الحج:32]
ونعود إلى رسالة ابن الشاهد ، حيث علل عدم هجرته من تحت الذمة النصرانية ، واللحاق بإخوانه المسلمين المجاهدين ، قائلاً ص116: ((...ولنُبيّن لكم الآن سبب عجزنا ؛ فنقول إنكم نصبتم المناظرة مع العلماء والطلبة فلنبدأ بهم ؛ فنقول : معلوم عند كل أحد أنَّ الطلبة لا حرفة لهم وإنما يكتسبون من الأحباس (الأوقاف): كمساجد، وأحزاب، وآذان، وإمامة وربما يكون لبعضهم حانوت يبيع ويشتري فيها ولا تعطله عن القراءة ، وربما يكون لبعض آخر دار أو بستان ، تركه له أجداده ، وربما يموت لهم بعض الناس فيرثونهم . ورأس عمدتهم إنما هي في الأحباس وحينئذٍ فالغني منهم كل الغنى من يملك عشرين دينارًا ، أو ثلاثين أو ينقص عن ذلك بقليل، أو يزيد على ذلك بقليل، وتكون في خزانته ، وحينئذ كيف يتيسر له مع هذه الحالة السفر؟! والسفر قطعة من العذاب كما قال r )).
ثم قال : ((ثم لا يأمن ، مع ذلك ، أن تنهب أمتعته ، وأن يسفك دمه ودم من معه ، كما وقع مرارًا وهل يمكن لأحد منكم أن يضمن لأحد أراد أن يخرج أن لا ينهب له مال ولا يسفك له دم؟ ثم إذا فرضنا وصوله إلى بلدة أو ما يشبهها فبأي شيء يتكسب، إذِ الفرض أنه لا حرفة له ؟))
وقال : (( .. فمنهم من له عقارات يريد أن يبيعها، ولم يتيسر له ذلك إلى الآن. ومنهم من له ديون لم تَطِبْ نفسه أن يسافر قبل قبضها .. )).انتهى([26])
ويا للعجب، وإنَّ عجبي من هذا الرجل يكاد لا ينقضي، هل يقول هذا الكلام إنسان لديه أدنى معرفة بالدين؟ فضلاً عن عالم فقيه!! ألا يعلم ابن الشاهد كيف هاجر أصحاب رسول r! ألم يتركوا أموالهم وذراريهم وسلكوا الصحارى والقفار، ووصلوا المدينة المنوَّرة ولا مال معهم ولا طعام! ألم يقرأ ابن الشاهد ، والمحقق ، قول الله تعالى :{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[ التوبة: 28]
وكيف ساغ للمحقق الدكتور كلامُ ابن الشاهد هذا! ، ووصفَ صاحِبَه بأنه ذو عقلٍ ناضجٍ وتفكير سليم؟! ولقد مرَّ معنا قريبًا قول الإمام الونشريسي في رسالته : ((ولا يسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية لعنه الله على معاقلهم وبلادهم ، إلا تصور العجز عنها بكل وجهٍ وحال، لا الوطن والمال ، فإن ذلك كله مُلغى في نظر الشرع))
ولكن يبدو أن المحقق الدكتور لم يكنْ يستحضر كلام الأئمة عندما كان يقرأ لابن الشاهد . .
- والجدير بالذكر أنَّ رسالة ابن الشاهد؛ وهي رسالة يفتي فيها ابن الشاهد بجواز البقاء تحت الحكم الكافر وعدم الهجرة إلى دار الإسلام ؛ تعطي في مجملها الحاجةَ المادّية الأولويّة في الاعتبار الشرعي ، وهذا طبعًا خلاف الأصول المعروفة في ترتيب المقاصد الخمسة.
في حين أن الأمير عبد القادر رحمه الله، كان يهوِّن، في رسالته، من هذا الجانب، وينبِّه على ضرورة ترتيب الأولويات حسب الأصول أي حسب ترتيب المقاصد الخمسة وهي على الترتيب :
الدين ، النفس ، العقل ، النسل ، المال، ويؤكد ضرورة صدق التوكل على الله والإنفاق في سبيله .
وانظر إلى قول الأمير : ((ثم بلغني عن بعض هؤلاء أنهم يقولون : إنَّ الهجرة واجبة لكن عارضها وجوب حفظ المال، فإذا خاف المسلم ـ الذي تحت ذمة الكفار ـ على ماله إذا هاجر تسقطُ الهجرة عنه . وهذا هو العمى والجهالة والغواية والضلالة . فاحتقرَ ما عَظُمَ من المحافظة على الدين، واستعظَمَ ما احتقره الله، من الدنيا التي لا تزن عنده جناح بعوضة ولا نظر إليها منذ خلقها، بغضًا لها واحتقارا . وكان هذا ممن يمزقون أديانهم لترقيع دنياهم:
نُرقِّعُ دُنْيِانَا بتمزِيقِ دينِنا **** فلا دينُنَا يبقى ولا ما نُرقِّعُ )).انتهى
وأقول :
إنني أجد أنه من السائغ جدًا أن نقول: إن رسالة الأمير عبد القادر هي ردٌ على فتوى ابن الشاهد، لا العكس .
سابعًا:وهو بيت القصيد من هذا البحث كله، وهو أن المحقق د.محمد بن عبد الكريم زَعَمَ أنّ رسالة ابن الشاهد هي ردٌ على رسالة الأمير عبد القادر.
والحقيقةُ خلاف ذلك! وزعمه باطلٌ ولا شك، وذلك لعدة أسباب يكفي كل واحدٍ منها لإبطال ما زعمه، وهي :
1 ً_ إن رسالة الأمير عبد القادر كانت موجهةً لأحد خواصِّه ولم تكن موجهة لابن الشاهد .
2 ًـ إن ابن الشاهد مات سنة 1253هـ ، والأمير كتب رسالته سنة 1258 هـ أي بعد وفاة ابن الشاهد بخمس سنين على الأقل . فهل يعقل أنّ ابن الشاهد خرج من قبره وألّف ردًّا وبعثه للأمير ثم عاد للقبر ثانيةً؟!! يا محقق؟
3 ً- ليس في رسالة ابن الشاهد أيّة إشارة إلى شخص الأمير عبد القادر أو إلى أي شخص غيره، بل الكلام فيها يوحي بأنه موجه لشخص هو قرين لابن الشاهد وبينهما تحاسد وتنافس . ودونك الدليل : قال ابن الشاهد :
أ ـ ((... والعجب منكم وأنتم من ذوي التحصيل..)) ص 108
ب ـ ((.. ويفوت ـ حينئذٍ ـ غرضكم الذي أنشأتم له هذه الرسالة ، وهو تبكيت خصمكم واتصافكم بغاية العلم وانتسابه وحده إلى الجهالة ، لله درّكم ما أحسن صنيعكم واستنباطكم خصوصًا إن كنتم ممن يظهر الخشوع في الأسواق، وترسل الدموع ـ الساعة بعد الأخرى ـ منكم الأحداق ، لتكونوا عند الأمّة من العلماء العاملين، وأنتم في باطن الأمر من {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنياوهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}ولا شيء عليكم من ذلك ، لأن غرضكم متعلق بالأمور الدنيوية والشهوات النفسانية))([27])
ج ـ ((...فكان ينبغي لكم أن لا تتكلموا به حتى تتحققوه، كيف لا وأنتم من أهل الفتوى والمناصب...))([28])
د ـ ((... قلنا كلا والله إنها موعظة ما أريد بها وجه الله ، بل ما أريد بها إلا حبُّ الرئاسة وتحصيل الجاه...))([29])
وكما هو معلوم للمتبصِّرين أنَّ الأمير عبد القادر كان له من العمر ثلاثون سنة عندما مات ابن الشاهد أي أنه لم يكن خصمًا له ولا منافسًا له، ولم يكن من أهل الفتوى والمناصب الدينية، وكذلك فإن الأمير كان قد بُويع أميرًا للمؤمنين في الجزائر وقائدًا لجيش المجاهدين وهو من أسرة عريقة في الحسب والنسب الشريف والجاه العظيم، وليس بحاجة لكتابة رسالة دافِعُه فيها حبُّ الرئاسة وتحصيل الجاه!
لا شك إذن أن المقصود هو شخص عادي قرينٌ لابن الشاهد يتنافس معه على الفتوى والمناصب الدينية ، والجاه عند الناس .
4 ً- إنّ الخطاب الموجود في الرسالة لا يمكن تصوره موجهًا لأمير البلاد وسلطانها وقائد جيشها، خصوصًا وأن مؤلّفها شيخٌ كبير ويشغل منصب المفتي في الجزائر.
فإضافةً إلى الأمثلة التي سقناها في البداية على السِّباب والإهانات والتهكم وإلى الأمثلة التي سقناها في الفقرة السالفة ، فإن هناك عبارات في الرسالة لا يمكن تصورها موجهةً لأمير البلاد .
فمثلاً قوله ص 117: (( .. مع استدلالكم على الارتحال بحديث حذيفة ☺ حيث قال له النبي r: "الزم جماعة المسلمين وإمامهم، فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعضَّ بأصل شجرة" فهذه فتنة قطعًا، ورأيناك لم تعتزل عنها ولم ندر السبب؟)).انتهى
فهل يعقل أن ابن الشاهد يطلب من الأمير أن يعتزل القتال ويترك الفتن وأهلها يصولون ويجولون في البلاد فمن يتصدى لهم إذن؟! يا محقق؟
- وسأضرب مثلاً للقارئ الكريم كيف كان يُخاطَبُ الأمير عبد القادر رحمه الله من قِبل السلاطين فكيف بمن هو دونهم . جاء في كتاب تحفة الزائر : ((... ورجعوا إلى الأمير مصحوبين بكتاب من السلطان (عبد الرحمن بن هشام سلطان المغرب) ملخَّصه : بعد الحمد لله محل ولدنا الذي نظم به شمل الأمة، وجلا بنور صدقه الشدائد المدلهمّة، حامي حمى الإسلام والمسلمين، الأمير المجاهد السيد الحاج عبد القادر بن محي الدين أيدك الله بنور توفيقه ورعايته وجعلنا جميعًا من أهل قربته وعنايته آمين، وسلام الله الأتم ورضوانه الأعم يتواليان على حضرتكم ظعنًا ومقامًا، ويرفعان لكم عند الله مقامًا ، ورحمة الله وبركاته ما دام الفلك وحركاته وبعد : فقد وافى حضرتنا الوفد الذي أشخصتموه من بابكم، ووجهتموه من جنابكم صحبة أخيكم البرّ الرشيد السيد محمد سعيد نائبًا عنكم في الزيارة، لابسًا من عنوان صفاء مودتكم أبهى زي وأحسن بشارة فأدى إلينا كتابكم الذي تفتقت عن أزهار روض أخوتكم في الله مبانيه، وتنفّست عن كريم عهدكم وسليم عقدكم طيب معانيه ..الخ))([30])
وبعد هذا ألا يتضح للقارئ الكريم كم كان المحقق متجنّيًا، عندما جعل خطاب ابن الشاهد ـ الذي ليس فيه أدنى حظ من الأدب ـ موجهًا للأمير؟!!
5ً- إن المتأمل لرسالة ابن الشاهد يجد أنَّ مؤلفها كان يسوق عبارات من رسالة خصمه بحرفيّتها، ثم يردُّ عليها. ولكن الذي يلفت النظر أنَّ كل العبارات التي ساقها المؤلف لا وجود لها في رسالة الأمير، لا لفظًا ولا معنىً ، ومع ذلك لم يتفطن لها المحقق الفذّ على صغر الرسالتين وسهولة استحضار نصوصهما .
ومن ذلك قوله ص 108: ((والآية التي استدللتم بها على وجوب الهجرة وهي قوله تعالى:{إن الذين توفَّاهم الملائكة..})). وهذه الآية لم يستشهد بها الأمير في رسالته كلها .
وص 111: (( . . وذلك مأخوذ من قولكم : "فما صحت بهذه الآي والأحاديث نسبة لمن انتسب لهذا الدين إلا بالدعوى " . .)). وهي لا وجود لها في رسالة الأمير.
وص 113: ((. . ومن جملة ما اعترضتم به علينا قولكم " تسترتم بنسج العنكبوت")). وهي أيضًا لا وجود لها في رسالة الأمير.
وص 115: ((. . وقلتم إن النفوس اللئيمة إذا ألفت العز فلا تحب مفارقته . .)). لا وجود لها أيضًا.
وص117: ((..مع استدلالكم على الارتحال بحديث حذيفة)). وهذا الاستدلال لا وجود له في الرسالة.
وص118: ((..ثم إنكم لم تقنعوا بتلك الرسالة في تكفيرنا حتى قذفتمونا بأن نساءنا وأولادنا مع الكفرة ..)) ولا يوجد في رسالة الأمير أي ذكر لهذا الكلام .
وص 120: ((كقولكم : نقلاً عن سعيد بن جبر ، وقولكم: "والمقرر للشيء مجدد له".)) وهذا الكلام أيضًا غير موجود في رسالة الأمير. وهناك غيرها كثير.
أليست هذه العبارات من الكثرة والوضوح بحيث أنها كافية لتنبيه القارئ الساهي فضلاً عن القارئ الدَّارس والمحقق، إلى أنَّ رسالة ابن الشاهد هذه ليست ردًا على رسالة الأمير عبد القادر؟
أم أنَّ مجرد ذكر الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وحكمها في الرسالتين، كان كافيًا في نظر المحقق لنسج هذه القصة العجيبة!!!
وخلاصة القول :
1- إن المحقق أخطأ في فهم رسالة الأمير عبد القادر وقوَّله من الكلام ما لم يقل .
2- إن المحقق أخطأ في فهم رسالة الإمام الونشريسي وشوش على القارئ الفكرة الأصلية التي
كانت وراء الرسالة وهي فريدةٌ من نوعها ونافعة جدًّا في موضوعها.
3- إنّ المحقق أخطأ عندما صوب كلام ابن الشاهد من الناحية الشرعية وجعله حجة على الآخر.
4- إنّ المحقق أخطأ عندما زعم أن رسالة ابن الشاهد هي ردٌ على رسالة الأمير عبد القادر.
5- إن المحقق أخطأ عندما لم يُنْزِل الناس منازلهم ويخاطبهم بما يليق بمقامهم .
6- إن المحقق أخطأ في كثير من حواشيه وملاحظاته .
7- إن المحقق أخطأ عندما سمى عمله هذا تحقيقًا .
وأسأل الله تعلى أن يغفر لنا وله وأن يهدينا جميعًا سُبُل الرَّشاد، وأن يوفقنا لخدمة دينه على النحو الذي يرضيه. فما أحوجنا إلى أعمالٍ علمية رصينة تُبذل فيها الجهود لإحقاق الحق وكشف الباطل وتنقية تراثنا من الشوائب والدسائس وإظهار علمائنا وعظمائنا بالمظهر اللائق ونفي ما نُسب إليهم من الباطل وتوجيه كلامهم توجيهًا صائبًا ، لا إلى أعمال تقلِب الحقائق وتُسيء لسيرة رجال هذه الأمة ، فتكون عاملاً من عوامل الإحباط النفسي عند أبناء الأمة وتُستغل من قِبل المستشرقين ، الذين لا همَّ لهم إلا تشويه تاريخنا وديننا وتشكيك أبناء هذه الأمة بأجدادهم وسلفهم وأمجادهم .
كتبه : أبو إدريس : د. خلدون بن مكي الحسني الجزائري
[1]ـ حديث: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) حديثٌ مشهور ويتكرر في كتب الفقهاء. وبعض المحدِّثين يحسِّنه؛ أخرجه ابن ماجه، والطبراني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والعقيلي في "الضعفاء"، وغيرهم بأسانيد معلولة لا يصح واحد منها، حكم بضعفها جمعٌ من الحفَّاظ.
ولذلك قال ابن أبي حاتم الرازي: ((سألت أبي عن هذه الأحاديث فقال أبي : هذه أحاديث منكرة، كأنها موضوعة! ولا يصح هذا الحديث، ولا يثبت إسناده))[انظر"علل الحديث" 1/1317]؛ وكذلك أعلَّه الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى عبد الله بن أحمد: ((سألتُ أبي عنه فأنكره جدًّا))[انظر"العلل" 1/561]؛ وقال محمد بن نصر في كتاب "الاختلاف" عن هذا الحديث : ((ليس له إسناد يحتج بمثله))[انظر"التلخيص الحبير" 1/672].
[2] ـ[البقرة: 246]
[3]ـ[المائدة:24]
[4] ـ[الممتحنة:1]
[5] ـ[الممتحنة:9]
[6]ـ[النساء:138ـ 139]
[7]ـ"حاضر العالم الإسلامي" للأمير شكيب أرسلان 2/169.
[8] ـ "تحفة الزائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر" لمحمد باشا؛1/ 206 ؛ المطبعة التجارية ـ الإسكندرية 1903م.
[9]ـ "تحفة الزائر" لمحمد باشا 1/251
[10]ـ "تحفة الزائر" ص 306
[11]ـ "تحفة الزائر" ص 306
[12]ـ"تحفة الزائر" ص309
[13]ـ من مقدمة رسالة الونشَريسي المسماة :((أسنى المتاجر، في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر، وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر)). وهي مثبتة في كتابه "المعيار المعرب" 2/119.
[14]ـ "أسنى المتاجر" 2/121 في المعيار ، وص 71 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[15]ـ "أسنى المتاجر" 2/121 في المعيار ، وص 72 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[16]ـ "أسنى المتاجر" 2/123 في المعيار ، وص 76 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[17]ـ "أسنى المتاجر" 2/125 في المعيار ، وص 78 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[18]ـ "أسنى المتاجر" 2/132 في المعيار ، وص 88 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[19]ـ "أسنى المتاجر" 2/132 في المعيار ، وص 89 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[20]ـ "أسنى المتاجر" 2/132 في المعيار ، وص 90 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[21]ـ "أسنى المتاجر" 2/141 في المعيار ، وص 102 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[22]ـ "أسنى المتاجر" 2/140 في المعيار ، وص 101 في الرسالة المثبتة في كتاب المحقق.
[23]ـ من كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للأمير شكيب أرسلان ؛باختصار 2/178 .
[24]ـ رسالة ابن الشاهد في كتاب المحقق ص107.
[25]ـ رسالة ابن الشاهد في كتاب المحقق ص108.
[26]ـ رسالة ابن الشاهد في كتاب المحقق ص117 ـ 118.
[27]ـ رسالة ابن الشاهد في كتاب المحقق ص 108 – 109
[28]ـ المرجع السابق ص 119
[29]ـ المرجع السابق ص 122
[30]ـ "تحفة الزائر" لمحمد باشا 1/222
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
شكرا لك اخي والله لانه موضوع مفيد
شكرا لك شكرا اخوك اكرم
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
شكرا جزيلا أخي الفاضل أبو إدريس على المعلومات القيمة
في زمن نحن في أمس الحاجة لمعرفة تاريخنا الحقيقي
حيث أن شخصية عظيمة مثل الأمير عبد القدر والتي هوجمت من طرف الأعداء والأصدقاء لا لشيء إلا لأنه مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
بارك الله فيك فضيلة الدكتور : أبو ادريس الجزائري .
لوطنك أن يفخر بك ، وبأبيك ، وجدّك رحمة الله عليه .
نعم الخلف ، لخير السلف .
تقبّل منا أسمى عبارات التقدير ، والاحترام .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
شكرااااااااااااااااااااااا لك استادنا كثر الله من امثالك
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
قرأت بضعة أسطر أبا إدريس، وسأحاول المعاودة فيما بعد، لكن هل أستنتج من عنوان مقالك أن المسلمين في بلاد أوربا وأمريكا يجب أن يهاجروا إلى بلاد أخرى مثل بلاد جزيرة العرب وشمال إفريقية؟
شكرا لك دكتور.