عنوان الموضوع : الأبـعـاد الإنـسـانـيـة فـي شخـصيـة الأمـير عـبد الـقـادر مــن خـلال آثـاره المـعـنـويــة من اعلام الجزائر
مقدم من طرف منتديات العندليب


إعداد : د. غانم حنجار


جامعة ابن خلدون – تيهرت-.
بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم.
أولا: المدخل:
قد يكون شخص الأمير عبد القادر من بين الشخصيات القلائل التي حفلت بها أقلام الكاتبين من الساسة و رجال الفكر و الأدب و العرفان ، فضلا عن المؤرخين و أهل الدراية العسكرية ، و هذا ليس بدعا في واقع حياة رمز اجتمعت عنده ملامح النبوغ و الاكتمال حتى أضحى مقصودا بمثل قول الشاعر:
و لم أر أمثال الرجال تفاوتت إلى المجد حتى عد ألف بواحد
على اعتبار أن مفهوم الرجولة الكاملة وصف لا تتسع أبعاده لعموم الناس، بقدر ما يعني ذلك أن اقتصارها بات وقفا على ثلل قليلة، يشكلون في تراتيب حياتهم الإنسانية علية المقامات، لما خصوا به من أفضال التفوق آلت بهم إلى حصون الريادة فعاشوا في كنف الشعور بواجب الفداء و العطاء، و ليس لهم من الأمر سوى بقاء الحياة على سنن الفطرة كما قضاها رب الناس .
و لذلك زالوا فبقيت صنائعهم شاهدة لهم في واقع حياتهم و لئن خلف الأمير من البصمات المادية- ممثلة في المواقع و الحصون و المصانع - فإن الشق الثاني من تلك البصمات انحصر في الآثار المعنوية،و هي أثار تفرقت بين البيان و العرفان و البرهان1.
و من هذه الثلاثية تشكلت شخصية الأمير العقلية التي عليها انبنت خطورته بوصفه الرجل الظاهرة، حيث تسابق الأعلام في بيان وصفه فصوروه تصويرا تفاوت بين المؤرخ الهاوي، السياسي اللامع ، والبياني المبرّز. و لو أن مجتهدا حاول استجماع الكتبة و المتكلمين في شخص الأمير لنا له بعض العجز و القصور.
ثانيا: البعد الخلقي: 1- السماحة:
1-1- تحديد المفهوم:
إن لفظ السماحة "La tolérance " تتسع لكثير من المداليل المعبر عنها عادة بـ : الصفح، و العفو، و الصلح، و السلم.... و كلها من وحدات المعجم القرآني، التي تشكل بتوافرها معالم الشخصية المثالية لدى كبراء الإنسانية. و لأجل هذا أفسح لها الإسلام حيزا رحبا في مجال العبادات و المعاملات1 التي على أساسها ارتسمت علاقات الإنسان بربه، و بأخيه الإنسان.
1-2- السماحة لغة:
جاء في مادة " سمح " من معجم الصحاح:
»السماح، و السماحة: الجود، و المسامحة: المساهلية، و سامحوا ساهلوا2 « و هكذا يلاحظ الدارس أن السماحة قيمة مطلوبة لذاتها عند أباة الناس في الجاهلية، و الإسلام.
فهذا عنترة العبسي أثر عن قوله:
أَثْنِي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتُ فَإِنَّنِي سَمْحٌ مُخَالَقَتِي إِذَا لَمْ أُظْلَمِ
و ذا أثره- ص - بعثت بالحنفية السمحة )
1-3- بين السماحة و التسامح :
إذا انكشفت لنا دلالة السماحة لغة فإن لفظ التسامح في بنيته الصرفية يحملنا على معنى المشاركة. و كأن السماحة تقوم على انفراد المرء بصفتها، فيصير سمحا بذاته، لطبع تأصل خلقته، في حين نفهم أن التسامح يزيد عن المعنى الأصلي في كونه يمنح السامع دلالة التكلف، فضلا عن أنه نعت راسخ في خصمين تعين على كل منهما التنازل لصاحبه، و لو على قدر من المضض، و الامتعاض.
و تأسيسا على هذه الموازنة المعنوية بين الصيغتين نرى الأمير يستأهل صفة السماحة قبل التسامح. على اعتبار السماحة صفة مركوزة في النفس بقوة الطبع.
2- منطلقات السماحة في شخص الأمير :
إذا تأكد أن السماحة خلق لا يرقى إليها سوى كبار النفوس من أسوياء البشر. فهذا يعني أن بطل الجزائر لم يكن سمحا إلا بعد أن التقت في شخصه عوامل شكلت منه النموذج المقصود بالوصف، كعامل: الدين، و الوسط، و النسب، و التيسير الإلهي. و هي أسباب قلما اجتمعت تباعا لرجل في زمن كزمن الأمير.
2-1- عامل الدين :
من المعلوم أن ديننا يحمل في عنوانه معاني: السلم، و السلام. و يقف حريصا على تحقيق هذا البعد في حياة المنتسبين إليه أفرادا و جماعات. و لما كان الأمير عبد القادر ذا نزعة دينية -كشفت عنها ميوله القوية نحو كتاب الله، و التفقه في سائر العلوم الشرعية3- فقد منحته هذه الفرصة مكنة الالتزام الديني و الخلقي، فصار إلى قيم الخير، و الكمال أقرب منه إلى غيرهما.فإن عفا يعفو عن مطلق تكوينه الديني، و إن صالح إنما هو وقوف على أمر القرآن.
2-2- الوسط:
لا ننسى أن الأمير نشأ في أسرة محاطة بهالة من الزعامة الروحية، و العلمية هيأت له ظروف التنشأة على مقاس والده محي الدين، الذي يبدو أنه قد تفرس فيه مخايل الفطنة، و الشأن، حيث »كان عبد القادر منذ طفولته موضع خاص لحب والده، حتى عندما كان في الرضاع فإن الوالد الحنون كان يصر دائما إلى أخذ الطفل إلى حضنه، و كان لا يسمح لأحد غيره أن يقوم بالعناية به. فقد كان هناك على ما يبدو سر غامض، و عاطفة غير محددة يدفعان الأب إلى أن يخصص اهتماما غير عادي للطفل الذي سيكون مستقبله محفوفا بهالة مجيدة و مرتبطا بمستقبل بلاده.4 « فقد هيأ له هذا الجو قدرا من نبل الأخلاق تأتّى له بفضل ما كان يعايشه في بيت والده المفتوح على عامة الناس، و خاصتهم، بوصفه سيدا ينتهي إليه إجماع الأهالي »فقد كان لا يقوم بشيء أو يتمتع بمناسبة اجتماعية دون حضور ابنه المحبوب ففي اشتغالاته، و إعلان خططه و مشاريعه، و في رحلاته و زياراته للبايات الأتراك في المدينة، و للقبائل العربية في التل، و في الصحراء كان عبد القادر محل ثقته و صاحبه الذي لا يتخلف. « 5
فمثل هذه الأحداث وفرت لعبد القادر من قيم السماحة ما جعله يأوي إلى الأخذ بها ساعة العسرة: يوم تقلد أمور الولاية على غير انتظار منه.

2-3- النسب:
طالما أشاد الأمير بعلو نسبه، و هو نسب ظل يستمد منه شرعية السلطان، و عمق الانتماء، حتى و إن لم يوظفه إلا توظيفا إيجابيا، مسؤولا لأنه كان يدرك أن الاتكاء على الماضي دون سعي صالح أمر لا يقبل به شرع و لا عقل، و لذا كان يردد مقولته: << لا تسألوا أبدا ما هو أصل الإنسان و فصله بل اسألوا حياته و أعماله، و شجاعته، و مزاياه و عندئذ تدركون من يكون6 «
و إذا كان سليل بيت تشرف أهله بالرسالة الخالدة فمن كامل حقه أن يحافظ على هذا الانتماء الروحي لأداء واجب الجهاد، و الإصلاح على سنن من سبوقه. فهو العربي الهاشمي»عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القادر بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن يوسف بن أحمد بن شعبان بن محمد بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بت الحسن بن فاطمة بنت رسول الله – ص – و زوجة علي بن أبي طالب عم رسول الله – ص -. كان أجدادنا يقطنون المدينة المنورة و أول من هاجر إليها هو إدريس الأكبر الذي أصبح فيما بعد سلطانا على المغرب و هو الذي بنى فاس، و بعد أن كثر نسله توزعت ذريته، ومنذ عهد جدي فقط. قدمت عائلتنا لتستقر في" اغريس" قريبا من " معسكر " و أجدادي مشهورون في الكتب و التاريخ بعلمهم و احترامهم و طاعتهم لله.7 «
و هذا الشعور بالتسامي في الانتساب وطد في وعيه الاعتزاز أمام المشككين. فتراه ما يفتأ يستدعي في أشعاره قيم نبل لإقامة الحجة، و إثبات الفخر:
ورثنا سؤددا للعرب يبقى وما تبقى السماء و لا الجبال.
رفعنا ثوبنا عن كل لؤم و أقـوالـي تصدقها الفعال.
لنا في كل مكرمة رجال و من فوق السماك لنا رجال8.
و منتهى القول:
إن كل هذه العوامل المذكورة اجتمعت في صناعة جهاز أخلاقي حصن الأمير من الوقوع في جرائم الأفعال على عادة الكثير من نظرائه في ميادين العراك. و فسح له أبواب الرحمة و الرفق ليزف عبرها رسائل البشارة و السماحة دون أن يميز فيها بين رفيع و وضيع، صديق و عدو. ذلك ما نلتمس واقعه في مساره النضالي الطويل.
3- تجليات السماحة في آثار الأمير:
حتى تأخذ هذه المحاولة حقها من الدراسة في جانب السماحة الأميرية يقتضي استحضار الدلائل من أفواه الخصوم. و قد يكون عمدتنا في هذه الحقائق ما ألفه بعض أعلام الغرب من سير، و تراجم نالت حياة البطل التاريخي أمثال:" شارل تشرشل، و الجنرال اسكوت، و الماريشال سولت ...."
فأما الكولونيل هنري فيقف مبهورا إزاء الطابع الإنساني الذي انصبغت به معاملاته تجاه عدة حوادث، شملت أسرى العدو و خصومه في الداخل، و حتى الأقليات المسيحية في بلاد الشام.مما جر إليه تعاطف أهل الغرب ساسة، و قادة، و مثقفين اعترافا بسماحة النادرة.
3-1- التعاملات مع الأسرى: يقول هنري تشرشل:» إن العناية الكريمة و العاطفة الرحيمة التي أبداها عبد القادر نحو الأسرى ليس لها مثال في تاريخ الحروب. فكبار الضباط المسيحيين عليهم أن يجلسوا عند قدميه، و أن يتمسحوا بها لانحطاطهم في المعاملة.... و الواقع أن كلما كان عبد القادر حاضرا كان الفرنسيون الواقعون في قبضته يعاملون كضيوف لا كأسرى حرب فكان كثيرا ما يرسل إليهم سرا كميات من النقود تختلف قيمتها من خمسة إلى عشرين دولارا من جيبه الخاص و كان يوصي بهم أن يكسوا، و يطعموا جيدا بل لقد ذهب عبد القادر إلى أبعد من ذلك فمكنهم من تلبية حاجاتهم الروحية9 «
ذلك ما تؤكده مراسلته إلى أسقف الجزائر، بشان أسرى الحرب، حيث يقول: »أرسل قسيسا إلى معسكري، فسوف لا يحتاج إلى شيء، و سوف أعمل على أن أكون محل احترام و تبجيل لأنه له وظيفة مزدوجة. و هي أنه رجل دين وممثل لك. و سوف يصلي يوميا بالمساجين، و يواسيهم و يتراسل مع عائلاتهم، و بذلك يكون واسطة في الحصول لهم على النقود و الثياب و الكتب، و بعبارة أخرى كل ما قد يحتاجونه أو يرغبون فيه مما يخفف عنهم شدة الأسر. و كل ما سوف نطلبه منهم، عند وصوله لدينا أن يعد وعد شرف لا يتغير بأن لا يتعرض في رسائله إلى الحديث عن معسكراتي، و حركاتي العسكرية. « 10
3-2- خصوم الداخل :
تعرض عرش الأمير إلى اهتزازات كبيرة في الغرب و الوسط و الجنوب إرادة من أصحابها الطعن في شرعية التمثيل الجهادي. إما بغرض المنافسة في منصب الزعامة* و إما بدافع النكوث و التثبيط. ذلك ما حدث مع قبيلة بني عامر بزعامة" سيدي إبراهيم " و مع أولاد مختار بنواحي قصر البخاري، من خلال زعيمهم" محمد بن عودة "، دون أن ننسى إلى هؤلاء قبائل بني عراش، التي بقيت حيادية تأبى دعم الأمير من خلال زعيمهم المرابط الحاج محمد بن سالم التجيني.
فكل من ذكرنا ساق إليهم الأمير جيشه مقابل التمرد و النكوث دون أن يغفل جانب العفو، و السماحة في عامتهم، و بعض خصوصهم.
فأما بنو عامر فقد ندموا على موقفهم، و جاءوا الأمير يبتغون الصفح فأجابهم إلى ذلك بالقول: »لقد عفوت عنكم كثيرا، و إن هفواتكم كثيرة، و إن العدو لنا بالمرصاد و أخاف أن يجد ثغرة في صفوفنا فيجرنا حينها إلى النهاية.11 «
و أما أولاد مختار فبعد حملة التأديب " فقد استسلم ابن المختار و جاء شخصيا لدى السلطان و طلب منه العفو، و لكن عبد القادر لم يكتف بمنحه العفو فقط بل عينه – و هو مندهش كذلك – خليفة له على القبائل المنهزمة و هكذا أصبح ابن المختار منذئذ أكثر أنصار عبد القادر إخلاصا له.12 "
3-3- الأقليات المسيحية :
كانت حوادث 1860 نكبة حقيقية طالت بلاد الشام ( لبنان و سوريا ) بسبب الحرب الأهلية بين طائفتي الدورز و المسيحيين. و قد اتهم الأتراك في تأجيج نارها بالتحريض على إبادة المسيحيين. و لما كان أمر الفتنة قد أخذ سبيله إلى الاستفحال تدخل الأمير عبد القادر بمطلق وزنه الديني، و السياسي في إخماد أوار الفتنة، و حماية أهل الذمة أمام غوغاء بعض المشاغبين من المسلمين عربا، و أتراكا، من خلال الاتصال بعلماء البلد، حيث ما فتئ يراسل مشايخ الطائفة الدرزية، و ينصح لهم بخفض الجانب لإخوانهم المسيحيين. فهو بقول: » إلى شيوخ الدروز في جبل لبنان و في سهول و جبال حوران: إننا دائما ندعو لكم بالسعادة الدائمة و الهناء المستمر. إنكم تدركون صداقتنا لكم و اهتمامنا بالصالح العام لجميع عباد الله. فاصغوا على ما نقوله لكم، و اقبلوه، و اعتبروا بنصيحتنا إليكم.
إن الحكومة التركية و كل الناس يعرفون عداوتكم القديمة نحو مسيحي جبل لبنان. و لكنكم إذا قمتم بهجوم على مكان لم يكن سكانه في يوم من الأيام أعداء لكم فإننا نخشى أن يكون هذا التصرف سببا في فضيعة خطيرة بينكم.... إنكم تعلمون كم نحن نتمنى الخير و السعادة لكم، و لجميع سكان بلادكم. إن الحكيم هو الذي يقرأ العواقب قبل أن يخطو خطوة في الطريق. إن بعض فرسانكم قد قاموا بالنهب في ضواحي دمشق، و إن مثل هذا السلوك غير جدير بقوم تميزوا بشعورهم الخير، و سياستهم الحكيمة.
إننا نكرر لكم بأننا لا نسعى إلا لخيركم، و إننا نتألم لأي خدش يصيبكم.13 «
و لم يكتف بهذا الخطاب الصريح بل جمع رجاله، و اعترض سبيل الدهماء من المتظاهرين الذين عزموا إنشاء الفوضى، و حين تعذر عليهم مقاومة الوضع فتح دوره، و دور جيرانه لإيواء الأمواج المتدفقة من المضطهدين، و هو لا يزال يطعم و يسخر رجاله لحراسة أمنهم رغم الضغوط المتوالية.
و هكذا يكون بسهره الحازم» قد أنقذ خمسة عشر ألف نسمة
( 15000نسمة ) ينتمون إلى الكنيسة الشرقية من الموت.... فكل ممثلي المسيحية الذين كانوا يقيمون عندئذ في دمشق مدينون بدون استثناء لعبد القادر بحياتهم.
إنه لقدر غريب، و فريد من نوعه أن عربيا قد وضع درعه الواقي فوق كرامة أوروبا الجريحة. و إن حفيد النبي قد وقى و حمى قرينة أوروبا المسيح.14 «
4- تقدير الموقف :
إن ما حققه الأمير عبد القادر في مرحلة ما بعد المقاومة الوطنية في بلاد المشرق قد رفع من أسهم سمعته، التي أطبقت الآفاق. و لولا المبالغة لقلنا: لم تكتب لزعيم عربي أن ينال من أوسمة الشرف و الرفعة، ما ناله شخصه العظيم.
فقد تقاطرت عليه الرسائل و الهدايا، و الأوسمة من سائر البلدان الغربية، اعترافا بجميل الفضل. » فأرسلت فرنسا النطاق الكبير المعروف بوسام الشرف، و أرسلت إليه روسيا صليب النسر الأبيض الكبير، و أرسلت إليه بروسيا صليب النسر الأسود الكبير، و أرسلت إليه اليونان صليب المنقذ " المسيح " الكبير، و أرسلت إليه تركيا الوسام المجيد من الدرجة الأولى، و أما إنجلترا فقد أرسلت إليه بندقية ذات فوهتين مرصعة بالذهب ترصيعا جميلا، كما أرسلت إليه أمريكا بندقيتين مرصعتين بالذهب أيضا.15 «
و هذا لا يعني أن العالم الشرقي كان بعيدا عن الحدث بل سجل التاريخ ردود أفعال منوهة بصنيع الأمير. أبرزها ما تلقاها من الإمام شامل الداغستاني، و مضمونها كله تقريض، و مدح، و إشادة. لأن للرجل قصة مع عبد القادر**، فما زال يهيم بحبه و تقديره إلى أن قال: » و ما دمت لا أطيق صبرا على التعبير لك عن إعجابي بسلوكك فإني أسرع بتوجيه هذه الرسالة كقطرة مما أكنه من عواطف الأخوة و الإعجاب.16 «
فهذه الشهادات على تعدد جهاتها، و كثرة أصحابها تقر حقيقة بعبقرية رجل اكتنزه القدر لا لوطنه خاصة، بل عم نفعه إنسانية العالم رغم تباعد الأديان، و المسافات.
و قمين به أن يكون رجل عصره الألمع، فكيف لا و هو القائل: » لو أصغى إلي المسلمون و النصارى لرفعت الخلاف بينهم و لصاروا إخوانا ظاهرا و باطنا.17 «
ثالثا: البعد البطولي :
لا يختلف عاقلان في كون الأمير عبد القادر جمع بين السيف و القلم، فإذا شاع عنه نيل إمارة البيان فإنما ذلك لا يؤخره عن منزلة الأبطال في تاريخ هذه الأمة المكينة. و لعل التقرب من صورته البطولية يحيلنا إليها النص الشعري، من خلال ديوانه.
فقد حدا بالأستاذ: حسن السندوبي في أن يؤلف كتابا عنوانه: "أعيان البيان من صبح القرن الثالث الهجري إلى اليوم."
ضمنه التعريف باثني عشر أدبيا من الكتاب والشعراء, ومن بين المترجم لهم :
[الشيخ أحمد فارس الشدياق,صاحب "الجوائب"،ورفاعة رافع الطهطاوي صـــاحب "الإبريز"،والمعلم بطرس البسـتاني صاحب "دائرة المعارف"،والشيخ ناصيف اليازجي صاحب "مجمع البحرين"،والأمير عبد القادر كان تاسـع العيان في البيان] .18
فلما وصل الأستاذ السندوبي إلى التعريف بالأمير قدمه بوصف هذا نصه:
" فبطل الجزائر وإن كان من أرباب السيف فقد كان أخا القلم. لا يغمد أحدهما حتى يجرد صاحبه فيبرى بالأول الرؤوس والهام، ويبرى بالثاني النفوس من سقام الأوهام، ومثله في أدباء الأمراء كمثل سيف الدولة ابن حمدان غير أنه كان أوفر ذماما، وأوفى عهدا وميثاقا من ممدوح المتنبي.
ويستشف من خلال خطبه وكتاباته، ومن بين قصائده ومقاطع أبياته الطبع وفخامة التعبير، غير أنها كادت تخلو من رونق التجويد وبهاء التنسيق. [وإن] من أذهب زهرة حياته في مقارعة الفرسان، ومثافنة الأقران وخوض المعامع والحروب، وحمل الرزايا والكروب دفاعا عن الأعراض و ذيادا عن الأوطان. [لا] أن ينظر في شعره ونثره نظرة تحسين أو تجميل. ومن ذا يقول للأمير ( جود كتابك )؟ ومع هذا فليس دون الطبقة الأولى من أدباء عصره". 19
فهذه صورة الأمير المتكلم العارف ، في نظر السندوبي. فماذا عن الأمير الفارس؟.
إن القارئ ليجد مندوحة في شعر الأمير، من خلال تصوير البطولات التي دون أحداثها بحماسة المجاهد الصابر.
»فقد حدثنا التاريخ عن معركة "خنق النطاح الأولى" وفيها خاض الأمير ملحمة زهدت الرجال في أمل الحياة، فتساقط أبطال الأعداء هلكى وصرعى ،وتطايرت الرؤؤس التي قدها الأمير بحد حسامه،وتلاحقت ضربات الرماح لا تعرف الكلل والفتور.«20
ومن اللباقة العلمية والمنهجية أن نفسح للأمير رواية أحداثها شعرا:
ألم ترفي خنق النطاح نطاحنا غداة التقيناكم شجاع لهم لوى
وكم هامة ذاك النهار قددتها بحد حسامي والقنا طعنه ثوى
ومازلت أرميهم بكل مهند وكل جواد همه الكر لا الشوى21

فالأمير في هذه المواقف يلقي في روعنا تذكار البطولات المقدرة في تاريخ عنترة العبسي،وقطري بن الفجاءة،وسيف الدولة الحمداني،وسائر بن العرب المخلدين في الأيام.
فإذا كان من أدبيات القتال عند الأمير ان يروض فرسه الجموح على التصبر، وإطالة الكر فلا عليه أن يكون فرسه قد تجلل لبانه بالكلوم.
"وأشقر تحتي كلمته رماحهم22"
فشأنه في ذلك شأن عنترة حين قال:
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم 23
أما الصورة الأشد حماسة فتلك التي تحكي استشهاد الفتى احمد بن محمد سعيد بن شقيق الأمير، من بعد أن ابدي بسالة أذهلت العقول.وقع شهيدا تحت سنابك الخيل.
فما كان من الأمير إلا أن يشق الصفوف وينتشل جثمانه الطاهر من بين الأعداء وقذائف النار تصب من حوله صبا.
يوم قضى نحبا أخي فارتقى إلى جنان له فيها نـبي الـرضـــا أوى
فما ارتدى من وقع الســهام عنانه إلى أن أتاه الفوز راغمـا من غوى
ومـــن بينهم حملته حين قد قضى وكم رمية كالنجم من افقه هوى24
فلو أن الأمير في هذا المرتقى الصعب استسلم لعواطف الجزع بالشهيق حزنا على فلذة الكبد لكان له من العذر مندوحه عند أهل النهى .إذ لا ضير أن يبكي المرء حبيبه، أبا كان أو ابنا أو أخا.ولكن يعز عليه أن يبكي و هو القائل:
و من عجب صبري لكل كريهة و حملي أثقالا تجل عن العد25
فتراه في هذا المقام يسمو عزما إذا ماقيس بالفارس البطل،والشاعر الفحل أبي فراس يوم أرسل إلى سيف الدولة بعد موت شقيقته بقصيدته يحثه فيها على إبداء الحزن،وتكلف الجزع فقال:
أوصيك بالحزن لا أوصيك بالجلــد جل المصاعب عن التعنيف والفند
إنــي أجلك أن تكفى بتعزيـــة عن خير مفتقـد يـا خير مفتقد
بي مثل مابك من حزن ومـن جزع وقد لجـأت إلى صـبر فلم أجد
أبكي بدمع له من حسـرتي مــدد وأسـتريح إلى صبر بلا مــدد26
فإذا كان الأمير على هذا الوجه الناصع من الثبات،والاصطبار فإنه من وجه آخر إذا حمت الحاجات،وتعاظم الخطب وحدته. كهفا تلوذ الأبطال به.
ومن عادات السادات بالجيش تحتمي وبي يحتمي جيشي وتحرس أبطالي
وبي تتقي يوم الطعان فـــوارس تخالينهم في الحرب أمثـال أشبال27
وقد يطعن الطاعنون في هذا التصوير ،ويعدونه ضربا من الإسراف وتفخيم الأنا –وهذا من حقهم-ولكن حين يعلم الواحد منهم أن الرجل الذي أعيا فرنسا في النزال حتى ألقت إليه بشارات الاعتراف على غير رضى سيكون لهذا الجاحد في الأمير رأي آخر. ففي سنة 1840 قال الماريشال"سلوت" :
» لا يوجد الآن أحد في العالم يستحق أن يلقب بالأكبر إلا ثلاثة رجال وكلهم مسلمون وهم:الأمير عبد القادر الجزائري،ومحمد علي باشا،والشيخ شامل الداغستاني « 28
أما الجنرال" بيجو "فقد خاطب كاتبه الخاص:
»ألم تعلم يا فليوت أن حاكم الجزائر يحتاج إلى سياسة قوية لان الأمير عبد القادر خصم صنديد،ومقارع عنيد لا يخشى بطش الجيوش الفرنسية ولا ينظرها بعين الاعتبار «29
ففي الوقت الذي كانت فرنسا تزجي بفيالقها إلى أرض الجزائر بأعداد كبيرة يبعث الأمير إلى بيجو وبكتاب هذا نصه:
»فقد بلغني أنكم جئتم من فرنسا إلى الجزائر لقتالنا بما يفوق عن ثمانين ألف جندي زيادة على عساكركم السابقة.
فاعلموا أني –بعون الله وقوته-لا أخشى كثرتكم ولا أرهب قوتكم لعلمي أنكم لا تضرونني بشيء إلا أن يضرني الله به ولا يلحقني منكم إلا ما قدره الله علي وقضاه، وإنني منذ أقامني الله في هذا الأمر وجعلني ضدا لكم ما قاتلتكم بعسكر يكون عدده ثلثا من عساكركم التي تقاتلونني بها«30
فتوقيع في هذا المستوى من الحزم يكشف مضمونه عن التشبع الروحي الذي لازم الأمير من يوم البيعة. لأن الإيمان بالقضية والأخذ بأسبابها من أكبر عناصر القوة في استراتيجية الأمير الجهادية، وهو نفسه يصف الحرب التي يخوضها فيقول :
»والحروب قد تربينا عليها، وتغذينا بلبانها، فنحن أهلها من المهد إلى اللحد. وحروبنا كما علمتم لا نرجع فيها إلى قانون يحصرها، بل نحن مخيرون مطلقون تصرفها كيف شئنا، وأما أنتم فقد بذلتم أموالكم وأفنيتم شبابكم في تعلم طرقها القولية .وعند اشتباك الصفوف تعاجلكم عن مراجعتها الرماح والسيوف«31
فإذا غدت هذه الشهادات الموثقة على تنوع مصادرها-تصب في موضوع الاعتراف بالعبقرية القتالية ،وفن القيادة فلا غرو من أننا واجدوها في قول الأمير:
سلوا تخبركم عنا فرنســا ويصدق إن حكت منها المقال
فكم لي فيهم من يوم حرب به افـتـخر الزمان ولا يزال 32.
الخلاصة :
إن جوانب العظمة في شخص الأمير لا تغطيها جملة القيم الإنسانية التي أشرنا إلى بعضها، فقد يبقى الكثير منها يبحث عن الأقلام النزيهة، علها تزيح غطاء التغافل و التناسي عن جملة الأسوياء لهذه الأمة.
فهو و إن أدى واجبه على الوجه الأكمل في نظر عشاقه فالأكيد أنه لم يرض يوما على نفسه بتقديم اللازم تجاه الأمة» و ظل يأمل أن يكون واحدا من طليعة خيّرة سيكون من نصيبها تعبيد الأرضية بغنائها، و جراحاتها لتتواصل الأجناس، و تتعاقد على السلام و الإخاء ، لكن الحلم الكبير لم يتحقق.
لم يعنه الشأن المادي قط، و رغم انهيال الأفضال عليه فقد ارتحل عن الحياة، و في ذمته دين جراء ما كان يبذل سرا، و علانية لأهل الاستحقاق. « 33
الهوامش:
1- يجد دارسو شخصية الأمير صعوبة في تصنيفه المعرفي. أهو رجل دين، أم حكمة أم رجل بيان؟ .
2- معجم الصحاح. الجوهري. بيروت. دار العلم للملايين. ط3. 1984.ج1/376.
3- »... و تمكن من قراءة القرآن، و أصول الشريعة و الحديث. و هو في الثانية عشر من العمر، و أصبح من حفظة القرآن و هو في الرابع عشرة... «ينظر الأمير عبد القادر الجزائري. بسام العسيلي. دار النفائس. ج4. ص20.
4- حياة الأمير عبد القادر. هنري تشرشل. ترجمة أبو القاسم سعد الله. ص39.
5- م ن . ص 42.
6- الأمير عبد القادر. بسام العسيلي. ج4. ص34.
7- م ن . ص34.
8- ديوان الأمير عبد القادر. ص37.
9- حياة الأمير عبد القادر. تشرشل. ص 101-102.
* يذكر الدكتور سعد الله أن زعيم أولاد مختار كان يدعو إلى السيد محمد عبد الله البغدادي، الذي ادعى أنه المهدي المنتظر، و كان ينافس الأمير. راجع تشرشل ص 127.
10- للاستزادة في معرفة سماحة الأمير تجاه أسرى الحروب ينظر كل من: أبو القاسم سعد الله. أبحاث في تاريخ الجزائر. ج1. ص 128 و ما بعدها. و كذلك مذكرات الكولونيل سكوت عن إقامته في زمالة الأمير عبد القادر. ترجمة إسماعيل العربي.
11- الأمير عبد القادر. بسام العسيلي. ص 177.
12- الأمير عبد القادر. تشرشل. ص 128.
13- م ن . ص288.
14- م ن .ص 286.
15- م ن .ص 289.
** مفادها أن الشيخ شامل الداغستاني قد بعث برسالتين إلى الأمير عبد القادر، بغرض الشفاعة له عند الروس و إطلاق سراحه لزيارة البقاع المقدسة. و قد تحقق له ذلك بفعل مساعي الأمير. يمكن الاطلاع على الرسالتين في كتاب "تحفة الزائر" للأمير محمد ابن عبد القادر.
16- ينظر بقية الرسالة في حياة الأمير عبد القادر. تشرشل .ص 289.
17- مقدمة حياة الأمير. أبو القاسم سعد الله. ص23.
18- صفحات من الجزائر. صالح خرفي. ص60.
19- م ن .ص 62.
20- الأمير عبد القادر الجزائري متصوفا و شاعرا. فؤاد صالح السيد. ص199.
21-22-24- ديوان الأمير.ص 56.
23- شرح المعلقات السبع. معلقة عنترة. شرح الزوزني. ص 152.
25- م ن . ص77.
26- أبو فراس الحمداني. الروائع. ص22.
27- ديوان الأمير . ص 42.
28- صفحات من الجزائر. صالح خرفي. ص 54.
29- 31- م ن .ص 21.
30- م ن .ص 22.
32- ديوان الأمير. ص 37.
33- مقدمة ذكرى العاقل و تنبيه الغافل. عشراتي سليمان. ص1.







قائمة المصادر و المراجع:
1- بسام العسلي. الأمير عبد القادر. دار النفائس. د ت.
2- الجوهري. حماد ابن إسماعيل. معجم صحاح اللغة و تاج العربية. تحقيق عبد الغفور عطار. بيروت دار العلم للملايين ط 3. 1984.
3- الزوزني شرح المعلقات السبع. دار بيروت للطباعة و النشر. ط 1980.
4- صالح خرفي. صفحات من الجزائر. الشركة الوطنية للشرح و التوزيع. الجزائر. ط 1976.
5- سعد الله أبو القاسم. أبحاث و آراء في تاريخ الجزائر. دار الغرب الإسلامي. بيروت. لبنان. ط3. 1990.
6- سكوت الكولونيل. مذكرات الكولونيل سكوت عن إقامته في زمالة الأمير عبد القادر. ترجمة و تعليق إسماعيل العربي. الشركة الوطنية للنشر و التوزيع. ط 1981.
7- عبد القادر الجزائري. ديوان الأمير عبد القادر. شرح و تحقيق ممدوح حقي. دار اليقظة العربية. بيروت 1966.
8- عبد القادر الجزائري. ذكرى العاقل و تنبيه الغافل. تقديم عشراتي سليمان. دار النشر و التوزيع. ط 2016.





>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :



__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :

بارك الله فيك

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :











ி ιllιl رمضًــــآن كــَريـــمَ (( ^_^ ))


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

بارك الله فيك

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :

العجب كل العجب أنهم يدرسون أشعار ليست للأمير وإن نسبت إليه، فمعظم هذه الأشعار كتبت قبل أن يولد الأمير، وأستطيع أن أدلل ببعضها، ففيها يقول صاحبها:
لنَا في كلِ مكرمةٍ مجــــــــالُ --- ومِنْ فوق السِّماك لنا رجالُ
ركبنا للمكارمِ كلَّ هـــــــولٍ --- وخُضنا أبحرًا ولها زِجالُ
إذا عنْها توانَى الغيرُ عجْـــــــزًا --- فنحْنُ الراحلونَ لها العِجَالُ
فهل خاض الأمير الحرب في البحر حتى يقول: وخضنا أبحرا.
وفي أخرى:
توسد بمهد الأمن مرت النـــــوى وزال لغوب السير من مشهد الثوى
إلى أن يقول:
لذك عروس الملك كانت خطيبتي كفجأة موسى بالنبوة في طـــــــوى
أنا فهمت من هذه القصيدة أن الرجل لما أوتي الملك مكث وأقام، بعد أن كان لا يمكث في مكان، وأن الرجل أوتي الملك فهل أوتيه الأمير أو مكث بعد أن كان لا يستقر.
وحتى في قصائد الغزل، ذكر أن اسم زوجته رضوى، فهل كانت للأمير زوجة اسمها رضوى
فلوْ حَملتْ رَضـوى مـن الشـوق بعضَ مَا حمَلْتُ لذابَ الصخرُ مـن شدَّة الوجْد
والأمثلة في هذا الصدد كثيرة.