عنوان الموضوع : خير جليس للثالثة ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب



إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهديه الله فلا مضل له ومن يضل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وبعد:
هذا العنوان جزء من شطر بيت من أبيات الشعر.. وخير جليس في الزمان كتاب، وذلك أننا نرى المسلمين -ونحن بالأخص منهم - قد أعلنا مقاطعة تامة مع القراءة، ومع حرصنا على الاستفادة من أوقاتنا -وإن كان حرصاً محدوداً - ومع استفادتنا أيضاً من جزء كبير من أوقاتنا، إلا أن نصيب القراءة عند كثير منا لا يزال ضئيلاً، ولو طُرح عليك سؤال عن آخر كتاب قرأته، ومتى انتهيت منه؟ ومتى بدأته؟ فستجد الإجابة خير دليل على هذه الدعوى.
فما أحوجنا إلى أن نعيد النظر مرة أخرى في هذه المقاطعة الظالمة الجائرة مع القراءة.
لماذا نقرأ؟

سؤال نطرحه بين يدي هذا الموضوع، ما الدوافع التي تدعونا للقراءة وإلى دفع ثمن باهظ لتحصيلها؟ وهو ثمن مالي من خلال توفير الكتاب واشترائه، وإلى أن ندفع ما هو أثمن منه وهو الوقت فنصرف جزءاً من أوقاتنا في القراءة فلماذا نقرأ؟
ولعل الإجابة معروفة لدينا سلفاً لكنها وقفات عاجلة حول فوائد أو دواعي القراءة:
أولها: وهو أهمها وأساسها: أن القراءة وسيلة لتحصيل العلم الشرعي، من خلال تلاوة كتاب الله عز وجل، والقراءة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والقراءة فيما دونه أهل العلم تفسيراً لكلام الله سبحانه تعالى، وسياقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وشرحاً وتعليقاً على جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم. أو حديثاً في مسائل الفقه، أوفي أبواب الاعتقاد، أو في علوم الوسائل من مصطلح وأصول وقواعد وعربية وغيرها، أو من كتب الزهد والورع والرقائق وغيرها.
إن القراءة تعد وسيلة مهمة لتحصيل العلم الشرعي وإدراكه؛ ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع. إن هذه النصوص وغيرها والتي تدعو إلى طلب العلم وتحث عليه، وتُفضِّلُ أهل العلم على غيرهم، وتُفضِّلُ الانشغال بالعلم على ما سواه، تدل هي أيضاً على فضل القراءة وأهميتها والحث عليها؛ حين يكون الدافع والمقصد لها تحصيل العلم الشرعي.
ثانياً: القراءة وسيلة لتوسيع المدارك والقدرات؛ لأن المرء حين يقرأ، يقرأ في اللغة وفي الأدب والتفسير والفقه والعقيدة، ويقرأ في علوم المقاصد وعلوم الوسائل، ويقرأ في ما ألف قديماً وألف حديثاً؛ وذلك مدعاة لتوسيع مداركه وإثراء عقليته، ولعل هذا يفسر لنا التخلف الذريع الذي نعاني منه بين صفوف كثيرٍ من شبابنا، والمسافة غير المتوازنة بين قدراتهم العقلية ابتداءً، وبين ما هم عليه من تفكير وقدرات، ويبدو ذلك حين تطرح مشكلة على بساط البحث أو النقاش، أو حين يتساءل أحدهم أو حين يقف متحدثاً؛ فتلمس من خلال ذلك ضحالة التفكير، وضعف المعالجة وسطحيتها، في حين أن ذكاءه يؤهله لمنزلة أعلى من تلك التي هو عليها.
ثالثاً: القراءة وسيلة لاستثمار الوقت، والمرء محاسب على وقته ومسؤول عنه، وسيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، ولا يزال الكثير من الشباب يتساءل كثيراً فيم يقضي وقته، ولا يزال الفراغ يمثل هاجساً أمام الشباب يبحثون فيه عما يقضون به أوقاتهم، فالشباب الذين لا هم لهم إلا السير يمنة ويسرة والتجول في الأسواق والطرقات ولقاء فلان وفلان الدافع لذلك كله هو الفراغ وقضاء الوقت.
ولا نبرئ أنفسنا معشر الشباب الصالحين، فإننا أيضاً نلمس من أنفسنا المعاناة من الفراغ ولا نجيد استثماره واغتنامه، وحين يجد بعض الشباب وقتاً من الفراغ يتناول سماعة الهاتف فيتصل على فلان والآخر والثالث ليصحبهم إلى هدف غير معلوم ومحدود، اللهم إلا قضاء الوقت أو يجلس وإياه ليلة يتبادلان الحديث، وتراه يعيش مهموماً حين يفتقد صاحبه ذاك الذي اعتاد أن يقف بسيارته أمام منزله بعد صلاة العصر ويودعه في المنزل مصحوباً بحفظ الله بعد صلاة العشاء، حين يفتقد صاحبه يوماً من الأيام كأنه يعيش مأساة، وأمامه ساعات لا يدري بم يقضيها، لكن لو كان هذا الشاب قد اعتاد على القراءة وصارت دأباً وديدناً له لم يعد يشكو من هذا الفراغ، بل كان يبحث عن الفراغ ويفرح به ليستثمره ويغتنمه.
رابعاً: القراءة وسيلة للتعويد على البحث، إننا حينما تواجهنا مشكلة أو يطرق بالنا سؤال حول تفسير آية من كلام الله أو حول حديث أيصح أم لا؟ أو البحث عن كلمة غامضة، أو رأي فقهي أو غير ذلك من المسائل، لا يسوغ أن يكون دائماً طريقنا الأول هو السؤال لا غير، فلابد أن يكون لنا وسيلة للبحث والقراءة.
إنك لو أبقيت شاباً من الشباب في مكتبة عامرة بالكتب، وطلبت منه أن يعطيك تفسيراً لآية من كلام الله عز وجل، أو يدلك على حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيأتي به بلفظه مصاحباً لذلك بعزوه إلى من رواه، ومعقباً عليه ببيان كلام أهل العلم فيه صحة وضعفاً، أو سألناه عن معنى كلمة غريبة، أو قائلِ بيت من الشعر، أو عَلَمٍ من الأعلام، فسيبقى فيها دهراً طويلاً دون أن أن يعثر على ما يبحث عنه، ولو كان معتاداً على القراءة وعلى قضاء قدر من الوقت في المكتبة، لاستطاع الوصول إلى ذلك بسهولة.
والذي لايقرأ لو أراد أن يعد خطبة أو حديثاً يلقيه، فيحتاج أن يجمع طائفة من الأحاديث وأقوال السلف وبعض أقوال من كتب حول هذا قديماً وحديثاً، فإنه قد لا يجد وسيلة لجمع ذلك كله، اللهم إلا أن يجد كتيباً يحمل عنوان كلمته؛ فيسطو عليه ملخصاً وناقلاً.
خامساً: القراءة وسيلة للإفادة من تجارب الآخرين، إنك حين تقرأ وتعتاد القراءة تعطي لفكرك امتداداً واسعاً على مدى الزمن لا ينتهي إلا حيث بدأ التدوين والكتابة؛ فأنت تقرأ لأولئك الذين تراهم وتعرفهم، وتقرأ لجمع ممن عاصرتهم ولم تتح لك فرصة اللقاء بهم والسماع منهم، وتقرأ لأولئك الذين سبقوك فماتوا قبلك، وتقرأ في سير أهل القرون الأولى من سلف الأمة ورعيلها الأول؛ فالقراءة تعطيك رصيداً هائلاً عمره بالقرون، وتمدك بتجارب أولئك الذين مضوا من أزمنة كثيرة وأمكنة شتى وثقافات مختلفة ومناهج متباينة، بل يستطيع القارئ الناقد أن يستفيد حتى من تجارب الأعداء ومما كتبوه والحق ضالة المؤمن.
سادساً: القراءة وسيلة تربوية؛ فأنت حين تعاني ضعفاً في الهمة في طلب العلم فما عليك إلا أن تقرأ كتاباً جمع سير وأخبار القوم كيف علت همتهم في التحصيل والطلب، وحين ترى من نفسك جرأة وإقداماً على المعصية فما عليك إلا أن تعود إلى من كتب في ذلك فتقرأ فيه؛ فتجد فيه ما يزجرك ويهزك هزًّا عنيفاً، وحين تشكو من هذه المشكلة أو تلك، تفزع إلى كتابك وتقرأ فيه ما يكون بإذن الله مجيباً على تساؤلك، وما يكون معيناً لك في أن تعالج بعض ما تعني منه.
وقفات مع القراء :

وهي وقفات عاجلة نشير فيها إلى بعض ما نُقل عن سلف الأمة، وعن بعض المعاصرين منهم في عنايتهم بالقراءة وجمع الكتب والعناية بها.
أولاً: في جمع الكتب والاعتناء بها: فقد كان أحدهم وهو ابن عقدة تعدل كتبه حمل ستمائة جمل، وابن القيم رحمه الله كان مغرماً بجمع الكتب، يقول عنه الحافظ ابن حجر: وكان مغرماً بجمع الكتب فحصل منها مالا يحصى حتى كان أولاده يبيعون منها دهراً طويلاً سوى ما اصطفوه لأنفسهم، ويحيى بن معين خلف مائة قمطر وأربعة عشر قمطراً، والقاضي عبدالرحيم بن علي بلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مائة ألف مجلد وكان يحصلها من سائر البلاد، ومحمد بن عبدالله السلمي قرأ وجمع من الكتب النفيسة ومهما فتح عليه صرفه في ثمن الكتب.
ثانياً : في كثرة القراءة: وممن نقل عنه ذلك الإمام بن شهاب الزهري رحمه الله، فقد كان يجلس في مكتبته ويقرأ وقتاً طويلاً حتى إن زوجته قالت والله لهذه أشد علي من ثلاث ضرائر، وعبدالله بن عبدالله بن عبدالعزيز، قال: لقد غبرت علي أربعون عاماً ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري، والحافظ ابن حجر قرأ في حال إقامته في دمشق -وكانت شهرين وثلث تقريباً- قرأ قريباً من مائة مجلد مع ما يعلقه ويقضيه من أشغال.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عن نفسه: لقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الصغار والكبار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد إلى ساعتي هذه عند أحد من الصحابة أنه أوّل شيئاً من آيات الصفات. فقد حكى عن نفسه أنه قرأ أكثر من مائة تفسير فما بالكم بما قرأه من كتب الحديث والفقه والعربية وعلوم الحديث والعقيدة وغيرها من أبواب العلم.
أما ابن الجوزي يقول محدثاً عن نفسه: وإني أخبر عن حالي ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة وكتب الحميدي وكتب شيخنا عبدالوهاب بن ناصر وكتب أبي محمد بن الخشاب وكانت أحمالاً، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت إني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب.
ثالثاً مع المعاصرين: ممن كان كثير القراءة الأديب المشهور الأستاذ/ علي الطنطاوي، فيقول عن نفسه: لو أحصيت معدل الساعات التي كنت أطالع فيها لزادت على عشر في اليوم.
والمحدث العلامة الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله كان يعمل في اليوم ثلاث ساعات في إصلاح الساعات ويصرف ما بقي في القراءة، وكان يدخل المكتبة الظاهرية ويبقى فيها أحياناً اثنتي عشرة ساعة، وقد خصَّصَت له فيها غرفة خاصة؛ فكان يأتي قبل الموظفين في الصباح وكان من عادة الموظفين الانصراف ظهراً، فكان لا ينصرف ويتناول غداءه في المكتبة.
رابعاً: من غرائب أحوالهم في القراءة: للخطيب البغدادي رحمه الله كتاب نفيس أسماه تقييد العلم، ذكر في آخره فصولاً عن الكتب منها الفصل الرابع ذكر من وظف على نفسه السبل في مطالعة الكتاب ودرسه، وروى فيه عن أبي العباس المبرد قال: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة الجاحظ والفتح بن خاقان وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره أي كتاب كان، وأما الفتح بن خاقان فكان يحمل الكتاب في كمه فإذا قام من بين يدي ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد ثم يصنع ذلك في رجوعه إلى أن يبلغ مجلسه، وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب بطلب كتاب ينظر فيه.
الإمام أبو داود السجستاني صاحب السنن كان حين يفصل ثيابه يجعل كماً واسعاً وكماً ضيقاً فقيل له في ذلك، فقال: الكم الواسع للكتب، والضيق لا حاجة له. لقد كانت قضية القراءة واصطحاب الكتاب قضية تشغل باله فلا ينسى ذلك وهو يفصل ثيابه رحمه الله، وأبو العباس الشيباني قيل في سبب موته أنه خرج من الجامع وفي يده كتاب ينظر فيه وكان قد أصابه صمم شديد، فصدمته فرس فأُلقي في هوةٍ فاضطربت دماغه فمات في اليوم الثاني رحمه الله.
وأبو بكر الخياط النحوي كان يدرس جميع أوقاته حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة، والجاحظ وقد مر شيء من خبره قبل قليل كان يكتري الدكاكين من الوراقين ويبيت فيها للنظر في الكتب فيبيت فيها في الليل حيث لا يكون أصحابها فيها، وقال سليم بن أيوب الرازي -حاكياً عن أبي الفرج الاسفراييني-: أنه نزل يوماً إلى داره فقال: قد قرأت جزءاً في طريقي -وهم يسمون الكتاب الصغير جزءاً-.
ويحكي عبدالرحمن بن أبي زرعة عن والده الإمام أبو زرعة فيقول: ربما كان يأكل وأقرأ عليه، ويمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء في الطريق وأقرأ عليه، ويدخل البيت في طلب شيء وأقرأ عليه.
وكان الألباني يستعير الكتب من صاحب مكتبة تجارية في دمشق، حتى يأتي من يبحث عن الكتاب ليشتريه؛ فيبعث له صاحب المكتبة ويرده عليه.
هذه بعض الأخبار في عناية من سلف في القراءة والتحصيل، وحين نسوق خبر ذاك الذي يقرأ في الطريق أو الذي يُقرأ عليه وهو يأكل الطعام، أو من سقط في جرف أو خبطته دابة وهو يقرأ، فإنها ليست دعوة إلى أن نسلك هذا السلوك؛ فذاك مسلك من استثمروا أوقاتهم وعمروها بالقراءة والعلم والتحصيل حتى لم يجدوا إلا هذه الأوقات، أما نحن فنملك رصيداً هائلاً من الأوقات التي نستطيع أن نقرأ فيها ونحن ساكنين مطمئنين دون أن نصاب بجرح أو نخبط في طريق أو دابة.
لمن نقرأ؟

يدعو البعض إلى القراءة لكل شخص ويقول: اقرأ كل ما وقع في يدك، وقد يكون هذا المنطق مناسباً لفئة معينة من القراء، أما نحن في هذه المرحلة فأرى أن نختار ما نقرأ وأن نعتني به، وألا نقرأ لأي كاتب أو أي عنوان لأمور عدة:
أولها: أن المرء حين يقرأ بعض ما كتبه أولئك الذين قد دونوا بعض زلاتهم وشطحاتهم قد يقع فيها من حيث لا يشعر، ويوصي بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله حين تحدث عن الخوارج في قصيدته الكافية الشافية وضلالهم ،قال:
يا من يظن بأننــا حفنا عليهم
فانظر ترى لكن نرى لك تركها
فشباكها والله لم يعلق بها
إلا رأيت الطير في قفص الردى ويظل يخبط طالباً لخلاصه
والذنب ذنب الطير خلا أطيب الثـ
وأتى إلى تلك المزابل يبتغي الـ
ياقوم والله العظيم نصيحة
جربت هذا كله ووقعت في
حتى أتاح لي الإله بفضله
فالله يجزيه الذي هو أهله
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم
ورأيت أعلام المدينة حولها


كتبهم تنبيك عن ذا الشـان
حذراً عليك مصائب الشيطان
من ذي جناح قاصر الطيران
يبكي له نوحٌ على الأغصــان
فتضيق عنه فرجة العيـدان
مرات في عا من الأفنــان
فضلات كالحشرات والديدان
من مشفق وأخ لك معوان
تلك الشباك وكنت ذا طيران
من ليس تجزيه يدي ولساني
من جنة المأوى مع الرضوان
حتى أراني مطلع الإيمان
نزل الهدى وعساكر القرآن


إنه يشبِّه حال هذا الذي يقرأ هذه الكتب بذاك الطير الذي يترك الثمرات العالية، ويأتي إلى أسفل الشجر؛ فقد يدخل في شباك فيحاول أن يخرج فيخفق، والطائر حين يدخل في الشباك ويخفق تزيد الشبكة التواءً عليه حتى لا يستطيع الطيران. فهذا حال من يقع في الشبه، فهو يقع في شبهة من الشبه ثم يبحث لها عن حل، ثم يقع في شُبهة أخرى ويبحث لها عن حل، حتى يصبح غارقاً في الشبه، فلا يكاد يقرأ إلا وعرضت له شبهة، ولا يكاد يسأل إلا مورداً لشبهة.
ثانياً: إننا حين نقرأ تراجم أهل العلم نرى أن هناك من أهل العلم من بلغ منزلة عالية في العلم والتحصيل، ومع ذلك وقع في بعض البدع ووافق أهل البدع في بعض ما دعوا إليه، وحين يقع أولئك في بعض هذه البدع فهذا يدل على أننا - نحن الذين أقل منهم حظاً وتحصيلاً - عرضة أيضاً لأن نقع فيما وقعوا فيه، بل أكثر منهم.
ثالثاً: كتب أهل السنة وأهل المعتقد السليم فيها الغنية والكفاية والبركة، وبخاصة حالنا مع القراءة، فلو أننا قرأنا الكثير مما كتبه أهل السنة، وبعد ذلك لم نجد ما نقرأه، حينها قد يسوغ لنا أن ننتقل إلى المرحلة الأخرى، ولا أظن أبداً أننا قد قرأنا أكثر ما نحتاج إليه فلم يتبق لنا إلا هذا النوع من القراءة.
رابعاً: لقد كان السلف ينهون عن ذلك، وكانوا يوصون بحرق كتب أهل البدع والضلال، ولعل فيما أوردناه من كلام الحافظ ابن القيم رحمه الله خير شاهـد ودليل على ذلك.
معوقات القراءة :

هناك معوقات قد تعيقنا عن القراءة يمكن أن نذكر منها:
أولاً: عدم إدراك أهميتها؛ فعدم إدراكنا لأهمية القراءة وحاجتنا إليها، بل وضرورتها لنا، ولو أنا أدركنا أن القراءة لنا كالماء للسمك، والهواء للطير لاجتزنا كثيراً من العقبات.
ثانياً: الكسل ودنو الهمة؛ فالقراءة تحتاج من المرء أن يفرغ جزءاً وقته، وأن يمسك كتاباً ولا يفارقه، ويجمع فكره حوله وهذا أمر قد لا تعيننا أنفسنا الضعيفة عليه.
ثالثاً: والشريط الإسلامي يعتبر معوقاً من معوقات القراءة، كيف ذلك؟ الإنسان يشعر بالحاجة إلى نوع من التحصيل، ويشعر بأن هناك قضايا يحتاج إلى أن يتفاعل معها، فحين يسمع الشريط يلبي هذا الشريط فراغاً في نفسه، ويشعر أنه يسمع الجديد ويرى شيئاً جديداً، ويحصل كل يوم ما يستفيد منه، ولهذا يقل عنده الدافع والداعي للقراءة، وهو وسيلة سهلة؛ فالإنسان يستطيع أن يستمع إلى الشريط وهو مضطجع أو قاعد أو قائم أو على جنبه، وهو يعمل، وهو في سيارته وفي أي حال من الأحوال، وهو لا يكلف المرء عبئاً؛ ولذلك تجد الكثيرين يسمعون الشريط لكن الذين يقرأون قلة.
رابعاً: الكتيبات الصغيرة، فمع نشاط حركة التعليم، وكثرة المطابع والتي تبحث عما تروج به سوقها، كثرت الإصدارات صغيرة الحجم التي يستطيع القارئ أن يأتي عليها في دقائق، فهي بحجم صغير، وورقات قليلة، وهوامش واسعة؛ فتستطيع بدقائق عاجلة أن تقرأ مثل هذه الكتب، فقراءتها لاتكلف عبئاً ولا جهداً.
ولو سألت طائفة من الشباب عن آخر كتاب قرأه، فستجد أن الكثير من الإجابات تدور حول تلك الكتيبات الصغيرة التي يمكن أن يحملها المرء في جيبه.
وأظن أن الكتيب - على ما فيه من فوائد وجوانب مهمة - ليس لطلاب العلم ، وحين لا تكون قراءتنا إلا هذه الكتيبات العاجلة، أو ما يمكن أن يسمى بالوجبات السريعة - التي إن ساغت في الطعام والأكل فإنها لا تسوغ في التحصيل العلمي- حين يكون هذا زادنا فهذا خير دليل على فقر زادنا وتحصيلنا.
خامساً: الصحف، هناك صحف إسلامية لا بأس بها قد صدرت في هذا العصر، ومنها مجلات تحوي مقالات فكرية ومقالات علمية مطولة، وتلقى هذه المجلات رواجاً وقراءة، ويسهل على القارئ قراءة مقال في صحيفة لا يتجاوز أسطراً وربما صفحات معدودة ويسيرة، لكن أن يقرأ كتاباً فهذا الأمر صعب.
بل حتى في دائرة قراء المجلات لا تجد المجلات الفكرية، والمجلات العلمية رواجاً ونصيباً من القراءة، كما تجده المجلة الإخبارية المزينة بالصور والرسومات والأشكال وغيرها.
ومما ينبغي التنبيه عليه أننا حين نعد هذه الوسائل الثلاث (الشريط، والمجلة، والكتيب) مما يعوق عن القراءة، فليس ذلك دعوة إلى إهمالها، بل ينبغي الاستفادة منها، لكن اعتراضنا على أن تكون بديلاً عن القراءة المركزة العميقة.
سادساً: عدم العناية بالوقت، ولهذا لا نجد وقتاً نقرأ فيه، وليس السبب في الحقيقة هو ضيق الوقت، بل عدم اعتنائنا به، ولعل خير وسيلة تعيننا على ذلك هي أن نخصص وقتاً كل يوم نقرأ فيه -أيًّا كان هذا الوقت ومتى كان - ونعتبره واجباً يوميًّا علينا ينبغي ألا تغيب شمس اليوم إلا وقد أدينا هذا الواجب وقضيناه.
كيف نقرأ؟

ولعلي أشير إليها إشارات عاجلة هي وصايا سريعة حول بعض الطرق الصحيحة في القراءة منها:
· الاختيار في القراءة، من خلال اختيار المؤلف والكتاب المناسبين.
· التدرج في القراءة: فالمبتدئ في القراءة لا ينبغي أن ينشغل بالمجلدات والكتب الكبار، فينبغي أن تتدرج من الأسهل إلى الأصعب، وإذا أدركت أنك تفهم ما في الكتاب وتستوعبه فاقرأه، ثم انتقل إلى ما هو أعلى منه، وحين تسلك هذا المسلك وتتدرج في القراءة فإنك قد لا تجد تلك الصعوبة التي يجدها البعض حين يقرأ ما لا يناسبه؛ فيصاب بصدمات عنيفة قد تكون عائقاً له عن القراءة.
· التنويع في القراءة فلا يسوغ أن تقتصر قراءتنا على فن معين أو كاتب معين أو موضوع محدد؛ فتقرأ في التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلوم الحديث واللغة والأدب والتراجم والقصص وغيرها من الكتابات.
· الجلسة الصحيحة تعين على القراءة؛ لأن الجلسة أحياناً قد تكون سبباً للنوم وقد تكون سببًا لتشتيت الذهن.
· التركيز والبعد عن الشواغل والصوارف.
· التسجيل والتلخيص؛ فقد تأتيك فوائد قد تستوعبها وتحفظها لكن حين لا تسجلها قد تنساها.
· اختيار الوقت المناسب للقراءة حيث يكون الإنسان حاضر الذهن، مرتاح البال.
· القراءة النقدية والاعتدال فيها، وألا تكون مجرد حاطب ليل، فالذي يحطب في الليل لا يرى فقد يجمع حشيشاً وحطباً، وقد يحمل حيةً فتلدغه، فالذي يقرأ ويتلقى كل ما يقرأ بالتسليم والقبول حاله كحال حاطب الليل، فحين نقرأ ونسمع يجب أن نفكر كثيراً فيما نقرأ، ولا يجوز أن نعطل عقولنا، إذ تعطيل العقول من التشبه بالأنعام وقد نهانا الشارع الحكيم عن التشبه ببهيمة؛ فينبغي أن نتحرى في تفكيرنا وعقولنا وأن نقرأ قراءة ناقدة، وفي المقابل يجب أن تكون القراءة الناقدة باعتدال ولايكون هم القارئ أن يقف عند كل كلمة وسطر ويبحث فيه عن خطأ حتى يقرر أنه استطاع أن يكتشف هذا الخطأ على فلان أو فلان من الناس.
القراءة السريعة:

إن مما يؤسف له أن يكون فن القراءة السريعة مما ابتكره الأعداء وألفوا فيه، بل لهم معاهد متخصصة.
وأحدهم وهو روبرت زورن له معهد في التدريب على فن القراءة السريعة، وممن التحق بهذا المعهد جون كيندي وزاد معدل قراءته من مائتين وأربع وثمانين كلمة قبل أن يدرس في هذا المعهد إلى ألف ومائتين كلمة، وهذا يعطيك دلالة على أنك يمكن من خلال التدريب والممارسة أن تجيد فن القراءة السريعة، وقد ألف زورن كتاباً عنوانه القراءة السريعة ذكر فيه بعض القواعد، يمكن أن نشير إليها باختصار حتى تغنيكم عن الرجوع إلى هذا الكتاب وحتى توفروا الوقت الذي قد تصرفونه لقراءة هذا الكتاب في قراءة كتاب أنتم أحوج إليه من القواعد:
إلغاء الارتداد، فأنت عندما تقرأ تعود مرة ثانية بنظرك فتقرأ الكلمة التي قرأت قبل قليل، وهذا يأخذ عليك وقتاً طويلاً قد لا تتصوره؛ فالقارئ الذي يقرأ مدة ساعتين ويرتد ارتداداً واحداً في الدقيقة سيخسر نصف ساعة تماماً؛ بحيث تكون قراءته لا تساوي إلا ساعة ونصف، وإذا لم تفهم كلمة فلا تعد لقراءتها من جديد وستفهمها من خلال السياق.
القاعدة الثانية: القراءة المقطعية وهي تعني توسيع مجال العين، فأنت الآن تنظر إلى أربع كلمات –على سبيل المثال- فحاول أن توسع مجال العين بحيث تنظر إلى ست كلمات أو ثمان، وهكذا.
القاعدة الثالثة: حركة العودة السريعة للعين، أنت الآن حين تنتهي من السطر الأول تنتقل إلى السطر الثاني نقلة بطيئة، وقد تظن أن هذا يستغرق وقتا يسيراً، لكن حين تقرأ كتاباً يحوي مائة وخمسين صفحة، والصفحة فيها عشرون سطراً، فحين توفر عليك الحركة السريعة للانتقال ثانية واحدة، فهذا يعني أنك ستوفر (50) دقيقة في قراءة هذا الكتاب.
القاعدة الرابعة: التدريب اليومي، خصص لك وقتاً تتدرب فيه على القراءة السريعة، ويكون هدفك هو العناية بالسرعة أكثر من الفهم، وستجد بعد فترة أنك تتطور كثيراً،حتى تصل إلى الجمع بين السرعة والفهم، وخير مثال على ذلك الكتابة على الآلة الكاتبة أو الحاسب الآلي، فأمهر الناس فيها كان في البداية ربما يكتب حرفاً واحداً خلال دقيقة ثم حرفين في الدقيقة وثلاثة أحرف حتى يصل إلى أربعين كلمة في الدقيقة، ويصل إلى ما هو أسرع من ذلك، حتى أن بعض المكفوفين يجيد الكتابة على الآلة الكاتبة بطريقة بديعة وأخطاء نادرة جدًّا.
هذه بعض القواعد في القراءة السريعة تستطيع مع الممارسة أن تتقنها، لكن هذا النوع من القراءة ليس هو النوع الذي تحتاجه في قراءتك العلمية؛ لأن القراءة العلمية ينبغي أن تكون مركزة وهادئة، فإذا أردت التعود على القراءة السريعة فاجعل لك في اليوم وقتاً تقرأ فيه قراءة سريعة، من خلال قصة من كتب الأدب أو التاريخ التي لا تحتاج إلى تركيز، ويكون هدفك التعود على سرعة القراءة.
أدبيات في القراءة والكتب:

بعث أحمد بن محمد بن سجار غلامه إلى أبي عبدالله الأعرابي صاحب الغريب يسأله المجيء إليه، فقال :عنده قوم من الأعراب فإذا قضى أربهم معهم أتى، ولم ير الغلام عنده أحداً إلا أن بين يديه كتباً ينظر فيها ثم جاء، فقال له أبو أيوب: سبحان الله العظيم تخلفت عنا وحرمتنا الأنس بك وقد قال لي الغلام: إنه ما رأى عندك أحداً، وقلت أنت: معك قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت فقال له الأعرابي:
لنا جلساء ما نمل حديثهــم
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
فلا فتنة تخشى ولاسوء عشــرة
فإن قلت أموات فما أنت كاذب


ألباء مأمومون غيباً ومشهداً
وعقلاً وتأديباً ورأياً مســدداً
وإن قلت أحياء فلست مفنـداً

ولا نتقي منهم لساناً ولا يـداً


وقال الآخر :
لمحبرة تجالسني نهـــاري
ورزمة كاغد في البيت عندي
ولطمة عالم في الخد مـــني


أحب إلي من أنس الصديق
أحب إلي من عطر الدقيق
ألذ لدي من شرب الرحيق


وقال آخر:
تخلو به إن خانك الأصحاب
وتفاد منه
حكمة وصواب



نعم المؤانس والجليس كتاب
لا مفشياً سرًّا ولا متكـدراً


ويقول أحدهم في وصف أسده على كتب العلم:
أجلّ مصائب الرجل العليم
إذا فقُد الكتاب فذاك خطب
وكم قد مات من أسف عليها



مصائبه بأسفار العلــوم
عظيم قد يجل عن العميـم
أناس في الحديث وفي القديم


وقال عمرو بن العلاء: ما دخلت قط على رجل ولا مررت بداره، فرأيته في بابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ إلا حكمت عليه أنه أفضل منه عقلاً، وقيل لرجل ما يؤنسك؟ فضرب على كتبه وقال: هذه، قيل فمن الناس، قال: الذين فيها.
وقيل لبعضهم أما تستوحش؟ قال: يستوحش من معه الأنس كله؟ قيل وما الأنس؟ قال: الكتب.
وقيل لأبي الوليد إنك ربما حملت الكتاب وأنت رجل تجد في نفسك، قال: إن حمل الدفاتر من المروءة.
وقال ابن المبارك: من أحب أن يستفيد فلينظر في كتبه.
ولهم وصايا في العناية بالكتاب والحفاظ عليه منها: أن أحدهم رأى شخصاً قد جلس على كتابه، فقال: أثيابك أغلى عليك من كتابك؟ لأنه جلس على كتابه حتى يقيه الغبار.
وكانوا يقولون لا تجعل كتابك بوقاً ولا صندوقاً، ذلك أن بعض الناس يلف الكتاب حتى يصبح قريباً من شكل البوق، والصندوق أنه يضع فيه بعض الناس الأوراق والأقلام ونحوها فيتمزق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

لا خير في شخص لايترك وراءه أثرا

=========


>>>> الرد الثاني :


=========


>>>> الرد الثالث :


=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========