المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غربي.17
الخطابة في العصر الذهبي
تعرَّف الخطابة في العصرالذهبي بأنها : فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته .
وتعد الخطابة من أقرب الأنواع الأدبية إلى الشعر ؛ لاعتمادها على إثارة العاطفة , وإذكاء الشعور , وخصب الخيال والتطوير , وإن اختلفت عنه في الشكل.
والخطيب – في الغالب – أقرب إلى صوت العقل والفكر من الشاعر الذي هو صوت الوجدان في المقام الأول .
والأصل أن يكون الخطيب مفكرا , غزير المعاني , قوي الأدلة , قادر على الإقناع , والإمتاع , في آنٍ معا.
وقد عرف العرب فن الخطابة منذ القديم وتوسلوا به في أمنهم وحربهم , ورخائهم وجدبهم , ومنافراتهم ومفاخراتهم , وشتى مواقفهم وقضاياهم , التي تستدعي مخاطبة الآخر واستمالته .
وكان لها في جاهليتهم شأن عظيم , ومقام كريم ؛ إذ فاقت منزلة الخطيب عندهم – في بعض الأحيان – منزلة الشاعر ؛
يقول أبو عمرو بن العلاء (نحو154): ((كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر , الذي يُقَيِّدُ عليهم مآثرهم , ويفخم شأنهم , ويهول على عدوهم , ومن غزاهم , ويهيب من فرسانهم . ويخوف من كثرة عددهم , ويهابهم شاعر غيرهم , فيراقب شاعرهم . فلما كثُر الشعر والشعراء , واتخذوا الشعر مكسبة , ورحلوا إلى السُّوقة , وتسرعوا إلى أعراض الناس , صار الخطيب عندهم فوق الشاعر ))
وذلك لارتباط الخطابة بعلية القوم وسيادة القبيلة , فأضحت آنذاك من علائم السؤدد والشرف , وارتبطت بالقضايا الكبرى في السِّلْم والحرب , فكانت – في الأعم الأغلب – من عمل الساسة والسادة , في حين كان الشعر – في الغالب – من عمل الدعاة والأتباع .
وقد بلغت الخطابة ذروة ازدهارها في العصر الأموي ؛ العصر الذهبي للخطابة العربية , إثر الأحداث السياسية التي عاشتها الدولة الأموية , واختلاف المسلمين على الإمامة , فبرزت الأحزاب السياسية والدينية , والحركات الفكرية والمذهبية , كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية والجبرية وسواهم . وكل أولئك اتخذ الخطابة وسيلة لنقد الآخر, وبيان آرائه السياسية ونظريته الحزبية والفكرية , واستمالة الناس إلى اعتناق مبادئه وأفكاره .
أما في العصر العباسي الأول, فقد أدت الخطابة دورا مميزا في الصراع السياسي وإدارة الحكم . وقد سلمت لنا خطب عديدة لهذا العصر , مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ . والكثير منها ذو مضامين سياسية, ومنها ما يمس السياسة مسا رفيقا , كبعض الخطب الدينية والحفلية .
ولعل أشهر خطباء السياسة في هذا العصر كانوا من بني هاشم , الذين كان لهم باع مديد في الخطابة واللسن والفصاحة , منذ رسول صلى الله عليه وسلم؛ إمام البلغاء وسيد الخطباء , السلف والخلف في ذلك سواء ,
(( سئل سعيد بن المسيب : من ابلغ الناس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال السائل: إنما أعني من دونه . فقال معاوية وابنه , وإن ابن الزبير لحسن الكلام , ولكن ليس على كلامه ملح , فقال له الرجل : فأين أنت من علي وابنه , وعباس وابنه ؟ فقال إنما عنيت من تقاربت أشكالهم , وتدانت أحوالهم , وكانوا كسهام الجعبة , وبنو هاشم أعلام الأنام , وحكام الإسلام)).
وقد كشف العباسيون عن مواهب خطابية نادرة , ومقدر ة بلاغية فائقة,
يقول الجاحظ في بيان بلاغتهم (( وجماعة من بني العباس في عصر واحد , لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي , وفي الكمال والجلالة , وفي العلم بقريش والدولة , وبرجال الدعوة , مع البيان العجيب , والغور البعيد , والنفوس الشريفة , والأقدار الرفيعة ؛ وكانوا فوق الخطباء , وفوق رجال الأخبار ؛ وكانوا يجلون عن هذه الأسماء إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك ))
ومن خطباء العباسيين أبو العباس السفاح وأخوه المنصور وأعمامه عبد الله بن علي وداود بن علي ؛ الذي أشاد الجاحظ بفصاحته , فقال: (( كان أنطق الناس وأجودهم ارتجالا واقتضابا للقول , ويقال إنه لم يتقدم في تحبير خطبة قط . وله كلام كثير معروف محفوظ))
وقال أيضا (( وكان عبد الله بن علي , وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم))
ومن خطبائهم صالح بن علي , وابنه عبد الملك , وسليمان بن جعفر والي مكة , وقد قيل إن أهل مكة قالوا (( إنه لم يرد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام , إلا وسليمان أبين منه قاعدا , وأخطب منه قائما ))
|