عنوان الموضوع : لمحات تاريخية من الفكر التربوي في مقدمة إبن خلدون
مقدم من طرف منتديات العندليب
لمحات تاريخية من الفكر التربوي في مقدمة إبن خلدونتناول كثير من الكتاب والمؤلفين تراث ابن خلدون بالدراسة والتحليل ، منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى اليوم , وقد انصبت أغلب دارساتهم ، حول ما جاء في (مقدمته) التي ضمنها ، خلاصة أفكاره وتجاربه في التاريخ) ومظاهر العمران والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والسياسة (5) والأخلاق والعدالة وفلسفة الحكم والقضاء إلى جانب مظاهر التحضر والبداوة , والعلوم الدينية , وعلوم القرآن , والحديث والسنة والفقه والشريعة والتفسير والتصوف , وعلم الكلام , والمنطق وعلوم اللغة العربية ، والأدب و النظم والنثر , فضلاً عن العلوم العقلية أو النظرية (الدخيلة) .
فكتب عنه المؤرخون ، وعدوه واضعاً لأسس كتابة التاريخ في الإسلام ، فقد أف اض في تفصيل الأحداث التاريخية في مختلف الفترات والعصور , وذلك في كتابه المرسوم " العبر وديوان المبتدأ والخبر" الذي يعد من التراث الخالد في تسجيل أحداث التاريخ الإسلامي ..
والظاهر أن ابن خلدون استهدف من كتابه هذا أن يكون ميداناً لتطبيق الأسس والأفكار التي جاء بها في مقدمته ، فيما يتعلق بكتابة التاريخ وتدو ينه.
ومهما يكن من أمر ، فقد اختط ابن خلدون في مقدمته طريق الأصالة في تحليل العوارض التي تعترض الطبيعة البشرية في اجتماعها خلال مسيرتها التاريخية ، وربط بين أحداث المجتمع وخصائصه ومظاهره ، كما لم يغفل القول باعتبار التاريخ من أهم العلوم التي يلزم أن يدرسها الناس فقال : إن فن التاريخ الذي تتداوله الأمم والأجيال , وتشد إليه الركائب والرحال , وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال , وتتنافس فيه الملوك والأقي ال , ويتساوى في فهمه العلماء والجهال .
على أن بعض نقاد التاريخ ومحلليه أوضحوا أن ابن خلدون لم يكن موفقاً كثيراً في التطبيق العلمي للأسس التي وضعها في كتابة التاريخ , وخصوصاً فيما يتعلق بتعريفه للتاريخ بأنه " علم من علوم الفلسفة , موضوعه الاجتماع الإنساني ، ولذلك ينبغي ل لمؤرخ أن يعلل الحوادث , ويربط بعضها ببعض , وأن يميز الأخ بار الصادقة من غيرها , وأن يعد إلى الترجيح سياسياً من حيث العلاقات , والأحوال السياسية ، وعسكرياً من حيث تنظيم الجيوش , وإثارة الحروب ، واقتصادياً فيما يتعلق بالتجارة والزراعة والصنائع ، وعلمياً فيما يخص الحركة الفكرية والعلمية ، وفضلاً عن ذلك ينبغي أن يضم التاريخ أحداث الحركات الاجتماعية العامة أو الدينية أو الاقتصادية أو الفكرية .
ويخلص ا بن خلدون إلى القول : إنه من أجل ذلك وجب أن يكون المؤرخ مل ما ب علوم كثيرة ، فإذا كان لا يعرف إلا رواية الأخبار كان هذا قاصاً , وليس مؤرخاً ، وفي كتابه " العبر و ديوان المبتدأ والخبر" لم يكن ا بن خلدون إلا را وا ية للأخبار على حد زعم هؤلاء المؤرخين والاختصاصيين وكتاب التاريخ.
ووضع عنه علماء الاجتماع المحدثون دراسات مستف يضة ، وجعلوه رائداً ل علم الاجتماع ، وقرروا ما جاء في مقدمته , وهو على قدر عظيم من الأهمية للبحوث , والدراسات في حقل علم الاجتماع ، وخصوصاً في موضوعات العمران البشري , وتفسير الظواهر الاجتماعية المتجانسة في طبيعتها ، لاحتوائه على بحوث في " المورفولوجيا الاجتماعية " أو علم البنية الاجتماعية ، التي تتصل بد راسة البيئة والجن س والظواهر الجغرافية .
ويلقي ضوءاً على ذلك بقوله : ونحن الآن بين في هذا الكتاب ، ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران , في الملك والكسب والعلوم والصنائع , بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة، كما احتوى هذا الكتاب على بحوث في أصول المدنيات , العمرانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفلسفية , والظواهر التربوية والأخلاقية والجمالية واللغوية وا لدينية , وشئ ون المعرفة والعلوم وأصنافها , والتعليم وطرقه .
لقد تناول أثناء دراسته لهذه الظواهر شرحاً مستفيضاً مما يسهل علينا الاستنتاج أن ابن خلدون " كان له فضل السبق في الوصول إلى ما اصطلح العلماء المحدثون على تسميته بعلم الوظائف الاجتماعية"
ويصح القول : : إن ابن خلدون ليس فيلسوفاً اجتماعياً فحسب ، وإنما هو " عالم اجتماعي , وواضع علم الاجتماع على أسسه الذي لم يسبقه إليه أحد ، ويذهب الدكتور عمر فروخ إلى القول : إن ابن خلدون سبق علماء الاجتماع الغربيين المحدثين والمعاصرين في وضع بعض النظريات الاجتماعية , وعدد من قوانين العمران التي استخرجها في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) ويخلص إلى القول : إنه لما أطل القرن التاسع عشر الميلادي , واستبحر علم الاجتماع في أوروبا وأمريكا ، أدرك علماء العصر الحديث قيمة الآراء الصائبة, وطرافة القوانين الشاملة , وبعد النظر الثاقب فيما بسطه ابن خلدون في مقدمته .
غير أن الظواهر التربوية احتلت مكاناً مهمأ في كتابه " المقدمة" فهو لم يهمل الكلام عن ضروراتها وأسسها ومشكلاتها ، بل أكد على أن العلم والتعليم من ضرورات العمران البشري , ووجودها فيه أمر طبيعي , وأن تعليم العلم صناعة, تختلف طرق المعلمين فيها باختلاف زمنهم وبلادهم والظاهر أن تأكيده على أن تربية الأطفال والكبار في الأمصار الإسلامية خلال عصره تختلف باختلاف كل مصر منها يجعل من هذه الظواهر التربوية أعرافاً , تتخذ شكل أنظمة قائمة ومحددة بذاتها ، ولعل هذا التأكيد جاء نتيجة لمشاهداته في البلدان التي عرفها وعاش فيها .
كما استعان في كل ما كتب عن النواحي التربوية بضرب أمثلة حية وملموسة عن واقعها مما لا يجعل لآرائه أن تتخذ أسلوب نظرية مبنية على الخيال ، بل نتيجة سعيه وتجاربه ، وهي على وجه العموم سليمة ومعقولة , وخصوصاً فيما يتعلق بالربط الذي أحكمه بين التربية والحضارة ، فهذا يدل على شدة ملاحظته وعمق تفكيره .
إن التقويم الذي بدأ به ابن خلدون في تحليل الإطار التربوي في العالم الإسلامي ، كان ينطلق من تعاليم القرآن الكريم ، باعتباره الأساس الذي تبنى عليه المعارف التي يكتسبها الكبار والصغار وخصوصاً العلوم الدينية وعلوم العربية ، وهو يؤكد بهذا المعنى ، على تعليم الصغر ، إذ يعزو ذلك إلى أن التعليم في الصغر هو أشد رسوخاً في الذهن " وهو أصل لما بعده ، لأنه السابق للقلب كالأساس للملكات ، وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال من يبنى عليه"
وخصص ابن خلدون فصلاً عن امتهان التعليم , بجعله من جملة الصنائع التي تتطلب الحذق , والإحاطة بمبادئه وقواعده , والوقوف على مسائله , واستنباط فروعه من أصوله ، ولهذا جعل السند في التعليم في كل علم أو صناعة إلى مشاهير المعلمين في جميع البلدان , وفي كل الأوقات , فل كل معلم من هؤلاء المعلمين طرقه وأساليبه الخاصة به في تدريس كل علم من العلوم وتعليمه ، ولذلك فإن هذه الطرق ـ بحسب رأيه ـ لا تدخل ضمن العلوم التي يراد تدريسها ، وإلا فسوف تكون لهم طريقة واحدة يجرون عليها ,وهذا غير ممكن , ويضرب ابن خلدون مثلا عن تعليم علم الكلام , وأصول الفقه , وعلوم العربية , فيبين الاختلافات في تعليمها ) .
ويربط صاحب المقدمة بين مظاهر العمران والتحضر وقوة الكيانات السياسية من جهة ، وبين سند التعليم للعلوم والفنون من جهة ثانية ، فيذكر أن ذلك له من التأثير بحيث كاد ينقطع ـ في عصره ـ سند التعليم عن أهل المغرب , وذلك باختلال عمرانه وتناقص دوله ، فنقصت الصنائع , وأحس الناس بفقدانها ، أما القيروان وقرطبة اللتان كانتا حاضرتي المغرب والأندلس ، فقد استبحر عمرانهما ، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة , وبحور زاخرة ، مما أدى إلى رسوخ التعليم فيهما لامتداد عصورهما , وما كان فيهما من الحضارة ، فلما خربتا , وزالت دولتاهما انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً في " عهد دولة الموحدين , وخصوصاً في بداية قيامها في مراكش" ولكن مع ذلك لم ترسخ الحضارة في مراكش , وذلك لبداوة الموحدين وخشونتهم , مما تسبب في ارتحال عدد من العلماء والفقهاء والمدرسين والمعلمين إلى المشرق الإسلامي ، فحذ قوا علوماً , وتلقوا تعلمياً حسناً ، كما ارتحل عدد منهم إلى مصر ، ولدى رجوعهم إلى تونس تركوا تأثيراتهم بحسب أساليبهم وطرقهم في التعليم .
ويتحدث ابن خلدون عن ظهور التعليم في الأمصار الإسلامية ب نظمه وأساليبه التي كانت تقوم على العلم والتنظيم الصحيح ، ويستنتج أنه لما كان التعليم " صناعياً" فلا نجده في القرى والأمصار غير المتمدنة ؛ لفقدان الصنائع في أهل البدو ، ولا بد لذلك من الرحلة في طلبه إلى " الأمصار المستبحرة" في تعليم العلم ، مثل بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة ، فقد زخرت فيها بحار العلم , وتفننت في اصطلاحات التعليم , وأصناف العلوم , واستنباط المسائل والفنون ، حتى أربوا على المتقدمين , وفاتوا المتأخرين .
ويمضي هذا المؤرخ ليؤكد قوله : إن مصر على عهده استبحرت فيها العلوم والتعاليم, وأصبحت القاهرة مركزاً عملياً مشعاً لاستحكام حضارتها منذ مئات السنين ، فظهرت فيها الصنائع وتعليم العلم ، ويرجع ذلك على حد قوله على عامل تاريخي ، وهو سعي الملوك والأمراء منذ أكثر من مائتي سنة وتحديداً من أيام صلاح الدين الأيوبي ، إلى الاستكثار من بناء المدارس والزوايا والرُ بط , وجعل الأوقاف المغلة عليها ، فكثر طلبة العلم والمعلمون بارتفاع أجورهم وجراياتهم , وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب , ونفقت بها أسواق العلوم , وزخرت بحارها ، ويؤكد أن في هذا المسعى الذي تبذله الدولة يكمن ترسيخها وتوطدها , وتتدعم أسس بنائها السياسي والاجتماعي , وذلك " أن الملوك والأمراء ، كانوا يخشون عادية سلطانهم على من يتخلفونه من ذريتهم لما له عليهم من الرق أو الولاء , ولما يخشى من معاطب الملك ونكباته .
والظاهر أنه خلال الفترة التي عاش فيها ابن خلدون أو التي سبقت عصره بقليل كانت طرق تعليم الأطفال , وتربيتهم المتعلقة بالقرآن الكريم والأحاديث النبوة ليست متشابهة في جميع بلدان العالم الإسلامي ، بل تختلف من بلاد إلى أخرى , وذلك تبعاً لنزعة المربين والمعلمين واتجاهاتهم وميولهم ، وقد ظهرت من جراء هذه الطرق المختلفة ملكات غير متشابهة ، ونفهم من معرض كلامه ذلك " واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للوالدان باختلافهم , باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات" ففي بلاد المغرب العربي الإسلامي كانوا يقتصرون على القرآن الكريم, فيأخذون في كتابته ورسم حروفه أثناء دراسته ، واستعراض جميع ما يحتويه من كلام الله تعالى بحسب ما يكتبه أو يقرأه حملته ( أي حفاظه ) وبعبارة أوضح تجري دراسته قراءة وكتابة ، فتقوم التربية على أساس آيا ته ومضمونها , واستبعاد الحديث أو الفقه أو الشعر أو أي من كلام العرب .
كما يجري الاجتهاد بعد الخلط في التقويم بسواه في شيء من مجالس التعليم ، وهذا على حد قوله " غالباً ما يؤدي الانصراف إلى حذق القرآن وإتقائه إلى الانقطاع عن العلوم الأخرى , والابتعاد عن معرفتها , والإلمام بها ، كما يوضح أن هذا هو مذهب أهل الأمصار في المغرب , ومن تبعهم من القرى في تربية أبنائهم , وتعليمهم منذ صغرهم , حتى بلوغهم سن الشيخوخة ، ويضيف أنه حتى الكبار يرجعون بعد فترة من أعمارهم إلى دارسة القرآن , فيصبحون أحسن من سواهم في كتابته , ورسم حروفه , وقراءته وحفظه , والإلمام به .
أما الأندلسيون فيقول عنهم ابن خلدون : إن النظام التربوي الذي كانوا يسيرون عليه هو تعليم الأطفال منذ نعومة أظفارهم القرآن كما هو , بدون استنباط , أو استنتاج أو تفسير ، غير أنه يستدرك فيقول : إنهم جعلوا القرآن الأصل في التعليم والتربية ومنبعاً للعلوم ، فيجمعون إلى جانب دراسته في الغالب رواية الشعر , وإنشاء الرسائل , والأخذ بعلوم العربية وقوانينها وحفظها , وإجادة الخط والكتابة ، ويجري ذلك على الأطفال حتى بلوغهم سن الرشد والشيخوخة , فيكون المتعلم قد وقف على العلوم والشعر , ومعرفة الخط وأصوله كما يتعلق بأذيال العلوم المتصلة بالقرآن , مثل علم القراءات والتفسير , فضلاً عن الحديث والفقه والسنة ، وربما الفلسفة والمنطق ، فيما إذا كان هناك سند للأخذ بهذه العلوم , ومقدرة واستعداد على تعليمها وفهمها من قبل المعلمين ، لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم , ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول , وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى , واستعداد إذا وجد المعلم .
ويذهب ابن خلدون إلى القول : إن طريقة الأفارقة وخصوصاً في تونس أقرب إلى طريقة الأندلسيين في تعليم أطفالهم وتربيتهم التي كانت تقوم على القرآن الكريم , وغالباً ما كانوا يجمعون معه الحديث ، فقد درس أصوله , وتلقن بعض قوانين العلوم وأفكارهم ثم يمضي في قوله :" إن عنايتهم بالقرآن , واستظهار الوالدان إياه , ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه" (23) ويتبع تعلم القرآن والحديث ـ على حد قوله ـ تعلم الخط , ورسم حروف القرآن.
وينقل ابن خلدون ، عما كان يستخدم في المشرق الإسلامي ، من طرق تربوية , وكيف أن المشارقة كانوا يجمعون في تعليم مختلف أصناف المعرفة ، فقد بلغه أن عنايتهم كانت تتجه إلى دراسة القرآن وصحف العلم ، وهي الكتب والمصنفات والرسائل الخاصة بالعلوم النقلية والعقلية ، وما تنطوي عليها من أسس وقوانين , وخصوصاً ما يتعلق بالأشخاص الكبار , ويحت مل جداً أن تكون دراسة القرآن الكريم فقط للأطفال والناشئين والشباب.
والظاهر أن تعليم الخط والكتابة وضبط أساليبهما وأصنافهما في بلاد المشرق الإسلامي كانت مفصولة عن تعليم القرآن الكريم والعلوم الأخرى ، فيشير ابن خلدون إلى أنهم كانوا " لا يخلطون بتعليم الخط ، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده" لذلك فإ نهم كانوا يكتبون في الألواح لمتعلمي سائر الصنائع من الصبيان في مكاتبهم بخط " قاصر عن الإجادة" ومن أرد تعلم الخط وإجادته ، سواء من الأطفال , أو ممن في سن الرشد أو من الكبار ، فعليه أن ينصرف بعد إتقان صنعته أو علومه إلى ذلك , فيطلبه من أهل صنعته.
أما في مصر التي وصفها المؤرخ بأنها مهد للحضارة لرسو المدينة فيها من قديم الأزل , ولاهتمام أهلها بالعلم والتعليم ، فيلاحظ تقدم العلوم فيها لأنها " موفورة وعمرانها متصل" وسند التعليم بها قائم و " أن التقدم من العلوم , وسائر الصنائع فيها بالغ .
ويعود هذا المؤرخ إلى القول فيما أفاد هؤلاء جميعاً من هذه الطرق والأساليب التربوية في التعليم والدراسة , أو فيما كان سبباً في قصورهم عن علوم ومعارف أخرى ، فيذكر أن اقتصار أهل إ فريقية والمغرب عموماً على القرآن نشأ عنه قصور في اللغة وعلومها ، ويعزو ابن خلدون السبب في ذلك إلى أن دراسة القرآن لا تنشأ عنها في الغالب ملكة لغوية ؛ لأن البشر على حد قوله " مصروفون عن الإتيان بمثل آيات القرآن ، لذلك فهم مصروفون عن الاستعمال على أساليبه , والاقتداء به أو الحذو على منواله , مما يجعلهم يفتقدون أية ملكة من غير أساليبه ، كما يحصل حتى لأولئك من أصحاب الملكات في اللغة العربية ، والجمود في العبارات , وقلة التصرف في الكلام لانصرافهم التام إلى القرآن وأساليبه .
ولا يصح مجاراة ابن خلدون فيما ذهب إليه بهذا الصدد ، من أن دراسة القرآن ينشأ عنها قصور في ملكات اللغة , فالمعروف أن القرآن يقوّ م لغة الدارس , ويزيدها بياناً وفصاحة في استعمال المفردات اللغوية , واستخداماتها المختلفة , ويهذب العبارات , ويمنحها قوة في التعبير, ويغنيها بفيض من التركيبات اللغوية المفيدة ؛ لما يحتويه من استعمالات مختلفة من الأساليب والطرق البيانية ، فيكسبها الأصالة.
غير أن صاحب المقدمة يميل إلى الاعتقاد أن أهل إ فريقية " أخف من أهل المغرب" أي أنهم أكثر ملكة في اللغة ومعرفة بقوانينها وأصولها , وذلك لأنهم كانوا يجمعون في تعليمهم للقرآن عبارات العلوم التي كانوا يتعلمونها معه ، مثل الحديث والفقه ، فنشأ لد يهم قدرات (أي ملكات) على شيء من التصرف والإتيان بعبارات , وأساليب مشابهة لعباراتها وأساليبها ، ولكن مع ذلك فإنهم ، كما يقول ، كانوا يقصرون في ملكاتهم البلاغية.
ومن ناحية أخرى ذكر ابن خلدون أن تفنن الأندلسيين وابتداعهم طرقاً في التعليم تقوم على الإكثار من رواية الشعر والاشتغال فيه ، ومن أدب الرسائل والإنشاء , ودراسة العربية وفنونها منذ الصغر ، جعلهم يقصرون في العلوم الدينية المتصلة بدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها
ويستشهد المؤرخ برأي القاضي أبي بكر بن عربي في وجوب تقديم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو الحال بالنسبة إلى اتجاه الأندلسيين ، لأن الشعر ديوان العرب فينبغي تقديمه ، ثم ينتقل إلى الحساب , فيتمرن على تحليل تمارينه وقوانينه ومسائله , وبعد ذلك يعرج على درس القرآن والعلوم المتصلة به ، ومن ثم تؤخذ علوم أصول الدين والفقه والجدل والحديث.
وقد استحسن ابن خلدون طريقة أبي بكر بن عربي التي ختمها بالنهي عن تعليم الناشئة علمين سوية إلا إذا كان المتعلم يمتلك قدرات على تعلمها ، وأظهر بعض النشاط والرغبة فيهما غير أنه أبدى تحفظه من النتيجة التي قد تؤدي إلى حرمان الناشئة من دراسة القرآن لغرض التبرك والثواب , واعتقاد البعض من خشية تعرض الأطفال الذين يحرمون من دراسته إلى إصابتهم بالجنون , وأن أمر الأطفال مر هون بأوليائهم الذين كانوا يتولون رعايتهم منهم , فينقادون لحكمهم ، لذلك فإن أغلب الأطفال يصرفون إلى دراسة القرآن , فيحرمون من تلقى العلمين للذين يرغبونهما ، ولكن لو أن الأطفال استمروا فعلا في تلقيهما لتححق مبدأ القاضي أبي بكر بن عربي , ولأصبح من الضروري أن يطبق في بلاد المغرب والمشرق على السواء .
ويعقد ابن خلدون فصلا " مهما" عن واحدة من المسائل المهمة في مقدمته ، ليس فقط في الفترة التي عاشها , بل تبرز أهميتها في الوقت الحاضر ، وتتعلق باستعمال الشدة في تعليم الناشئة من الاطفال ، فيقرر أن الطرق التربوية والتعليمية التي تتسم بالشدة والقسوة تجاه المتعلمين مضرة بهم ، ويعلل ذلك بسبب أن التطرف في التعليم وجعله , وسيلة للقطع من قبل المعلمين الذين يفتقرون إلى طرق وأساليب مرنة تقوم على التفهم والإدراك الصحيح لمتطلبات تربية الأطفال وتعليم هم ، إن ذلك بالتأكيد يلح ق ضرراً بعملية التعليم ، لأن من كانت تربيته ، كما يقول بالعسف والقهر من المتعلمين أطفالاً أو غيرهم لا يستطيع الاستجابة لتلقي العلم , ويفتقد النشاط , ويخيم عليه الكسل , الأمر الذي يؤدي به إلى سلوك طريق الكذب والخبث والتظاهر بغي ر ما في ضميره , خوفاً مما يلحق به من الأذى على أيدي هؤلاء المعلمين , وكذلك يتعلم المكر والخديعة ، فتصبح ل ديه عادة وخلقاً ، وبذلك تفسد المعاني الإنسانية من حيث علاقاته بالمجتمع , ومدى استجابته لاكتساب عادات جيدة , مثل الحمية وإمكانية الدفاع عن نفسه ومنزلته ليصبح عيالاً على غيره , فتقصر همته عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل التي تحدد غاياتها , ومدى إنسانيتها , فيعود في أسفل السافلين ) .
ويحدد هذا المؤرخ ما يجب على المعلم في صدد ا ستعمال الشدة تجاه المتعلمين من الأطفال الناشئة ، أنه ينبغي على المعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب ، وقد نقل من كتاب محمد بن أبي زيد الذي كان قد صنفه في حكم المعلمين والمتعلمين أنه لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم " إلا إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أ سواط شيئا" .
ولعل من المفيد أن نستعرض ما جاء به ابن خلدون حول وصايا الخليفة هارون الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين ، فقد استحسنها كأفضل مذاهب التعليم فخاطبه " يا أحمر ! إن الخليفة دفع إليك مهجة نفسه , وثمرة قلبه , فصير يدك عليه مبسوطة , وطاعته لك واجبة ، وأن تقف منه كما أوصاك الخليفة به ، بتدريسه القرآن , وتعريفه بالتاريخ والسنين ورواية الشعر ، وأرشده إلى الكلام وضروراته , وكيف يبدأ به , وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ، وخذه بتعظيم الرجال والق واد من العلماء والساسة إذا دخلوا مجلسه ، كما أوصاه بإفادته في كل ساعة تمر عليه ، فائدة لا تحزنه فتميت ذهنه ، وأن لا يمعن في مسامحته ليترك لديه فراغاً من الوقت , يلهيه عن واجباته " وأخيراً" طلب منه أن يقوّ مه ما استطاع إلى ذلك بالقرب والملاينة " فإن إب اهما فعليك بالشدة والغلظة" .
ويكتب ابن خلدون بشيء من التوضيح عن مسألة تربو ية وتعليمية أخرى لها أهميتها في الفكر التربوي المعاصر ، وهي اختصار الطرق والأساليب التعليمية في العلوم وأبواب المعرفة بتدوين البرامج المختصرة في كل علم ، فقد يشمل الاختصار على حصر القوانين والأدلة بألفاظ قليلة وبمعان كثيرة ، وقد أظهر المؤرخ أن هذا التضييق في الكلام عن العلم أو الفن أو الأدب مخل بالبلاغة أولاً , وعسر على الفهم أيضاً ، كما أنه يفسد التعليم , وفيه إخلال بالتحصيل ، ويستدل عليه بسوء التعليم ، فالم تعلم عليه أن يتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراجم المعاني , وصعوبة استخراج المسائل من بينها ، ويخلص ابن خلدون إلى القول : إن المختصرات في العلوم المعدة للناشئة وللمتعلمين تفقدهم الملكات النافعة وتقطعهم عن تحصيلها .
وأفضل الطرق لتلقين العلوم والمعارف للناشئة الذين يتجاوزون المراحل الأولى على رأى ابن خلدون هي ما كانت تقدم لهم تدريجياً شيئاً فشيئا ، وأن يراعي فيها استعدادات الطلبة لقبول ما يرد عليهم .
والظاهر أن هذه الطرق التي يشير إليها تتلخص في ثلاث مراحل أو تكرارات , ففي البداية تقدم لهم مسائل عامة من كل باب من أبواب العلم , تتعلق بأصوله وأسسه ، ويعني في شرحها على سبيل الإجمال ، وفي هذه المرحلة الثانية ، تقدم الشروح الواضحة بصورة مفصلة , وتذكر أوجه التشابه والاختلاف , فتتحسن ملكته ، أما المرحلة الأخيرة فتقوم على التفتيش عن المسائل والقوانين المعقدة والمهمة والمغلقة ، فتوضح بشيء من التفصيل والاهتمام حتى ينتهي المتعلم من استيعاب هذا العلم ومتطلباته.
وهناك بعض الطلبة والمتعلمين كما أفاد ابن خلدون ، الذين يختصرون هذه المراحل في أقل من ذلك ( أي ا لفترة المستغرقة في أخذ العلوم ) للحصول على ملكات في بعض العلوم ، بحسب ما يتيسر لهم من إمكانات , وما تقدم لهم من تسهيلاتوالمقصود بالإمكانيات هنا على الأرجح القدرة على الاستيعاب لأفكار العلوم المطروحة , كما يرمي بالتسهيلات تناولها بطرق تعليمية مبسطة ومفهومة وواضحة تساعد على هذا الاستيعاب , وتفتح له الأبواب مشرعة .
ويلقي ابن خلدون اللوم على كثير من المعلمين في عصره بجهلهم الطرق التربوية في التعليم ، إذ يقدمون للطلبة كثيراً من المسائل والقوانين المعقدة والمقفلة , ويطالبونهم في حلها , ويحسبون ذلك مراناً لهم , متجاهلين استعداداتهم للتقبل والفهم ، لذلك ينبغي على المعلمين أن لا يزيدوا على طلابهم ومتعلميهم , ويثقلوا عليهم بمواد العلم , إلا بحسب طاقاتهم , وعلى نسبة قبولهم سواء أكانوا مبتدئين , أم في المراحل المنتهية , وأن لا يجمعوا لهم بين مسائل وقوانين مختلفة , وأن يقتصروا لهم على علم من العلوم حتى يقتنوه ، ثم يخلص إلى القول : إن من المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعلم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً ، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما ، لما فيه من تقسيم البال , وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر , فيستغلقان معاً ويستصعبان .
وعلى أية حال فالتعليم عند ابن خلدون صناعة خاصة غايتها إثبات ملكة العلم في نفوس المتعلمين , وليس من واجبها ـ بهذا المعنى ـ حمل المتعلمين على حفظ فروع العلم , ودفعهم إليه ، ولذلك فهو يسعي لكي يضع للتعليم منهجين ، على المعلمين والمتعلمين أن يطبقاه في وقت واحد , وهما منهج التوسع في العلوم والمعرفة ، نظرياً وعملياً ، والآ خر منهج التدرج من الأسهل إلى الأقل سهولة , فتلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدرج شيئاً فشيئاً , وقليلاً قليلاً .
ويوجه ابن خلدون الأنظار إلى مسألة تربوية مهمة في تلقي العلم , فيشير إلى دور المحاورة والمناظرة والمفاوضة في التعليم ، فيذكر أن الطرق التربوية الصحيحة لا تقوم على أساس التأكيد على كثرة حفظ مباحث العلم واستظهارها ؛ لأن " الملكة العلمية" لا تحصل إلا " بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة" في موضوعات العلم " لأنها ستولد ملكة التصرف" و " ملكة استنباط الفروع من الأصول " و يقدم هذا المؤرخ آراءه عن أيسر الطرق التربوية للحصول على " ملكة العلم" وذلك من خلال إطلاق اللسان بالحوار والمناقشة في المسائل العلمية لأن ، " فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية يقرب شأنها , ويحصل مرامها
ولا ريب أنك ستجد في طلبة العلم الذين يتهيبون من الاشتراك في النقاشات التي تجري في المناظرات العلمية , ويفضلون السكوت , وينصرفون إلى الحفظ والاستظهار جموداً في أفكارهم وضيقاً في أفقهم ، وينطبق ذلك حتى على أولئك الذي يحسبون أنهم وضعوا أساساً لملكاتهم العلمية ، الاطلاع والقراءة والحفظ فإنك ستجد أن لديهم قصوراً في علمهم ، ويظهر ذلك واضحاً أثناء حواراتهم أو مناظراتهم أو قيامهم بالتعليم ، ويعزو ابن خلدون هذا القصور إلى رداءة طريقة التعليم , وانقطاع سنده على الرغم من أن حفظهم هو أبلغ من حفظ سواهم لشدة عنايتهم به .
نخلص من هذا الرأي الذي يقدمه ابن خلدون ، أنه ينبغي على المعلمين والمدرسين أن يدركوا حقيقة تتعلق بجوهر عملهم التربوي التعليمي ، وهو القدرة على مناقشة المسائل العلمية والفكرية واستيعاب الأفكار والآراء التي تقوم عليها المناظرات العلمية والأدبية والفنية ، وكذلك معرفة إدارة هذه المناقشات وتوجيهها توجيهاً يخدم العملية التعليمية ، والمعلم سيواجه طلبة متبايني الاتجاهات والمنطلقات الفكرية والثقافية والعلمية , فعليه أن يتدبر طروحاتهم , ويناقشها بكثير من السداد والعمق.
ولدى ابن خلدون تفسير عن تعدد المناهج وكثرتها , وتشعب مفرداتها مما يؤدي إلى التي ه , وعدم الدقة في ضبطها ، والمقصود على رأي ابن خلدون بعبارة " أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم اختلاف الاصطلاحات في التعاليم " هو تعدد المناهج وتشعب اصطلاحاتها ، والظاهر أنه لا حظ في عصره ، طرقاً عدة لتعليم الفقه , والشروحات الفقهية مثلاً , منها : الطريقة القيروانية , والطريقة القرطبية , والطريقة البغدادية , والطريقة المصرية , وطرق المتأخرين , وهذه يتبعها الكثير من التفرعات والأساليب والأنماط في تلقي الأصول والفروع في الفقه وشروحاته وتفسيراته ، لذلك فإن المتعلم مطالب باستحضارها جميعاً , وتمييز ما بينها ، ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل الذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير ، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً .
ويواصل صاحب المقدمة ضارباً المثل من علم العربية , وخصوصاً من كتاب سيبويه , وجميع ما كتب عليه , وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم , وطرق المتقدمين والمتأخرين , وجميع ما كتب في ذلك , ثم يتساءل كيف يطالب به المتعلم .
أما مسألة التحصيل , وما ينطوي عليه من طرق وأساليب تربوية , فيفصلها بقوله : إن العلوم المتعارفة على صنفين ، العلوم المقصودة بالذات , مثل التفسير والحديث وعلم الكلام وعلوم الطبيعيات والفلسفة ، والعلوم المساعدة التي تشكل وسيلة آلية للعلوم الأولى , مثل علوم العربية والحساب والمنطق ، فإذا أريد تحصيل العلوم المقصودة فينبغي دراستها , والتوسع فيها , واستكشاف الأدلة والبراهين في أصولها وتفريعاتها واستبعاد العلوم المساعدة عن التمحيص الدقيق , والدراسة المستوعبة , وذلك لأنها آلة للعلوم المقصودة بذاتها ، فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود , وصار الاشتغال بها لغواً ، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها , ب طولها وكثرة فروعها , وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات ؛ لطول وسائلها. .
و يذهب المؤرخ بعيداً عن التفصيلات حول صناعة النحو , وصناعة المنطق وأصول الفقه فيقول : إن المتأخرين أوسعوا دائرة الكلام فيها , وأكثروا من التفاريع والاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة , وصيرها من المقاصد .
فهي مضرة على حد قوله بالمتعلمين على الإطلاق , لأنه اهتمام المتعلمين بالعلوم المقصودة أكثر من ا هتمامهم بوسائلها ، لهذا يجب على المعلمين كما يقول : أن لا يستبحروا بشان العلوم الآ لية (المساعدة) وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقضوا به عنده .
ويمكن القول ، باطمئنان ، إن ما ذهب إليه ابن خلدون في هذا الصدد ، يجعل مسألة التحصيل العلمي وحيدة الجانب ، فالعلوم ينبغي أن تؤخذ بصورة متوازنة ومتكافئة ، فإذا أريد تحصيل العلوم التاريخية مثلاً فلابد حينئذ من تعلم وسيلتها وهي اللغة ، وإتقانها وضبطها من يحث التوصل إلى تحليلات دقيقة " توضحها اللغة توضيحاً كافياً" وكذلك إذا فعلنا مع العلوم الطبيعية والفلسفة بإن اللغة تظل تعين على ترسم الطريق الصحيح لإتقان هذه العلوم , وتطبع صورة جلية في ذهن المتعلم عنها ، ويبدو ذلك واضحاً في جهود كثير من طلبة العلم الذين أصبحوا فيما بعد علماء ومفكرين في الحقول العلمية التي تخصصوا فيها على أيام ابن خلدون أو على أيام المتقدمين عليه أو المتأخرين عنه.
ولعل ابن خلدون وهو المحلل لبعض أفكار عصره ، يشير إلى ما كان يجري من فصل غير مقصود بين علوم الشرعيات والطبيعيات والفلسفة , وبين علوم العربية والحساب والمنطق عند ما يراد السعي للتحصيل العلمي في صنف من أصناف العلوم الأولى ، وهو الأسلوب التقليدي المتبع في تلك الفترة ، غير أن هذا المحلل لا يدرك صواباً حين يقرر أن علوم العربية والمنطق وما سواها من العلوم المساعدة " لا حاجة بها في العلوم المقصودة ، فهي من نوع اللغو " .
ولم تكن المدارس على عهد ابن خلدون هي المراكز الوحيدة للتعليم والتعلم بل إن المعلم أو المدرس الذي يجد في نفسه الكفاءة لمزاولة المهنة ، يستطيع أن يزوالها بحرية في المكان الذي يختاره , وعلى الطريقة التي يرتئيها من غير أن يتقيد بقيد حكومي أو سلطاني ، غير القيود التي يقررها ويفرضها العرف والعادة .
وكان له أن يفعل ذلك في المساجد أيضاً " وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه , والجلوس لذلك في المساجد " .
ويبين أن المساجد صنفان , المساجد العظيمة الكثيرة الغاشية والمعدة للصلوات العامة ، الأولى ترجع إلى الخليفة أو الوزير أو القاضي ، والمساجد الخاصة ترجع إلى الناس المجاورين لها ، فإذا أراد المدرس أن يزاول مهنته في المساجد العظيمة ، فلا بد من استئذان الخليفة أو الوزير أو القاضي ، أما أذا أراد أن يزاولها في الصنف الثاني " فلا يتوقف ذلك على إذن" ويقرر ابن خلدون أن المدرسين في العالم الإسلامي لا يتصدون للمسائل التي لا تدخل في اختصاصاتهم أو التي لا يستطيعون الإيفاء بموضوعاتها , أو ما يدخل في تفصيلاتها ودقائقها ، فيشير إلى أنه " ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجر من نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس لها بأهل" .
غير أن ابن خلدون يذكر أن مهنة الت علي م تدخل في نطاق المصالح العامة , فهي تخضع لمراقبة المتحسب الذي تقوم وظيفته على موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد يأخذ " على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين " (55) كما أن أصحاب الخير من الأغنياء من السلاطين والأمراء والتجار وغيرهم كانوا يشيدون بعض البنايات المختصة للتدريس , ويربطون لها الأوقاف المغلة للجراية على معلميها ومتعلميها ، فيقول : إنهم كانوا " يستكثرون من بناء المدارس والإعانة لطالب العلم بالجراية من الأوقاف التي اتسعت بها أرزاقهم "(56) ويبدو أن صلاحية التعليم وتحديده في تلك المدارس كانت تتعين وفق الشروط التي يضعها الواقفون من أولئك الأغنياء.
ويعكس لنا ابن خلدون صورة فيها بعض الوضوح عن طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي كان يعيشها المعلمون والمدرسون في عصره , وإن مهنة التعليم كانت ضمن مهن الضعفاء فقد ذهب إلى القول " إن التعليم هذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية ، والمعلم مستضعف مسكين , متقطع الجذم " .
أما أثر المشرق الإسلامي في نشر العلم في بلاد الغرب والأندلس فيوضحه بقوله : إن أغلب الذين تلقوا تعليمهم على يد المعلمين المشارقة كانوا يهتمون بالحفظ , ويعجزون عن التصرف في المعرفة مع إ ن الهدف هو الحصول على الملكة العلمية ، أي فهم روحه العامة , والوقوف على دقائقه , والمقدرة على إبداء الرأي فيه ثم يقدم لنا معلومات تفيد في الاطلاع على تاريخ التربية في بعض البلاد الإسلامية , والمدد التي كان يقضيها الطلبة والمتعلمون في الحصول على العلوم ودراستها وإتقانها ، فيشير إلى أن المدة المعينة لسكنى طلبة العلم بالمدارس في المغرب لإتمام دراستهم ، هي ست عشرة سنة ، فيما هي في تونس خمس سنين ، ويقول إن هذه المدة التي يمضيها الطلبة في المدارس هي أقل ما يتأتي لطالب العلم للحصول على مبتغاه من الملكة العملية ، ويعلل طول المدة في المغرب عنها في البلاد الإسلامية الأخرى ، بسبب صعوبتها ، نتيجة لقلة الجودة في التعليم , وانعدام الطرق الوسائل التعليمية القائمة على أساس صحيح ومفيد ، كما يعزو هذا المؤرخ ، انقطاع سند التعليم في الأمصار العظيمة ، التي هي بغداد والبصرة والكوفة ـ وكانت معادن العلم ـ إلى الخراب الذي شاع فيها , وعدم اتصال العمران الموفور , واتصال السدد فيه.
هذا الخراب الذي ت عرض له العراق في الفترات التي يشير إليها.
وفي موضوع تنوع الثقافات في بلدان إسلامية مختلفة , وما يجنيه طلبة العلم من هذا التنوع يذكر ابن خلدون " أن الرحمة في طلب العلوم مزيد كمال في التعليم " وأن الارتحال في أرجاء العالم الإسلامي , وخصوصاً المشرق الإسلامي ينور العقل , ويكسب العلم ، ويرجع السبب في ذلك إلى أ ن الناس يكتسبون معارفهم وعلومهم بطرق مختلفة بين البلاد.
وأ خرى فمنهم من يحصلها علما وتعليماً وإلقاء, ومنهم عن طريق المحاكا ة والتلقين و المباشرة ، فالمتعلمون يختلفون في التلقي إ لا أن حصول الملكات عن المباشرة وال تلقين أ شد استحكاماً , وأقوى رسوخاً , فلقاء أهل العلم في بلاد متباينة يفيد في تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيه ، ف الرحلة على حد قوله لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المعلمين , وأرباب العلم , ومباشرة الرجال .
كما يتطرق صاحب المقدمة إلى الطريقة المثلى ، بل ي عدها الفضلى في تعلم اللغة العربية وإتقانها ، بكثرة الحفظ وجودة المحفوظ , فمن كان يروم تعلم اللسان العربي فلا بد له من أن ينتقي ما يحفظه ، وعندئذ تكون ملكته أجود , وأعلى مقاماً ورتبه في البلاغة ..
ويقول : إنه على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده , ثم إج ادة الملكة من بعدهما .
والسبب في إرتقاء الملكة في العربية يعود إلى ارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ، لأن المرء يحاول أن ينسج على منوال ها , فتنمو ملكتاه بتغ ذيت ها , وذلك لأن النفس البشرية ، وإن كانت في نوعي تها واحدة ، تختلف في البشر من حيث قوة الإدراكات وضعفها أو اختلافها وهي تتأثر إلى حد كبير بما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان التي تكيفها من الخارج , إذ يت م وجودها , فتخرج صورتها من القوة إلى الفعل ، ويزعم ابن خلدون أن هذه الملكات التي تحصل عليها النفس فيما يتعلق باللغة العربية ، إنما تأتي بالتدريج..
فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر , وملكة الكتابة تتم بالإسجاع والترسل , والعلم ية بمخالطة العلوم ، والإدراكات والإبحاث والمناظرات والفقهية بمخالطة الفقه , وتنظير المسائل وتفريعها , وتخريج الفروع على الأصول ولعل ابن خلدون لا يؤكد هنا على الشاعرية الفطرية التي تصنع الشعراء ، بل يبرر القول : إن الملكة الشعرية التي تحصل بحفظ الشعر تخلق النظّ امين , وكذلك الحال بالنسبة للكتاب والعلماء والفقهاء.
ويزيدنا ابن خلدون بياناً عن إمكان فهم اللغة التي كان يستخدمها الفقهاء فيما يأتي على ألسنتهم من أساليب خاصة تميزهم ، فقال : إنها ليست من أساليب كلام العرب (64) أما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك ، أي أنهم اتخذوا ما درج عليه العرب في لغتهم , وذلك لأنهم اختاروا ما يحفظونه ، وأنهم يخالطون كلام العرب وأساليبهم في الترسل , وانتقائ هم الجيد من الكلام
وابن خلدون في هذا الصدد يبتغي القول ، في أن لغة العلم ليست كلغة الأدب والشعر ، فمفردة الفقيه وعباراته التي يسوقها وهو في علومه الفقهيه , أو في الكتابة أو الشعر هي نفسها , وتتميز عن لغة الأديب والشاعر , ولذلك يرى ابن خلدون فيما يبدو أن المتعلمين ينبغي أن يتفهموا الأساليب التي يتميز بها الفقيه أو الأديب بغية إدراك المعنى , وإتقان التعلم.
وعلل ابن خلدون انصراف طلبة العلم إلى دارسة الفقه والتبحر فيه والتعمق في التخصص بأنه يفقد هؤلاء المتعلمين السيطرة على أساليب كلام العرب ، بسبب أن الفقيه ينحو إلى استخراج الأحكام من الأدلة على اختلاف النصوص ، فبعضها ظاهر , وبعضها يحتاج إلى الترجيح ، فيبعد المتعلمين ، الذين أصبحوا فقهاء عن ملكات اللغة بأساليب الكتاب والشعراء الذين اختاروا ما يج ب عليهم حفظه , مما درج عليه العرب في لغتهم , وهذه المخالطة لكلام العرب وأساليبهم في الكتابة والترسل إلى جانب الانتقاء الجيد من الكلام يجعلهم يختلفون في أسلوبهم , إذ تت شبع فيهم روح البلاغة.
ويعقد ابن خلدون فصلاً مهماً آخر عن تعلم العلوم العقلية , وتكوين الملكات فيها ، فيقول : إن هذه العلوم موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليفة ، وقد أطلق عليها علوم الفلسفة والحكمة , وهي تشتمل على أربعة علوم :
الأول : علم المنطق ، وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ ، فائدته تمييز الخطأ من الصواب , وفيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها , ليقف على تحقيق الحق من الكائنات بمنتهى فكره .
والثاني : العلم الطبيعي ، وهو يهتم في النظر بالمحسوسات من الأجسام التي تتكون من عناصر المعادن أو النبات أو الحيوان أو الأجسام الفلكية والحركات الطبيعية , والنفس التي تنبعث عنها الحركات .
أما الثالث : فيسمى العالم الإلهي ، وهو فلسفة ما رواء الطبيعة , يهتم في النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات , كما ينظر في الوجود المطلق .
والرابع : ويشتمل على أربعة علوم , وتسمى التعاليم .
أولها : علم الهندسة , وهو النظر في المقادير على الإطلاق .
وعلم الإرتماطيقي ، وهو ما يعرض للكم المن فص ل الذي هو العدد , ومعرفة خواصه من حيث التأليف , إما على التوالي أو التضعيف .
وثالثها : علم الموسيقي ، وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض , وتقديرها بالعدد , وثمرته معرفة تلاحين الغناء .
أما رابعها فهو علم الهيئة ، وهو تعيين الأشكال للأفلاك ، وحصر أوضاعها , وتعددها لكل كوكب من النجوم السيارة , والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية المشاهدة الموجودة لكل واحد منها , سواء الثابتة منها أو المتحركة أو المتحيرة .
ومن فروع العلم الطبيعي ة علم الطب ، ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ، ومن فروع علم الهيئة علم الأزياج , وهي قوانين لحساب حركات الكواكب وتعديلها , للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك.
ويخلص ابن خلدون إلى القول : إن المسلمين بدأوا يتشوقون إلى الاطلاع على هذه العلوم ويدرسونها , ويتفننون فيها وخصوصاً العلوم الحكمية ، فقد ازدادوا حرصاً على الظفر بها , وانتساخها بالخط العربي , وعكف عليها النظار من المسلمين , وحذقوا فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها , وخالفوا كثيراً من آراء علماء اليونان .
فنبغ من طلبة المسلمين من شُ هر في جميع البلاد الإسلامية , إذا اختص هؤلاء بالشهرة في علومهم وذكرهم , وكانت لكل عالم إسلامي متبحر في الفلسفة والعلوم من هؤلاء العلماء طرقه وأساليبه في الاطلاع والأخذ والا ستخراج والتفنن ، وكذلك في إبلاغها ونشرها وتدريسها لتلاميذهم , وللطلبة من أهل العلم الذين يفدون من البلاد التي يذكرها , مثل العراق وخراسان ومصر والمغرب والأندلس ، وحتى ينتهي إلى القول : " إن هذه العلوم أسواقها نافقة , ورسومها هناك متوفرة , وطلبتها متكثرة"
وأخيراً يلقي ابن خلدون الضوء على مسألة أكثر أهمية في الفكر التربوي العربي الإسلامي ، وذلك منذ عصر النهضة في الإسلام (القرن الرابع الهجري) حتى أيامه ( بداية القرن التاسع الهجري ) وربما تنسحب أهميتها في الوقت الحاضر ، وهي استخدام العربية في تلقين العلوم والمعارف والانصراف إ لي ها وتعلمها ..
فالعربية لها اصطلاحاتها ومسمياتها ، وهي تختلف عما جاء في العلوم في لغات الأقوام الأخرى , وخصوصاً اليونانية أن العربية تحكم التعبير في أفكار العلوم العقلية , وتعطيها صورة الحبك والتثبيت وا لتفتيح ).
ويوضح ابن خ لدون بهذا الخصوص ، أن أهل صناعة العربية ومعلميها الأندلسيين في العلوم أقرب إلى تحصيل القدرات والإمكانات على هذا الحبك والتثبيت والتفتيح من سواهم من معلمي العلوم من أهل صناعة العربية في البلاد العربية الإسلامية الأخرى ، وذلك لقيامهم بها على شواهد العرب في تراكيب طرق تعليمهم وأساليبهم ، فيسبق إلى المبتدئ والمتعلم لهذه العلوم والفنون كثير من الملكة العلمية أثناء تلقيهم التعليم , فتنقطع النفس لها , وتستعد إلى تحصيلها وقبولها ..
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم من أهل المشرق فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً , وقطعوا النظر في تراكيب كلام العرب في العلوم والمتعلم على حد قوله :" أحسن ما تفيده الملكة العلمية في اللسان هو المران منذ الصغر , وأن يأخذ بعد أن يشب تلك القوانين التي هي وسائل للتعليم المتخذة لإتقان العلوم و التوفر على اصطلاحاتها ، وليس كما يفعل بعض المتعلمين لإدراك العلوم ، بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خي اله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم , فينسج هو عليه , ويت نزل بذلك من نشأ معهم , وخالط عباراتهم في كلامهم , ولكن ليس في لغتهم وأساليبهم " ويقول كذلك :" إن تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم ، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها , وأصاروها علماً بحتا , وبعدوا عن ثمرتها وتعلمها .
وهكذا يقدم ابن خلدون عرضاً مهماً في تاريخ التربية والتعليم في العالم الإسلامي خلال عصره ، وفي طرق التعليم وأساليب التلقي للعلوم الدينية والعقلية ، يدعمه بآرائه في كثير من المسائل التربوية , ويوضح معالجتها بسداد وإدراك ، حتى إ ننا يمكن أن نعد الكثير مما أدلى به في هذا الخصوص .. اتجاهات تربوية متميزة , تحظى باهتمام علماء التربية والنفس في الوقت الحاضر , وتستجيب للنظريات والقوانين والأسس والأفكار التربوية والتعليمية الحديثة والمعاصرة.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
جزاك الله خيرا.
=========
>>>> الرد الثاني :
=========
>>>> الرد الثالث :
=========
>>>> الرد الرابع :
=========
>>>> الرد الخامس :
=========