ولدتُ في بيت صغير , وسط عائلة بسيطة , غاية في البساطة
وكنتُ وحيدة أهلي من البنات , فكان لي ما ليس لغيري من الامتيازات , مكانة جميلة عند والداي وإخواني الذكور
كنت متفوقة في دراستي إلى حد بعيد , وكان نسج الأحلام ورسم الطموحات هوايتي المفضلة
كنت طفلة هادئة , أقضي كل أعمالي بهدوء , ولا أحب المخالطة والكلام كثيراً
كبرتُ وكنت في كل مرة أودع عاماً من أعوام حياتي أرى طموحاً آخر قد بزغ شعاعه معلناً عن انفجار مدوي في زمن ليس بالبعيد
كبرت وكبرت طموحاتي معي , وككل بنت جزائرية , حلمت بدراسة الطب , وكان الجميع يخبرونني بأن الطب مهنة تناسبني..لأنني هادئة , ولينة , ولأن جل اهتماماتي تنصب على العمل الجماعي والاصلاح الاجتماعي
تحصلت على شهادة التعليم المتوسط بتقدير جيد , وتوجهت الى الشعبة العلمية وأنا أشق لنفسي طريقاً نحو المستقبل
وفي هذه المرحلة من الدراسة , بدأت تنفلق عندي موهبة الكتابة , أصبحت أحب اللعب بالألفاظ , وأعشق الكتابة والتصوير الفني ..ورحت أهبُ حبري لقضايا الأمة ..أتحدث عنها بحرارة وحرقة , بين ألم وأمل ..
عايشت واقع الدعوة فترة من زمن , كانت أجمل فترات عمري على الإطلاق ..سعيت إلى حفظ القرآن فاوسكت على حفظ نصفه , وبدأت أخالط بعض الدعاة الصغار وأحتك بالكبار الذين أتيحت لي فرصة الاحتكاك بهم ..وكنت كثيراً ما أفترش الكتب وأنام , وأمشي في الطريق العام وانا أمسك كتابا وأقرأ ..
ثم بدأت أحلامي تتغير
بدأت أحلم بأن أكون داعية , أريد أن أكون امرأة صالحة , أريد أن أكون مثالاً في الأخلاق والعلم ..
اعتزمت على اعادة تربية نفسي من جديد , وعلى صقلها وتهذيبها ..
وكنت أستعين في كل ذلك بالدعاء .. وكنت سبحان ربي لا أدعو بدعاء فيه خير لي إلا ويُجاب ..
ورحتُ أكتب وأراسل الجرائد كي تنشر مقالاتي , نشطت كثيراً على النت وعلى الورق
أحببت القلم كثيراً ، وصار يعز علي فراقه .. وصرتُ كلما وجدت فراغاً أمسك القلم بحبره الأسود , وأدعه ينساب بأريحية على الورق الأبيض .. فيكتب مما في نفسي من خواطر,ومن كلمات رست على الشفاه وأبت أن تُنطق ..لسبب أو لآخر
كان الناس يستكبرون موهبتي في الكتابة , ويصفونها بالخارقة .. وراح البعض يصفني بأنني جاوزت زماني ..وكنت أستحسن هذا منهم ولكن لفرط ماكانت طموحاتي كبيرة , كنت دائما أشعر بعقدة النقص ..
أصبحت لا أمر على أحد من معارفي إلا ويطلب مني عرض جديد كتاباتي عليه , وكنت أكره أن أسلم كتاباتي لأحد يقرأها
كنت أقول لها إنها كمولود من طين لا روح فيه , وإن روح كتاباتي مستمدة من روحي أنا لا غير ..فحين أقرأها بنبرتي وحدتي وشدتي , أنفخ فيها شيئا من روحي .. فتنتقل من سكون إلى حركة .. وتثمر بعد قحط وجدب ..
تمر الأيام تباعاً..ومع كل يوم يمر ، تزداد أحلامي نمواً , ونضجاً ..
لم تعد الكتابة تسلية ، أو متنفساً, أو موهبة فحسب .. أصبحت الكتابة وسيلة في يدي أبلغ بها مالم أستطع بلوغه برجلاي هاتين , وأقول بها ما لم أستطع قوله بشفتاي هاتين , وأصل بها ما لم أستطع الوصول اليه بيديّ هاتين ..
فبدأت أحلم بتأليف كتاب يضم خواطري ..وكنت لا أزال في بداية المرحلة الثانوية
كنتُ واثقة الخطى بحيث لا أنتظر تشجيعاً من أحدهم
لا أنتظر تصفيقا من أحدهم
لا أنتظر من فلان أن يقول لي امضي , ولا من علان أن يقول لي تريثي , أو مهلك , أو لا يزال الوقت مبكراً
بل لم يكن أحد يستطيع التطلع على أفكاري التي تدور بخلدي .. وكنتُ أرى القول المأثور " استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان " نصب عينيّ ..
بيد أن الأقدار تتدخل دوماً لتقول كلمتها , الحياة لا تسير كما نحب نحن .. وبين فترة واخرى لا بد من ضربة أو طعنة تقصم الفؤاد الى شطرين
وذلك ما تلقيته انا , ضربة قاسية من المقربين قصمت فؤادي إلى بضع وسبعين شطراً
قاومت بعدها ليس لكي أحقق أحلامي وأمضي فيها
بل قاومت آخر مقاومة يقاومها الرجل الصلد في ساحة الوغى,حين يكثر أعداءه ويشتد به البلاء
مقاومةٌ كي أحيى فقط ، كي لا أندثر تماماً ..
وكان علي بعدها أن أودع جزءاً كبيراً من طموحاتي بنفس راضية , مشبعة بالحزن ، محشرجة الأنفاس
وجدتُني في مزاد أشبه ما يكون بسوق الرقيق , أعرض أحلامي للبيع بأبخص الأثمان
الخطب جلل ، ولكن ثمة ماهو أجل منه ..
هكذا كنتُ أقول لنفسي
تحيّرني الأقدار كثيراً حين تأخذني إلى حيث لا أريد .
.ولكنّي تعلمتُ كيف أدرجُ أمور القدر ضمن قائمة الأشياء العادية
أشياء تحدث ، مثلها مثل الحياة ، أو الموت ..
بعد سنة من النكسة , نكسة مليئة بالضعف , تتخللها لحظات قوة , ورغبة في التغيير تتذبذب بين الصفر واللاشيء
بعد سنة أقول بدأت ألملم نفسي ، وأجمع بقايايَ لعلي أصنع منها إنسانة أخرى تشبهني
نعم , إنسانة تشبهني لا غير .. فأنا لا يمكن أن أعود كما كنتُ أنا
لا يمكن أن أعود " إيمان " بكل تفاصيلها
ببرائتها وسذاجتها وعنفوانِ صباها ومصادقتها للحياة وأمور أخر ..
عدتُ إلى الكتابة
عدتُ إليها عودة قويةً هزت كل من حولي
وكان من فضل الله علي أن من عليّ جزاء صبري بموهبة أعظم
أصبحت أتفنن في كتابة الخواطر
وكل خاطرة من خواطري تعلوها مسحة حزن
مسحةٌ لم يكن بإمكان أحد أن يفك شفرتها
لأنها تعبر عني أنا
اعتدت على تلك المسحة فما كانت تفارقني
وأصبح قرائي الأفاضل يلحظون ذلك ويعلقون ..
يتسائلون ما الخطب ؟ فأجيبهم في سري " الدنيا لا تبقى على حال "
كنت أكتب
غير أنني لم أعد أكتب بتلك الحرارة التي كنت أكتب بها من ذي قبل
لا يهم ، المهم أنني عدت للكتابة , وعدت للقلم ..
لقد كان منتهى أملي الوصول إلى إنسانة تشبهني ..
فأنا منذ الازل كنت أعترف وأقر بأنني نسخة غير قابلة للتكرر مرتين ..
وأعتقد أنني وصلت الى ذلك
والأمر الوحيد الذي كان يؤلمني .. أنني أصبحت كلما أمسك القلم أرى شريط ذكرياتي يمر عليّ مر البرق في الظلام
أصبحت أشتاق إلى زمن أمسك فيه القلم , لأضعه على جراحي فأُشفى منها ..
ومن جملة مخلفات ضربتي الفاضلة التي قصمتني .. ابتعادي عن واقع الامة قليلاً
لأن الرابط الذي كان يربط بيننا هو ذلك القلم الذي غدى مثقلاً بالهموم ..
ولكنني لست بالمرأة التي تنهار سريعاً
يجب أن أكافح وأناضل لأعود كما أنا
مضيتُ في طريقي لا ألوي على شيء .. لا ألتفت يمنة ولا يسرة
والأهم أن لا ألتفت خلفي ..
فليس ثمة ما يسر
بدأت طموحاتي تُزهر من جديد
بدأت أحلم بالتخصص في مجال علمي أدعم به جانبي الأدبي
وأردت اغتنام العشر الأوائل من ذي الحجة ,, وسطرت لنفسي برنامجاً دينياً أسير عليه
منوع بين القيام وقراءة القرآن والتنفل وغير ذلك مما تيسر
وكنت أدعو الله في تلك الأيام المباركة
أن يمن علي برفيق صالح يعينني على إكمال ما تبقى من حياتي
يعينني على أمور ديني ودنياي
كنت أسأل الله أن يُلاقيني به في الوقت المناسب .. إن كان قبل اتمام دراستي فقبل اتمام دراستي
وان كان بعدها فبعدها ..
تحصلت على شهادة البكالوريا بتقدير جيد أيضاً
وفي غضون هذه السنة , سنة البكالوريا .. لاقاني الله بالزوج الصالح ..
تقدم شابٌ وسيم , على خلقٍ كبير والتزام بأحكام الدين جميل
في البداية لم أوافق ..
لم أوافق لأنني أريد أتمام مسيرتي وتحقيق طموحاتي
فأنا لا تزال نفسي جائعة لمّا تشبع بعد
كنت أسأل هل سيعارض دراستي
هل سيجمد طموحاتي
ثم اجيب نفسي , إن كان هذا نصيبي فلا بد أنه سيوافق
لابد أنه جاء ليشاركني مسيرتي
تمت الخطوبة بفضل الله , وعدت إلى أجمل أيام عمري
فكان خطيبي الرجل الذي انتشلني من براثن الضياع وسبح بي الى بر الأمان
تمت الخطوبة وانا أدرس وأحضر للبكالوريا
فكان خير سند لي على الإطلاق
كنت أحبط قليلا حين يسوء آدائي في اختباراتي فيرفع معنوياتي وهمتي
أبشري , في الآتِ خيرٌ ان شاء الله
نجحت في شهادة البكالوريا بتقدير جيد
فكان الرجل الاول الذي علم بنجاحي وزف الي الخبر
وامتزجت الفرحة بالدموع وخطيبي يسألني بقلب ضعيف
أحزينة أنتِ أم سعيدة ؟
ثم جاء موعد اختيار التخصص الجامعي (وكنا اتفقنا عند الخطوبة أن اقل التخصصات مدتها 5 سنوات)
لاني كنت اعتزم على الدراسة وفق النظام الكلاسيكي .. و وافق على ذلك
فكرت كثيراً , خطيبي اقترح الصيدلة , وترك لي الخيار
تذكرت كيف كانت وقفته الى جانبي , كيف هي أخلاقه , كيف هي سيرته
كم هي عظيمة رغبتي لرد جميله , لشكره واحتواءه كما احتواني بكل تُرُهاتي
فاخترت دراسة مدتها 3 سنوات
اخترت علوم المادة لأنني أحب العمل في مجال تصنيع الأدوية
ولأنها التخصص الذي أجد فيه شيئا من رائحة الطب والصيدلة
وأنا ماضية على بركة الله , لأتم مشواري الشاق الذي مازال في بدايته
وقلبي يفيض شكراً لكل من ساهم في تحطيمي يوماً ما , أو في إعادة بعث أنفاسي المنقطعة
وتمضي الحياة ....