أطراف الجزيرة العربية في الجاهلية شئ من العلم، ففي اليمن كان هنالك شئ منالعلم والفن وظهر ذلك في طرق إرواء الأرض وهندسة بناء القصور ، كما عُرف الطبوالزراعة وبيطرة الدواب وإن لم يكن ذلك علي درجة كبيرة. وقد جائهم ذلك من الفرسوالرومان والحبشة حيث كانت اليمن علي إتصال بتلك الأمم
ونجد أيضا في الحيرةالعلوم والفنون وقد بنيت بها القصور كقصري الخور نق والسدير وجائهم ذلك من الفرسواليونان حيث كانت الصلة وثيقة بين الفرس وملوك الحيرة مما عمل علي نقل هذه العلوموالمعارف إلي الحيرة.
وفي الشام وُجدت أيضا بعض العلوم والفنون وقد وصلتهم منالرومان واليونان ولقد فتحت صلة الغساسنة ملوك الشام بالرومان طريق العلم إلي جزءمن بلاد العرب
أما في أوساط الجزيرة حيث يقيم البدو فقد انعدم العلم اللهم إلاما استفاده البدو من التجارب أو ما هدتهم إليه العقول أو ما جائهم فيصورة فردية منالأمم المجاورة كعلوم النجوم ومطالعها والطب حيث كانوا يداوا بعض الأمراض بالكيوالنباتات الصحراوية وكذا الفراسة وعلم الأنساب والكهانة والعرافة وبيطرة الخيلوالجمال والتاريخ وأعظم مظاهر الحياة العقلية عند العرب تلك اللغة التي وصلتنا بماتحمله في طياتها من أمثال وتجارب وحكم وشعر وأدب.
أخلاقالعربي في الجاهلية:
لا شك أن أهل الجاهلية كانت فيهم دنايا ورذائل وأمورينكرها العقل السليم ويأباها الوجدان، ولكن كانت فيهم من الأخلاق الفاضلة المحمودةما يروع الإنسان ويفضى به إلى الدهشة والعجب، فمن تلك الأخلاق:
1 ـ الكرم:وكانوا يتبارون في ذلك ويفتخرون به، وقد استنفدوافيه نصف أشعارهم بين ممتدح به ومُثْنٍ على غيره، كان الرجل يأتيه الضيف في شدةالبرد والجوع وليس عنده من المال إلا ناقته التي هي حياته وحياة أسرته، فتأخذه هزةالكرم فيقوم إليها، فيذبحها لضيفه. ومن آثار كرمهم أنهم كانوا يتحملون الدياتالهائلة والحمالات المدهشة، يكفون بذلك سفك الدماء، وضياع الإنسان، ويمتدحون بهامفتخرين على غيرهم من الرؤساء والسادات.
2 ـ الوفاءبالعهد:فقد كان العهد عندهم دينًا يتمسكون به، ويستهينون في سبيله قتلأولادهم، وتخريب ديارهم، وتكفي في معرفة ذلك قصة هانئ بن مسعود الشيباني،والسَّمَوْأل بن عاديا، وحاجب بن زرارة التميمي.
3 ـ عزةالنفس والإباء عن قبول الخسف والضيم:وكان من نتائج هذا فرط الشجاعة وشدةالغيرة، وسرعة الانفعال، فكانوا لا يسمعون كلمة يشمون منها رائحة الذل والهوان إلاقاموا إلى السيف والسنان، وأثاروا الحروب العوان، وكانوا لا يبالون بتضحية أنفسهمفي هذا السبيل.
4 ـ المضي في العزائم:فإذاعزموا على شيء يرون فيه المجد والافتخار، لا يصرفهم عنه صارف، بل كانوا يخاطرونبأنفسهم في سبيله.
5ـ الحلم، والأناة، والتؤدة:كانوا يتمدحون بها إلا أنها كانت فيهم عزيزة الوجود؛ لفرط شجاعتهم وسرعة إقدامهمعلى القتال.
6 ـ السذاجة البدوية، وعدم التلوث بلوثاتالحضارة ومكائدها:وكان من نتائجها الصدق والأمانة، والنفور عن الخداعوالغدر.
حياة العرب الأجتماعية
ينقسم العربإلى قسمين رئيسيين:
(أ) سكان البدو:وهم أغلب سكانالجزيرة،وعيشتهم قائمة على الإرتحال و التنقل وراء العشب و الماءومن ثم سكنواالخيام المصنوعة من الوبر و الشعر والصوف،وقد أكثر الشعراء في وصفها و الوقوف أمامأطلالها (ما بقي من أحجار بعد رحيل سكانها) ،وأكثر طعام أهل البادية: الحليب والتمر،والإبل عماد حياتهم،يأكلون من لحومها،ويشربون من ألبانها،ويكتسبون منأوبارها،ويحملون عليها أثقالهم،ولقد قوموا بها الأشياء،وافتدوا بها أسراهم فيالحروب: وقال فيها شعراؤهم القصائد الطويلة،كما كانوا يعنون بالخيل، فاستخدموها فيالصيد و السباق والحروب،وكانت متاع المترفين،لذلك ورد فيها أقل مما ورد فيالإبل.
(ب) أماسكان الحضر:فقد سكنوا المدن،وعاشوا فياستقرار،واتخذوا الدور والقصور،وكانوا أقل شجاعة وأشد حبا للمال،وكان أهل اليمنأرسخ قدما في الحضارة،وقد نقل المؤرخون كثيرا من أحوالهم،في ثيابهم الفاخرة،وأطباقالذهب والفضة التي يأكلون فيها،وتزيين قصور أغنيائهم بأنواع الزينة،وقد أمدهم بذلككثرة أموالهم عن طريق التجارة و الزراعة،وكانت (قريش) في مكة أكثر أهل الحجازتحضرا،فقد أغنتهم التجارة ومن يأوي إليهم من الحجيج،فنعموا بما لم ينعم به غيرهم منسكان الحجاز.
حياة العرب الدينية:
تعددت الأديانبين العرب،وكان أكثرها انتشارا عبادة الأصنام و الأوثان،واتخذوا لها أسماء وردذكرها في القران الكريم،مثل: (اللات،والعزى،ومناة) وقد عظمها العرب وقدموا لهاالذبائح،وتأثرت حياتهم بها،حتى جاء الإسلام فأزالها وأنقذهم من شرها وكان من العربمن عبدوا الشمس كما في بعض جهات اليمن ،ومن عبدوا القمر كما في كنانة،وقد انتشرتاليهودية في يثرب واليمن وانتشرت النصرانية في ربيعة و غسان و الحيرة ونجران،وهناكطائفة قليلة من العرب لم تؤمن بالأصنام ولا باليهودية ولا بالنصرانية و اتجهت إلىعبادة الله وحده وهؤلاء يسمون بالحنفاء وكان من بينهم زيد بن عمرو بن نفيل،وورقة بننوفل وعثمان بن الحارث.وهكذا تعددت الأديان بين العرب،و اختلفت المذاهب حتى أشرقنور الإسلام فجمع بينهم،وأقام عقيدة التوحيد على أساس من عبادة الخالق وحده لا شريكله
الشعر في العصر الجاهلي:
يظل الشعر الجاهليثرياً، لا يمكن أنْ تحيط به دراسة، وينطوي الشعر الجاهلي على معضلات تعترض القاريء، إذ يلتقي بنصوص أدبية، فيها قدر من الصعوبة والغموض، وتشتمل على قدر من الخصائصالفنية والجمالية التي لها أهميتها وقيمتها
أهمالشعراء في العصر الجاهلي:
الأعشى
? - 7 هـ / ? - 628 م
ميمون بن قيس بن جندل من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، أبو بصير،المعروف بأعشى قيس، ويقال له أعشى بكر بن وائل والأعشى الكبير.
من شعراء الطبقةالأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات.
فلا تحرِمنّي نداكَ الجزيل
فإنّيأُمرؤ قَبْلكُمْ لم أُهَنْ أبو طالب
85 - 3 ق. هـ / 540 - 619 م
عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش، أبو طالب والد الإمام علي كرمالله وجهه، وعم النبي صلى اللَه عليه وسلم كافله ومربيه ومناصره كان من أبطال بنيهاشم رؤسائهم، ومن الخطباء العقلاء الأباة.
ألا إنَّ خيرَ الناسِ حيّاًوميِّتاً
بِوادي أشِيٍّ غيَّبَتْهُ المقابِر أوس بن حجر
95 - 2 ق. هـ / 530 - 620 م
أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح.
شاعرتميم في الجاهلية، أو من كبار شعرائها، أبوه حجر هو زوج أم زهير بن أبي سلمى، كانكثير الأسفار، وأكثر إقامته عند عمرو بن هند في الحيرة
تَنَكَّرتِ مِنّـا بَعـدَمَعرِفَـةٍ لَمـي وَبَعدَ التَّصَابِي وَالشَّـبَابِ المُكَـرَّمِ
المعلقات العشر:
معلقة عنترة بن شداد معلقة زهير بن أبيسلمى
معلقة طرفة بن العبد معلقة امرئ القيس
معلقة لبيد بن ربيعة العامريمعلقة النابغة الذبياني
معلقة عمرو بن كلثوم معلقة الأعشى
معلقة عُبَيد بنالأبرص معلقة الحارث بن حلزة
النثر:النثر هوكلام اختيرت ألفاظه وانتقيت تراكيبه وأحسنت صياغة عباراته بحيث يؤثر في المستمع عنطريق جودة صنعته. فهو يختلف عن الكلام العادي الذي يتكلم به الناس في شؤونهمالعادية. وأنواع النثر الجاهلي هي: الخطابة والأمثال والحكم والقصص وسجع الكهان. وسجع الكهان يتصف بقصر جمله وكثرة غريبه والتوازن في عباراته، ويحرص الكاهن علىإخفاء كلامه باتباع هذا الأسلوب، والخطابة من أبرز أنواع النثر في العصر الجاهلي،وتتلوها من ناحية الأهمية: الأمثال؛ لسيرورتها بين عامة الناس وخاصتهم ولهذافسنتناول هذين النوعين بشيء من التفصيل
أبرز كتابالنثر:
قيس بن خارجة بن سنان زهير ابن جناب هاشم بن عبد مناف وابنه عبدالمطلب
هانيء بن مسعود الشيبان حاجب بن زرارة الحارث بن عبّاد البكرى
* قس بنساعدة أكثم بن صيفى
المؤلفات التي تناولت الحياة العقلية في العصر الجاهليهي:
كتاب للشيخ مصطفى الغلاييني :::::::::::::::::::: رجال المعلقاتالعشر.
كتاب لجورجي زيدان :::::::::::::::::: تاريخ الآداب العربية.
لعبدالرحمان شيبان ::::::::::::::::::::::::: الادب الجاهلي.
كتاب لطه حسن ::::::::::::::::::: العصر الجاهلي كتاب
مدلول مصطلحالجاهلية :
ونحب أن نصحح بعض المفاهيم الخاطئة عن هذا العصر ، فقد درجأكثر القدماء والمحدثين على تفسير معنى الجاهلية بالأمية، أي عدم معرفة القراءةوالكتابة، وَوُصمَ العصرُ الجاهليُّ بالتخلّف الحضاريّ، وأبناء العصر بالتخلّفالثّقافيّ. ولكن النظرة الموضوعية أسهمتْ في إزالة الغبار الذي علق بهذا المصطلح،وقد رأى فيليب حَتي أن الحقيقة خلاف ذلك. فالجاهلية في المعنى الصحيح هي ذلك العصر، الذي لم يكن لبلاد العرب فيه ناموس وازع، ولا نبيٌّ ملهم، ولا كتاب منـزل . فمنالخطأ أن نصف بالجهل والهمجية هيئة اجتماعية امتازت بما يمتاز به عرب الجنوب منثقافة ، وحضارة قطعتْ في ميدان التجارة والأشغال شوطاً بعيداً قبل الإسلام بقرونمتطاولة “.
وهكذا ينتهي المؤلف إلى تفسير فكرة الجاهلية على أساس ديني محض،فالعرب لم يكونوا أُميين، ووصْفهم بالجاهلية إنما هو تعبير عن أميتهم الدينية. وشبيه بذلك ما ذهب إليه الدكتور ناصر الدين الأسد، حيث يقول نافياً تجهيل الجاهلية :” إن حياة العرب في الجاهلية – فيما بدا لنا- بعيدة كل البعد عما يتوهمه بعضالواهمين ، أو يقع فيه بعض المتسرعين الذين لا يتوقفون، ولا يتثبتون، فيذهبون إلىأن عرب الجاهلية لم يكونوا سوى قوم بدائيين، يحيون حياة بدائية في معزل عن غيرهم منأمم الأرض… ونذهب إلى أن عرب الجاهلية الأخيرة كانوا من الحضارة بمنزلة لا سبيل إلىتجاوزها ، ولا مزيد عليها لمستزيد….
ومن الباحثين من ذهب إلى أن كلمة الجاهليةأُطلقتْ على هذا العصر ، ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، وإنما هيمشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب ، والنّزق، فالكلمة إذن تنصرف إلى معنى الجهلالذي هو مقابل الحلم، ومن هذا قولُ الشنفرى الأزدي في لاميته:
ولا تزدهيالأجهالُ حِلْمي ولا أُرى سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل
والى هذا المعنى يذهبعمرو بن كلثوم في معلقته إلى القول:
ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهلالجاهلينا
بُغاةً ظالمين وما ظُلمْنا ولكنّـا سنبـدأ ظالمينـا
وواضح من هذهالأقوال أن الجهل هنا يُقصد به الحمقُ والسّفهُ ، وعدمُ ضبط النفس ، وفقدانُ سيطرةالعقل ، وعدمُ السلوك الحكيم.
ولكن ينبغي أن ننبه إلى أن هذا لم يكن حال القومفي مجموعهم، ولم يكن كل من عاش في ذلك العصر متصفاً بهذه الصفات التي تتنافى معالعقل والحكمة، والاتزان، والروية . فقد كان هناك أفراد اشتهروا بالعقل السديد،والرأي الصائب، وبُعْدِ النظر، كزهير بن أبى سلمى، وأوس بن حجر، وعبيد بن الأبرص،والحارث بن عوف، وهرم بن سنان ، وقيس بن عاصم ، والحارث بن عباد، وعامر بن الظربالعدواني ، والربيع بن زياد العبسي. وكانت سمتهم الظاهرة الحكمة ، حتى أن العرباتخذوا من أولئك العقلاء حكاماً ، يستشيرونهم في شؤونهم ، ويحكمونهم في دمائهمومواريثهم، اذكرُ منهم : اكثم بن صيفي ، وضمرة بن ضمرة النهشلي، وربيعة بن مخاشن،وحاجب بن زراة .
والأولى أن تكون كلمة الجاهلية قد أُطلقتْ – حين أطلقت – لتدلعلى شيوع عبادة الأوثان بينهم، فلا شك أن من بين العرب من كان يركع لصنم، أو ينحرلنصب، أو يتمسح بوثن، تقرباً لله وزلفى. فالجاهلية مصطلح إسلامي يشير إلى أن العربقبل الإسلام لم تكن ناعمة بزمن الإسلام، وإشراق تعاليمه)، وليس ثمة ما يُسوّغانصراف مصطلح الجاهلية إلى توحّش العرب ، وجهلهم بعلوم زمانهم
ويمكن ردّ التطرفضد العرب قبل الإسلام ، ونعتهم بالتوحش ، والجهل المطبق إلى ثلاثة أسباب :
الأول : دينيّ ، ويتضح من خلال الحرص على تبيان أثر الإسلام فيالمجتمع العربي ، وكأنّ الإسلام قد خلق هؤلاء الذين آمنوا خلقاً جديداً ،لم يكونواقبله شيئاً يذكر
الثّاني:شعوبي، ومن المعلوم أنالشعوبية تنوء بكراهية العرب، فلم تتركْ عادة قبيحة ، إلا وألصقتْها بالعرب، إذ لميرُق لهم كونُ العرب أمةً تسعى للمعرفة والخير) .
الثالث :المستشرقون ، وإذا كان بعضهم – ممن اتسم سلوكه بالموضوعية، والأمانةالعلمية – قد أفاد مكتبة العصر الجاهلي الأدبية ، سواء أكان ذلك بالأبحاث ، أوتحقيق بعض دواوين الشعراء ، فإن دراسات بعضهم من أمثال مرجوليوث ،ورينان وأوليري ، ” قد أساؤوا إلى العرب وأدبهم وحضارتهم وعقليتهم ” إساءة متعمدة فقد صدروا – فيماكتبوا – عن روح عنصرية يبرأ منها العلم
صورة موهومة شائعة عن حياة العرب قبلالإسلام
شرّ ما تُصابُ به الشّعوبُ ، أن يتحرّى القائمون على ثقافتها مرضاةالعوام، بكل ما يسخط الحق ، ويمسخ التاريخ.
يكتب الكاتبون كتباً ومقالات ،ويتحدث الواعظون في مجالسَ وندواتٍ، فلا يكون لهؤلاء ولا لأولئك حديثٌ أحبّ إليهم ،ولا أرضى لعواطفهم من أن يخلعوا على الأمة العربية في عصر ما قبل الإسلام كلّ مايضع من أحساب العرب، ويغضّ من أقدارهم، ويرمي بهم في مطارح الرذيلة، وكأن الإسلامقد خلق الذين أيدوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- خلقاً جديداً ، لم يكونوا قبلهشيئاً يذكر بفضل أو ينسب إلى كرم.
وحقيقة الأمر ” أن الإسلام لا يمكن أن يكونشجرة منبتة الأصل عن البيئة التي وجدت فيها، لا تمتّ بنسب إلى عقول العرب، وهذايخالف طبيعة الأشياء”).
ويكفي للدّلالة على خُلق القوم قبل الإسلام ، وعلى ماكانوا يتّصفون به من مُثُل عليا – ما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر :” يا أبا بكر ، أيّةُ أخلاق في الجاهلية هذه ، ما أشرفها ! بها يدفع الله عزّ وجلّبأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم”. وإذا أسبغ الرسول الكريم على العربفي جاهليتهم هذا الشرفَ، وأثنى عليهم، فليس عجيباً أن يروى عن عمرَ بن الخطاب – رضيالله عنه- قولُه:” إني لأعلم متى تهلك العرب، إذا جاوزوا الجاهلية فلم يأخذوابأخلاقها ، وأدركوا الإسلام فلم يَقُدْهُمُ الورع”
ولستُ أزعم أني سأفتح في هذاالكتاب فتوحاً في التاريخ والاجتماع، ولكني أرجو أن أكشف عن بعض الحقائق.
فقدغبر الناس في وهم عجيب ، وتصوّر أعجب منه للحياة السابقة للإسلام. فعندهم أن العربقد جاءهم الإسلام ، وهم يعيشون عيش الجماعات البدائية ، التي تبرأ حياتها منالنظام، فهم في فرقة أبداً ، وفي حروب لا تنقطع، وليست حروبهم في سبيل غاية سامية،وإنما هي غارات قبلية يشنها قويُّهم على ضعيفهم، وتقوم فيها القبيلة للقبيلة،والطائفة للطائفة في جماعة لا تربط فيها بين الناس إلا تلك الروابطُ الساذجةُ منالقرابة أو النّسب، التي تقوم بين أعضاء الأسرة، وأن هذه الروابطَ هي التي تنتهيعندها كلّ العلاقات، وتتكيف على مقتضاها الفضائل والأخلاق.
وأول ما أحبّ أنأقولَه هو أن هذه الصورةَ ليستْ صحيحة، وأن هذا الوهمَ خاطئ، فالعرب يوم جاءهمالإسلام لم تكن تنزل من حياتهم تلك المنزلة الجسيمة هذه الدّواعي التافهة، والعربلم يكونوا يومئذ جماعة بدائية، يعيش أهلها عيْش السّائمة ، لا تحكمهم فيما بينهمإلا تلك العلاقاتُ ،التي لا تسود الجماعاتِ إلا في الطّور الباكر منتاريخها.
وانك ليسقط عندك هذا الوهمُ، إذا أنت نظرت فوجدت أن هذه الأمة التيتُصور لنا هذا التصوير، هي نفسها التي تتحدث لغة تستطيع ، وأنت مطمئن تمامالاطمئنان، أن تضعها في مقدمة اللغات القديمة والحديثة كلها ، سلامة ،واكتمالاً،وجمالاً ، ووفاء ،وحيوية.
فهذه اللغة موزونة ، يعتمد اللفظ من ألفاظها على بنيةموسيقية سليمة … وما كذلك تكون لغات الأمم، إذا كانت عند بداية تكونها الاجتماعي،وعلى عتبة التنبه العقليوالفكري. وإنما تكون عند هذه المرتبة لغة قوم بعد أن تدورفي آفاق واسعة من التعبير عن الحاجات والمشاعر ، وتمتد إلى أعماق بعيدة من التحضرلا يمكن أن تتهيأ لأمة من الأمم، إذا كانت عند مطلع التكوين الاجتماعي والقومي. فاللغة العربية لا يمكن أن تكون لغةَ قوم كانت تلك حالهم قبل الإسلاممباشرة.
الجاهلية في اللغة والأصول :
الظاهر أن الجاهلية نسبة إلى الجاهل وهومن لفظ الجهل الذي هو ضد العلم والمعرفة، وهناك رأي يقول إنها ليست من الجهل الذيهو ضد العلم، ولكن من الجهل الذي هو السفه أي ضد الحلم، وهو شدة الأنفة والخفةوالغضب.
والواقع أنه لا تعارض بين الاثنين؛ فإن العرب قد أطلقت الجهل علىالمعنيين كما أن بينهما صلات وروابط، إحداها معرفي والآخر أخلاقي.
وقد استخدمتالنصوص الشرعية معنى ثالثًا لهذه اللفظة، بأن جعلت من الجاهلية مذهبًا وطريقة تضادوتقابل منهج الحياة في الإسلام.
فمن الآيات التي وردت فيها هذه المادة بمعنىالعلم قوله تعالى: “للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرضيحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف” (البقرة: 273)، ومن الآيات التي وردت فيها بمعنىالطيش والسفه قوله تعالى: “إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثميتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا” (النساء: 17).
ويلاحظ أن القرآن الكريم قد أورد مصطلح “الجاهلية” بالمعنى الثالث فيسياقين:
الأول: يقابل بين النبوات وأتباعها وبين الجاهلين؛ فهي على المستوىالاعتقادي تتضمن موقفًا من الوحي والغيب بأسسه ومنطلقاته، يرتكز على تصور الخالقبشكل مادي مجسد تدركه الحواس.
الثاني: استخدم الجاهلية كمرجعية تقاس عليهاالأشياء فثمة اعتقاد بالله سبحانه وتعالى له آثار سلوكية مختصة بالجاهلية يتباينبشكل كامل عن اعتقاد آخر له آثار سلوكية أخرى يختص بها الإسلام.
وبناء على ذلك،استخدمت لفظة الجاهلية كوصف للاعتقاد (آل عمران: 154، والحكم
أديان العرب فيالجاهلية :
كانت لبلاد الحجاز أهميتها من الناحية الدينية، ففيها تلاقت جميعالأديان الوثنية وعبدة الكواكب والنار إلى جانب اليهودية والنصرانية، وقد كان بعضالعرب يقدّسون الحيوان ويعبدونه لتحصيل البركة ويتسمّون بأسماء الحيوان، أو بأسماءطيور أو أسماء حيوانات مائية أو بأسماء نباتات أو بأسماء أجزاء من الأرض أو بأسماءحشرات، فهذه الأسماء تدل على تقديس العرب للحيوانات والنبات إلى جانب تفاؤلهم بها،كذلك كانوا يتعمدون تسمية أبنائهم بمكروه الأسماء وتسمية عبيدهم بمحبوب الأسماء،وكانت هذه التسميات تتسم بطابع الحياة التي كان يعيشها المجتمع العربيآنذاك.
ومن اللافت للانتباه أنّ العربي في تلك الحقبة كان يتجنب قتل بعضالحيوانات اعتقاداً منه أنه لو قتله جوزِيَ بقتله، بالإضافة إلى ذلك، فإنه كانيتفاءل ببعض الطيور كالحمام ويتشاءم من بعضها كالغراب، وأكثر من ذلك، فإنه كان يؤمنبوجود قوى خفية روحية مؤثرة في العالم والإنسان، وهذه تكمن في بعض الحيواناتوالطيور والنبات والجماد وبعض مظاهر الطبيعة المحيطة به كالكواكب، الأمر الذي أدىبه إلى أن يربط بين هذه الكائنات والموجودات وبين القوى الخفية.
ولكن هذه الحالةالاعتقادية ما لبثت أن تطورت ممثلة بالوثنية التي تجاوزت حدود المعقول، وأدت إلىعبادة قطع من الصخور التي كان يستحسن مظهرها وهيئتها، وهذا بدوره أدى إلى نسجالأساطير والقصص بالموجودات التي تحيط به، كالجبال والآبار والأشجار.
ولم يكنتقديسه لهذه المظاهر الطبيعية وعبادته لها باعتبارها تمثل أرباباً، ولكنه كان يشعرتجاهها بنوع من الإجلال والتقدير، وقد تنوّعت طرق تعاطيه معها، فتارة يقدسها، وأخرىيستقسم بها وثالثة يأكلها حين الجوع…
أ ـ عبدة الأصناموالأوثان:
كان العرب في الجاهلية يعبدون الأصنام والأوثان والأنصاب التيتحوّلت كما يبدو إلى أصنام، وكانت الأصنام على أشكال متنوعة، منها ما هو على صورةإنسان أو حيوان أو طير، ومن أشهرها (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسرا، واللاتوالعزى، ومنآة، وهبل..).
ب ـ عبدة الكواكب والنار:
لمتقتصر الحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية على عبادة الأصنام والأوثان، بل وجدتبعض الفئات الأخرى التي انصرفت إلى عبادة الكواكب والنجوم بأشكالها المتعددة كالشمسوالقمر والزهرة وعطارد والثريا وغيرها..
وقد عرفت هذه الجماعة بالصابئة التياستمدّت أصولها الاعتقادية كما تدعي بالأخذ من محاسن ديانات العالم وإخراج القبيحمنها قولاً وفعلاً، ولهذا سموا بـ”الصابئة”، وقد وجد إلى جانب هؤلاء عبدة النار “المجوسية”، وكانت قد عرفت هذه الديانة عن طريق الفرس في الحيرة واليمن، كما انتشرتالزندقة بين صفوف سكان شبه الجزيرة في الحيرة.
والزنادقة قوم أنكروا الخالقوالبعث، ومنهم من أنكر الرسالة وأنكر بعث الأنبياء، وإلى جانب هذه النظراتالاعتقادية وعبادة الأوثان، نجد أنه كان للعرب آراء ومعتقدات خرافية، فمثلاً كانتلهم في الجاهلية مذاهب في النفوس، فمنهم من زعم أنّ النفس هي الدم وأن الروح هيالهواء، وزعمت طائفة أن النفس طائر ينبسط في جسم الإنسان فإذا مات لم يزل مطيفاً بهفي صورة طائر يصرخ على قبره مستوحشاً ويسمونه “إلهام” و”الواحدة”، كما أنهم كانوايعتقدون بالوهميات كالغول وغير ذلك…
تأثيرات عرب الجاهلية :
قال المعترضون إنه بما أن محمداً كان قد عزم على إنقاذ العرب وتحريرهممن عبادة الأصنام وهدايتهم إلى عبادة الله، وبما أنه كان يعرف أنهم كانوا في زمنإبراهيم مؤمنين بوحدانية الله، وبما أنهم حافظوا على كثير من العادات والفروض بطريقالتوارث عن آبائهم الأتقياء، فإنه لم يُلزِمهم أن يتركوها كلها، بل بذل الجهد فيإصلاح ديانتهم، وإبقاء كل عادة قديمة رأى أنها موافقة ومناسبة. فقال: »ومن أحسنديناً ممَّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذ الله إبراهيمخليلاً« (سورة النساء 4: 125)، وقال: »قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وماكان من المشركين« (سورة آل عمران 3: 95)، وقال: »قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيمديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين« (سورة الأنعام 6: 161). وبماأن محمداً ظن أن العرب حافظوا من عصر إبراهيم على جميع عاداتهم وفروضهم، ما عداعبادة الأصنام والشِرك ووأد البنات والأطفال وما شاكل ذلك من العادات الكريهة، أبقىكثيراً من هذه العادات الدينية والأخلاقية في ديانته وحافظ عليها.
ومعروفٌ أنبعض قبائل جنوب بلاد العرب وشرقيها اختلطوا مع نسل حام بن نوح، وقال ابن هشاموالطبري وغيرهما إن كثيرين من سكان جهات بلاد العرب الشمالية والغربية تناسلوا منسام بن نوح، وبعضهم تناسل من قحطان (يقطان)، وبعضهم تناسل من أولاد قطورة زوجةإبراهيم الثانية، وتناسل البعض الآخر (ومنهم قبيلة قريش) من إسماعيل بن إبراهيم. ولا ينكر أحد أن جميع القبائل التي تناسلت من ذرية سام كانوا يؤمنون بوحدانية الله. ولكن مع مرور العصور أخذوا الشرك وعبادة الأصنام من القبائل السورية وسكان الجهاتالمجاورة لهم، وأفسدوا ديانة أسلافهم، وفسدوا هم أنفسهم. ومع ذلك، لما نسيت جميعالأمم الأخرى (ما عدا اليهود) وحدانية الله، كان سكان الجهات الشمالية والغربية منشبه الجزيرة العربية متمسكين بالوحدانية تمسكاً راسخاً. والأرجح أن دخول عبادةالشمس والقمر والكواكب بين سكان تلك الجهات بدأ في عصر أيوب (أيوب 31: 26-28). وقالهيرودوت، أشهر مؤرخي اليونان (نحو 400 ق م) إن العرب سكان تلك الجهات كانوا يعبدونمعبودين فقط، هما »أُرُتال« و»ألإلات« (تاريخ هيرودوت، كتاب 3 فصل . وقصد هيرودوتبالمعبود »أُرُتال« الله، فإن هذا هو اسمه الحقيقي. ومع أن هيرودوت زار بلاد العرب،إلا أنه كان أجنبياً، فلم يتيسَّر له ضبط هذا الاسم، فحرَّفه لجهله باللغة العربيةوتهجئتها والنطق بها. ومن الأدلة القوية الدالة على أن هذه التسمية (أي الله) كانتمشهورة ومنتشرة بين العرب قبل زمن محمد، أنه كثيراً ما ذُكر اسم الله في سبعمعلَّقات العرب (وهي تأليف مشاهير شعراء العرب قبل مولد محمد، أو على الأقل قبلبعثته) فقد ورد في ديوان النابغة ما نصه:
لهم شيمةٌ لم يعطها اللهُ غيرَهم منالجود والأحلام غير مَوَازِبِ
محلَّتهم ذاتُ الإلهِ ودينُهم قويمٌ فما يَرجونغيرَ العواقبِ
وأيضاً:
ألم ترَ أن اللهَ أعطاك سورةً ترى كل مَلِكٍ دونهايتذبذبُ
أنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ إذا طلعَت لم يبْدُ منهنَّكوكبُ
وأيضاً:
ونحن لديه نسألُ اللهَ خُلْدَهُ يردُّ لنا مُلكاً وللأرضعامراً
ونحن نزجّي الخُلد إن فاز قِدْحُنا ونرهبُ قِدحَ الموتِ إن جاءقاهراً
وقال لبيد في ديوانه:
لعمرِك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجراتُالطيرِ ما اللهُ صانعُ
وقد كانت الكعبة من قديم الأيام أقدس مسجد عند جميع قبائلالعرب. قال ثيودور الصقلي، أحد مؤرخي اليونان (نحو 60 ق م) إن العرب كانوا يعتبرونالكعبة في ذلك الوقت مسجداً مقدساً (تاريخ ثيودور الصقلي كتاب 3) وكان يطلق على هذاالمقدس »بيت الله«. ويُستدل من دخول أداة التعريف على لفظ الجلالة أن العرب لمينسوا عقيدة وحدانية الله، وأنه كان عندهم كثير من المعبودات، حتى أطلق عليهمالقرآن بسببها اسم »المشركين« لأنهم أشركوا مع الله غيره من المعبودات وعبدوها،وظنوا أنها شريكة معه في الإكرام والعبادة. ولكنهم كانوا يقولون لا نعبد هذهالمعبودات الثانوية كما نعبد الله الحي (الذي هو الله) بل بالعكس إنّا نعتبرهمشفعاء، ولنا الرجاء أن بشفاعتهم نستميل الله الحقيقي لإجابة طلباتنا. وقالالشهرستاني: »إن العربكانوا يقولون الشفيع والوسيلة منّا إلى الله تعالى همالأصنام المنصوبة، فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل« (الملل والنحل ص 109). ومنالأدلة على أن عبَدة الأصنام كانوا يعتقدون بهذا، ما ورد في كتاب »المواهباللدنية«: »قدِم نفرٌ من مهاجري الحبشة حين قرأ محمد »والنجم إذا هوى« (سورة النجم 53: 1) حتى بلغ »أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى« (53: 19 و20) ألقىالشيطان في أمنيته (أي في تلاوته) »تلك الغرانيق العُلى، وإن شفاعتهنَّ لتُرتجي« فلما ختم السورة سجد (ص) وسجد معه المشركون لتوهُّمهم أنه ذكر آلهتهم بخير. وفشىذلك بالناس وأظهره الشيطان حتى بلغ أرض الحبشة، ومَن بها مِن المسلمين: عثمان بنمظعون وأصحابه، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا معه (ص) وقد أمِن المسلمونبمكة، فأقبلوا سِراعاً من الحبشة«.
وذكر ابن إسحق، وابن هشام، والطبري وكثيرونغيرهم من مؤرخي الإسلام هذه الحكاية أيضاً، وأيدها يحيى، وجلال الدين، والبيضاوي فيتفاسيرهم لسورة الحج 22: 52 »وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقىالشيطان في أمنيته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان«. وقال الشهرستاني بخصوص مذاهبقدماء العرب وعاداتهم: »والعرب الجاهلية أصناف، فصنفٌ أنكروا الخالق والبعث وقالوابالطبع المحيي والدهر المغني، كما أخبر عنهم التنزيل. وقالوا ما هي إلا حياتناالدنيا نموت ونحيا. وقوله: »وما يهلكنا إلا الدهر« (سورة الجاثية 45: 23). وصِنفٌاعترفوا بالخالق وأنكروا البعث، وهم الذين أخبر الله عنهم بقوله: »أفعيينا بالخلقالأول بل هم في لبس من خلق جديد« (سورة ق 50: 14). وصنفٌ عبدوا الأصنام وكانتأصنامهم مختصة بالقبائل، فكان وُدٌّ لكلب، وهو بدومة الجندل، وسُواع لهذيل، ويغوثلمَذْحَج ولقبائل من اليمن، ونسر لذي الكلاع بأرض حمير، ويَعوق لهمذان، واللاتلثقيف بالطائف، والعُزَّى لقريش وبني كنانة، ومناة للأوس والخزرج، وهُبَل أعظمأصنامهم. وكان هُبل على ظهر الكعبة، وكان آساف ونائلة على الصَّفا والمروة. وكانمنهم من يميل إلى اليهود، ومنهم من يميل إلى النصرانية، ومنهم من يميل إلى الصابئة،ويعتقد في أنواء المنازل اعتقاد المنجِّمين في الكواكب حتى لا يتحرك إلا بنوء منالأنواء، ويقول أمطرنا بنوء كذا. وكان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الجن. وكانت علومهم علم الأنساب، والأنواء، والتواريخ، وتفسير الأحلام، وكان لأبي بكرالصديق فيها يدٌ طولى«.
وكانت الجاهلية تفعل أشياء جاءت شريعة الإسلام بها،فكانوا لا ينكحون الأمهات والبنات، وكان أقبح شيء عندهم الجمع بين الأختين، وكانوايعيبون المتزوّج بامرأة أبيه ويسمونه »الضيزن«. وكانوا يحجّون البيت ويعتمرونويحرمون ويطوفون ويسعون ويقفون المواقف كلها ويرمون الجمار، وكانوا يكسبون في كلثلاثة أعوام شهراً، ويغتسلون من الجنابة. وكانوا يداومون على المضمضة والاستنشاقوفرق الرأس والسواك والاستنجاء وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة والختان،وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى (من كتاب الملل والنحل للشهرستاني).
قال ابنإسحاق وابن هشام إن ذرية إسماعيل كانوا أولاً يعبدون الله الواحد ولا يشركون معهأحداً، ثم سقطوا في عبادة الأصنام. ومع ذلك فقد حافظوا على كثير من العادات والفروضالتي كانت في أيام إبراهيم، فلم ينسوا أن الله كان أرفع من معبوداتهم، بل أنه هوالحاكم والمتسلط عليها جميعاً. وذُكر في
سيرة الرسول:
»خلفت الخلوف ونسوا ماكانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسمعيل غيره، فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ماكانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات. وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم يتمسكونبها، من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وهديالبدن والإهلال بالحج والعمرة، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكانت كنانة وقريش إذاأهلوا قالوا: »لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك«. فيوحدونه بالتلبية ثم يُدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده«.
وذكر في القرآنقوله »إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبرالأمر، ما من شفيع إلا من بعد إذنه. ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون« (سورةيونس 10: 3). فالواضح من هذا أن العرب في أيام الجاهلية كانوا يعبدون الله بشفاعةالعزى ومناة واللات (كما يطلب المسلمون في الوقت الحاضر غفران الخطايا من الله عزوجل بشفاعة الأولياء). وحينئذ يصدق على العرب الوثنيين لا مسلمي هذا الزمان قولالقرآن إنهم مشركون. فينتج من ذلك أن سكان بلاد العرب حافظوا على عبادة الله إلىعصر محمد، واعترفوا بوحدانيته. وبناءً على ذلك يقول المعترضون إن محمداً أخذ هذهالعقيدة من قومه وتعلمها من جدوده وأسلافه، ويتضح من اسم والده »عبد الله« واسم ابنأخيه »عبيد الله« الوارد فيهما لفظ الجلالة بأداة التعريف (وهي دلالة علىالوحدانية) أن هذه العقيدة الشريفة كانت معروفة قبل بعثة محمد، وأن الديانةالإسلامية أخذت عادات الطواف والإهلال والإحرام وغيرها كثيراً من ديانة هذه القبائلالقديمة.
وكان الختان من هذه العادات، كما قال الشهرستاني. ويتضح من نبذة صغيرةتسمى »رسالة برنابا« أن الختان لم يكن عند العرب فقط من قديم الزمان، بل كان مرعياًعند أمم كثيرة أيضاً، فإن مؤلف هذه الرسالة (التي كُتبت نحو سنة 200م) قال: »إن كلسوري وعربي، وجميع كهنة الأصنام يختتنون«. وكان الختان مرعياً عند قدماء المصريينأيضاً. ومع أن العرب كانوا يعبدون أصناماً كثيرة في أيام محمد، حتى كان يوجد فيالكعبة 360 تمثالاً، إلا أن ابن إسحق وابن هشام قالا إن عمراً بن لحي وهذيل بنمدركة أتيا بعبادة الأصنام منسوريا إلى مكة خمسة عشر جيلاً قبل عصر محمد. ولا يحتاجأحد إلى وحي وإلهام لمعرفة قباحة وبطلان هذه العادة المستحبَّة جداً عند العرب،بحيث لم يتمكن محمد من منعهم عن مزاولتها. وهذا هو سبب تقبيل الحجاج الحجر الأسودإلى يومنا هذا.
واضحٌ أن مصدر الديانة الإسلامية الأول كان تلك الفروض الدينيةوالعادات والاعتقادات التي كانت متداولة وسائدة في أيام محمد بين قبائل العرب، ولاسيما قريش .
ولم أعرف جواباً يرد به المسلمون على أقوال المعترضين هذه، إلاقولهم إن هذه الفروض والعادات أنزلها الله أولاً على إبراهيم، ثم أمر محمداً أنيبلغها للناس ثانية ليتمسكوا بها تمسكاً راسخاً. ولكن واضحٌ من خمسة أسفار موسى أنالاعتقاد بوحدانية الله، وفرض الختان كان من أركان ديانة إبراهيم، إلا أنه لم يردفي التوراة والإنجيل ذكر لمكة ولا للكعبة ولا للطواف ولا للحجر الأسود ولا للإحرام. ولا شك أن العادات المرتبطة والمتعلقة بهذه الأشياء هي اختراعات عبدة الأصنام، وليسلها أدنى ارتباط ولا علاقة بدين إبراهيم.
وقال المعترضون إن بعض آيات القرآنمقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد. وأوردوا بعضقصائد منسوبة إلى امرئ القيس مطبوعة في الكتب باسمه تأييداً لقولهم. ولا شك أنه وردفي هذه القصائد بعض أبيات تشبه آيات القرآن، بل هي عينها، أو تختلف عنها في كلمة أوكلمتين، ولكنها لا تختلف معها في المعنى مطلقاً. وهاك الأبيات التي يوردهاالمعترضون، وقد أظهرنا العبارات التي اقتبسها القرآن بخط أوضح:
دنت الساعةُوانشقَّ القمر عن غزالٍ صاد قلبي ونفر
أحور قد حرتُ في أوصافه ناعس الطرف بعينيهحَوَر
مرَّ يوم العيــد في زيـنته فرماني فتعاطى فعقر
بسهامٍ من لِحاظٍفاتــكِ فتَرَكْني كهشيمِ المُحتظِر
وإذا ما غــاب عني ساعةً كانت الساعةُ أدهىوأمرّ
كُتب الحسنُ على وجنته بسَحيق المِسْك سطراً مُختصَر
عادةُ الأقمارِتسري في الدجى فرأيتُ الليلَ يسري بالقمر
بالضحى والليلِ من طُرَّته فَرْقه ذاالنور كم شيء زَهَر
قلتُ إذ شقَّ العِذارُ خدَّه دنت الساعةُ وانشقَّالقمر
وله أيضاً:
أقبل والعشاقُ من خلفه كأنهم من كل حدبٍ يَنْسلون
وجاءيوم العيد في زينته لمثل ذا فليعملِ العاملون
وقال المؤرخون إنه جرت العادةسابقاً بين العرب أنه إذا نبغ بينهم رجل فصيح بليغ، وألف قصيدة بديعة غراء علَّقهاعلى الكعبة، وأن هذا هو سبب تسمية »المعلقات السبع« بهذا الاسم، لأنها عُلِّقت علىالكعبة. غير أن بعض المحققين الثقاة أنكروا أن هذا هو سبب التسمية. إلا أن هذا قليلالأهمية. وقال المفسر الشهير أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس (توفي سنة 338 هـ) فيهذا الصدد: »اختلفوا في جامع هذه القصائد السبع، وقيل إن أكثر العرب كانوا يجتمعونبعكاظ ويتناشدون الشعر، فإذا استحسن الملك قصيدة قال: علقوها واثبتوها في خزانتي. فأما قول من قال عُلِّقت على الكعبة، فلا يعرفه أحد من الرواة. وأصح ما قيل في هذاإن حماداً الرّاوية، لما رأى زُهد الناس في الشعر، جمع هذه السبع وحضَّهم عليها،وقال لهم: هذه هي المشهورات. فسُمِّيت »القصائد المشهورة« لهذا السبب. وقال السيوطيبالفكرة نفسها، وأضاف إليها أن الأشعار كانت تُعلَّق على الكعبة (كتاب مذكر ج 2 ص 240).
ومن الحكايات المتداولة في عصرنا الحاضر أنه لما كانت فاطمة بنت محمد تتلوآية »اقتربت الساعة وانشق القمر« (سورة القمر 54: 1) سمعتها بنت امرئ القيس وقالتلها: هذه قطعة من قصائد أبي، أخذها أبوك وادعى أن الله أنزلها عليه. ومع أنه يمكنأن تكون هذه الرواية كاذبة، لأن امرء القيس توفي سنة 540م، ولم يولد محمد إلا فيسنة الفيل (أي سنة 570 م) إلا أنه لا ينكر أن الأبيات المذكورة واردة في سورة القمر 54: 1 و27 و29؛ وفي سورة الضحى 93: 1 و2؛ وفي سورة الأنبياء 21: 96؛ وفي سورةالصافات 37: 61، مع اختلاف طفيف في اللفظ وليس في المعنى. مثلاً ورد في القرآن »اقتربت« بينما وردت في القصيدة »دنت«. فمن الواضح وجود مشابهة بين هذه الأبياتوبين آيات القرآن. فإذا ثبت أن هذه الأبيات هي لامرئ القيس حقيقةً، فحينئذ يصعب علىالمسلم توضيح كيفية ورودها في القرآن، لأنه يتعذر على الإنسان أن يصدق أن أبياتوثني كانت مسطورة في اللوح المحفوظ قبل إنشاء العالم.
ولستُ أرى مخرجاً لعلماءالإسلام من هذا الإشكال إلا أن يقيموا الدليل على أن امرء القيس هو الذي اقتبس هذهالآيات من القرآن، أو أنها ليست من نظم إمرئ القيس الذي توفي قبل مولد محمد بثلاثينسنة. ولو أنه سيصعب علينا أن نصدق أن ناظم هذه القصائد بلغ إلى هذا الحد من التهتكوالاستخفاف والجراءة، بعد تأسيس مملكة الإسلام حتى يقتبس آياتٍ من القرآن ويستعملهابالكيفية المستعملة في هذه القصائد!
الخاتمة :
لايبدو أننا نسير على طريق سَويّ رغم ادعاء مرورنا بتاريخ عريض من الرقي والتحضّربحكم انفتاحنا على حضارات عدة، ولكن يبدو أننا وقفنا على أعتابها فقط متفرّجين دونالاستفادة من مرورنا ذاك فنكصنا إلى مقولتنا الأثيرة “انصر أخاك ظالماً ومظلوماً” لنكرّس حياتنا من جديد لمفاهيم جاهلية في عصر لن يلتفت للوراء أبداً، فمضت كلالشعوب بما اكتسبت في مسيرتها وتأخرنا نحن رغم إرادتنا الكبيرة التي نراهن عليها،وعلى ما يمكن أن تحققه مفاهيم لازلنا نلوكها بتلذذ كالحرية واحترام الإنسان لأخيهالإنسان وعدم توزيع التهم على الآخرين دون حساب رغم كل الاختلافات.
إن أشد مايؤلم هنا هو استنفار مثقف وشاعر ليستجدي أقلام أصدقائه ضد من يرى أنهم – ربما – اقتبسوا مفردتين أو ثلاثة من قصيدة له ضمنوها قصائد بأسمائهم رغم اختلاف الصورةوالبناء والرؤية. وليس هذا بالمهم، فتاريخ الاقتباسات مليء بأكثر من هذا، ولكنالمهم حقاً، أو ما ينبغي التوقف عنده أن هذه “الفزعة” كانت من الخطورة بحيث لم يحسبحسابها أصدقاء الشاعر حين نصّبوا من أنفسهم قضاة بعد أن أوجدوا التهمة ثم صاغواحكمهم بتجريم هذا الشاعر وكل ما في أيديهم أرباع أدلة قد لا تصمد كثيراً بوجه أيتمحيص منصف، فقد غفلوا تماماً في غمرة “فزعتهم” أن مثل هذه الاتهامات والتقريراتالمسبقة التمترس من النوع الذي يعاقب عليه القانون الجزائي في أي بلد في العالم إذاما طالب الشاعر المتهم “جرّهم” إلى المحكمة بادعاء اتهامهم له بقائمة كبيرة منالتهم مثل (سطى، سرق، لطش، لص، محتال، سارق).
إن مقولة الغابرين تلك أعمت بصروبصيرة أصدقاء الشاعر فتخلوا عن مقولاتهم العظيمة في المبادئ والأخلاق والقيمالعليا التي يتنافخون بها ضد التمترس و “الإخوانية”، وأثبت هؤلاء أن هذه الشعاراتمجرد كلام ليل يمحوه الارتطام على صخرة الجاهلية. وهنا؛ هنا فقط، تختفي أقنعة وتظهروجوهٌ على حقيقتها.