المحتويات
الوقفة الأولى: 5
الوقفة الثانية: 7
الوقفة الثالثة: 7
الوقفة الرابعة: 8
كيف برأ الله يوسف عليه السلام: 8
قوارب النجاة في قصة يوسف عليه السلام: 9
دروس أخيرة من القصة: 11
موضوعنا هذه الليلة هو درس في العفة، وفي الواقع أن من أشد ما يعاني منه الشباب خاصة في هذا العصر الشهوات ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار دواعيها وتنوعها وكثرتها ، وفي خضم هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة للنفس الأمارة قصة قديمة فقد كنت قَد ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان الشباب والشهوة ثم أصدرت كتاباً بعنوان "أخي الشباب كيف تواجه الشهوة " وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلى رسائل كثيرة جدًّا رسائل بريدية أو مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشكلات كثيرة حول هذا الموضوع بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعيا منذ أن صدر الكتاب إلى الآن وأحرص أن أرد على كل رسالة ولو تأخرت في ذلك ولكن هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعورا بأن لهذا الموضوع أهمية وبأن الشباب مازالوا يحتاجون وأنهم فعلا يعانون من مشكلة الشهوة، وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن كثيراً من الشباب عندما يبعث لي بالرسالة يقول أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب مع أني لو قرأت جزءا منها فإنني لن أشير من قريب أو بعيد إلى واقع هذا الشباب ولكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذا الطلب واستأمننا على سره أن لا نذكره، مع أني لو أعرضه لم يفهم الناس مَنْ المراد.
وهذا أشعرني بأن الموضوع يحتاج إلى معالجة أكثر وإلى تنويع الأساليب.
ومن ذلك النموذج ذكره اللّه سبحانه وتعالى في كتابه عن قصة يوسف عليه السلام كيف واجه الفتنة وكيف صبر ونجاه اللّه سبحانه وتعالى منها، ومن القضايِا المهمة التي يحتاج إليها الشباب: القدوة العملية، الصورة التي يراها شاخصة أمامه ويتخيل هذه الصورة، ويتخيل تلك الحال والمغريات والمثيرات التي فيها وكيف نجا يوسف من هذا الابتلاء فيعتبره قدوة ونموذجاً له يحتذيه.
وسنتناول الموضوع من خلال النقاط الآتية:
عوامل الإغراء ،ثم قوارب النجاة ، ثم وقفات حول القصة ، وأخيراً دروس أخيرة ، أما عوامل الإغراء فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام وحتى نعرف فعلا أن هذا البلاء لنبي اللّه. لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام ويستطيع كل منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتصورها ويتخيلها بنفسه ويستطيع أن يدرك هذه العوامل.
وقد أشار الحافظ ابن القيم حفظة اللّه إلى عدة أمور أوصلها إلى (13) كلها كانت وسائل وأمور تغري وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموضوع.
* " أولها: العامل الطبع أي أن الرجل يميل إلى المرأة أصلا ، الرجل وكل الرجال إلا من شذي لديه هذه الشهوة فهذا العامل موجود أصلا.
الأمر الثاني: كونه شابًّا ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره خاصة مع ذلك فقدرته على ضبط نفسه أقل من غيره ، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر، فتعرفون أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير ثم أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال عز رجل: " ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين. وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب".
ولا يهمنا الآن كم كان سن يوسف ولكن كان لاشك أنه قريب من العشرين يزيد عنها قليلا أو ينقص عنها قليلا، المهم أنه في مرحلة زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان عَزَباً لم يتزوج بعد ولا شك أن هنا أيضاً أمر له أهميته فالمتزوج قد يسر اللّه له طريق الحلال فلو أثاره ما آثاره فأمامه المصرف الشرعي ، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية والداعي للوقوع في المعصية والإغراء أكثر من غيره ومن هنا أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم الشباب قال: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
- الجانب الرابع: كونه في بلد غريب فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله -خاصة لمّا يتركهم في سن مبكرة- فإن هذا يدعوه إلى أن يمارس ما يمارس ، فوجود الغربة يدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي تقيده وتحجمه ، وكما نلاحظ الآن أن المرء عندما يغترب عن بلده يصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند قومه وعشيرته وأهله.
- الأمر الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وذات جمال، أما كونها ذات منصب فهذا واضح وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن مثل العزيز العادة أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.
الأمر السادس: كونها غير ممتنعة ولا آبية فإن مما يصد المرء أحيانا عن المعصية أن تمتنع المرأة وتأبى.
الأمر السابع: أنها طلب وأرادت وراودت و بذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة. فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه. فالشاب قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية، لكن قد تبقى أمامه عقبه وهي الجرأة والتصريح بالرغبة والطلب.
وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له، فاجتمع عليه الترغيب والترهيب، فلو لم تكن لدى الشاب الرغبة ابتداءً فهذا الموقف كفيل بإيجادها.
الأمر الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها بحيث يخشى إن لم يجبها إلى ما تطلب أن يناله أذاها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
الأمر التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراضية الراغبة، فيزول لديه خوف الفضيحة ومعرفة الناس بما قارف من سوء.
الأمر العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يؤرث طول الأنس، فهو يلقاها كل يوم ويراها، ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، وهذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره.
الأمر الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر و الاحتيال وهن النساء، قال تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن) فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل قال بعض أهل العلم : إن كيد المرأة قد فاق كيد الشيطان فقد قال
إن كيدكن عظيم) واللّه قد قال في آية أخرى: (إن كيد الشيطان كان ضعيفا) . ولكن لاشك أن المرأة الصالحة القانتة التائبة العابدة بعيدة عن هذا كله المهم.
والمقصود أن المرأة استعانت عليه أيضا بالنسوة مرة أخرى، فالموقف قد تكرر مرة أخرى فهي بعدما راودته عن نفسه وامتنع، استعانت عليه بالنسوة لتصيد عصفورين بحجر واحد؛ أن تكيد للنسوة وتنتقم مما قلنه في حقها، وأن تستعين عليه بهن، فتجمع النسوة وتعطيهن الطعام، وتأمره بأن يخرج عليهن، فيبهرهن جماله، ويقطعن أيديهن دون أن يشعرن بذلك، فكيف بيوسف عليه السلام وهو يتعرض للمراودة مرة أخرى، ويسمع هذا الوصف من النسوة، ويسمع هذه المرأة تصرح بالسوء وتعلنه بكل جرأة ووقاحة.
الأمر الثاني عشر: التوعد بالسجن والصغار؛ فإنها قالت (لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكوناً من الصاغرين) وهي تملك ذلك؛ فهي زوجة العزيز، والأمر بيديها، وهي ممن وصفت بالكيد العظيم وقد ثبتت قدرتها على ذلك فدخل يوسف عليه السلام السجن ولبث فيه بضع سنين.
- الأمر الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر الغيرة والنخوة التي تليق بالأزواج، فحين شهد الشاهد واتضح الأمر أمامه. قال هذا الزوج الديوث ليوسف عليه السلام (أعرض عن هذا) وقال للمرأة (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) وانتهى الموضوع، فليس هناك ما يدعو لإثارة الموضوع ولا إثارة المشكلات((ينقل كلام سيد قطب رحمه الله))
وهناك أمر رابع عشر: يمكن أن نضيفه إلى ماذكر الحافظ بن القيم رحمه اللّه : أن يوسف نشأ في هذا البيت، بيت أحسن أحواله على الأقل أن يقول إن قضية الفاحشة قضية سهلة. وحتى الرجل الذي يفعل الفاحشة لا يمكن أبدأ أن يقبل أو يرضى أن يكون هذا في أهله. بل مجرد التهمة تدعوه إلى قتل زوجته أو مفارقتها لكن يوسف عليه السلام قد حفظه الله، فلم يتأثر بهذا المجتمع الذي يعيش فيه.
هاهو يوسف عليه السلام يعيش هذا الموقف بظروفه وملابساته، وتجتمع عليه هذه المثيرات، فينجيه الله تبارك وتعالى منه ويثبته على طاعته.
إن الشاب المسلم اليوم ليتطلع إلى هذا النموذج ويتخذه مثلاً له يسير عليه، كيف لا وقد أخبر الله تبارك في مبدأ هذه السورة بشأن هذه القصة بقوله تعالى
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذه القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين). وقال: (وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) وقال
أولئك الذين هدى اللّه فبهداهم أقتده فل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين).
وشهد النبي ليوسف عليه السلام بأنه من خير الناس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله: من أكرم الناس؟ قال :"أتقاهم" فقالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فيوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله" ، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال:"فعن معادن العرب تسألون؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا". متفق عليه.
هذه نماذج يتطلع إليها الشاب المسلم اليوم، وهو قد لايصل إلى هذه المنزلة ولن يصل إليها، وأنَّى لامرئ أن يصل منزلة أنبياء اللّه، لكنه يجعل هؤلاء مثلا وقدوة يقتدي بهم.
وقفات تفسيرية:
ليس الحديث عن تفسير السورة وآياتها مجال حديثنا هنا، لكن هناك بعض الآيات تحتاج إلى وقفة عاجلة وذكر لما قاله المفسرون فيها، ومنها:
الوقفة الأولى:
قال تعالى: " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه " فدلت هذه الآية على أن كلا من يوسف والمرأة قد هم بصاحبه، أما هم المرأة فقضية واضحة لا إشكال فيها، والإشكال إنما هو في هم يوسف عليه السلام بالمرأة. فما معنى الهم هنا؟
أقوال المفسرين كثيرة نشير إليها بإيجاز ثم نختار بعد ذلك مايظهر أنه يليق بمقام أنبياء الله. وقبل ذلك هناك مقدمة لا بد منها وهي: أننا نعتقد نزاهة أنبياء اللّه ونزاهة يوسف عليه السلام، ويوسف ما أورد اللّه قصته في هذه السورة إلا أنه نموذج ومثل يحتذى. ولا ينبغي أن نستطرد في ذكر الأقوال التي هي منقولة عن بني إسرائيل وفيها اتهام ليوسف عليه السلام، وتصوير لا يليق بنبي من أنبياء اللّه.
ومن سوء الأدب مع نبي الله الكريم بن الكريم بن الكريم : ما يروى عن بعض الناس أنه دعته أعرابية فامتنع فرأى يوسف في المنام فقال من أنت؟ قال: أنا يوسف الذي هممت وأنت لم تهم. فكأن مثل هذا يرى أن منزلته أفضل وأعلى من منزلة يوسف عليه السلام.
المهم أننا عندما نقرأ في كتب التفسير حول هذه القصة أو غيرها يجب أن لا ننساق وراء بعض الإسرائيليات التي تحط من شأن الأنبياء ومنزلتهم عليهم السلام، وعلينا أن نقرأ هذه الأخبار ونتعامل معها بروح التقدير واعتقاد العفة والمنزلة العالية لأنبياء اللّه عليهم صلوات الله وسلامه.
نعود إلى الحديث عن أقوال المفسرين:
القول الأول: أنه هم بهذه الخطيئة ولم يعملها والنبي قال: " من هم بسيئة ولم يعملها كتبت له
حسنة كاملة". ومثل ذلك: أن الرجل يحدث نفسه لكنه لا يقدم على الفعل، كما يحدث الصائم نفسه أن يشرب الماء البارد.
فهذه حسنة يثاب عليها كما أخبر . في شأن من هم ولم يفعل.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن اللّه عز وجل لم يذكر عن أي نبي من أنبيائه أنه وقع في معصية إلا وذكر أنه تاب منها واستغفر منها. فهو هنا لم يذكر أن يوسف عليه السلام تاب واستغفر وهذا يعني أنه لم يقع منه أي معصية.
القول الثاني: قالوا إنه هم بضربها.
القول الثالث: إنه حدث نفسه أن تكون زوجة له، لما رأى جمالها.
القول الرابع: قال به ابن حيان واختاره الشنقيطي في أضواء البيان وأطال في استظهاره، ومؤداه أن يوسف عليه السلام لم يقع منه الهم أصلا لأن اللّه تعالى قال: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه). ولولا حرف امتناع لوجود ، فهو هنا قد امتنع منه الهم نظرا لأنه رأى برهان ربه. وكأن الكلام فيه تقديم وتأخير مثل قول اللّه عز وجل
إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها". فهي لم تبد به أصلا لأن اللّه ربط على قلبها. وهنا يوسف عليه السلام لم يهم بها أصلا لأنه رأى برهان ربه. وهو قول له وجاهته.
وإن لم يصح هذا فالقول القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه : هو أن يوسف عليه السلام حدثته نفسه لكنه لم يفعل شيئا. وأما ما يذكرونه أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ثم رأى صورة يعقوب، ثم أقدم ثم رأى كفه، ثم أقدم حتى دفعه جبريل بيده، فيوسف عليه السلام أبعد من ذلك.
والواجب على المسلم أن يعتقد تنزيه أنبياء الله تبارك وتعالى، وألا يقبل من الأخبار في حقهم إلا ماجاء في القرآن الكريم، أو صح عن النبي .
الوقفة الثانية:
قوله تعالى (لولا أن رأى برهان ربه) فما المقصود ببرهان ربه؟
للمفسرين في ذلك أقوال عدة، منها:
أنه رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله.
ومنها: أنه رأى كف يعقوب.
ومنها: أنه رأى آية ( ولا تقربوا الزنا).
ومنها: أنه رآها مكتوبة على جبهتها.
ومنها: أنه رآها مكتوبة على الحائط.
ومنها: أنه خرجت له كف مكتوب عليها (ولا تقربوا الزنا) ثم لم يمتنع ثم خرجت له كف مكتوب عليها (و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى اللّه) ولم يمتنع حتى جاء جبريل ومنعه وهذا كما قلت لا يليق بحال يوسف عليه السلام.
ومنهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك.
ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة وجاءت تغطيه فقال لماذا؟ قالت استحي من إلهي، قال وأنا أحق أن استحي.
هذه الأقوال مروية عن بني إسرائيل وليس عليها دليل صحيح، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان هناك حاجة لأخبرنا به اللّه سبحانه وتعالى. واللّه عز وجل أبهمه كما أبهم أسماء أصحاب الكهف، أو القرية…وغير ذلك، وإنما ذكرناها لأن هناك من يتساءل عنها ويثيرها.
والأمر المهم في ذلك أن الله تبارك وتعالى أكرم نبيه وحماه من الوقوع في المعصية بأن أراه هذا البرهان.
الوقفة الثالثة:
قوله تعالى: (وشهد شاهد من أهلها)وما قلناه في البرهان نقوله هنا، فلا حاجة للاستطراد فيما قاله المفسرون حول هذا الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج.
فما هذا الشاهد؟ هل هو رضيع؟ أم رجل كبير؟ أم القميص؟ هذا أمر لا يعنينا المهم أن اللّه وفقه ورأى هذا الشاهد على براءته ونزاهته عليه السلام.
الوقفة الرابعة:
قال يوسف عليه السلام(معاذ اللّه إنه ربى أحسن مثواي) ما المقصود بربي هنا؟ والمقصود هو العزيز وهذا اللفظ كان مستعملا عندهم ومثله قوله (ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) وقوله (اذكرني عند ربك) كل هذه مقصود بها العزيز؛ فهو قد أحسن مثوى يوسف عليه السلام فلا يليق أن يخونه في أهله.
ولكن لماذا اعتذر بهذه الحجة ولم يخوفها باللّه والمانع الأقوى والحقيقي هو الخوف من اللّه؟ قالوا:لأن هذه المرأة قد استحكمت لديها الشهوة، فلو خوفها بالله عز وجل لم ترتدع، فأراد أن يصرفها عنه بأقوى مايعتقد أنه رادع لها، وقد كان يوسف عليه السلام يظن أن زوجها يملك قدرا من الغيرة يحمله على ردعها.
وهذا فيه درس : أن الإنسان يصرف الفتنة والسوء بما يناسب المخاطب، فقد يكون شخص ضعيف الإيمان فحين تحدثه عن الأمراض الجنسية والعقوبات الدنيوية التي يعاقب بها من وقع في الفاحشة كان أردع له، فينبغي أن يردع بما يردعه، ومع ذلك لابد من الاعتناء بتأصيل الخوف من الله والاستجابة له عز وجل.
كيف برأ الله يوسف عليه السلام:
هناك أمور عدة أظهرت براءة يوسف عليه السلام، منها:
أولها: تبرئة اللّه سبحانه وتعالى له (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) وأعظم بها شهادة وتزكية.
الثاني: الشاهد الذي شهد من أهلها (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين . وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين).
الثالث: العزيز نفسه فإنه قال (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين). وفي هذا دليل على أن العزيز يرى أن يوسف عليه السلام بريء من هذه التهمة.
الرابع: المرأة نفسها فقد قالت (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين). وفي الآية الأخرى ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين)
الخامس: النسوة فقد قلن (حاش للّه ما علمنا عليه من سوء).
السادس: يوسف عليه السلام نفسه حين قال (معاذ اللّه إنه ربي).
وأخيرا: قالوا إن الشيطان قد شهد ليوسف عليه السلام بالبراءة فقد قال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين) . واللّه عز وجل قد شهد ليوسف عليه السلام بأنه من عباده المخلصين فقال ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين).
فقد حكم اللّه ليوسف أنه من المخلصين إن والشيطان قد أخبر أنه ليس لديه سلطان على هؤلاء المخلصين.
قوارب النجاة في قصة يوسف عليه السلام:
ما هي الأمور التي تمسك بها يوسف عليه السلام فكانت سببا بعد اللّه وتوفيقه لحمايته ولنجاحه في هذا الابتلاء؟
أولا: الخوف من اللّه عز وجل، والخوف من اللّه سبحانه وتعالى هو العاصم من الوقوع في أي معصية و أي فاحشة، فقد قال الرسول : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله…وذكر منهم: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إن أخاف اللّه" فالإنسان قد تدعوه للمعصية مغريات لكنه عندما يعلم أن اللّه سبحانه وتعالى مطلع عليه، وأنه عز وجل يراقبه فلن يتجرأ على هذه المعصية قال تعالى
إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) ، وقال
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ .من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).
فإذا أردت النجاة فربَّ في نفسك الخوف من اللّه سبحانه وتعالى فهذا أعظم مانع وحاجز ورادع للمرء من الإقدام على المعصية.
ثانيا: توفيق اللّه وإعانته، فقد قال سبحانه وتعالى (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) . فإنه لو لم ير برهان ربه لهمَّ بها. وقال اللّه عز وجل في آيه أخرى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) ، وتأمل كيف أن اللّه لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء، بل قال
لنصرف عنه السوء والفحشاء) ، فالسوء والفحشاء صرفت عنه وهذا أبلغ من أن يصرف عنها هو.
وكلما ازداد المرء توكلا باللّه وأخذا بالأسباب،كان ذلك أولى أن يحفظه اللّه ويعينه، وقد قال لابن عباس رضي الله عنهما :"احفظ الله يحفظك" وحفظ الله تبارك وتعالى لعبده يشمل حفظه في أمور دينه وحفظه في أمور دنياه، والأول أتم وأولى.
الثالث: فراره من أسباب المعصية، فقد خاف من ربه، وحين رأى البرهان لم يقف بل فر وسابقها إلى الباب، وقد قميصه من دبر.
إن مفارقة الإنسان لموطن المعصية وفراره منه مما يعينه على تركها وهو دليل على تفويضه أمره لله عز وجل، ولذا فقد نصح الرجل العالم ذاك الذي أتاه يستفتيه وقد قتل مائة شخص، نصحه بأن يخرج من قريته فهي قرية سوء ومعصية، ويغادرها إلى قرية يعمرها الصالحون الأتقياء.
ولذا كان النبي يقول في دعائه لربه :"اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك"، فعلى الشاب المسلم الحريص على مجانبة معصية الله أن يبتعد عن أسباب المعصية وطرقها، وأن يتخلى عن كل ما يذكره بها أو يدعوه إليها، وليحذر من الثقة المفرطة بنفسه في هذا الباب.
الرابع: الدعاء، فقد دعا يوسف عليه السلام ربه فقال
رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) سأل اللّه أن يصرف عنه كيد النسوة متبرئاً من حوله وقوته، ومسلمًّا أمره لخالقه ومولاه عز وجل.
وإذا كان يوسف عليه السلام لا يستغني عن دعاء اللّه عز وجل وسؤاله فغيره من باب أولى؛ فالدعاء هو الوسيلة التي يتصل بها المرء باللّه عز وجل، وقد قال عز وجل
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجبِ دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) ، وفي آية أخرى
وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) ، وقال في حديث جامع: " ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه اللّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها"، فما بالك إذا كان هذا الداعي مقبلا على اللّه قد نفى عن نفسه الحول والطول؟ وما بالك إذا كان مضطرًّا؟ وقد وعد الله المضطر بإجابة دعائه (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ، وهل هناك أمر أكثر ضرورة للإنسان من حفظ دينه؟
إذاً ينبغي لنا أن ندعو اللّه عز وجل في كل شيء نريده في دينينا ودنيانا ومهما بلغ العبد من التقوى والطاعة والإقبال على اللّه عز وجل فإنه لا يستغني عن استهداء اللّه وسؤال التثبيت، أليس اللّه فد افترض على كافة عباده الأتقياء قبل الفجار أن يتوجهوا إليه كل يوم بقولهم (اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم)؟
أليس اللّه يقول في الحديث القدسي "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم"؟
وهاهو نبينا يدعو اللّه عز وجل فيقول :"اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرائيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم ".
ويسأل النبي ربه فيقول :" يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ".
وقبله إبراهيم عليه السلام يدعو اللّه سبحانه وتعالى بعد أن حطم الأصنام وواجه من قومه ما واجه يقول (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) :إذا لا ينبغي أن نترك الدعاء أو نقصر فيه، ومهما شعر المرء بثباته وتقاه وطاعته فإنه لا يستغني أبدا عن دعاء اللّه تعالى أن يثبته وأن يعينه وأن يهديه إلى صراطه المستقيم.
الخامس: صلاحه وطاعته وتقواه وكان ذلك من أسباب توفيِق اللّه له (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)". فكلما كان المرء مطيعا للّه حافظا لحدوده كان ذلك أدعى إلى أن يحفظه اللّه وأن يثبته على طاعته.
ومن هنا فازدياد المرء على الطاعة والعبادة وحرص الشاب على ذلك. هذا مما يؤهله لتوفيق اللّه وإعانته له بعد ذلك.
السادس: اختياره الأذى على فعل الفاحشة فهو يقول (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) يختار يوسف عليه السلام السجن ومرارته ولا أن يقع في هذه المعصية، فحينما وصل الأمر به إلى هذا الحد أعانه اللّه ووفقه، أما الأذى الذي ناله فهو أذى الدنيا وما هذه الدنيا إلا دار مصائب " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى).
وقد يستجيب المرء لداعي الفاحشة فيواقعها فتكون النتيجة بدلا من مقاساته الصبر على هذه الشهوة أن يقاسي بعد ذلك مرضا جنسيا يناله فيه من شقاء الدنيا والآخرة أضعاف أضعاف ما حصله من تلك الشهوة العاجلة.
دروس أخيرة من القصة:
- ضرورة البعد عن أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام بعد أن نجح واجتاز هذا الابتلاء استبق الباب وأصبح يريد أن يخرج من الباب فلا بد أن يبتعد الشاب عن أسباب المعصية.
- ضرورة التضحية والتحمل فمن الضروري أن يتحمل المرء في سبيل اللّه سواء ما يلاقيه من الدعوة إلى اللّه أو ما يلاقيه في طاعة اللّه أو ما يلاقيه في البعد عن المعصية.
- حسن العاقبة لمن اتقى الله وأطاعه، فهاهي المنزلة التي وصل إليها يوسف عليه السلام (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض). أما أجر الآخرة فهو خير وأبقى.
- مراقبة اللّه سبحانه وخشيته، وأثر ذلك في حماية العبد من المعصية.
- دعاء اللّه سبحانه وتعالى والاستعانة به واللجوء إليه.
- خطورة كثرة الخلطة؛ فإنها قد تكون مدعاة إلى الجرأة على الفساد، فالذي دعا امرأة العزيز إلى أن تصل إلى هذا الأمر وتدعو يوسف وترواده عن نفسه هو كثرة مخالطتها له، ومن هنا يجب أن يحذر الشباب من كثرة مخالطة من قد تكون مخالطته سببا ومدعاة إلى أن يقع في مثل هذه المعصية أو غيرها.
- عدم استغناء العبد عن اللّه سبحانه تعالى؛ فمهما بلغ من الإيمان والتقوى فإنه لا يمكن أبدا أن يستغني عن توفيق اللّه له وإعانته، فاللّه عز وجل يقول عن نبيِه صلى اللّه عليه وسلم
ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا). فإذا كان الرسول لا يستغني عن اللّه سبحانه وتعالى ويحتاج إلى إعانته وتثبيته، فغيره من باب أولى، ومن هنا فمن أكبر المخاطر على العبد المطيع للّه هو غروره وإعجابه بنفسه وتقواه وطاعته فإن إعجابه بنفسه وثقته بها فهذا بحد ذاته ذنب يؤاخذ عليه وقد يؤاخذ عليه بذنب آخر.
والأمر الثاني: أن العجب مدعاة لأن يكله اللّه إلى نفسه فكأن هذا الإنسان الذي أعجب بنفسه يرى أنه مستغن عن اللّه ولا يحتاج إلى أن يدعو اللّه وأن الناس الذين يحتاجون إلى أن يسألوا اللّه الهداية والثبات هم الفساق، أما هو فقد من اللّه عليه بالهداية.
فإذا كان يوسف عليه السلام يحتاج إلى أن يريه اللّه برهان ربه وأن يصرف عنه السوء والفحشاء فغيره مهما بلغ من الإيِمان والطاعة لا يمكن أن يصل منزلة يوسف عليه السلام.
الثالث: أنه عندما يعجب بنفسه فلا يأخذ الأسباب؛ فالذي يجعل الإنسان يترك أسباب فعل المعصية ويجتنب كل دواعيها ومثيراثها هو أنه يخاف ولا يثق بنفسه ولا يطمئن إليها.
الرابع: أن هذا هو سبب أول معصية وقعت وهي معصية الشيطان؛ فإنه لما أعجب بنفسه أضله اللّه سبحانه إلى يوم الدين.
وقد قال صلى اللّه عليه وسلم " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يارسول اللّه قال ولا أنا".
الأخ أحمد أسألكم الدعاء