آلينا على أنفسنا على أن نهتم بالذاكرة ، و نلح على استنطاقها ، ونجهد في عصرها و تقطيرها ، من خلال كتابات أصرت على استدعاء الماضي واستحضاره ، لتحصل لها معرفة ، و يتشكل لها إدراك ، بجمود الحاضر وتكلسه ، وتعقد الواقع ، و عتمته ، و تمنعه على الفهم ، و تأبيه على الإنصياع لسلطة العقل ، و قبول أدواته في التشريح و الإجتراح حتى يسهل النفاذ الى الخلل ، والخلوص الى الأعطاب ، و احتواء الأسباب ، فيما يستشري من فوضى ، و ما ينجم من تشويش ، نتيجة ترسبات ماضوية ، و احنٍ عصبية ،ودفائن و دخائل أجنبية ، و تفاوتات اعتباطية ، و تحديثٌ رثٌ لم يراعي الفواصل الزمنية والمسافات الثقافية ، و الحضارية ، في هذا الخضم و داخل هذا المعمعان راحت هذه الكتابات المهجوسة بلملمة شعث الواقع ، وجمع عناصره ، و التفتيش في طياته ، و تسليط الضوء على جميع مستوياته ، فكان أن غاصت هذه الكتابات في عمق المجتمع ووصولا ً إلى قاعه ، و استوت على قاعدة منشأ الأسباب والعوامل المشكلة للعلاقات الإجتماعية ، في طورٍ من أطوارها في هذا الطور سرت حركة في المجتمع ، و أخذت تبسط نفوذها على واقعه ، وتدفعه الى التغير شيئاً فشيئاً و تلح على العلاقات أن تستجيب لهذا التغير الطارئ و تتكيف معه بما يخدم الطمحات المنشودة و الأهداف المسطرة ، صحيح أن العلاقات الإجتماعية كانت تتغذى من نسغ الدين وصدى لتعاليمه و مبادئه الشيئ الذي حمى المجتمع من الإنصراف عن ماضيه و تطليق ثقافته وحفظ روابطه من الوهن و الإرتخاء وخصوصيته من الإنمحاء و التلاشي طيلة عهد الإستعمار الفرنسي إلا أن مفاعيلها ونفوذها أوقفها عند حدٍ معين لأمدٍ طويل ربما ذلك كان يلبي احتياجات ملحة ويدفع عناصر غريبة و أفكارٍ أجنبية على ثقافته لايقدر على هضمها و تمثلها و ادماجها لتصير جزءاً من ثقافته و دماً يغذي تفرده و تميزه ومصلاً يقوي مناعته و يقي علاقاته من التآكل ووحدته من الإنفراط ويسند ذاكرته ، لتبقى حية نشطة ، ويدعم تاريخه ليبقى مجراه سائلاً متدفقاً متصلاً بمصب الحضارة طالما أن إمكانياته المحدودة لا تسعفه على الإنفتاح على الآخر و السماح لروافده الثقافية بأن تصب في ثقافته ، إنكفأ على ذاته و انغلق حيطة ً وحذراً و ترقباً و انتظاراً للفرصة المواتية ، لذا صنع الشعب الجزائري العربي المسلم حدوداً سميكة بينه و بين الآخر ، الفرنسي المستعمر ، و قنع بأن يتعاطى معه في حدودٍ ضيقة جداً ، و في شؤون إدارية بحتة ، لأن الإطار الثقافي كان حاكم بإعتبارات عدة ، بإعتبار أن هذا المجتمع معتد و معتز بوعي كبير ، بأن ماضيه مجيد ، وفي نفس الوقت هو سليل حضارة زاهرة ، تربعت على عرش العالم في يومٍ ما و استطاعت أن تجمع مزايا الحضارات التي سبقتها و تصهرها في بوتقة واحدة و تتجاوزها بعد الإستعاب ، و تفيض بعطاءاتها على الإنسانية علماً و معرفة وبعداً إنسانياً ندر في الحضارات التي سبقتها ، و غدت ثقافتها ولغتها أرقى الثقافات و اللغات لا ينفذ الى الحضارة و لا ينال العلم الا بهما وبهما وحدهما لغة و ثقافة كشفت عن اقتدار كبير في الإقتباس، و الإستيعاب ،والإنتاج، والإبداع و ما يشد الإنتباه هو كرم و ضيافة هذه الحضارة لغيرها من ثقافات الشعوب التي تريد أن تنهل منها ، و تعب من كنوزها ، لتكتسب حيوية ً ونشاطاً ، و تستدخل الفضول المعرفي ، و الهاجس العلمي ، إسهاماتها وأفضالها على الحضارة الحالية واضحة و مؤكدة ، في حين كانت تعتبر الحضارة الإسلامية وثقافتها العلم و المعرفة رسالة كالدين تماماً ، مسؤولية وأمانة لابد من إفراغ الجهد في إذاعتها و نشرها ، في حين اعتبرت الحضارة الحالية العلم و المعرفة ملكية خاصة استأثرت بها و احتكرتها و لم تسمح للشعوب بالنفاذ اليها و التمتع بثمراتها هذه العوالم كانت حاضرة في العقل و الشعور و العاطفة ، و في اللاشعور وفي الخيال لشعبنا الجزائري ، و لذا كانت الإستماتة و الإلحاح على استحضار الماضي بشتى الطرق و بمختلف الأساليب ، بجميع صوره خوفاً من تحلل النسيج الإجتماعي والإستحالة الى هشيم يسهل القبض عليه ، و الى سماد لا يصلح الا لتخصيب التربة ، و مضاعفة الإنتاج بالإضافة الى هذا الإعتبار اعتبار آخر هو اللغة الطقسية ذات المفعول الواسع و العميق لأنها تضرب بجذورها في رحم اللا وعي الجمعي وترسم السلكات و التصرفات الفردية والجماعية بشكل عفوي و تلقائي دون أن تعبر الوعي أو تمر من قناة العقل وكذا المواقف و ردود الأفعال و تنعكس على الجسد علامات جامعة و مميزة ،هي من التجذر و الرسوخ بمكان ، تلف الجماعات في حقل دلا لات، هي رافد للتجربة الشعورية و بصورة أدق للأشكال الأدبية و الفنية ، و مجال حيوي يسبح فيه المجتمع بجميع أفراده و شرائحه و فئاته بالرغم من الإختلاف و التباين الذي يخترقهم ، و يفصل بينهم .
لانعدو الصواب ، و لا نحيد عن الجادة إذا قلنا أن كتابات الشيخ الزبير حمادوش التي تجمعت و إلتأمت من أوراقٍ متفرقة و من أحاديثٍ شفهية إحتفظت بها ذاكرة الرجال ، كانت خدمة ثقافية ، و جهدٌ حضاري ، و تعلق و عشق للمجتمع من خلال تقدير و إعلاء مكانة العلماء و الرموز و التنويه بما أسدوه للجماعة من أعمال جليلة و ما قدموه من إدارة حكيمة ، و توجيهات رشيدة ، احتفت هذه الكتابات بأفراد الجماعة العاديين و أولتهم عناية فائقة ، فنالوا الضيافة والتكريم ليعيشوا في النص جنباً الى جنب مع الرموز و العلماء و الأعيان ، ويحوزوا موقعا في التاريخ يخلد ذكرهم ، و يعطر نسلهم ، و هذا إن دل على شيئ يدل على محمدة و منقبة خلعتها على هذه الكتابات مراعاتها لمنطق الأشياء ، وانتباهها الذكي الى أن التاريخ ليس حكراً على الكبار ، ما جعل هذه الكتابات تتواضع و تحبذ المنخفضات على التلال و الجبال و المنصات حرصا منها على أن لا تكبت أصواتاً و تسكت خطابات ، أحرى و أولى أن تعبر عن نفسها بلغتها وبالمنطق الخاص بها لأن لغة العلم و الفكر و المنطق المدرسي و حتى التاريخ يخضعها لهواجسه و همومه و يوظفها في خططه و استراتيجياته و يجعلها حطاً لنار سياسات الكبار ، و التجارب المتراكمة وسمت هذا الشعب و الخبرات الواسعة و المتنوعة صقلت وعيه و ضاعفت حساسيته ، ما يبررُ صدوده و عدم اكتراثه بالخطابين الأصولي و العلماني إن لم نقل أصبح مثار سخرية لديه لا يقعن في بال أحد أن هذا الشعب ناكف دينه و طلق ثقافته دون ذلك خرط القتاد والشاهد أن هذا الشعب بلي بإستعمار استطاني مدة 132 سنة جرب المستعمر كل الأساليب الماكرة لخلع هذا الشعب من دينه و انتزاع ثقافته منه فلم يفلح أعتقد أن الرفض و المقاومة كلغة نافقة في الإعلام الحالي جسدها الشعب الجزائري سلوكياً خير تجسيد و لم يكن يعرف هذه اللغة ، الزوايا و التكايا وكتاتيب تحفيظ القرآن و رمزانية رجال الدين هذه مواد الوقاية و الحفظ من الذوبان أو تصدع الكيان ، و حتى الثورات و الإنتفاضات التي كانت ملح مزاج هذا الشعب ما ان تخمد ثورة أو انتفاضة في مكان حتى تقوم ثورة أو انتفاضة في مكان آخر هكذا حتى جاءت ثورة التحرير فبرهنت على عروبة و اسلام الشعب الجزائري برهاناً صادقا قاطعاً و على أنه لا يزالُ يدور في محور حضارته المشرقية . يتبع