عنوان الموضوع : شجرة الاحلام
مقدم من طرف منتديات العندليب

شجرة الأحلام

سامي محمود طه

شجرة الأحلام

قصص للأطفال
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق ـ 2016
حياة حسان الجديدة

عادَ الربيعُ مُبتسماً، وأخذ يوزع هداياهُ الجميلةَ وألوانه كأبٍ حنونٍ يعودُ إلى أسرتهِ بعد غياب، فللأرضِ لونٌ أخضر، والسماءُ الزرقاءُ تزينها سحبٌ بيضاء متفرقة، وللأشجارِ ألوانُ الأزهارِ الزاهيةِ، والدفءُ للعصافير والفراشات الملونةِ، ولنا في قريتنا الجميلةِ الفرح والسرور. وما زاد فرحَنا وصولُ أسرةِ المهندسِ الزراعي أشرف يوم أمسِ فقد تمَّ تعيينه مديراً للمركز الزراعي في القريةِ، ومسكنه يجاور بيتنا.
قررنا أن نزورَ أسرةَ أشرف لنرحبَ بهم ونمدَّ لهم يدَ العونِ والمساعدةِ وأصرَ ولدي عامرُ على مرافقتنا فقد رأى بين أفرادِ الأسرةِ الجديدةِ ولداً يقاربه سناً.
استقبلنا أشرفُ وزوجتهُ وتعارفنا، وقطعَ عامرُ حديثنا أكثرَ من مرةٍ للسؤالِ عن ابنهم الذي رآه يجلسُ على كرسي أمام بيتهم مساء أمس. وبعد إلحاح ولدي ردَّ أشرفُ: تعني ولدي حسان... إنهُ... إنهُ نائم. فطلبت من عامر أن يعودَ وحين يستيقظُ حسانُ يمكنه المجيء. وعادَ عامرُ. بدت أم حسان حزينةً وقالت: أرجو أن تقنعَ عامر بعدمِ السؤالِ عن ولدي ثانيةً. إنه مُقعد ولا يمكنهُ اللعب ولا يريدُ أية صداقة.
فوجئتُ بما سمعتُ. نظرتُ إلى أشرف فأكدَ وقالَ: عُمرُ ولدِنا الوحيد حسان عشر سنين وأصيبَ بالشللِ بعد ولادتِه بأربعةِ أعوام. أكد لنا الأطباءُ أنه لن يمشي على رجليهِ ثانية، فحاولنا أن نبعدَ عنهُ الحزنَ والتأثرَ ونجحنا في البدايةِ، وفرحنا لوجودِ صديقٍ يزوره، يقضيان أوقاتهما معاً، لكن تبينَ لنا أن هذا الصديق يُؤذي مشاعرَ ولدنا بحديثِهِ الدائم عن الألعابِ التي كان يُحبها وحُرمَ مِنها بسببِ حالتِهِ. صديقٌ آخر زارَهُ وجعلهُ يشعرُ أن الناسَ يشفقون عليهِ، تأثرَ حسانُ وبكى كثيراً، ورفضَ أن يقابلَ أي صديقٍ منذُ ذلك اليوم فقررنا أن نؤمِّنَ لـهُ ما يعوضهُ عن صداقاتٍ جديدة. أحضرنا لـهُ جهاز كمبيوتر فأتقنَ العملَ عليهِ وتفوقَ على كثيرٍ مِمَن يكبرونهُ سناً في هذا المجالِ فهو يستطيعُ التعاملَ مع برامجهِ وإعدادِ برامجَ جديدةٍ. وهو يهوى الرسمَ ويُبدع لوحاتٍ جميلةً على الكمبيوتر وعلى ألواحٍ كرتونيةٍ. سألتهم زوجتي: وماذا عن دراستهِ؟
ردَّت أم حسان: نعلمهُ في بيتنا ويتقدم للامتحان نِهايةَ العامِ الدراسي في مدرسة خاصةٍ فينجح بتقديرٍ متميزٍ. إنه في الصفِ الخامس هذا العام، وحين يكبرُ سنحضرُ لتعليمهِ مدرسين مختصين.
قلتُ: إن أخطأ صديقٌ أو أكثر فهذا لا يعني أن الجميعَ مثلهم. أنا واثقٌ أن حسان سيحبُ ولدي عامر وهو في صفه، ثمَّ إنني معلمٌ في مدرسةِ القريةِ وسأهتم به.
قطعَ أشرفُ حديثي وقالَ: أرجوك لندعِ الأطفالِ وشأنهم.
قررتُ أن أتوقفَ الآن عن هذا الحديث، ولكن سأعودُ إليه في الوقتِ المناسبِ. حين انتهت الزيارةُ وَدَعَنَا أشرفُ وزوجتهُ وعُدنا إلى بيتنا فوَجَدنا عامرَ ينتظرُ وصُولنا. سألني: هل استيقظَ حسانُ؟
أجبتهُ: حسانُ مشلولٌ يا بنيَ ولا يستطيعُ اللعبَ، ثمَ إنه يمضي معظمَ وقتِهِ بينَ التعلمِ وجهازِ الكمبيوترِ وهوايةِ الرسمِ.
قالَ عامرُ: هذا رائعٌ! إنه يستطيعُ أن يعلّمني العملَ على الكمبيوتر وأنا مثلهُ أحبُ الرسمَ.
لم تلفتِ انتباهَ ولدي كلمةُ (مشلول) بل ما أثارَهُ أنَ حسان يجيدُ العملَ على الكمبيوتر فأعدتُ عليهِ: حسانُ مشلول.
ردَ عامرُ: سنكونُ صديقين، وسأصحبهُ لمشاهدةِ جمالِ قريتنا، وسأعرفهُ على أصدقائي. ابتسمتُ وقررتُ أن أعودَ إلى منزلِ أشرف والد حسان فلديَ ما أقولهُ لـه.
واستقبلني من جديد. استغربَ عودتي بهذه السرعةِ، وبعدَ أن أذِنَ لي دخلتُ وجلستُ وقلتُ لـه: أرجو أن تسمعني حتَّى أتمَ حديثي.
قالَ: تفضَّل.
تابعتُ: يستطيعُ حسانُ أن يقدِمَ خدمةً كبيرةً لأطفالِ القريةِ، سيعلمهم العملَ على الكمبيوتر فمعلوماتُنا عنهُ قليلةٌ جداً. أرجو أن يوافقَ وتوافقَ على ذلك. لقد وعدتُ ولدي أن أحضرَ لـهُ جهازَ كمبيوتر نهايةَ العامِ الدراسي، وكثيرون مثلي وعَدُوا أبناءَهم، إن شئتَ سأنظمُ حضورَ الأطفالِ وأرافقهُم ويعلمهم حسانُ في غرفتِهِ، وسأتعلمُ معهم.
فكرَ أبو حسان قليلاً ثمَّ قالَ: سأسألُ حسانَ رأيَهُ.
انتظرته قليلاً، وبعد لحظات عادَ باسماً وقالَ: يمكنكَ إحضارُ الأطفالِ من الغدِ. شكرتُه وعدتُ إلى بيتِنا سعيداً، وفي اليومِ التالي كان برفقتي عامر وثلاثة من أصدقائِهِ، ابتسمَ لنا حسانُ. إنها المرةُ الأولى التي أراهُ فيها. أحسستُ أنني أعرفُهُ منذُ زمنٍ بعيدٍ، تُشعُ ملامحُ الطيبةِ والبراءةِ والذكاءِ من عينيه. صافحناهُ وجَلسنا على الكراسي المنظمةِ قربهُ ثمَّ تعارفنا وجلسَ والدُهُ بجواري. أخذ يُحدثنا عن الكمبيوتر واستخدامِهِ وكيفيةِ تشغيلِهِ وإغلاقهِ ومعلوماتٍ كثيرةٍ مفيدةٍ، وكان حديثهُ يشيرُ إلى ذكاءٍ وثقةٍ كبيرةٍ بمعلوماتِهِ. انتهى الدرسُ الأولُ فشكرناه، وقبلَ انصرافِنا اقتربَ منهُ عامرُ وقالَ لـهُ: إنكَ معلمٌ رائعٌ ونحنُ بحاجةٍ ماسةٍ إليكَ.
عُدنا في اليومِ التالي في موعِدنا المحددِ لتلقي الدرسَ الثاني. قابَلَنَا أبو حسان والسعادةُ تغمرُ وجهَهُ. رحبَ بنا وقالَ: حسانُ ينتظركُم.
وفي غرفةِ حسان كان اللقاءُ أجمل هذه المرة فقد استقبَلَنا وكأنَهُ متشوقٌ للقائِنا، وكما في المرةِ الماضيةِ جلسنا نستمعُ ونستمتعُ بما يقدمهُ لنا من حديثٍ لطيفٍ عمَّا يعرفُ حولَ إعدادِ البرامجِ الحاسوبيةِ، وحينَ انتهى الدرسُ قالَ حسانُ مُودعاً: سأنتظركُم غداً، مع السلامةِ وانصرفنا.
عندَ المساءِ زارَني أبو حسان وحدثني عن تأثرِ ولدهِ بزيارتِنا لـهُ واعتبارِهِ مُعلماً لنا وشكرني على ذلك، فقلتُ لـه: لا نريد شكراً، يستطيعُ حسانُ أن يقدمَ خدمات كثيرةً فحالتُه لا يجبُ أن تبعدُه عنِ الناس.
قالَ أبو حسان باسِماً: يبدو أننا سنعيشُ صداقاتٍ أخرى لولدي حسان.
خلال زيارَتِنا الثالثة وبعدَ الدرس وصفَ عامرُ لحسان جمالَ قريتِنا، وَدَعَاهُ لمرافقتِهِ وأصدقائِهِ في نزهةٍ قريبةٍ، فالربيعُ الذي يمدُ بساطَ الزهرِ على ربوع قريتِنا يدعو الجميعَ للمشاهدةِ والتمتعِ وعرضَ عليه أن يصطحبُوا أدواتِ الرسم لِيأخُذوا من الطبيعةِ الخلابةِ لوحاتٍ ساحرةً. صمتَ حسانُ قليلاً، فتابعَ صديقهُ الآخر سعيد: إننا نُحبُكَ ونريدكَ صديقاً. نظرَ حسانُ إلى وجوهِ الجميعِ بما في ذلك وجه والدهِ أشرف الذي ابتسمَ لـهُ مشجعاً.
ثمَّ قالَ: سأرافقكم غداً. سعدنا كثيراً، وتبادلنا نظراتِ الإعجابِ بهذا القرار، ومع صباحِ اليوم التالي كانَ عامرُ يسيرُ وأمامهُ حسان على كرسيه، وإلى جوارِهِ الأصدقاء الثلاثة. رسموا لوحاتٍ جميلةً وعرضَ عليهم عامرُ أن يلعبوا لعبةَ (تكامل عناصرِ الطبيعةِ) وهي لعبةٌ علمتها لولدي عامر وتتمثلُ في أن يتكلم أحدهم بلسانِ عنصرٍ من عناصرِ البيئةِ والحياة (الشجرة... الماء... العصفور... الفلاح... العامل.. الزراعة... الصناعة... المدرسة... الكتاب... الهواء...) ويتحدثَ عن أهميتِهِ للعناصرِ الأخرى، وحينَ ينتهي يبدأ الذي يليه بحديثٍ عن عنصر آخر ثمَّ يتابع ثالث الحديث وهكذا... بطريقةٍ تمثيلية معبرةٍ جميلةٍ. وبعد انتهاءِ اللعبةِ بدا حسانُ سعيداً بصداقتهم اللطيفة وبهذه النزهة. وأثناءَ العودةِ مرّوا بجوار أطفال يلعبونَ كرةَ قدمٍ فنظرَ حسانُ إليهم وتنهدَ وقالَ: كم أحبُ لعبةَ كرةِ القدمِ ولكنني لا أستطيعُ ممارسَتها. فأوقفَ عامرُ سيرَ كرسي حسان، ووقفَ أمامَهُ وقال: نحنُ نحبُ كرة القدمِ أيضاً ونمارسُها، وأنتَ تستطيعُ ذلك.
ردَ حسان مُتعجباً: كيف؟!
قالَ عامر: علمتَنا أن الكثيرَ من الألعابِ يُمكنُ ممارستها على الكمبيوتر ومنها لعبةُ كرةِ القدمِ وإنك تستمتعُ بها في أوقاتِ فراغِكَ.
قال حسانُ: لكنني تمنيتُ أن ألعبَ في الملعبِ الحقيقي.
تابعَ عامرُ: نحنُ فريقُ الصفِ الخامسِ نقابِلُ فِرقاً من مدرستِنا ومن مدارسَ أخرى، نفوزُ أحياناً ونخسرُ أحياناً ولكن ليس لدينا مدربٌ. ما رأيكَ أن تضعَ لنا خططَ اللعبِ من خلال الكمبيوتر وتتابعنا ونحن ننفذُ الخطةَ في الملعبِ فتكون مدربَنا؟
هتفَ الأصدقاءُ الثلاثة الآخرون: مدربُنا حسان... مدربُنا حسان... سنفوزُ في مبارياتنا القادمة. ردَّ حسانُ مُبتسِماً: أنا موافق.
أخذَ عامرُ وأصدقاؤه يقابلونَ حسان في موعدٍ محددٍ، يتحدثون عن الكمبيوتر، عن خططِ لعبِ مبارياتِ كرةِ القدمِ، عن طبيعةِ القريةِ الساحرةِ، عن العلم، عن المستقبلِ، ويرسمون لوحاتٍ جميلةً. أصبحَ حسانُ يكرهُ الوحدةَ وابتسامته حاضرة على وجههِ دائماً، وحضرَ مبارياتٍ بكرةِ القدمِ بين فريقه وفريق الصف السادس وقد حققَ عامرُ وأصدقاؤه الفوزَ في أغلبها ومع انتهاء كل مباراةٍ يسرعون نحوَ مدربهم ليفرحوا سوياً بالفوز. ومضت أيامٌ وأسابيع وانتهى العامُ الدراسي وأقبلَ الصيفُ، وصداقة الأطفالِ تترعرع مثلهم، ومارسُوا الكثيرَ من هواياتِهم الساحرةَ، ولعبوا وتبادلوا القصصَ الطريفة، وزارَ حسانُ بيوتَ أصدقائِهِ الذين أصبحَ لدى كل منهم جهازُ كمبيوتر يجيدُ استخدامَهُ بفضل حسان وتوطدت صداقات أخرى بين أسرةِ حسان والكثير من أهلِ القريةِ الطيبين.
حدثني أشرفُ عن سعادته الكبيرة بحياةِ ولدهِ حسان الجديدة وقالَ: ما كنتُ أتوقعُ أن يعودَ ولدي إلى الناسِ كما أراهُ الآن. ما قدمتموهُ لـه ولنا رائع، أصبحَ يُحسُ بحاجةِ المجتمعِ لـه.
فأجبتهُ: حسانُ طفلٌ ذكيٌ ومجتهدٌ وقويٌ.
بعدَ أيامٍ أخبرَ أبو حسان زوجتهُ وولده أن الإدارةَ قررت نقله إلى المدينةِ، فقد تمَّ ترفيعهُ في العمل. بدا الحزنُ على وجهيهما، ولم يكن ذلك مفاجئاً، وعندها ابتسم وقالَ: لقد عرفنا السعادةَ في هذه القريةِ الطيبة، لهذا سنبقى هنا، وسأعتذرُ عن تنفيذِ القرار.
حين سمعتُ بقرار نقل أشرف والد حسان زرتهُ وقلتُ لـه: بكل تأكيد نتمنى أن تبقوا هنا ونسعدَ بذلك، ولكن أحببتُ أن أبلغكَ إن أي مكانٍ تحلُون فيه يمكن أن تتحققَ فيه سعادةُ حسان، فلا تخشَ عليه أبداً.
ابتسمَ أشرفُ وقال: شكراً لك. قررنا البقاءَ هنا لأسبابٍ كثيرةٍ فالناس طيبون، والعادات والتقاليد رائعةٌ، وجمالُ القريةِ ساحرٌ وخلاب، وهنا أمارسُ العملَ الذي أحبه وهو التعامل مع الأرضِ والزراعةِ.
مع افتتاحِ العامِ الدراسي فوجئَ أشرفُ وزوجته بابنهما حسان يرجوهما أن يُسجلاه في مدرسةِ القريةِ، فهو يُريد أن يكونَ تلميذاً في الصفِ مثل رفاقه، فوافقا. وخلالَ مدةٍ قصيرةٍ استطاعَ حسانُ أن يكونَ تلميذاً متفوقاً في الصفِ السادس.
زينتِ السعادةُ وجوهَ أفرادِ أسرةِ أشرف، وبدأ الوالدان يفكران في مستقبلٍ مشرق وحياة جديدة لولدهما المتفوق المحبوب حسان.
ألحان وألوان

أتَمنى أن أسمِعَكُم لحناً من الألحانِ التي ألَّفتُها وأعزفُها على أوتارِ عودي. أثقُ أنني سأفعلُ ذات يومٍ، فألحاني ستجدُ طريقها إلى كلّ أذنٍ تحسنُ تذوقَ الموسيقى، ولكن دعوني الآن أحكي لكم قِصتي التي بدأت مع ولادتي وترافقُ أيام حياتي.
اسمي إبراهيم الغساني، عمري أربعةَ عشرَ عاماً. أدرسُ في الصفِ السابعِ لستُ متأخراً بسببِ رسوبٍ أو تقصيرٍ، ولكن تأخرتُ في الانتسابِ إلى المدرسة.
وأنا كفيفٌ! هل تدرون ما معنى ذلك؟! الكفيفُ لا يرى من الدنيا إلا اللونَ الأسود. كم كنتُ حزيناً بادئَ الأمرِ، وكم بكيتُ حين كنتُ في السنوات الأولى من عمري. مراتٍ كثيرةً سمعتُ بكاء أمي وأبي، ورغم ذلك بقيَ رفيقي اللون الأسود وسيبقى. فالأطباءُ الذينَ اصطحَبني أبي إليهم على مدى خمسةِ أعوامٍ أكدُوا أنني لن أتمكنَ من الرؤيةِ مدَى الحياةِ. بعدها بدأتُ أحلم وأتمنى. أمورٌ كثيرةٌ حلمتُ برؤيتها، منها ثيابي الجديدة التي تحضرُها لي أمي، وألعابي التي أحبُّها كثيراً والعصفورُ الذي يُسمعني أعذبَ الألحانِ، وبرامجُ الأطفالِ التي يضحك لها شقيقي عادل ووجهُ أمي الحنون، ولكن لا جدوى... لهذا كنتُ أمضي معظمَ وقتي في الغرفةِ المخصصةِ لي ولشقيقي عادل لا أغادرها، وإذا علمتُ بزيارة ضيوفٍ إلى بيتنا أتظاهرُ بالنوم فقد مللتُ من سماع كلماتِ الشفقةِ.
يكبرني شقيقي عادل بعامٍ واحدٍ، ولهذا فدخوله إلى الصف الأول من المدرسة أعادني إلى أمنياتي. سمعتُ أبي يحثه على الاجتهادِ، وقال لـه مراتٍ عديدة: العلمُ نورٌ يا بني. وأنا أحبُّ النور، وأحبُّ العلم.
الأشهر الأولى لدوامِ شقيقي في المدرسةِ كانت صعبةً، فهو يحبُ اللعبَ كثيراً، ويفضلهُ على التعلمِ، وأبي يبذلُ كلّ المحاولاتِ لتعليمهِ، يقرأ لـه الدروسَ، ويعلمُهُ تركيبَ الجملِ ويبسطُ لـهُ تمارينَ الحسابِ ويلحنُ لـه الأناشيدَ المدرسيةَ، كل ذلك في غرفتنا وأنا أُصغي إلى دروسِ أبي وأعجبُ حينَ يعجزُ شقيقي عادل عن الحفظِ. التزمتُ الصمتَ مراتٍ عدة لكنني أخذتُ بعدها أعيدُ ما يقرأ أبي بمجرد سماعي لـهُ، لفتَ ذلك انتباه أبي فأخذ يشجعني، يسمعني النشيدَ فأعيدُه، يسمعني درسَ القراءةِ فأرددُه كما سمعتُ، وأجري لـه بعض العملياتِ الحسابيةِ البسيطة حين يطلبُ. وكم تنهدَ أبي وقالَ: ليتَني أستطيعُ إرسالَك إلى المدرسةِ.
فكرتُ كثيراً: لماذا لا يستطيعُ؟ أليسَ ما أسمعهُ من أبي هيَ الدروسُ التي يشرحونها في المدرسة؟ إنني متأكدٌ من قدرتي على المتابعةِ.
مرَّتِ الأيام، وعادلُ اجتهدَ ونالَ إعجابَ معلمهِ، وتوقفَ أبي عن شرحِ الدروسِ لـه، ولهذا طلبتُ من شقيقي أن يقرأ أمامي بعضَ دروسِ القراءةِ والنشيدِ والحسابِ التي يأخذونها في الصفِ. اصطحبني أبي وأمي في زياراتٍ إلى بيوتِ الأصدقاءِ رغمَ اعتراضيَ الدائم فأنا لا أحبُ مغادرةَ غرفتنا. كان يحزنني حديثُ أبي عن إعاقتي التي لا تمكِّنني من القيامِ بأي عملٍ، وحرصُ أمي الزائد عليَ، ومع دخولي عامي السادس أصبحَ شقيقي عادل في الصفِ الثاني، أناشيدُه أجملُ ودروسُ القراءةِ أكثر متعة. لقد أسمعني وحفظتُ منها الكثير، ومساءَ أحدِ الأيامِ سمعتُ أبي يقول لأمي: ما رأيكِ أن نرسلَ إبراهيم ليتعلم في مدرسة القرية؟ إنه طفلٌ ذكيٌ وقادرٌ على التعلم. فبكت أمي وردَّت: لا... إننا هنا نُراعي مشاعره ولا أريده أن يتعرضَ لما يثيرُ حزنَهُ. وتابعت أمي: يمكنكَ أن تعلّمه بعضَ الدروسِ من كتبِ عادل. لكن انشغالَ أبي معظمَ الأوقاتِ أبعَده عن مهمةِ تعليمي.
طلبتُ من عادل أن يصحَبَني في لقاءاتِ لعبهِ مع رفاقِه فرفضَ. قالَ إنَّ الألعابَ التي يمارسونَها ستسبب لي الأذى، فقررتُ ألا أطلبَ منه ذلك ثانيةً أحسستُ أن هذه الغرفةَ عالمي وعليَ أن لا أزعجَ أحداً بطلباتي بعد الآن. اللونُ الأسود يشتدُ، ألعابي مللتها، وأنا سجينُ غرفتي.
ومساءَ يومٍ ربيعي هبت فيهِ نسمات لطيفة سهرَ في بيتنا عَمّي راشد وزوجته. لقد عادا من السفر منذُ أيام، سمعتُ ترحيبَ أبي وأمي بهما وحديثاً جميلاً عن حبِ الوطنِ. سألَ عمي عنّي فأخبره والدي بحالتي. شدَّ انتباهي اهتمام عمي بي، وبعدَ قليل طلبَ أبي منهُ أن يعزفَ على أوتارِ عودِه الذي أحضرَهُ معه، فانطلقتِ الأنغامُ الشجيةُ الرائعةُ. ما تمالكتُ نفسي فخرجتُ إلى حيثُ يجلسونَ في حديقةِ بيتنا. توقفَ عمِّي عن العزفِ ليرحِّبَ بي قائلاً: حبيبي إبراهيم! كنتَ نائماً؟
فابتسمتُ وقلتُ لـهُ: أرجوك تابع العزف.
عادَ عمي يطلقُ أعذبَ الألحانِ. كانت سهرةً من أجملِ أيامِ عمري، وحين أرادَ الانصرافَ قالَ: سأزوركَ يا إبراهيم لأسمعكَ النغماتِ التي تحبها.
أراكَ تحبُّ الموسيقى.
وكرر عمّي زياراته إلينا. وما انقضَى شهرٌ إلا ونشأت صداقة رائعة بيني وبينه.
قال لي يوماً بحضورِ أبي: ما رأيُكَ أن أعلِّمكَ العزفَ على العودِ؟
ضحكتُ، فتابع عمي: إنني جادٌ في ما أقول. عدم قدرتِكَ على الرؤيةِ لا يعني أنك عاجزٌ عن القيامِ بأعمالٍ ممتعةٍ. الكثيرُ من المكفوفينَ يقدمون خدماتٍ كثيرةً لأوطانِهم، ويفعلونَ الكثيرَ من أجلِ أن يتمتعُوا بحياةٍ سعيدةٍ عنوانها العمل والعطاء.
قلتُ لعمي متعجباً: وهل أستطيعُ تعلمَ العزفِ حقاً؟
أجابَ: أجل. المهم أن تكونَ لديكَ الإرادة القوية.
وضعَ العودَ في حضني، وعلّمني كيفَ أمسكهُ، ثمَّ وضعَ الريشةَ بينَ أصابعي وطلبَ مني أن أداعبَ الأوتارَ بالريشةِ فأصدرتْ صَوتاً جَعلني أبتسمُ. قال عمي: ستتعلم. أنا واثقٌ.
تحدثَ أبي: سيكونُ هذا رائعاً. وأمي سألتْ راشد: هل صحيحٌ أنَّ إبراهيم سيتمكنُ من ذلك؟
ردَّ راشد: أجل.
أخذتُ أنتظرُ زيارةَ عمي، وهو يحضرُ إلينا ويعلمني، وشيئاً فشيئاً بدأتُ أداعبُ الأوتارَ برقةٍ كما يوصيني. بدأتُ أعزفُ ألحاناً شبيهةً بما أسمعُ عبرَ الإذاعةِ، وعمي يرافقُ عزفي ببعضِ الأغاني العذبةِ، وما مضى الصيفُ حتى قطعتُ شوطاً كبيراً في تعلمِ العزفِ على العودِ.
أنتظرُ زياراتِ عمي بشوقٍ كما قلتُ، لكن حينَ زارَنا مع زوجتِه مودعاً أبكاني. أحسستُ أنّ اللونَ الأسودَ يعود من جديدٍ ليحتلَّ كل أيامي وسأفقدُ اللحظات الجميلة التي أعيشُها بوجودِه. لكنَّه فاجأ الجميع حينَ قال لأبي وأمِّي: لي عندكما رجاء.
قالَ أبي: تفضل..
تابعَ عمي: أرجُو أن تَسمحا لي باصطحابِ إبراهيم معي. ففي المدينةِ حيثُ سأسكنُ يوجدُ معهدٌ لتعليمِ المكفوفين وأثقُ إنه سيكونُ مثالَ التلميذِ المجتهدِ المتفوقِ. سأهتمُ به، وستتعززُ صداقتي معه. وأخذَ يتحدثُ عن عباقرةٍ مكفوفينَ تميزُوا في مجالاتٍ شتى كالشعر والموسيقى واللغة والعلوم وذكر أسماءَ (طه حسين عميد الأدب العربي وأبي العلاء المعري الشاعر الكبير والموسيقار سيد مكاوي وغيرهم).
قالت أمي باكية: لا يمكنني قبول بعده عني، إنني أتابعُ شؤونَه وأهتمُ به. فسألَني أبي: ما رأيُكَ يا إبراهيم؟
أجبتُه: إن كان عمي راشد سيبقى قريباً مني فأنا موافق. إنني أحبُّ التعلمَ كثيراً، وسأتقنُ العزفَ على آلةِ العودِ أكثرُ بوجودِ عمِّي، وسأعودُ حين أكملُ تعليمي، كما أنكم ستزورونني في المدينة أليس كذلك؟
اقتربَ عمّي راشد واحتضنَني وقالَ: ستكون أغلى وأعز صديق.

وبعدَ أيامٍ كانتْ رحلَتي الأولى نحَو المدينةِ برفقةِ عمي. سجلَّني في مدرسةِ المكفوفين، وكم كانت سعادتي كبيرةً وأنا أتقنُ تعلمَ القراءةِ والكتابةِ بحروفٍ مخصصةٍ لحالتَنا بسرعةٍ كبيرةٍ. وسرَّني أكثر اهتمامَ مدرستِنا بأصحابِ الهواياتِ حيثُ أتاحوا لي فرصةَ متابعةِ تعلمِ العزفِ على العودِ. أصبحتُ حياتي أكثرَ متعةً وسروراً، واللون الأسود لم يعدْ ذلك العدوَّ المخيفَ لي.
زارني أبي وأمي وشقيقي عادل مرات في المدرسة، وكانت سعادتهم كبيرةً حينَ تأكدُوا من تفوقِي في الدروس والعزفِ على العودِ، وزرتُ قريتَنا كثيراً برفقةِ عمي. أصبحَ لديَّ عُوَدٌ خاصٌ بي أعزفُ عليه ألحاناً جميلةً، حيثُ يجتمعُ الكثيرُ من أصدقاءِ عادل وأصدقائي ـ أجل أصبحَ لديَّ أصدقاء أحبّهم ويحبونني ـ ونتبادل الأحاديث الشيقة.
في مدرستنا تميَّزَ صديقي نبيلُ بصوتٍ عذبٍ رائعٍ، فاقترحَ معلمُ الموسيقى أن أعزفَ لـه ويغنّي فشكلنا ثنائياً مُوسيقياً ونلنا إعجابَ جميعِ من سَمعنا.

وخلالَ أشهرٍ قليلةٍ أخذَ عمي راشد وأصدقاؤُه يساعدُونا على إقامة حفلاتٍ خيريةٍ تقدُم أرباحُها للأسرِ الفقيرةِ، وهذا ما زاد حماسِتي واندفاعي لتقديمِ الأفضلِ باستمرار.
اجتزتُ صفوفَ الدراسةِ بتفوقٍ صفاً تلوَ آخر. أنا الآن في الصفِ السابعِ تعلمتُ الكثير من علومِ الموسيقى وألفْتُ العديدَ من الألحانِ التي نالتِ الإعجابَ، كما أنني كتبتُ أبياتاً من الشعرِ بعد أن شجَعني مدرسُ اللغةِ العربيةِ.
أحلامي كبرت وأصبحتْ حياتي أجمل. سأكون في المستقبلِ معلمَ موسيقى وسيكون اسمي (إبراهيم الغساني) كاسم الكثيرِ ممنْ تعلمُوا إن الحياةَ تحلو بالعملِ والعطاءِ، والوطنُ يحتاجُ جهودَهم ولو كانُوا مكفوفينَ. بقيَ عليَ أن أخبركم: لم يعد اللون الأسود رفيقَ حياتي الوحيد بل أصبحت الموسيقى والدراسة والصداقة والعطاء كلها ألواناً جديدةً جميلةً زاهيةً تزينُ أيامي.

rr
شجرةُ الأحلامِ

جَلستْ أمُ باسم تقرأُ الرسالةَ التي وصلت للتوِّ من زَوجها حسان، وإلى جوارِها ولدها باسم الَّذي أخذَ يُراقبُها بعينيه. لا شكَ في أنَّ كلمات الرسالةِ تحملُ التحيةَ والمحبةَ والشوقَ من الأبِ الغائبِ منذُ أكثرَ من خمسِ سنواتٍ. ولأنَّ الأم تدركُ ما يشغلُ بالَ ولدها الأخرس فقد كانت تقرأ الرسالةَ وتمسحُ بحنانٍ على شعره. وحين انتهت من القراءةِ نظرتْ إليه، وأَشارتْ بيدها ما يعني أنَّ والدهُ سيعودُ إن شاءَ اللهُ.
ضمتهُ إلى صدرها وبكتْ. أَعطتهُ الرسالةَ ليقرأَها فأخذَهَا ودخلَ غرفتَهُ. مسحتْ الأمُ دموعَها وهي تسرعُ نحوَ البابِ لتفتحهُ بعد أنْ سمعتِ الجرسَ يرنُّ. إنها صديقتُها ميساء جاءتْ لزيارتِها. جلستا، وسألتها الصديقةُ: ما بكِ يا أم باسم؟ فردتْ: ولدي باسم. أشعرُ بحزنِهِ الدائم بسببِ غيابِ والدِهِ. يرى اهتمامَ الآباءِ بأبنائِهم فيسألني بالإشارةِ: متى يعودُ أبي؟ ولماذا أنا أخرس؟ وأجيبه بالإشارة أيضاً: والِدُكَ سافرَ ليعملَ وإصابتكَ بالخرس هي إرادة الله. كما أُحاولُ أن أوضح لـه أنَّ العلمَ يتطورُ، وقد يستطيعُ يوماً معالجةَ حالتهِ. باسمُ ذكيٌّ وحساسٌّ.
قالت ميساءُ: طالَ غيابُ زوجكِ. عليهِ أن يعود ليشاركَ في تحملِ مسؤوليةِ ورعايةِ ولدكما.
تابعتْ أمُّ باسم: رسالتُه التي وصلَتْني قبلَ قليل تؤكدُ أنَّه سيعودُ بعد عامٍ.
ميساء: كانَ عليكِ أن تأخُذي ولدكِ وتسافري
مع زوجكِ.
أم باسم: حاولَ حسانُ كثيراً، إلا أنني لا أحتملُ مجرَّدَ التفكير بالسفر.
ميساء: وكيفَ ترينَ استجابةَ باسم للتعلمِ في المدرسةِ؟
أم باسم: أصبحَ يجيدُ القراءةَ والكتابةَ، ويتابعُ قصصَ ومجلاتِ الأطفالِ، ومنذُ أيامٍ كتبَ لي أنَّهُ سيُصبحُ كاتباً في المستقبل. قطعَ حديثَهُما صوتُ جرسِ الباب. هذه المرة كانَ أصدقاءُ باسم (رافع ونجيب وسعد) رحبتْ بهم ودعتْهُم للدخول، إلا أنهم شَكروها، وَرَجوها أن تُرسلَ باسم ليخرُجُوا سوّيةً للعبِ.
وبعدَ أن انضمَّ إليهِم غادروا وعادتِ الأمُّ إِلى صَديقتِها.
ميساء: ربَّما كانَ من الأفضلِ أنْ تُرسلي باسم إلى مدرسةِ الصّمِ والبكمِ.
أم باسم: لا توجد في قريتِنا مدرسةٌ متخصصةٌ لهم، ولا يمكن أَن أُرسلَهُ إلى المدينةِ. ثمَّ إنهُ يتعلمُ هنا، فكما قلتُ لكِ هو طفلٌ ذكيٌ، وأصدقاؤُه الثلاثةُ الذين حَضروا الآنَ يحبونَهُ، وهو يحبُّهُم. إنهم يتعلمونَ في صفٍ واحدٍ، ويلعبونَ سويةً لقد تخلّوا عن صديقٍ آخرَ لهم لأنهُ سَخرَ من باسم، رغمَ أنَّ ولدي رجاهُم بالإشارةِ أن يسامِحُوه. إنهم يخرجونَ للعبِ في الحديقةِ قربَ بيتنا مُصطحبينَ معهُم أوراقاً. وأقلاماً وذلك بعدَ أن يُتمُوا واجباتِهم المدرسيةَ.
ميساء: وُجودُ الأصدقاء والأحبة خيرُ تعويضٍ ومواساةٍ.
* * *
في الحديقةِ، كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ (باسم ورافع ونجيب وسعد) يَجلسونَ قربَ شجرةٍ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ بعدَ أن مارسُوا ألعابَهم البَسِيطةَ التي ابتكرَ أغلبَها باسمُ وقد اعتادُوا أَن يُمضوا بعضَ الوقتِ في أحاديثَ شتَّى تتعلقُ بالمدرسةِ، بمعلميهِم وبرفاقِهم، بِأَحلامِهم.. الأحلامُ التي لا يملّونَ الحديثَ عنها. ويُرفق الأصدقاءُ أحاديثَهم بإشاراتٍ ليتمكنَ باسمُ مِنْ فهمها، وأحياناً يكتبونَ حِواراً على أوارقِهِم. وباسمُ الطفلُ الذكيُّ الذي أتمَّ العاشرةَ من عمرِه يُدركُ الكثيرَ من أحاديثِهم عبرَ حركاتِ الشفاهِ.
كتبَ سعدُ: إننا نتحدثُ كثيراً عن أَحلامِنا.
ضحكَ وكتبَ نجيبُ: لا أحدَ يعرفُ بأَحلامِنا إلا نحنُ وهذهِ الزيتونةُ الخضراءُ.
ورافعُ كتبَ: حديثنا الدائم عنِ الأحلامِ يَجعلُنا نصمّمُ على تحقيقِ ما نستطيعُ مِنها.
وكتبَ باسم: أحلامُنا ستكبُرُ كما تكبُر وتنمو هذه الشجرة. ما رأيكُم أن نُسمِّي شجرةَ الزيتونِ الخضراء التي نُحبها شجرةَ الأحلامِ ويختارُ كلُّ منا غُصناً من أغصانِها ويكتبَ أحلامَهُ على ورقةٍ ويخبّئَ هذه الورقةَ على الغصنِ الذي اختارَهُ وكلما كبرتِ الشجرةُ تكبُرُ أحلامنا.
هتفَ نجيبُ وسعدُ ورافعُ: شجرةُ الأحلام! هذا رائعٌ. ستكونُ أغلى شجرةٍٍ على قلوبِنا. بعدَها فكَر سعدُ وكتبَ: وإذا هطلَ المطرُ وبللَ أوراقَ أحلامِنا؟
ردَ عليه رافعُ كتابةً: نعيدُ كتابتَها من جديد.
كتبَ باسمُ: حينَ يهطلُ المطرُ هذا يعني أنَّ الشجرةَ ستنمو، وأحلامُنا ستكبرُ. وكل حلمٍ يتحقق سنرسمُ إلى جانبهِ ابتسامةً.
نجيبُ قالَ وكتبَ: ليتركَ كلُّ منا ورقةً بيضاءَ ليُضيفَ عَلَيها أحلاماً جديدةً. ومع سعادتِهم بالفكرةِ كانَ الأصدقاءُ الأربعةُ يقفونَ، ويُمسكُ كلٌ منهم بيدِ الآخر مشكلين حلَقَةً، وهُم يغنونَ ويَمْرحونَ والابتساماتُ تزيِّنُ وجوهَهم وباسمُ يحركُ شفتيه كأنّما يُشاركُ أصدقاءَه الغناءَ. وبعدَ قليلٍ جلسَ كلٌّ مِنهم وأمسكَ بقلمِه وأخذَ يكتبُ أحلامَهُ. حينَ عادَ باسمُ إلى البيت لفتَ انتباهَ والدته سعادة تهللَ بها وجهُهُ. سألتْهُ بإشارَتِها وابتسامَتِها، فكتبَ لها عن شجرةِ الأحلامِ. ومنْ كلماتِهِ التي كتبَها شعرتْ أنهُ يعيشُ لحظةَ الفرحِ الكُبرى في حياتِهِ.
* * *
وتوالتِ الأيامُ، وهَطلَ مطرٌ، وكُتِبَتِ الأحلامُ على أوراقٍ كثيرةٍ، وانضمَّ إلى الأصدقاءِ الأربعة صديقٌ جديدٌ هو عمار يماثلُهم سناً وفي صفهم ذاته، ويكاد يتفوقُ على الجميعِ باجتهادِه. غيرَ أن شللَ الأطفالِ تسببَ في ضمورِ عضلاتِ رجلَيه وحدَّ من قُدرتِهِ على الحركةِ.
أم باسم تلقَتْ رسائلَ أُخرى، ومَع كلِّ رسالةٍ كانتِ الابتسامةُ تكبُر. فالغائبُ سيعودُ قريباً.. ما هي إلا أيام وأحدُ أحلامِ باسم التي سطَّرها وحَمَلَتْها شجرةُ الأحلامِ سيتحققُ. ومَع إطلالةِ صبحٍ جديدٍ أيقظَتْ أم باسم ولدها وإِشاراتها جعلتهُ يُدركُ أنَّ عليهِ الاستعداد للانطلاقِ نحوَ المدينةِ، ثم إلى المطارِ لاستقبالِ والدِهِ الحبيب العائد. في المطارِ ابتساماتُ لقاءٍ، ودموعُ وداعٍ. كانت عينا باسم تجوبانِ أرجاءَ المطارِ وأمه تقفُ إلى جوارِهِ. فجأةً: رَبتت على كتفهِ وأشارتْ بفرحٍ كبيرٍ نحوَ بوابةِ العبورِ حيثُ كانَ أبو باسم يحملُ حقيبةً صغيرةً بيدِهِ ويتقدمُ نحوهما.
أسرعَ باسمُ يستقبلُ والدَهُ الذي احتضنَهُ بحنانٍ غامرٍ. طالَ عناقَهُما حتى تدخلتِ الأمُّ مرحبةً بزوجِها وبعدَ قليلٍ انطلقتْ بهم سيارةُ أجرةٍ نحو قريتِهم البعيدة.
* * *
بدأَ أهلُ القريةِ يتوافدون إلى بيتِ أبي باسم مهنئين بالسلامةِ، وباسمُ أمضى معظَمَ وقتهِ إلى يسار والدهِ وبسمتُهُ تحكي لكلِّ من يراهُ مدى سعادته، بينَما كانتْ أمُّ باسم منهمكةً بإعدادِ الضيافةِ للزوارِ، نظرَ باسمُ إلى الساعة. إنها الرابعةَ عصراً. قبّلَ والدَهُ وأشارَ إليه ما يعني أنه سيخرُجُ للعبِ مع رفاقِه.لم يدركْ والدُه ماذا يقصدُ. لكنَّ الأم ابتسمت وأشارتْ ما فَهمَ الولدُ منهُ أنَّ بإمكانِه الخروج وأَخذتْ تَحكي لزوجها عن صداقةِ باسم ورفاقِه وموعدِ لعبهم والفرح الذي يحتلُّ كيانها كلما رأتْ سعادةَ ولدِها بأصدقائِهِ، فَهُمْ جعلوهُ يعيشُ حياةً طبيعةً متناسياً أمرَ الإعاقةِ التي ألمتْ بهِ، وأكثر من ذلك فهمْ يُشعروهُ بحاجتِهم لوجودهِ بينَهُم. أبدى الأبُ ارتياحَهُ لما سَمِعَ، ولكنّهُ قال: بكلِّ أسفٍ الكثيرُ من هذهِ الأمور ستتغيرُ بعدَ انتقالِنا للسكنِ في المدينةِ. استغربتِ الأمُّ قولَ زوجِها. إلا أنَّ جرسَ البابِ قطعَ دَهْشتها، فأجلَّتْ بحثَ الأمرِ.
وفي الحديقةِ قربَ شجرةٍ الزيتون الخضراء الفتية كانَ الأصدقاءُ الخمسةُ يجتمعونَ والفرحةُ باديةٌ على وجوهِهِم. إنَّها الفرحةُ بتحقُّقِ أحدِ أحلامِ صديقِهم باسم الذي أحضرَ ورقةَ أحلامِهِ منَ الشجرةِ ورسَمَ بجوارِ حُلمهِ الأول ابتسامة. صفقَ الأصدقاءُ، وباسمُ فتحَ يديهِ متضرِّعاً ـ دونما حديثٍ ـ أن تتحققَ أحلامُ أصدقائِهِ أيضاً. ومن إشاراتِ باسم فهم الأصدقاءُ أن عليهمِ مرافقتَهُ ليسلِّموا على والدِهِ فانطلَقُوا فرحينَ. وفي البيتِ استقبلَهُم الأبُ ورحَّبَ بهم وقدمتِ الأمُّ لهُم الضيافةَ غيرَ أنَّ اضطراباً لم يلحْظهُ باسمُ من قبل بدا على وجهِ أمهِ وحينَ أشارَ إِليها: ما الأمرُ؟ رَبَتتْ على كتفهِ وأشارتْ: لا شَيء.
* * *
جلسَ أبو باسم وزوجتُهُ وابنهما مساءً. كانَ الولدُ يشيرُ بحركاتِ يَديه ووالداهُ منتبهان جَيداً وعلى كلٍّ منْ وجوهِ الثلاثةِ ابتسامةً. فسَّرتِ الأمُّ ما فهمتْهُ من إشاراتِ ولدها. إِنهُ اجتهَد كثيراً بفضلِ أمّهِ وأصدقائِه، ومعلمُه يحبُّه كثيراً ويشجعُه، وهو مصممٌ أن يكونَ في المستقبلِ كاتباً. ثم إنَّ أصدقاءه يفعلونَ دائماً ما يقولُ لهم. بعد أن أنهتِ الأمُّ تفسيرَ إشاراتِ ولدِها تابعتْ: ماذا كنتَ تعني حين قلتَ: إنَّ الكثيرَ من الأمورِ ستتغير؟

أجابَها: آن لنا أن نرحلَ من هذهِ القريةِ النائيةِ. في المدينةِ كلُّ ما يمكنُ أن يحتاجَهُ المرءُ من خدماتٍ، ثم إن مجالاتِ العملِ فيها أكبر، وسيلتحقُ باسمُ بمدرسةِ الصمِّ والبكمِ ويتعلمُ فيها. أنتِ تعلمين أنني أحضرتُ مالاً وفيراً يمكّننا من تحقيقِ حياةٍ رغيدةٍ هناك.
قالت أم باسم: أرى أنك اتخذتَ قراراً ولم تسألنا. نحنُ لا نريدُ سكنَ المدينةِ. الخدماتُ متوافرةُ هنا بصورةٍ جيدةٍ، والمدرسةُ في القريةِ تتكفلُ بتعليمِ ولدِنا باسم
أما عن مجالاتِ العملِ فيمكنُكَ استثمارُ أموالِكَ في الزراعةِ أو في أيِّ مشروعٍ آخر هنا. ثمَّ إن السعادةَ التي يحياها باسمُ هنا لن تُعوضَ لـهُ في أي مكانٍ آخر.
حسان: أَعلمُ أنكُما تحبانِ القريةَ، ولكن ستعتادانِ الحياةَ في المدينةِ أيضاً وستجدانِ الفرقَ الكبيرَ بعدَ انتقالنا. لقد اتخذتُ قراري وانتهى الأمر. تعبتُ في الغربةِ ولن أضيّع ما جنيَته هنا. كان باسمُ يراقبُ ما يدور بين والديهِ. صحيحُ أنهُ لم يفهم كل ما دار ولكنَّه أدركَ أن ثمةَ خلافاً سيؤثرُ على صفوِ حياتِهم. وقفَ وعلى وجههِ علائمُ قلقٍ وحزنٍ، ثم اتجهَ نحوَ غرفةِ نومِهِ.
صباحَ اليومِ التالي اتجهَ الأبُ إلى المدينةِ لشراءِ مسكنٍ مناسبٍ، ولقاءِ صديقهِ المحامي عادل للتفكيرِ في مجالٍ يمكنّهُ من استثمارِ أموالِه. بينما أعدتِ الأمُّ طعامَ الفطورِ لولدِها. على مائدةِ الطعامِ لاحظَ باسمُ حزنَ أمهِ فأشارَ إليها بيدِهِ مُستفسراً وأخذَتْ تُشيرُ أن والدَهُ قررَ اصطحابَهُما للسكنِ في المدينة حيثُ الخدماتُ والعملُ والمدرسةُ المناسبةُ. حاولت إقناعَ وَلدها بما لم تَقتنعْ نفسَها بهِ، ولكنَّها فشلتْ وهاهي علاماتُ الغضبِ تبدو جليةً على وجهِ باسم. أشارَ أنه لن يغادرَ القريةَ، وحينَ أكدتْ بالإشارةِ أن والدَهُ مصممٌ على ذلكَ، دخلَ غرفتهُ وما خرجَ منها إلى أنْ حانَ موعدُ لقاءِ الأصدقاءِ عندَ الساعة الرابعة عصراً. وقربَ شجرةِ الأحلامِ اجتمعَ الأصدقاءُ الخمسةُ. كتبَ باسمُ أنَّ والدَهُ مصمّم على الرحيلِ. فسأل رافع: ما الذي يمكننا فعلَهُ؟
قال وكتبَ نجيبُ: نزورُ أبا باسم، ونحاولُ إقناعَهُ بالبقاءِ هنا. هزَّ باسمُ رأسَهُ يائساً، فهو أدركَ أنَّ والدَتهُ بذلْتُ جهداً في هذا السبيلِ ولم تفلحْ.
أشارَ سعدُ: سنحاول. ومساءً، حينَ عادَ الأبُ من المدينةِ واجَهَ الأصدقاءَ الخمسةَ عند باب البيتِ. ابتسمَ، فحدثُوهُ راجينَ أن يُلغيَ فكرَة السفرِ. فتبدلتْ علائمُ وجهِهِ من ابتسامةٍ إلى غضبٍ. وصرخَ: ما كان ينقصُني إلا تدخلّ الصغارِ في حياتي. طأطأ الأصدقاءُ رؤوسهُم.
وغادَروا المكانَ. حاولَ باسمُ مرافقتهم إلا أنَّ والدَهُ أمسكَ بيدهِ، وشدَّهُ إلى الداخلِ رأتْ أمُّ باسم المشهدَ وقد سمعتْ صراخَ زوجِها فأدركتْ ما حَصَلَ. قالتْ لـهُ: ما كانَ عليكَ أن تعامِلَهمُ بهذه القسوة. إنهم أصدقاءُ باسم الأوفياءُ.
ردَّ أبو باسم: لا أريدُ أن أسمعَ مَن يحاولُ تعديلَ قراري. سفرنا إلى المدينة سيكون بعد ثلاثةِ أيامٍ فقد اشتريتُ مسكناً واتفقتُ مع صديقي عادل على إقامة مشروعٍ تجاريٍ مناسبٍ. أفلتَ باسمُ من يدِ والدهِ واتجهَ نحو غرفتهِ حزيناً.
فتابعتْ أمُّ باسم: إنكَ لا تهتمُ بمشاعرِ ولدنا الذي أحببْتُ أن أقدمَ كلَّ ما أستطيعُ لإسعادهِ، وفرحتُ وأنا أراقبُ تآلفَهُ وانسجامَهُ مع أصدقائهِ.
قالَ حسانُ: ما أفعلهُ هوَ في مصلحتهِ أيضاً، فمدرسةُ الصم والبكمِ ستعلِّمُه ما تعجزُ مدرسةُ القريةِ عنه. توقفَ الحوارَ عندَ هذا الحدِ، فالأبُ العائدُ منَ المدينةِ متعبٌ وعلى الأمِّ أن تهيئ لـهُ طعامَ العشاءِ.
* * *
وفي اليوم التالي وقربَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ سعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ. قالَ سعدُ: أرى أنَّ الحلمَ الذي تحققَ سيسببُ لنا الحزنَ. تابعَ نجيبُ: بما أنَّ أمرَ السفرِ مؤكد فلنتحدثْ إلى صديقِنا باسم عن جمالِ الحياةِ الجديدةِ التي سيعيشُها.
لنحاولَ مواساته ما استطْعنا. لنخبَرُه أننا سنبقَى أصدقاءَهُ المخلصين وسنكتُب لـهُ الكثيرَ من الرسائلِ.
وعامرُ قال: لماذا يريدُ أهلنا أن نعيشَ حياةً مختلفةً؟ نحنُ مع أصدقائِنا وأَحبتِنا نستطيعُ أن نكوَن مثل كلِّ الناسِ. إنني أنسى إصابتي بالشللِ وأنا بينكُم. وعندَ بابِ الحديقةِ بدا باسمُ يتقدمُ وعلاماتُ حُزنهِ جلَيةً. أسرعَ الأصدقاءُ الأربعةُ نحوَهُ.

أشارَ إليهم أن يومين يفصلانه عن السفرِ إلى المدينة ولنْ يتمكَن من لقائِهم بعدَ اليومِ وعندما بدأ الأصدقاءُ يشيرونَ بأيديهم ما يُوحي أنَّ المدينةَ جميلة وأنهُم سَمِعُوا الكثيرَ عنها كانَ باسمُ شارداً. ومع محاولاتِهم رَسم الابتسامةِ على وجهِه إلا أنه ظلَّ كئيباً، وقبلَ أن ينقضي وقت لقاءِ الأصدقاءِ انطلقَ الخمسةُ نحوَ أغصانِ شجرةِ الأحلام وأحضرَ كلٌّ منهُم ورقةَ أحلامهِ ليضيف حلماً جديداً إشاراتُ باسم أوضحت لأصدقائه رغبته أن تبقى ورقةُ أحلامهِ وغصنُ أحلامِه بانتظارِ عودتِه.
بعدَ قليلٍ كانت الدموعُ تُعبّرُ بوضوحٍِ تامٍ عن حالةِ الحزنِ التي سبَّبها قرارُ والدِ باسم وانطلقَ كلُّ منَ الأصدقاءِ الخمسة نحوَ منزلِ أسرتهِ كئيباً. إنَّهُ حزنُ الوداعِ.
* * *
حينَ كانَ سائقُ السيارةِ يهمّ بالانطلاقِ كانَ الكثيرُ من أهلِ القريةِ يلوحونَ تلويحةَ الوداعِ لأسرةِ حسان، ومعلمُ باسم أحضرَ تلاميذَهُ رفاق باسم ليقولوا لـه بابتساماتٍ ودموعٍ: معَ السلامةِ.. إلى اللقاءِ يا باسم. وتابَعُوا جَميعاً السيارةَ بعيونِهم حتى أخْفتها الطريقُ. أصدقاءُ باسم (نجيبُ وسعدُ ورافعُ وعمارُ) اتجَهُوا نحوَ شجرةِ الأحلامِ. لم يلعبوا هذهِ المرة، إنما وَقَفوا قُربَ غصنِ أحلامِ باسم. وبعدَ قليلٍ عادَ كلٌّ منهُم إلى منزلِ أسرتِه.
وتمضي الأيام.. مرَّ أسبوعٌ على وجودِ أسرةِ حسان في المدينةِ، والابتسامةُ لا زالت غائبة عن وجوهِهم. رغمَ أن حسان اصطحَب زوَجتَهُ وولدَهُ لمشاهدةِ معالمِ المدينةِ الجميلةِ، والتعرُّفِ على مدرسةِ الصمِ والبكم القريبةِ من منزلهم الجديد.
لكنَّ حزنَ باسم أثارَ قلقَ والديهِ. حاولتْ أمه أن تصَحَبُهَ للقيام بزيارة إلى السوق ورفضَ. وحاولَ والدُهُ ثانيةً دون جدوى، وباسم بقيَ حبيسَ غرفتِهِ. وصباحَ اليوم التاسعِ استيقظَ حسانُ وزوجتُهُ. أُصيبا بالذهولِ فسريرُ باسم فارغٌ. لقد اختفى. انطلقَ الوالدانِ في رحلةِ البحثِ التي طالت كلَّ الأماكنِ القريبةِ، ثمَّ شملتِ المشافي وأقسامَ الشرطةِ ولم يظفرْ أحدهما به، فعادت الأمُ وتبعها الأبُ واليأسُ بادٍ على وجههِ. أطرقَ قليلاً ثم قالَ: سنعلنُ عبرَ وسائلِ الإعلامِ عن فقدانِ ولدنا. فهزتِ الأمُّ رأسَها ثم قالت: تُرى هل بمقدورهِ العودة إلى القرية؟ ردَّ حسانُ: مستحيل. إنه لا يعرفُ مكانَ مركزِ الانطلاقِ وليسَ بمقدورهِ أن يسألَ ولا يملكُ مالاً.. ولا يمكنُه العودةَ. وبَسَطَ الليلُ جناحَ العتمةِ. أنوارُ البيوتِ أخذت تنطفئُ.. وحسانُ أغفى، لكنَّ زوجتهُ جلستْ عند طرفِ السريرِ تفكّرُ في غيابِ ولدِها باسم. مرَّ الليلُ بطيئاً، ومع قدومِ الصباحِ انطلقَ حسانُ مْنَ جديدٍ في رحلةِ البحثِ وزوجتهُ اختارتْ طريقاً آخر. وفي القريةِ، قربَ جذعِ شجرةِ الأحلام أمضى باسمُ ليلتَهُ. ومع إطلالةِ الفجرِ شاهَدُه صديَقه نجيب. لم يحضرْ إليهِ إنما أسَرعَ مُتلهفاً يخبرُ بقيةَ الأصدقاءِ. وبَعد قليلٍ كانَ الخمسةُ يضمُّهم عناقُ شوقٍ ولهفةٍ. ثم مدَّ كلُّ منهمُ يده إلى ورقةِ أحلامه، فأخرجَها ورسَم ابتسامة إلى جوارِ آخرِ حلمٍ كتبَهُ. أخبَر باسمُ أصدقاءَهُ بالإشارةِ أنَّه لن يعيشَ حياتَهُ بعيداً عنهم.. عن القريةِ.. عن شجرةِ الأحلامِ. بعد أن جلسُوا حاولَ الأصدقاءُ مواساته والتخفيف عنه. ورغمَ إلحاحِهم أن يرافِقَهُم إلى أي بيتٍ من بيوتهم إلا أنه أصرَّ أن يبقى إلى جوارِ الشجرةِ. فلديه الكثيرُ من الأحلامِ التي يجبُ عليهِ كتابتها. أحضرَ الأصدقاءُ لباسمَ الطعامَ والماءَ، ورجاهُم ألا يخبرُوا أحداً بوجودِه خشية أن يُرسلُوا في طلبِ والدهِ الذي سيصحبهُ من جديد إلى المدينةِ وهذا ما يرفُضُه أبلغهم أنه سيبقى في الحديقةِ فالجّو الربيعي سيساعدُهُ. وما انقضتْ ساعاتُ النهارِ حتى وصلت أم باسم إلى القريةِ. انتقلتْ إلى الحديقةِ. لم تُفاجأ وهي تراقبُ ولدهَا المتكئ إلى جذعِ شجرةِ الأحلام.. أسرعتْ إليهِ. حاولَ أن يهربَ، إلا أنها أخذتْ تشيرُ إليهِ أنها لن تعودَ إلى المدينةِ بعد الآن، ضمتهُ إلى صدرها. وفي المدينةِ، حينَ عادَ حسانُ إلى بيتهِ قرأ رسالةً كتبتها زوجتهُ قبلَ أن تغادرَ قالت فيها:
(إنني واثقةٌ من و جودِ ولدي في القريةِ حيثُ الأصدقاءُ الذين يحبهم ويحبونه وحيثُ شجرة الأحلام التي لا يمكن لباسم أن يعيشَ بعيداً عنها. إنني اخترتُ البقاءَ إلى جانبِ ولدي في القريةِ وسنكونُ سعيدين إن قررتَ اللحاقَ بنا.. إننا ننتظركَ) فكرَ حسانُ، حدثَ نفسه
(ما الذي جعلَها واثقة من وجودِه في القريةِ؟.. ثم ما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟ يبدو أنني تصرفتُ بأنانية). بعد قليل أخذَ يجمعُ بعض الأوراقِ في حقيبتهِ، واستقلَّ سيارةَ أجرةٍ سارت به في طريقِ العودةِ إلى القريةِ وحينَ وصلَ كانت ابتسامتُه تقولُ لزوجتِه: لقد قررتُ أن أكونَ معكم.
سأَلَها: أين باسم؟ فردتْ: إنهُ نامَ بعد أن أحسَّ بالأمانِ. وروتْ لـه كيفَ تَمَكَّنَ باسمُ من العودةِ إلى القريةِ. إنه كتبَ اسمَ قريتِه على ورقةٍ وأخذَ يُريها لأناسٍ ساعدُوه حتى وصلَ مركزَ الانطلاقِ، ثم ركبَ إحدى الحافلاتِ التي ستنطلقُ إلى القرية بعدَ أن أشارَ للسائقِ أنَّهُ لا يملكُ نقوداً، فسامَحَهُ السائقُ. قال حسانُ: وما حكايةُ شجرةِ الأحلام؟
أم باسم: إنها شجرةُ زيتونٍ خضراءَ فتيةٍ عندَ طرفِ الحديقةِ اختارَ باسمُ وأصدقاؤُه أغصانَها مخبأً لأحلامِهم.. قال حسانُ: أريدُ أن أراها الآن.. أريدُ أن أتعرفَ إلى أحلامِ ولدي ورفاقِه.
أم باسم: وأنا معك.
وعندَ شجرةِ الأحلامِ وقفَ حسانُ وإلى جوارهِ زوجتُه. فتشَ عن أوراقِ الأحلامِ وحينَ وجدها قرأَ بدايةَ الورقةِ التي سطرَ فيها ولدُه باسمُ أحلامَهُ. كان في مقدمتها حُلمٌ بعودةِ الأبِ سالماً من بلاد الغربةِ، ثم حلم أن يتمكنَ يوماً من التحدثِ والسمع مثل الناس، وحلم باستمرار صداقتهِ مع نجيب وسعد ورافع وعمار وآخرين وأن تتحققَ أحلامُ الأصدقاءِ، وأن تعودَ عافيةُ صديقهِ عمار وأن يكونَ كاتباً في المستقبل، وقرب النهاية سجلَ حلَمهُ أن يغيرَ والدهُ قرارَ الانتقال إلى المدينةِ. انتقلَ بعدَها لقراءةِ ما كتبَ أصدقاءُ ولدهِ. لفتَ انتباهَهُ أن أحلامَهُم جميعها تبدأ بحلمِ عودةِ والدِ باسم، ثم قرأ أحلاماً ترسمُ صُورَ البراءةِ، فسعدُ حَلُمَ أن يرى والده وقد وجدَ عملاً مريحاً يخففُ من متاعبهِ، وحَلُمَ رافعُ أن يرى أسرَتهُ تنتقلُ إلى مسكنٍ جديدٍ يكونُ ملكاً لهم ليرتاحُوا من التنقلِ من منزلٍ مستأجرٍ إلى آخر. أما نجيبُ فقد حلم أن يتمكنَ شقيقُهُ من متابعةِ دراستهِ الجامعيةِ وهو الطالبُ المجدُ حيثُ يقفُ المالَ عائقاً في سبيلهِ، وعمارُ حلم أن يتمكنَ والده من إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ لوالدتهِ التي تعاني من مرضٍ في القلب. أعادَ حسانُ أوراقَ الأحلام إلى أغصانِها، وعادَ برفقةِ زوجتهِ إلى البيتِ. وحينَ قدمتْ لـه فنجاناً من القهوةِ انتبهَتْ لشرودِهِ.
قالت لـه مبتسمةً: هل أعجبتكَ فكرةُ الأحلامِ؟
ردَّ عليها: أجل. وأفكرُ كيفَ سأدخلُ السعادةَ إلى قلوبِ هؤلاءِ الأطفال. لقد حلمتُ كثيراً حين كنتُ صغيراً مثلهم. جميع الأطفالِ يحلمون. سأفعلُ ما بوسعي لتحقيقِ ما أستطيعُ من أحلامِهم.
* * *
زارَ حسانُ المدينةَ من جديدٍ، وقررَ أن يوكلَ أمرَ المشروعِ التجاري لصديقهِ عادل فهو سيبدأُ العملَ في مشروعٍ زراعي في القريةِ. بعد ذلك تحدث حسانُ عن حلمهِ في إسعاد الأطفال وفكرته في إنشاءِ جمعيةٍ ترعى أحلامهم وتعملُ على تحقيقها يسميها (جمعية أحلام الأطفالِ). استمعَ عادلُ إلى حديثِ حسان، أبدى إعجابَهُ الشديد وتأييدَهُ المطلق لَفكرتِه، واتفقا على دعوةِ بعضِ الأصدقاءِ للمساهمةِ في تأسيسِ الجمعيةِ.
مضتْ أيامٌ قليلةٌ استعادَ خلالَها باسمُ وأصدقاؤهُ ألقَ صداقتِهم وعادُوا لِلهْوَهِمْ ومَرَحِهِمْ.
بعدَ شهرين، وخلالَ اجتماعِ الأصدقاءِ الخمسةِ قربَ شجرةِ الأحلام بدتِ السعادةُ والدهشةُ على وجهِ سعدٍ. قالَ وكتبَ: لقد وجدَ أبي عملاً مُريحاً وبأجرٍ ممتازٍ وذلك بفضل جمعيةٍ اسمُها جمعيةُ أحلامِ الأطفال.
وقالَ نجيبُ وكتبَ: تلقَّى شقيقي رسالةً من جامعةِ الأمانةِ تبلغه أنَ عليهِ الالتحاقَ بالجامعةِ لمتابعةِ تحصيلهِ العلمي، وحينَ زارَ شقيقي مقرَّ الجامعة أخبَرُوهُ أنَّ جمعية أحلام الأطفال سددتْ عنُه رسوم التسجيلِ والدراسةِ، ودفعتْ ثمنَ الكتبِ.
تفاوتتْ مشاعرُ الأصدقاءِ بين الدهشةِ والفرح وعادَ كلٌّ منهم إلى بيتِ أسرته. كان باسمُ سعيداً، أخذَ يُشيرُ أمامَ والدَيْهِ ما يعني أن ابتسامات أصدقائِه بما تحققَ أروع ما كان يَحلمُ برؤيته. تبادلَ والدا باسم النظرات والابتسام، واحتضنا وَلدهما، وحينَ أفلتَ منهما ودخلَ غرفتَهُ قالت أم باسم: ما تُقدمُ عليهِ مع أصدقائِكَ رائعٌ يا حسان.
فأجابها: ما زالَ لدْينا الكثير. سنحاولُ فِعل أيّ شيء يُسعدُ الأطفالَ، ليسَ أصدقاءُ باسم وحسب إنما الكثيرُ من الأطفالِ غيرهم. فأنتِ تعلمينَ أنّ عددَ أعضاءِ الجمعيةِ يزداد، وقدرتُنَا على زرعِ الابتساماتِ على وجوهِ الأطفالِ تكبر.
* * *
ومرت الأيامُ. المشروعُ التجاريُّ الذي يديُرُهُ عادل شريكُ وصديقُ حسان تألقَ، ومزرعته أخذتْ تنتجُ أجودَ الثمارِ، وتحقُق الكثيرَ من أحلامِ الأطفالِ.
كبرَ باسمُ وسعدُ ونجيبُ ورافعُ وعمارُ.. كبرتْ شجرةُ أحلامهم، وبقيت رفيقتُهُم الدائمة، وبعد مضيِّ ثلاثِ سنواتٍ، أي عندما تجاوزَ الأصدقاءُ الرابعةَ عشرةَ عَلم باسمُ أنَ من أسعدَ أصدقاءَهُ وأطفالاً كثر آخرين هو والده من خلال تأسيسهِ جمعيةَ أحلام الأطفال. فرَح كثيراً لكنَّه لم يُخبر أصدقاءَهُ، وصمَم أن ينضمَ حين يكبر إلى جمعيةِ أحلامَ الأطفال وسيكتُبُ قصةً عن والدهِ وهذه الجمعية وأصدقائه وشجرةِ الأحلامِ. أجل.. فمن الأحلام التي قرَّرَ أن يحققَها بنفسهِ ودون مساعدةٍ أن يُصبحَ كاتبَ قصةٍ، وسيبدأ العمل من أجلِ ذلك منذُ الآن.

rr
أسماء

استمعَ زاهرُ إلى الحديثِ الذي دارَ بينَ والدِهِ وضيفِهِ السيد مروان حولَ البطلِ خالدِ بنِ الوليد، وعن المعاركِ التي قادَها وحققَ فيها النصرَ والعزةَ. كان حديثاً رائعاً استطاعَ زاهرُ أن يتخيلَ من خلالهِ براعةَ خالد في فنونِ القتالِ، ومساءً في غرفته أخذ يكتب على دفترِهِ بخطٍ واضحٍ جميلٍ: (خالد... خالد) وحدثَ نفسهُ: كان عليكَ يا أبي أن تسميني خالد. إنه اسمٌ يخلدُ صاحبَهُ.
في غرفةِ الصفِ وقفتِ المعلمةُ أمامَ تلاميذِها تشرحُ لهم درساً عن نبوغِ العالمِ العربي جابرِ بنِ حيانَ في الكيمياءِ، وعن التجاربِ العلميةِ التي أجراها وقدمتِ الفوائدَ العظيمةَ للناسِ، وقالت: سطَّر جابرُ بنُ حيان اسمَهُ في سجلِ الخالدينَ كعالِمٍ عظيمِ القدرِ.
أُعجبَ زاهرُ بالعالِمِ الكبيرِ جابر، وتنهدَ وقالَ لنفسِهِ: ليتك يا أبي سميتني "جابر". لكنتُ الآنَ فخوراً باسمي بين رفاقي.
وعندَما كانَ أصدقاءُ زاهر يغنون في الباحة نشيداً كَتبهُ للأطفال الشاعرُ سليمان العيسى، ويرددونَ اسمَ الشاعرِ. بدتِ الخيبةُ على وجهِ زاهر، وهو يحدثُ نفسَهُ: ماذا لو كان اسمي سليمان. إذاً لرفعتُ رأسي بهذا الاسمِ الكبير. ازدادَ شرودُ زاهر في غرفةِ الصفِ ممَّا أثارَ انتباهَ المعلمةِ فخاطبتهُ: ما بك يا زاهر؟ إن كانَ لديكَ ما تقولهُ هاأنا أسمع. أجابَها: لا يا آنسة. ليس لدي ما أقوله. مساءً، في بيتِ أسرتِهِ قررَ زاهرُ أن يعاتبَ والدَهُ، فقال لـه: أبي. لماذا لم تختر لي اسماً غيرَ اسمِ زاهر؟.
ذُهل والداه وهما يسمعان سؤالهُ المفاجئَ. إلا أن والدَهُ ابتسم وأجابَهُ: أي الأسماءِ يُعجبكَ يا بُني.
قال زاهر: لو كانَ اسمي خالد كاسمِ البطلِ خالدِ بن الوليد، أو جابر كاسمِ العالم جابر بن حيان، أو سليمان كاسم الشاعر سليمان العيسى. إنها أسماء تخلدُ أصحابَها.
ابتسمَ أبو زاهر من جديد وقال لابنِه: الأسماءُ لا تخلدُ أصحابَها يا بنيَ، الناس المتفوقون هم الذينَ يخلدونَ أسماءَهُم. اسمُ خالد وجابر وسليمان وغيرها من أسماء المبدعينَ كانت كغيرِها من الأسماءِ التي نعرفُها كاسم زاهر وماهر ومراد ولم يكن لهذهِ الأسماء ما يميزها لولا عبقرية أصحابِها. أنتَ أيضاً يمكنكَ أن تجعلَ اسمَكَ معروفاً ومفخرةً بأعمالٍ عظيمةٍ تقومُ بها، وتميز عبقري كأن تتفوقَ في أي مجالٍ من المجالات، وتضيفُ اسم زاهر إلى أسماءِ الخالدين.
ابتسمت أم زاهر وقالت: الوطن كله يفخرُ بالمتفوقينَ والعباقرةِ من أبنائِهِ وليس هذا صعباً. إنه يحتاجُ اهتماماً واجتهاداً وصفاء ذهنٍ، ولكنني أريدكَ أن تجيبني: تُرى كل من يحملُ اسم خالد هو بطل شجاع؟ أو كل من اسمه جابر عالِم متميز؟ عاد زاهر بذاكرتِه إلى غرفة الصف حين صرخ رفيقه صلاحُ الدين خائفاً مرتعداً بسببِ عبورٍ خاطفٍ لفأرٍ قربَ مقعدهِ، ويومَها كانَ درسُ التاريخِ يصفُ عبقرية البطلِ صلاح الدين، ابتسمَ زاهرُ، ثمَّ ضحكَ بصوتٍ عالٍ، وعاد إلى غرفتِهِ حيثُ فتح حقيبةَ كتبهِ وبدأ بتحضيرِ دروسِ وواجباتِ اليومِ التالي.

rr

بابا حاتم

المدينة كالأطفالِ، ترتدي الثيابَ الجديدةَ فرحاً بالعيدِ، تتزينُ بألوانِ العباراتِ الدالةِ على الفرحِ، وفنونِ الإناراتِ الزاهيةِ وعيدُ ميلاد السيدِ المسيحِ (عليهِ السلامُ) رسولِ المحبةِ والتسامح يطوي مسافاتِ الزمن ليصل بعد يومين. مشاعر المحبة والسلام تزدادُ تألقاً مع هذه الذكرى العطرةِ، وابتساماتُ الأطفالِ إحدى دعائم فرحِ العيدِ. الأطفالُ ينتظرونَ (بابا نويل) ليسهمَ بهداياه في رسم ابتسامتِهم. (بابا نويل) بثيابِهِ ذاتِ اللونِ الأحمر، ولحيتِهِ البيضاءَ، وقلنسوتِهِ الحمراءَ، وعكازهِ وكيس الهدايا يجتازُ شوارعَ الأحياءِ، وصوتُ الجرس الذي يحملهُ يعلنُ وصولَهُ.
سألَ نزارُ والدَهُ: كيفَ سيكونُ العيدُ لو ماتَ بابا نويل؟! فردَ الأبُ: الحياةُ مليئةٌ بمن يستحقونَ المحبة والإعجابِ مثل (بابا نويل) يا بني.
تابعَ نزار: وهل يوجدُ في الدنيا أكرمُ من بابا نويل الذي يوزعُ الهدايا على الأطفالِ في كل مكان؟
ابتسمَ أبو نزارٍ وقال لابنهِ: ما رأيُكَ لو أحضرتُ لكَ الهدايا؟
ردَّ نزار: لن أقبلَ يومَ العيدِ هديةً إلا هدية باب نويل. الأطفالُ جميعُهم ينتظرونَ هداياهُ.
احتضنَ الرجلُ ابنهُ الذي ما تجاوزَ السادسة من عمرِهِ وقال لـهُ: امضِ الآنَ إلى فراشِكَ، فقد حانَ موعدُ نومكَ.
وحينَ بقيَ أبو نزارٍ وحيداً فكرَ بما قالهُ ولدهُ: (كيفَ سيكونُ العيدُ لو ماتَ بابا نويل؟! ثمَّ لماذا يبقى بابا نويل وحيداً يُفرحُ الأطفالَ بكرمِهِ وجودِه؟)، وفجأةً وقفَ ونظرَ من النافذةِ. رأى أنوارَ معظمِ بيوتِ الحيِ قد نامت مثلَ ولدهِ نزار.
قالَ: سأفعلُ ما يجبُ عليَ فعلهُ، أمامي يومٌ واحدٌ. وبعدَ قليلٍ استسلمَ كغيرِهِ للنومِ.
صباح اليومِ التالي ارتدى أبو نزار ثيابهُ يريدُ مغادرةَ المنزلِ. فسألتهُ زوجتُهُ: أينَ تمضي؟ هل نسيتَ أننا في يوم عطلة؟ ردّ أبو نزار: لم أنسَ ولكن ثمَّة ما يجبُ عليَ القيامُ بهِ وقد أتأخرُ. إلى اللقاءِ. وأطبقَ البابَ خلفَهُ وخرجَ.

قالَ نزارُ لأمهِ: تُرى ماذا سيهديني بابا نويل؟. ابتسمتِ الأمُ وقالت: اطمئن ستكونُ هديةً جميلةً ستعجبُكَ.
حدثت نفسَها: (اخترتُها بعنايةٍ لتنالَ إعجابكَ). عادَ أبو نزار بعدَ الظهرِ مُبتسماً. قالت زوجتُهُ: لن أسألكَ ماذا فعلتَ لأنني أثقُ برجاحةِ عقلكَ وحكمتكَ. ومع قدومِ الصباحِ الجديدِ ازدادت لهفةُ الأطفالِ للقاءِ بابا نويل فاليومَ موعدُ فرحِ الهدايا. سالَ نزارٌ أمَهُ: متى يمضي النهارُ ويحل المساءُ؟. فردّت: اصبر يا بني ستصلُ هديتُكَ بعدَ ساعاتٍ قليلةٍ. اقتربَ المساءُ... كانت عينا الطفلِ نزار ترقبان النافذةَ، والساعة تجاوزتِ الخامسةَ بقليلٍ. قالَ والدُهُ: ما رأيُكَ لو نخرجَ لنتجولَ في الشوارعِ قليلاً، وسنعودُ قبلَ الساعةِ الثامنةِ والنصف موعدِ بابا نويل؟ ردَّ نزارُ: موافق. وغادرَ الأبُ وابنُهُ المنزلَ، وبعدَ خطواتٍ التقيا جارَهُما سعيدُ ومعه ابنُهُ، وجارَهُما راجحُ وقد صحبَ وَلَدَيهِ، الكثيرُ من الجيرانِ. تبادلَ الجميعُ عباراتِ السلامِ وساروا باتجاهِ الساحةِ. لفتَ انتباهَهُم صهيلُ حصانٍ ووقعُ حوافر. توقفَ الجميعُ ونظرُوا إلى مصدرِ الصوتِ. كانَ حصاناً جميلاً لونهُ أبيضَ وعلى صهوتِهِ رجلٌ يرتدي الزيَ العربيَ، وأمامهُ كيسٌ كبيرٌ.
قالَ الرجل بلغةٍ عربيةٍ فصيحةٍ: السلامُ عليكُم ورحمة اللهِ وبركاته. ردَ الجميعُ السلامَ، بينما بدتِ الدهشةُ على وجوهِ الأطفالِ. سألَ أبو نزار: من أنتَ؟ ردَ الرجلُ: أنا بابا حاتم، لاشك في أنكم تَعرفونَ، أو على الأقلِ سمعتُم بحكاياتي مع الكرم وإغاثةِ الملهوفِ. قالَ أحدُ الحاضرينَ: حاتمُ الطائي!؟ أكرمُ العربِ؟! أجابَ الرجلُ: أجل. حاتمُ الطائيُ. ولكنني لستُ أكرمَ العربَ، فهناكَ الكثيرُ من هم أكرم مني.
دعوني الآنَ أسلّمُ على أصدقائي الأطفال.
كانَ كلُ طفلٍ منَ الأطفالِ الحاضرينَ يكادُ يلتصقُ بوالدهِ خوفاً، قالَ الرجلُ: اقتربوا مني أيها الأطفالُ. أنا أحبُكُم كثيراً، وأثقُ أنكم حينَ تتَعَرفونَ عليَ ستُبادلونني المحبة. أعلمُ أنكم تَحتفلونَ بالعيدِ، وسأفرحُ كثيراً إذا قبلتُم مني بعضَ الهدايا التي أحضَرتُها معي.
تساءَل الأطفالُ: هدايا؟!
أجابَ: أجل... هدايا بابا حاتم. فتحَ الرجلُ كيسَ الهدايا وأخذَ يوزعُ ما بداخلِهِ من عُلبٍ على الأطفالِ الذينَ ارتسمتِ الفرحة على وجوهِهِم. وبعدَ أن تقبلَ الأطفالُ الهدايا شاكرينَ.
قالَ لهم الرجلُ: أتمنى أن تُوجِهُوا لي أية أسئلةٍ يا أحبائي؟
سألَهُ نزارٌ: هل تعرف بابا نويل؟
ردَ الرجلُ: سمعتُ عنهُ الكثيرَ. اسمهُ (سانتا كلوز) كانَ رجلاً كريماً يحبُ الأطفالَ ويقدمُ لهم الهدايا قبلَ يومِ العيدِ فيُدخلُ البهجة إلى قلوبهم.
قالَ طفلٌ آخر: هل تحبُ الأطفالَ مثلَهُ؟
ردَ الرجلُ: أجل يا بني. من لا يحبُ الأطفالَ؟
طفلٌ ثالثٌ تحدثَ: بابا نويل يحضرُ لنا الهدايا كل عامٍ، فلماذا لا تفعلُ مثلَهُ؟
أجابَ الرجلُ: أعدُكُم أن آتي إليكُم مرتَينِ في العامِ، مرةً في يومِ عيدِ الميلادِ حيثُ أحضرُ الهدايا القيِّمة من ألعابٍ، وثيابٍ تحبونَها، والمرةُ الثانية مع بدايةِ عطلتكم الصيفية فأقدمُ لكم كتباً جميلةً تَحكِي لكُم حكاياتنا نحنُ أجدادكم. هناكَ الكثيرُ ممَّا لا تعرفونَهُ عنّا.
على أن تعدونني بقراءةِ هذِهِ الكُتب.
سألهُ طفلٌ رابعٌ: هل تريدُ مِنّا أن لا نَستَقبلَ بابا نويل؟
ابتسمَ الرجلُ وقالَ: أنا مثلُكُم أحبُ بابا نويل، وأحبُ كل كريمٍ في العالَم، وكل من يُفرحُ الأطفالَ، ولكن أريدُكُم أن تَعرِفوا أنَّ في تاريخِ أجدادكُم قصصاً لرجالٍ خلَّدَ الكرمُ والجودُ أسماءَهم.
قالت طفلةٌ: ولماذا لم تلبس مثلَ ثيابِ بابا نويل، ولم تأتِ على عربة.
ردَّ الرجلُ: ما أرتديهِ هوَ اللباسُ الذي كانَ يرتديهِ أجدادكُم العرب، وحصاني رفيقُ تنقلاتي أينما ذهبتُ. بابا نويلَ جاءَ إليكُم بالثيابِ التي يرتديها في وطنِهِ. بمثلِ هذا اللباس وعلى مثل هذا الحصانُ سطَّرَ العربُ الأوائلُ حكاياتِ بطولاتِهم.
صاحَ نزارُ فرحاً: أبي... لن يبقى بابا نويل وحيداً بعدَ اليومِ. هاهو بابا حاتمُ سيزورنا ومعه القصصُ والهدايا. ابتسمَ الرجلُ وقالَ: في كل علبةٍ من هذهِ العلبِ هديةٌ جَميلةٌ. وكتابٌ مفيدٌ أرجو أن تقرؤوه بعدَ العيدِ، والآن سأغادرُ فعليَ أن ألتقي أطفالاً آخرين. إلى اللقاء.
غادرَ الرجلُ المكانَ وسطَ ابتساماتِ الأطفالِ وإعجابهم.
ردّدَ الأطفالُ: سننتظرُ بابا حاتم.
تبادلَ الرجالُ نظراتِ الإعجابِ، وعادُوا إلى بيوتِهم برفقةِ أطفالِهم. في البيتِ سألت أمُ نزار ابنها: من أينَ لك*الهدية؟
أجابَها نزارُ: إنها هديةُ بابا حاتم... حاتم الطائي.
دُهِشَتِ الأمُ وقالت: حاتم الطائي!
وفي الخارجِ كان صوتُ جرسِ بابا نويل يعلنُ وصولُهُ، والأطفالُ ينتظرونَ كيسَ الهدايا وقد نالوا وعداً بهدايا أخرى، وصديق، وربما أصدقاء لن يتركوا بابا نويل وحيداً بعد الآن.


rr
المحتوى



حياة حسان الجديدة 7
ألحان وألوان 19
شجرةُ الأحلامِ 31
أسماء 55
بابا حاتم 61
المحتوى 69


















ســر الحــياة










البريد الالكتروني: - ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯ ط§ظ„ط¥ظ„ظƒطھط±ظˆظ†ظٹ ط*ط°ظپ ظ…ظ† ظ‚ط¨ظ„ ط§ظ„ط¥ط¯ط§ط±ط© (ط؛ظٹط± ظ…ط³ظ…ظˆط* ط¨ظƒطھط§ط¨ط© ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯) - E-mail :
- ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯ ط§ظ„ط¥ظ„ظƒطھط±ظˆظ†ظٹ ط*ط°ظپ ظ…ظ† ظ‚ط¨ظ„ ط§ظ„ط¥ط¯ط§ط±ط© (ط؛ظٹط± ظ…ط³ظ…ظˆط* ط¨ظƒطھط§ط¨ط© ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯) -
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
https://www.awu-dam.org


qq
نجاة حالو





ســر الحــياة
قصص للفتيان





من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2016







((مجموعة قصصية للفتية
للأعمار ما بين 12-16 عام ))





الإهـــــــداء

إلى ضحكات أضاءت عتمة عثراتي
نورهان – المعتصم بالله – صلاح الدين
إلى برعم فتي يتطلع لشباب أكثر إشراقاً
إلى كل فتية وطني
أهدي سر الحياة

نجــاة







هل للعالم معنى يتجاوز حدود فهمي وأنا لاأعرف هذا المعنى؟


" الأديب العالمي ألبير كامو"




إن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم شيئاً
هناك شيئ ما في جوهر كل شيء لانستطيع أن نسميه التعلم
ليس هناك إلا المعرفة
وهي في كل مكان..


(الكاتب الألماني هرمان هسة)




ســـر الحياة


أصبح النوم المطلب الأكثر إلحاحاً لندى.. تطلبه فلا تجده..
وكلَّما ازدادت حاجتها إليه.. ازداد هرباً منها.. حتى أضحت خيالاً ضامراً. وبدأ توتر والدتها يتدرج إلى خوف حقيقي وهي تراقب انهيار صحة ابنتها وإصرارها على محاربة الطعام الذي بات همَّاً يومياً.
كانت تدرك بقلب الأم أن هذه الحالة التي وصلت إليها ابنتها لم تعد تحتمل السكوت.. إنها تقدر حزنها على جدتها التي انتقلت إلى الدار الآخرة منذ أكثر من شهر.. لكنها ترى أنه زاد عن الحد فقد حسبت في بادئ الأمر أن حزن ندى حالة عارضة.. تزول تلقائياً مع الأيام.. فكل هذا العمر الذي عاشته خلصت منه بحكمة جدتها هي الأخرى "الزمن كفيل بكل المشاعر" لكن ما بالها الأيام تطوي بعضها بعضاً وحزن ابنتها لا ينقص..؟؟.. وكأنه طفل غالٍ تحرص ندى على تنشئته وتكبيره.. القلق أصبح زاد الأم..
والحيرة عنوانها.. ماذا تفعل..؟؟ كيف يمكن أن تخرج ابنتها من اعتصامها.. ومن كآبتها.. قبل أن تصل إلى الانهيار العصبي..؟؟.
ما قالته لرياض ابنها الأصغر لم يجدِ نفعاً معها.. لقد اقتنع الصغير بأن جدته في رحلة إلى السماء.. وسنلتقي جميعاً بها بعد أن ننهي أعمالنا.. فكل ما تقوله الأم للصغير يصدقه باستسلام.. وليس الأمر بهذه السهولة بالنسبة لندى..
قالت لها يوماً.. يا بنتي الموت خاتمة الأشياء كلها.. ونحن نؤمن بعقيدتنا أن البعث حقيقة.. وأننا سنلتقي بمن نحب في السماء.. إن اجتزنا امتحان الحياة بنجاح..
لكن ندى استمرت تحدق بعينيها.. صامتة.. وبلا حركة.. ليس في عينيها سوى تلك النظرة التي تدل على الذهول والبلاهة.. حالها منذ اليوم الأول الذي رافقت فيه جدتها إلى مثواها الأخير..
حاول الأهل يومها تجنيبها هذا الموقف.. لكن أحداً لم ينجح حتى أنها انزلقت من بين الجميع ووقفت على مقربة من الحفرة تراقب الجدة وهي ترقد فيها.. وتراقب أباها الباكي وهو يهيل التراب عليها.. ورجال العائلة وهم يسوون سطح القبر ويغلقونه..
كل هذا نجحت برؤيته بصمت ثقيل.. وبعينين محروقة جافة.. لكنها لم تنجح في إسكات صوت عقلها.. الصارخ.. الرافض..
كان السؤال قد مات على شفتيها.. حتى حسب الجميع أنّها لاذت بالوعي واستكانت لمنطق الحياة.. لكن الحقيقة كانت شيئاً آخر..
فما إن وصلت إلى فراشها.. حتى غدا شوكاً يخزها.. لم تغسل الدموع عينيها كما غسلت أحزان أفراد الأسرة..!‍!
حاولت أن تجيب نفسها عن الأسئلة المحيرة التي أخذ عقلها يطلقها.. كانت أسئلة تتجاوز حدود عمرها.. ومعرفتها..
أخذت صورة الجدة الضاحكة دوماً.. والصامتة وهي في حفرتها تتداخلان في رأسها تداخلاً مضطرباً..
تارة تراها وهي تقف حاجزاً بينها وبين والديها لتحميها من عقاب مفروض وتارة تراها جثة هامدة ممددة في حفرة رطبة. التراب أرضها وجدرانها وسماؤها.. فتثقلها الحيرة.. وترهقها المقارنة بشكل هستيري.. خطر لها أن تتسلل خلسة وتأخذ معها مصباح بطارية تضعه في قبر الجدة لأنها تكره العتمة بشكل رهيب.. لكنها قدرت أن المصباح لن يعمل في هذه الحفرة الرطبة الخانقة..
خطر لها أن تذهب إلى حفار القبور وتطلب منه فتح نافذة صغيرة أسفل القبر.. حتى تبقى جدتها على اتصال مع العالم الخارجي فالجدة تحب الناس وتكره العزلة.. لكنها خشيت أن يطردها وينعتها بالجنون. يا الله.. كيف ستستطيع هذه الكائنة الوديعة.. الضاجة بالحياة أن تستكين لظلمة القبر ووحشة الوحدة..
عقلها الصغير.. لا يستطيع الإجابة عن سؤال كبير كهذا..!! يدرك الأبوان أن الصراع في رأس ابنتهما قد يقودها إلى الهاوية..
ويحاران فيما يفعلانه.. إنها لا تستجيب لأي مؤثر.. مهما كان قوياً.. استعانا بالأهل.. استعانا بالأصدقاء.. قال الطبيب: "إنها على وشك الانهيار.. حاولا إخراجها من عزلتها بأيَ ثمن".
كانا يفتعلان نقاشات حامية فيما بينهما على مسمع منها كلها تدور حول فكرة الحياة والموت.. والهدف من حياة الإنسان..
والحقيقة إنهما وكأي إنسان آخر.. كانا يجهلان الكثير.. حتى أن الصمت والنظرات المتسائلة كانا ينهيان أغلب نقاشاتهما.. استعانا بضرب الأمثلة.. عن الأشجار.. والطيور.. والحيوانات.. وكل هذا لم يحرك ساكناً بابنتهما.
وردت إلى ذهن الأم بعض الآيات القرآنية.. فردّدتها يوماً بصوت عالٍ وهي تريد لندى أن تسمع:"الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور"..
]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون..[.
وقبل أن تبدأ حوارها مع الأب حول الآيات الكريمة ارتفع صوت ندى.. نادباً: خلقنا للعبادة أم للدود يأكلنا ولوحشة الوحدة تفتتنا؟ وقبل أن ينبري أحد للإجابة أخذت تردد بهستيريا واضحة من طلب منه.. من أراد..؟ لماذا؟ لماذَا؟..
اندفعت الأم نحوها تريد تهدئتها.. لكن الأب أشار لها بيده لتتوقف. لجمت خوفها واضطرابها.. وأخذت تراقب ابنتها على حين قال الأب: دعيها تفرغ شحنة حزنها بثورة الغضب هذه فقد ترتاح بعدها.. وتعود إلى حالتها الطبيعية..
لكن بدلاً من الهدوء الذي يلي العاصفة.. كان ما حدث شيئاً آخر أخذت ندى تضرب صدرها بكلتا يديها وتترنح برأسها وهي تقول: لا أريد الموت.. لا أريد أن أدفن في حفرة متطاولة صغيرة.. لا أريد أن يأكلني الدود.. الحياة ظالمة.. أنتم قساة.. هذا الأمر شنيع.. لا أريد.. لا أريده.. اقترب الأب منها بهدوء.. وشدها إلى صدره وقد بدأت قوتها تتلاشى.. وهي أقرب إلى الوقوع أرضاً.
قال: وهو يغرس بصره بعينيها.. هذا رائع يا ابنتي.. رفضك للموت يعني أنك تريدين الحياة.. ومن يريد الحياة يجب أن يأكل ويشرب ويحياها.. سحبت جسدها الضئيل بتمرد..
قالت صارخة: لا.. لا أريد الحياة.. حاول الأب الاستنجاد بالأم التي جمعت نفسها وقالت: لا مجال للهرب من الاثنين معاً.. الحياة والموت ضدان لا يجتمعا عليك باختيار أحدهما..
باستسلام ضعيف قالت: أكره الموت.. أكرهه.. لا أريده. مسحت الأم رأس ابنتها بحنان بالغ.. قالت وهي تضم وجهها بكلتا يديها.. حسناً يا صغيرتي.. الأحياء جميعاً يكرهون الموت ويريدون الحياة لذلك ترينهم يعملون على أن يحيوها.. يأكلون.. يشربون.. يتزاورون... يتزاوجون.. كل ما يفعله الكائن الحي هو نتيجة حبه للحياة وكرهه للموت.
تابع الأب وقد بدأ يشعر أن ابنته تعود إلى طبيعتها شيئاً فشيئاً يا بنتي يجب أن تعلمي أن الموت هو ابن الحياة كما هي ابنته..
لولا الموت لما كانت الحياة نظرت إليه بحيرة.. لاقتها حيرة الأم.. سألت: كيف..؟
بدا للأبوين أن أي شرح قد يزيد الأمر سوءاً وأن الأب تورط بجملة لا يعرفان كيف يفسرانها..
إنهما بهذا العمر.. ولا زالت الحياة لهما لغزاً يصعب تفسيره..
قفزت إلى ذهن الأب فكرة حلوة.. قال بحماسة: ما رأيك برحلة قريبة.. أريك فيها كيف تنبثق الحياة من الموت؟ تلقى نظرات الأم المتسائلة.. فابتسم وهو يتابع.. في مزرعة عمي حيث تتوافر أشجار التوت الرائعة.. تقوم بعض النسوة بتربية دود القز. سترين على أرض الواقع.. دليل ما قلت.
في الصباح.. حمل الأبوان ندى.. وأدخلاها السيارة رغم ممانعتها. كان الأوان.. أواخر فصل الربيع.. والهواء لا زال رطباً.. عليلاً في المزرعة التي لا يجهل صاحبها حالة ندى صحبها إلى حيث يجلس رجل مسنّ أمام وعاء كبير فيه ماء يغلي فوق موقد مشتعل.. وبيده عصا خشنة.. يحرك بها الماء. في الماء المغلي كانت شرانق دودة القز تتعلق خيوطاً ناعمة على العصا الخشبية.. نظرت ندى بصمت حزين.. وانبرى العم للشرح.. إنك لا تجهلين شكل دودة القز يا ندى.. أجابت بصوت ضعيف: رأيتها أكثر من مرة.. فوق شجرة التوت. قال بحماسة: وأنت تعرفين أيضاً أنها بعد عشرين يوماً من ولادتها تبدأ تصنع الشرنقة حول نفسها قالت: أذكر مرة أني شاهدت العاملات يحملن أوراق التوت ويقطعنها قطعاً صغيرة لتكون طعاماً لها..
قال: رائع أنت طالبة لا تنسي شيئاً.. إننا نربي دودة القز بأعداد كبيرة في غرف خشبية صغيرة ونضع لها طعامها المكون من ورق التوت حصراً.. حتى تكبر وتبدأ تصنع الشرنقة.. عندها نكف عن إطعامها ونبدأ ننتظر.
وما إن تنهي الدودة سجن نفسها في شرنقتها.. حتى نُسرع إلى استخلاص خيوط الحرير بالطريقة التي ترينها أمام عينيك الآن..
نظرت ندى بتساؤل.. وما دخل انبثاق الحياة من الموت في هذا يا أبي.
قال الأب: تعرفين الآن أن دودة القز رغم حبها للحياة ونهمها للأكل هي من تصنع كفنها بنفسها..
لا شك في أنك تعلمين أيضاً أن الإسراع في إلقائها بالماء الساخن هو سبقاً للزمن حتى لا تثقب شرنقتها وتصبح فراشة تطير..
إن كفنها.. أو قبرها بالأحرى ما هو إلا فترة قصيرة يتم تحويلها في داخله.. من دودة بطيئة الحركة لا عمل لها سوى أكل أوراق التوت بنهم إلى فراشة طائرة تحلق في الفضاء الرحب.. وبعد أن كان مسكنها طاقة خشبية صغيرة أو على أحسن الأحوال شجرة توت ملتصقة عليها.. أصبح فضاءً لا تحده حدود..
أترين كم هي ذكية هذه الدودة التي تحيك قبرها لتنبعث منه نحو الضوء والحرية المطلقة هكذا هي الروح المسجونة في جسد.. إن عملت صالحاً..
صرخت ندى: لكنكم تخنقونها بالماء.. قبل أن تتحرر.. لتصنعوا منها خيوطاً تافهة..
تدخل العم: الحرير ليس خيوطاً تافهة يا ابنتي.. إنه من أغلى أنواع الخيوط على الإطلاق.
رددت بحزن.. أعلم.. أعلم.. أن الإنسان كائن جشع.. يتطفل على حياة الكائنات لمصلحته..
ضحك العم بصوت مرتفع: ما ترينه أنت تطفلاً وجشعاً يا صغيرتي نراه نحن وسيلة لكسب العيش حتى تستمر حياتنا التي نحرص عليها "بكرامة" وهذا مطلب مشروع للإنسان على ما أعتقد أم أني مخطئ؟؟ لم تجب.. أخذت الأفكار تتزاحم برأسها وهي تحاول تجميع الصور المتناقضة: غرفة جدتها –التي كانت أكبر غرفة في المنزل- مع هذا كانت تردد: افتحوا الأبواب والنوافذ.. لا تدعونا نختنق. القبر العاتم الذي يحوي جثتها.. دودة القز الزاحفة على ورقة توت.. النعش الذي تحيكه لتنطلق منه فراشة نحو النور..
جدتها وهي تثقب القبر وتنطلق فراشة هي الأخرى.. الإنسان المتطفل الذي يقتل مشروع الفراشة ليحصل على خيوط يحيك بها ثياباً.. هذا القاتل.. هو نفسه من يبحث عن وسيلة للعيش تضمن استمرار حياته وحياة أسرته..
تُرى لو أدركت هذه الدودة أنها ستصبح خيوطاً وقماشاً هل كانت دخلت قبرها طواعية..؟؟
من يدري..؟ ربما كانت تدرك وهي تفعل ذلك عن رضى لتصنع من نهاية حياتها شيئاً مفيداً.
كما الشجرة التي تعطي طوال حياتها وفي النهاية تصبح أبواباً ونوافذ أو حطباً للتدفئة.. والوقود..
إنها النهاية الواحدة لكل ما على الأرض.. لكل دور يجب أن يؤديه مهما تكررت المراحل.. كانت الصور تتضارب وتتصارع في الرأس الصغير مما جعل حاملته تقع مغشياً عليها..
لكنها عندما استفاقت كانت تشعر بشيء من الهدوء حتى أنها طلبت بنفسها الطعام..
وكان في الطعام الطازج الذي حُضّر في مزرعة العم عسلٌ من صنع نحلة أرادته غذاءً لملكتها.. وبيضاً من دجاجة أرادته أن يكون صوصاً تحتضنه.. وحليباً من غنمة كانت تضن به غذاءً لوليدها.. أكلت ندى راضية.. وبدت أكثر هدوءً واستسلاماً. إنها الحياة التي بدأت تدرك شيئاً من أسرارها.
‹‹‹








الماس العجيب


في أرض باقر الخاوية حيث الأراضي كلها بركانية نشطة كان الناس يخشون الاقتراب منها خوفاً من ثورة البراكين الدائمة. غير أنه ثمة منزل وحيد متواضع تم إعماره على الطرف الجنوبي للنهر المنحدر أسفل الصخور البركانية المنصهرة.
كان يشغله شاب باحث في علوم الأرض والأحياء وبرفقته أمه وأخته الشابة الجميلة.. التي شكلت عائقاً لا بأس به أثناء طرحه فكرة الانتقال إلى تلك المنطقة..

فقد كانت من النوع الذي لا يثير انتباهه غير توافه الأمور وقشور المادة لكن الأم أقنعتها خوفاً من ترك معيل الأسرة وحيداً وسط مفاجآت الطبيعة ومخاطرها فأذعنت مرغمة وحزينة على ترك حياة المدينة والأصدقاء.. لا حباً بالصداقة ولا حسرة على ما تقدمه من غنىً للنفس والروح.. بل لأنها فقدت متعة المباهاة بالجمال على أقرانها وأترابها. وذات يوم ضبابي خرج الشاب كعادته في الصباح الباكر مستطلعاً وباحثاً.. اقترب من منطقة اللابات() الساخنة بحذر وأخذ يحدق إليها.. خطر لـه أن يمدّ إحدى قدميه ليلامسها.. ولكنه بحكنة الدارس أخذ حجراً وقذفه أولاً ولشد ما كانت دهشته عظيمة.. حيث تشكلت دوائر حول الحجر وانطلقت أبخرة وغازات تدل على الغليان ثم غاص الحجر ضمن تلك الدوائر دون أن يترك أثراً على السطح..
رمى عصام حجراً ثانياً وثالثاً.. وأخذ يراقب.. كانت النتيجة نفسها في أي مكان يصل إليه الحجر.. تتشكل دوائر كالتي يصنعها أثناء قذفه في المياه الساكنة ومن ثم تغلي الأرض وتنطلق أبخرة وبعدها يغوص الحجر إلى أسفل.
حمد عصام الله لأن حبَّ الاستطلاع عنده لم يدفعه إلى المغامرة ووضع قدمه على اللابات.. وإلا كان مصيره.. مصير الحجر المختفي. أخذ يحدق إلى ما حولـه برويّة والفجر ما زال يرسل خيوطه المضيئة إلى المنطقة، فجأة سمع صوتاً هادراً جعله يرتجف بعض الشيء.. ويقبع في مكانه ساكناً منتظراً.. حتى لمح حيواناً هائلاً يشبه التنين الضخم إلا أن ذيله كان أطول ورأسه بقرنين صغيرين..
أخذ يراقب الحيوان بحذر ودهشة.. إذ كيف يستطيع هذا الحيوان الضخم السير فوق الطف البركاني على حين لم يثبت الحجر الصغير سوى ثوانٍ قليلة.. كيف لم يحترق أو ينصهر؟
تابع النظر بدقة.. كان هذا الحيوان يتألم تألم الأنثى أثناء الوضع إنه أنثى حيوان إذاً.. وهي تضع وليدها فوق هذه الصخور الهشة اللاهبة وما أن انتهت عملية الولادة وما رافقها من آلام وصرخات هذا الكائن الغريب حتى شاهد عصام.. الوليد.. كان كائناً صغير الحجم بالقياس إلى أمه.. أشبه بالسلحفاة وضعتها الأم فوق اللابة الحارة.. وانصرفت..
أراد عصام الاقتراب والإمساك بها.. لكنه تذكر مصير الحجر.. فتراجع بخوف والدهشة لا تزال تأخذه إلى معاقلها..
كان مصير الوليد.. نفس مصير الحجر الذي رمى به سابقاً.. سرعان ما فارت اللابة.. وشكلت دوائر مترافقة مع أبخرة وغازات غاص على أثرها الوليد الأشبه بالسلحفاة إلى حيث لا يعلم.
كيف ابتلع الطف البركاني الوليد..؟ ولم يبتلع أمه ذات الحجم الأكبر..؟ ما سر هذا الكائن العجيب..؟
كان عصام يحدث نفسه بصوت مسموع: أعرف أن كل الكائنات الحية مهما كانت عظيمة أو دونية.. تبحث عن استمراريتها في أولادها.. لذا تقوم بالتكاثر في الأماكن الأكثر أماناً حفظاً لسلامتهم.
فما بال هذا الكائن اللغز.. يضع وليده في أكثر الأماكن خطورة حيث تبتلعه الحمم البركانية..
إنه لشيء مثير للدهشة..! ما فائدة التكاثر لـه إذاً..؟ لعمري هذا شيء مخالف لقانون الطبيعة في حرص أحيائها على استمرار نسلهم. كانت هذه الأسئلة المحيرة والأفكار المضطربة رفيقة عصام في عودته إلى منزله فبدا كأنه غير راغب بالعودة وأخذ يسير بطرق ملتوية..
كان يردد: ليتني استطعت ملامسة هذا الكائن الوليد ولو لحظة.. ليتني أستطيع أن أعرف شيئاً واحداً عنه..
وصل في سيره المضطرب إلى الطرف الآخر للنهر الذي يربض منزله على ضفته الثانية.
أخذ يضرب المياه الساخنة بطرف قدمه.. وإذ بها تتعثر بشيء ما.. انحنى على الأرض.. أزاح الرمال بيديه..
يا الله.. إنه الوليد نفسه الذي ابتلعته الحمم البركانية قبل قليل..!! أو لعله شيء شبيه به.. التقطه بيديه بحنو ورقّة.. إنه كائن كثير الشبه بالسلحفاة..
شعر وكأنه عثر على كنز لا يقدَّر بثمن.. حمله.. وأخذ يسير مسرعاً باتجاه البيت.. لقد تدخل القدر.. ومنحه فرصة نادرة لإجراء بحث جديد.. لم يسبقه إليه أحد.
كان بين اللحظة والأخرى يقف ويرفع الحيوان الصغير باتجاه وجهه متفرساً.. إنه كائن وديع.. يخفي رأسه في الصندوق المشابه لصندوق السلحفاة.. لكن عندما يظهره مستطلعاً، كان يشبه إلى حد كبير رأس ذلك الحيوان الذي رآه منذ قليل متلبساً بحالة ولادة.. مما زاد في يقينه أنه الكائن نفسه الذي تمت ولادته فوق اللابة الساخنة.
بدا الأمر الآن أكثر إقناعاً للعقل من قبل.. إنها الحالة الطبيعية للتكاثر.. الأم تضعه في المنطقة التي يعتقد الرائي إنها خطرة.. ليتم تشكيله في مرحلة ثانية ويخرج من منطقة أكثر أماناً..
لكن كيف؟ ولماذا؟ وما هو السر؟ أسئلة محيرة كثيرة بحاجة إلى إجابة وعصام يعتقد في نفسه القدرة على البحث والدراسة والصبر لحل هذا اللغز الغريب.
صرخت دلال أخت عصام عندما رأته يحمل الحيوان الصغيرة بيديه: "كان ناقص حيوانات قذرة في البيت..! ألا تدري أن السلحفاة قذرة وتحتاج لعناية فائقة بها..".
ابتسم عصام: إنها ليست سلحفاة.. إنها شبيهة بها كثيراً.. لكنها ليست سلحفاة.. فلا هذا هو شكل رأسها، ولا هذه هي طريقة ولادتها.
لم يأبه عصام لاستنكارها وضع الحيوان ريثما يتم تأمين طعامه، ليتمكن من استمرار الحياة حتى يقوم بإجراء تجارب عليه وحل لغزه الصعب.. في تلك الأثناء دخلت الأم مسرعة غرفة ابنها استجابة لطلب ابنتها فتعثرت بالحيوان المندهش وكادت تقع أرضاً..
حمل عصام السلحفاة الغريبة وقال يمازح والدته: سأضربها كرمى لك لأنها كادت توقعك.. وبدأ يضرب السلحفاة ضرباً ناعماً على ظهرها.. ولشد ما كانت دهشة الجميع بالغة.
عندما خرجت من جوف السلحفاة قطعة حجر لامعة.. أحدث سقوطها على الأرض صوتاً أشبه بصوت الزجاج عند ارتطامه بالأرض..!
التقط عصام الحجر بدهشة وتفحصه بدقة.. ثم صرخ فرحاً.. إنه ماس حقيقي.. ماس بحاجة إلى قليل من الصقل لتبرز قيمته الرائعة..
قالت أمه: أعرف أن الماس يستخرج من الأرض وأنه تبلور قسري للبقايا المتفحمة في باطن الأرض خلال مئات السنين.. ولم أسمع يوماً أن الماس يمكن أن يخرج من فم أو مؤخرة أي كائن حي.. قد يكون لؤلؤاً.. أو شيئاً شبيهاً به..
عاود عصام تفحص الحجر، ثم قال بيقين: إنه ماس.. أنا أعرفه جيداً.
ثم إنه ضرب السلحفاة المدهشة بلطف مرة ثانية على ظهرها.. وإذ بحبة أخرى من الماس تسقط منها..
كرر الضرب ثالثة.. ورابعة.. وفي كل مرة كانت تخرج حبة مماثلة للأولى في القساوة واللمعان..
رقصت الأم.. وارتفع صوت الأخت بالتهليل..: "لقد ودعنا الفقر إلى الأبد.. سنعود إلى مدينتنا.. ونبتاع فيلاً كبيرة.. وسيارة ومصيف على البحر.. وعلى الجبال.. و وَ.."
قاطعها عصام: مهلاً هل جننتِ؟ من أين كل هذا..؟
قالت: "يا غشيم من هذه الماسات..".
قال عصام بسخرية: أربع ماسات صغيرة ستحقق كل أحلام دلال دفعة واحدة..؟
قالت دلال بيقين: "يا أحمق.. حيوانك هذا منجم ماس" ثم مدت يدها لتخطف السلحفاة.. على حين ابتعد بها عصام وهو يتوعد: "إيَّاكِ يا دلال ضربها ثانية.. ألا ترين كم تتألم رغم نعومة ضرباتي..".
دعيها اليوم لنبحث عما نطعمها إيّاه وفي الغد نرى ما يمكن فعله.. ابتلعت دلال ريقها بغضب.. وهي تقول: أخي يعشق الفقر.
وانشغل عصام مع والدته في إحضار قشور الخيار والخس.. طعام السلحفاة المعتاد لكنها رغبت عنه مما زاد في حيرتهما..
كانت تنظر إلى عصام بتوسل.. وكأنها ترجو أن لا يعاود الضرب.
في اليوم التالي.. ترك عصام السلحفاة مع ماسَّاتها في غرفته وانطلق باكراً إلى الشاطئ الذي وجدها عليه.. يبحث في طيّاته.. عما يمكن أن يكون طعاماً تقبل تناوله وهو يحدث نفسه: "إن الخالق الذي استخلصها من وسط الحمم الحارة إلى الشاطئ الساكن.. لا بد أن يكون قد أتى بها إلى المكان الذي تستطيع العيش فيه وتأمين طعامها".
هكذا تستقيم الأمور في منطق أكثر. تسللت الأم إلى غرفة ابنها بعد مغادرته لها وأخذت تتفحص الحيوان الشبيه بالسلحفاة.. أعادت عرض المياه والخس.. والخيار عليه.. دون فائدة.. أمسكت به وأخذت تضربه بنعومة كما فعل ولدها..
لم يسقط منه شيء.. عاودت الكرة بعنف أكثر.. فندّت عنه صرخة ألم مما جعل الأم ترتعش وتعيده إلى الأرض..
إنها امرأة حكيمة.. علمتها الحياة.. الكثير.. أيقنت في داخلها أن ما تهبه السلحفاة لابنها.. لن تهبه لآخر أبداً.. لأنه الكائن الأول الذي التقطها بعد الولادة.. وحملها بعطف.. وحب.
تركت الحيوان على الأرض بعد أن أغلقت الباب وعادت إلى مطبخها وهي تدعو لابنها بالتوفيق في أبحاثه..
حين استيقظت دلال.. أسرعت إلى غرفة أخيها.. التقطت الماسات الأربع ووضعتها في جيبها.. ثم حملت السلحفاة بقسوة وأخذت تضربها كما فعل أخوها..
وعندما لم تخرج السلحفاة شيئاً.. ثارت ثائرتها.. واشتد غضبها فأكثرت من الضرب والركل.. وكلما صدر عن السلحفاة ما يشبه الأنين.. ازداد غضب دلال.. وازدادت قسوتها على الحيوان الصغير.. حتى أنها أحضرت عصا غليظة وضربتها على ظهرها.. ولدهشة دلال أخرجت السلحفاة من باطنها مواد كريهة الرائحة جداً لا تحتمل.. ثم همدت حركتها..
رمتها أرضاً.. وخرجت هاربة من الغرفة.. والاصفرار يعلو وجهها.
حضرت الأم مسرعة على صوت الجلبة وانبعاث الرائحة الكريهة من غرفة ابنها.. وفهمت للتوِّ ما حصل.. التفتت إلى ابنتها بتأنيب تعرف أن أوانه قد فات.
وقالت معاتبة: ضيعت ثمرة تعب أخيك..
كان الندم الذي لا يجدي نفعاً قد أخذ من نفس دلال الكثير وهي قابعة في غرفتها.. حزينة تنتظر عودة عصام..
في الوقت الذي كان فيه عصام قرب النهر.. باحثاً عن شيء ما يخدمه في إطعام السلحفاة..
فجأة سمع صرخة عظيمة.. كان الصوت نفسه الذي سمعه بالأمس عندما شاهد الحيوان الضخم في حالة ولادة..
ربض ساكناً خلف إحدى الشجيرات يراقب ما يكون من أمر هذا الكائن، كانت هذه الأنثى تبحث على أطراف الشاطئ.. عن شيء مفقود.. وتضرب بذيلها الطويل.. يمنة ويسرة.. والنار تقفز من عينيها الغاضبتين..
لا بد أنها تبحث عن وليدها.. من رنة صوتها الضخم.. الحزين.. عرف عصام أن الوليد لا يمكن أن يعيش دون أمه..
عرف ذلك من القطرات التي تشبه اللبن الخاثر التي كانت تتساقط من صدر الأم.. ومن القطرات النارية التي تسقط إثره من عينيها الحزينتين..
يا لروعة الخلق.. إنها أم تبكي على إرضاع طفلها.. يبدو أنها تضعه على اللابة ليتشكل شيء ما.. في داخله.. وتنتظر خروجه من حيث تعلم على طرف النهر لتلتقطه وترضعه كأي أم..
يا لها من أم ثكلى ويا لتعاسة ذاك الوليد بعيداً عمن تضمن استمرار حياته.. لكن لا.. سأعود إلى المنزل وأعيده إلى الشاطئ.. حيث ينعم بالقرب من أمه.. لن أحرمه أجمل شعور في الوجود..
لقد أعطاني الكثير كوني حملته بحب ولطف.. ولا بد أن يعطيني أكثر إن أحضرته ليحيا الحياة الطبيعية في حضن الأم المسكينة.. كان هذا ما يحدث عصام به نفسه، وهو يسرع الخطا باتجاه منزلـه وما إن وصل إلى البيت حتى اندفع باتجاه والدته يشرح لها ما توصل إليه بشأن الوليد وأمه.. دون أن ينتبه إلى الحزن الرابض في عيني والدته وإلى شدة انبعاث الرائحة الكريهة من غرفته. لكن أمه.. ما إن سمعت بتحليل ابنها وخوفه على الأم من الحزن على وليدها حتى انفلتت بالبكاء.. عندها فقط اشتمَّ عصام الرائحة الكريهة..
أسرع إلى غرفته وقد حدّثه قلبه بالخوف.. وما إن شاهد السلحفاة مسجاة على ظهرها ولم يجد أثراً للماسات حتى خمّن ما حدث..
قال بصوت يشبه العويل: متى تتخلص أختي من جشعها وغبائها؟ وأخذ يمسح دمعة انفلتت رغماً عنه.
حمل السلحفاة أو شبيهتها الميتة.. ووضعها على الشاطئ.. وجلس قريباً منها والحزن يأكل قلبه..
في اليوم التالي عاد الحيوان الضخم يبحث بصوت حزين وما إن شاهد الوليد ميتاً حتى أخذ يطلق حمماً ملتهبة (أحرقت الأشجار النامية على ضفة النهر) ويصدر أصواتاً مرعبة.. وحزينة بآن واحد..
ابتعد عصام هلعاً: وعاد مسرعاً إلى منزله.
قالت الأم مواسية: كل شيء في الدنيا قدر مرسوم.. لا تجزع كثيراً..
قال بهمس باكٍ: المصيبة أن الأغبياء والطمّاعين هم مَنْ يصنعون قدرنا.
أجابت محفزّة: حاول العودة ثانية إلى المكان الذي وجدتها تضع وليدها فيه قد يسعفك الحظ بحيوان ثانٍ.. تكون أقدر على التعامل معه في المرة القادمة..
بيأس قال: تعرفين أن زمن التكاثر عند بعض الكائنات يكون طويلاً وبعضها يتوالد لمرة واحدة..
وأنتِ تعرفين أيضاً أن بعض الثديات إن حزنت على ولدها الأول لا تنجب بعده أبداً..
تمتمت الأم بحزن: يحدث هذا أحياناً عند أنثى البشر..
أردف عصام: لِمَ لا تكون هذه حالها هي أيضاً.. إنني لم أرَ طوال حياتي أو أسمع عن حيوان شبيه.. وهذا يعني ندرة نوعها وبالتالي يعني صعوبة أو ندرة تكاثرها..
لم يكن عصام بعد هذا الحوار بحاجة إلى تأكيد أمه.. إنه باحث.. والباحث الجيد لا يعرف اليأس.. إنه يعرف أن البحث بحد ذاته علم تفوق قيمته قيمة الماس الذي فقده..
تذكر عندها الماسات الأربع.. سأل أخته.. التي قفزت ناسية حزنها.. ورددت: أجل الماس.. الماس.. إنه ثروة.. إن وعدتني بالعودة إلى المدينة.. أحضرت الماسات. رفض عصام إعطاء الوعد.. فعمله وأبحاثه أهم وأثمن.
واستنفدت الأم أعصابها وهي تحاول ترويض عناد ابنتها.
أخيراً أعطت وعداً مشروطاً.. بعودتها إلى الدراسة والعلم مثل أخيها..
عندها أخرجت دلال الماسات.
ولشد ما كانت دهشتها عظيمة.. كانت الماسات كامدة.. لا بريق لها. نظر الأخ بألم وسأل: أين كانت هذه الماسات يا دلال؟
قالت بدهشة: في غرفتي.. تحت وسادتي!..
صرخ بغضب: أيتها الغبية إنها من النوع الذي يحتاج للضوء أثناء اكتمال التبلور ليستمر تألقه وبريقه إلى الأبد.
اندفعت بما يشبه البكاء: ماذا يعني هذا.. هل فقدت الماسات قيمتها لأني خبأتها فوراً.. ورمت بها أرضاً.
ردّ بصبر العالم وحلمه.. وهو يلتقط الماسات: تبقى قيمتها بالذكرى وبتلقينك درساً يجب أن لا تنسيه ما حييت.. أشاحت دلال بوجهها باكية وهي تردد: لن أتدخل فيما لا أفقه بعد الآن.. لن أتسرع..
قاطعتها الأم: المهم أن تتخلصي من الجشع..
ومنذ ذاك اليوم ودلال تقضي يومها بين اللابات المنصهرة.. ترمي حجراً وتسرع إلى الطرف الثاني للنهر علها تلتقط شيئاً ما..
فلا تجد غير أباريق مكسورة وبقايا أواني قديمة وحصى متنوعة الألوان تقذف بها المياه إلى الشاطئ..
والأعوام تمر.. دون أن يعود ذلك الحيوان الغريب للظهور ثانية.

17/9/2016

???




صانع الأعاجيب


في قرية صغيرة هادئة يحب أهلها بعضهم بعضاً ظهر فجأة رجل سيرك غريب الشكل والأطوار.
كان شكله من الأعلى يشبه كافة المهرجين بلباسهم الأحمر المرقع وبوجوههم المطلية بالمساحيق البيضاء، وأنوفهم الحمراء الكبيرة، وأفواههم الضاحكة الواسعة.
لكن قسمه الأسفل كان مختلفاً تماماً عن أي كائن عادي.. كان أشبه بحصادة.
سرواله الأحمر يشبه سراويل المهرجين.. لكنه بثمانية أقدام بدلاً من قدمي البشر الاثنتين، ومن بين كل قدم تمتد آلة تشبه المقصلة يجرها بسهولة ويسر. مما أثار استغراب الجميع.
لم يسبق ظهوره أية دعاية أو إعلان عن مهرجان.. أو سيرك.. ولم يحمل يوماً بوقا لينادي به الناس!!.
اجتمع أطفال القرية حولـه أولاً. يدفعهم الفضول لاستكشاف هذا الكائن الغريب.. لكن أحداً منهم لم يجرؤ على الاقتراب منه.
وهو لم يوزع وعوداً بعروض ممتعة.
كان فقط يبتسم في وجه الأطفال بلطف ويقول بهدوء من يعطيني يده.. أعطه مبلغاً كبيراً من المال ثمناً لها.
فيبتعد الأطفال خائفين مذعورين..
سمع حكماء القرية وكبار السن فيها بهذا المهرج الغريب وتدارسوا أمره..
قال كبيرهم: لا بد أنه كائن فضائي من كوكب آخر.. يجب إبلاغ الشرطة.
وقال المختار: قد يكون لصاً متنكراً يريد سرقة خيرات القرية، فلنراقبه جيداً قبل إبلاغ المخفر.
وقال وجهاء القرية: إنه معتوه.. من يمكن أن يستغني عن يده مقابل كنوز الأرض..؟ وابتدأ الجميع بالمراقبة الحذرة.
لم يمضِ يومان حتى شاهد أهل القرية. أبا عبدو صاحب البقالية الوحيدة في القرية.. بيد مقطوعة. وعندما سألوه.. ابتسم بترفع وقال غداً سأشتري سيارة وخادماً فتصبح لي ثلاثة أيد بدلاً من اليد الواحدة.
وبعد يوم واحد شاهدوا أبا سليم سمسار الأراضي بيد واحدة.
سألوه باستنكار فأجاب بتعالٍ: غداً سأشتري الأراضي الخصبة. وستكون عندي مائة يد بدلاً من اليد الواحدة.
مساء اليوم ذاته.. كان أبو جلال مساعد رئيس المخفر يمشي بيد واحدة. قال بلا سؤال.. سأرتاح من أوامر رئيس المخفر سأستقيل وأشتري دكاناً وأرضاً.
كانت المقاصل البارزة من بين أقدام المهرج تمتلئ يوماً بعد يوم برائحة الدم وآثاره.
ولا أحد يعرف ما الذي يفعله المهرج الغريب بهذه الأيدي. ولا بأي شيء يمكن أن تفيده.
لم يمضِ شهر واحد إلا وأغلب سكان القرية قد فقدوا أيديهم. ولا أحد يقبل أن يبيع أرضه أو دكانه لأن كلاً منهم أصبح يملك المال بالقدر ذاته.. عمت الفوضى القرية الهادئة وحل التعالي محل الطيبة والمحبة في التعامل بين الأهالي..
لم ينج من ذلك سوى مختار القرية، وبعض كبار السن الذين اجتمعوا للتدارس ولمحاولة إيجاد حل للمشكلة فأبو عبدو السمان لم يستطع أن يشتري خادماً فلا أحد يريد أن يخدم وهو يملك المال...
وأبو سليم سمسار الأراضي لم يجد من يبيعه أرضاً لأن الجميع يريدون الأراضي ويريدون الخدم فيها.
أبو جلال بعد أن قدم استقالته لم يجد من يساعده في شراء ما يريد ولم يستطع العودة إلى وظيفته وليس بمقدوره العمل عند أحد.. كارثة حقيقية حلت بالقرية الهادئة.
قال المختار: الحل يجب أن يكون عند هذا الغريب الذي سمحنا لـه بقطع أيدينا ذهبوا إليه والشرر يتطاير من أعينهم.. قالوا بحدة وحزم: سممت حياتنا.. أنت من يجب أن يجد الحل!
قال بهدوء: أنا لم أجبر أحداً.
قالوا: صدقت ولكنك أغويت الجميع ومن يغوِ يكن شيطاناً..؟
ضحك ضحكة مجلجلة.. وقال عندي الحل: اجمعوا المال الذي أخذتموه مني وأعيدوه لي وأنا أعيد لكم أيديكم.. وتعود قريتكم إلى حالها السابق من الهدوء والمحبة.
قالوا: أتقسم على أن تعيد الحال إلى سابق عهدها.
قال: أقسم أن أعيد الأيدي.. وأنتم وظيفتكم أن تعيدوا الأمور كما كانت.
تدارس الحكماء الأمر ثم قالوا: سنجبر الجميع على إعادة المال ومن يرفض نطرده خارج القرية. وبعد أخذ ورد ونقاشات حامية وخلافات حادة..
أجبر الحكماء الأهالي على إعادة المال بكامله إذ لا أحد استطاع الاستفادة منه.. جمعوا الأموال وذهبوا إلى المهرج..
قال بثقة: أمهلتكم شهراً لإعادة الأموال.. أمهلوني يوماً واحداً لأعيد الأيدي.
قال المختار: ومن يضمن لنا عدم كذبك وهربك بالأموال.
ضحك المهرج وقال: لست من البشر لأكذب مثلهم..
ومع نظرات الاستغراب التي تبادلها الوفد لم يملكوا إلا الموافقة فليس أما مهم من خيار..
قال بثقة: غداً في مثل هذا الموعد والمكان لنا لقاء.
في اليوم الثاني اجتمع أهل القرية جميعاً في الموعد والمكان المحددين ليروا صانع الأعاجيب كيف يعيد الأيدي إلى أصحابها.
كانت الأيدي المقطوعة مكومة بعضها فوق بعض.
وفوق الكومة لافتة كبيرة كتب عليها لم أكذب.. وفيت بالوعد.. لكن لكثرة الأيدي واجهتني مشكلة صغيرة.. لم أعرف كل يد لمن تعود..!
بإمكانكم حل هذه المشكلة بأنفسكم.. وداعاً..؟
اختفى الغريب مثلما ظهر فجأة.. واختفت معه أمواله وكانت كومة الأيدي ملقاة على الأرض أشبه بالهياكل العظمية. ملأت الدموع أعين أهل القرية.. من يستطيع أن يصلح ما انكسر؟ من يستطيع صنع المعجزات؟ لم يعد أحد يملك المال الذي يجعله متعالياً على جاره..
لم يعد أحد قادراً على الخدمة في أرضه أو أرض غيره، فمن يستطيع العمل بيد واحدة.. إنها غالباً ما تكون عاجزة دون مساعدة أختها.. الثانية التي خلقها الله لهذا الغرض.

سورية – حمص – 3/6/2016.






عندما أبتلع غضبي لا يعني هذا أني أصبحت هادئة
فأنا أطبخ ثورتي على نار اللحظة المناسبة


(نجاة)




الصديقــان


وقع الثعلب يوماً في فخ منصوب.. لم يكن منتبهاً لوجوده..
فأخذ يصرخ ويستغيث.. ولحسن حظه توافق وقوعه مع مرور ذئب في اللحظة ذاتها..
الثعلب: أرجوك يا أخي.. أنقذني.
ضحك الذئب: هل سمعت يوماً عن ذئب يمد يد العون لثعلب؟
الثعلب: كلنا أبناء الغابة.. وأولاد الغابة أخوه ولا شك.
الذئب: قانون الغابة لا يحتمل الأخوة.. إنه قانون القوة والتفرد بها.
الثعلب: يا أخي.. أنا في محنة.. وأقسم لك بكل مقدساتي إني سأرد صنيعك بأفضل منه.. وسأكون نعم الأخ والصديق.
صمت الذئب فترة متفرّساً في الثعلب وفجأة قال وهو يضحك:
-أعجبتني كلمة صديق هذه..! هل تقسم على أن تكون صديقاً وفيَّاً مؤثراً لصديقك على نفسك؟
-أقسم باللحم الطري الذي أكلت.. وبالدماء القانية التي شربت على أن أكون نِعمَ الصديق.. وستراني وقت المحنة والضيق.
عالج الذئب الفخ بأنيابه ومخالبه وساعد الثعلب على الخروج من محنته ثم مدَّ لـه يده القوية لتصافح يد الثعلب الجريحة..
كانت ضعيفة وقد شعر الذئب بذلك فضحك في سرّه سعيداً.
سارا متجاورين.. وفي كل خطوة كانا يرسمان قوانين الصداقة وأصولها.
الثعلب: الصديقان متساويان في الحقوق والواجبات..
-ونحن سنكون كذلك.
الثعلب: والصديق لا يخفي سرّاً عن صديقه ويؤثره على نفسه.
-لن أخفي سرّاً وستكون عندي قبل نفسي.
الثعلب: صديقي مَنْ يقاسمني همومي.. ويرمي بالعداوة مَنْ رماني.
-وأنا سأحمل همومك عنك.. وسأكون مخلبك الضارب في قلب أعداؤك.
-اتفقنا..؟
-اتفقنا على بركة الغابة وقوانينها..!
وبعد أن صاغا قانون اتفاقهما.. افترقا.. متصافحين.. متعاهدين، وقد فرح الذئب مرة ثانية عندما لامس يد الثعلب الجريحة..
كان ملك الغابة في ذلك الوقت يعاني من مرض نفسي فقد هجرته أنثاه وهو يحاول جمع شتات نفسه والسيطرة على الغابة من جديد.. لكنه وحتى لا يشعر أحد بضعفه كان يعمل على إرضاء الجميع ليضمن انتخابهم لـه في دورة تشريعية ثانية..
ذهب الذئب إليه.. قال: يا ملك الغابة! لقد أنقذت الثعلب من فخ كان الموت فيه محتماً وقد طلب صداقتي مقابل ذلك..
ضحك الأسد: ذئب وثعلب صديقان..
يا للعجب.. مستحيل.. لكن حسناً وليرحم الله أبناء الغابة..
ذهب الثعلب إليه وقال: أنقذت الذئب من محنة نفسية حقيقية كان يعاني من الإحباط والملل.. لذا عرضت عليه صداقتي متنازلاً عن كل الفروق التي بيننا.. فما رأيك..؟
قال الأسد بوقار: هنيئاً لك تواضعك أيُّها الثعلب (وبسره قال: كان الله بعون الغابة) ثم وبصوت مرفوع: ليبارك الله صداقتكما النادرة ولتكن مثالاً يحتذى به في مملكتي.
وفي اليوم التالي قال الثعلب: هيه أيها الصديق الحبيب لديَّ خطة رائعة.. لقد تعاهدنا على الصداقة.. ونحن قوة ضاربة معاً..
ما رأيك بتنفيذ خططي..؟
الذئب: وأنا لديَّ خطة.. ما رأيك أن نبدأ بأرض المزارع المتاخمة لحدود غابتنا.. إنه رجل بسيط ويملك ماشية تكفينا طعام شهر كامل وليس عنده سوى بضعة كلاب.
أعتقد أنك تقدر عليها..
الثعلب: شهر.؟ لا.. لا. أريد أن أنفذ خطتي أولاً وأنتقم من الصياد الذي وضع الفخ لي..
الذئب: لكنك لا تعرفه..!
الثعلب: بلى.. إنه الصيّاد الذي يقطن في الطرف الشرقي من الغابة.
الذئب: وما الذي يجعلك متأكداً من ذلك؟
الثعلب: إحساسي.. ثم أن ما يملكه من حيوانات مصطادة تقتل جوعنا أشهراً طويلة لا شهراً واحداً كما تفكر أنت.
-يا صديقي. إن الصياد هذا يملك بندقية حديثة قد تقضي علينا معاً.. فلِمَ المغامرة؟
-أنت صديق جبان.. صداقتك لا تروق لي أنسيت أنك وعدت أن ترمي بالعداوة من رماني.. ثم إن ما سنغنمه منه يستحق المغامرة ولا تنسَ أننا سنقتسمه معاً أنا وأنت فقط.
-بالتساوي؟
-أجل ومن قال غير هذا..؟
-قد لا يروق لملك الغابة هذا الفعل..
-يا غبي ألم تدرك بعد أن ملكنا بحاجة إلى رضانا أكثر من حاجتنا لموافقته.. ثم إنّما نحن مَنْ عيناه ونحن مَنْ يقيله وقت اللزوم.
-الذئب: (وهو يلعق لسانه حالماً باللحم الطري) في هذا أنت محق لكن ما رأيك في أن نستعين في هجمتنا هذه بمَنْ نراه مناسباً من حيوانات الغابة ليساهم معنا في هذه الحفلة الانتقامية..؟
الثعلب: فكرة معقولة وإنْ كنت لا أحبذها كثيراً، فمن سيشارك لا بد أنْ يقاسم..؟!
الذئب: لا لن نعطي أحداً شيئاً فنحن أصحاب الفكرة.. ونحن المخططون لها..
الثعلب: تقصد أنْ تقول إني أنا صاحب الفكرة..؟ الذئب (وهو يزدرد لعابه) فكرتك فكرتي.. ألسنا صديقين؟
الثعلب: (وهو يتحسس يده المريضة): معك حق في هذه. أجل صدقت نحن صديقان لا شبيه لنا..!!
رفضت قوى التحالف الحيوانية.. المساهمة في الهجمة على الصياد وممتلكاته خوفاً من المغامرة..
لكن بعض الجرذان والحشرات الطفيلية قالت: إن تم وضع خطة ذكية تضمن سلامتنا.. خضنا المعركة معكم..
ولم يجرؤ أحد على الحديث عن الغنائم لأنهم مجرد حيوانات صغيرة..
الذئب: هل تعتقد أنهم لن يقاسموننا؟
الثعلب: أيها الأحمق يكفيهم فخراً أننا وافقنا على مشاركتهم معنا. إنهم سيدخلون التاريخ من أوسع أبوابه فقد حالفهم الحظ وكانوا حلفاء لأكبر قوى ضاربة في الغابة..
الذئب: معك حق.. ولا أعتقد أنه يضرنا أن نترك لهم روث الحيوانات وبقاياها..!


وضع الثعلب خطة ذكية وطلب من الجميع التقيد بها.. استطاع الصياد الفرار بعد الهجوم المحكم.. لكن كل ما اصطاده طوال عمره بقي غنيمة سهلة للمهاجمين.
بعد فترة قصيرة قال الثعلب: كان خطة ناجحة وذكية أليس كذلك؟
الذئب: قل كانت مخاطرة فقدت بسببها ساقي..
الثعلب: أنت مَنْ اندفع بسرعة عندما اشتم رائحة اللحم الطري..
الذئب: وأنت مَنْ تراجع إلى الخلف متعللاً بإصابة يدك..
ثم ولنفسه: "كنت أحسب هذا الأمر لي.. وإذ به عليّ".

الثعلب: المهم كلانا غنم طعاماً يكفيه شهوراً طويلة.
الذئب: لكن الصياد هرب وسيعود يوماً للانتقام..
الثعلب: ليهرب إنه لم يعد يشغلني الآن. ما يشغلني هو ذاك الصياد الذي يسكن الجزء الشمالي من الغابة فهو من وضع الفخ لي..
الذئب مستنكراً: ألم تقل إن مَنْ يسكن الشرق هو مَنْ وضع الفخ.
الثعلب: "متنحنحاً" في الحقيقة.. في الواقع.. لم أكن متأكداً..
الذئب: وأنت الآن متأكد..؟
-بالطبع فهذا الذي يقطن في الشمال يملك فخاخاً وشباكاً عديدة، لقد عاينت الأمر بنفسي..
الذئب: والأول..؟
-الأول لا يملك سوى البندقية وبضع طلقات نارية..
الذئب متهكماً: بندقية قديمة أطاحت بساقي..؟؟ وكادت تقضي عليَّ لولا تلك الحشرات التي سارعت لإنقاذي وملاحقته.
الثعلب: دعك من هذا الآن.. ودعنا نخطط لمهاجمة الثاني..
الذئب: يا صديقي دعنا نرتحْ قليلاً من جرّاء ما جرى.. ثم لدينا طعام يكفينا شهوراً طويلة.
الثعلب: يا ظل الصديق.. أنت لست طموحاً ولا مقداماً.. دائماً ترضى بالفتات ولا تواكب صديقك.
أيها الأبله.. إن تركنا الوقت يمضي.. سبقنا واتحد الصيادان ضدنا وهذا سيربك مجتمع الغابة الدولي وسيقوده للانهيار..
الذئب: لك ما تريد يا صديقي.. لكن هذه المرة بسبب قدمي.. ستكون أنت في المقدمة.
الثعلب: ونسيت يدي.؟. الذئب ضاحكاً: عرج الثعلب من يده..
الثعلب: هيّا.. ولا تكن قاسياً.. سنهجم معاً..
الذئب: دعنا نستعن بأقوياء الغابة..
الثعلب: ألا زلت تأمل خيراً من هؤلاء العجّز يا صديقي.. نحن معاً لن نحتجْ أحداً..
الذئب (مغلوباً على أمره): سينكرني أخوتي الذئاب لمصادقتك ولتفردي بالجري خلفك..!
في الهجوم الثاني.. اندفع الاثنان معاً. تغطّيهما الحشرات الطفيفة..
كانت معركة ضارية.. لكنها حسمت بسرعة لصالح قوى التحالف الشريرة..
وما إن جلسا لاقتسام الغنائم.. حتى أخذ الثعلب الجزء الأكبر ولم يترك للذئب سوى القليل.
عوى الذئب: احتجاجاً..
فصرخ الثعلب: أنا مَنْ خطط.. وأنا مَنْ اندفع.. أنت كنت متردداً والآخرون كل منهم رافض.. وفي الغنيمة تريد التساوي..؟
الذئب: لكنا صديقان وتعاهدنا على التساوي.
الثعلب: أجل هذا كان قبل أن نغنم هذه الغنائم كلها.
الذئب: يا صديقي.. لولا مساعدتي كنت الآن في عداد الأموات.
الثعلب: ولولا خططي لبقيت أنت تركض خلف الطرائد ولبقيت ظلاً للملك.. أنا مَنْ دفع بك إلى المقدمة..
الذئب: مقدمة كان من الممكن أن تكون روحي ثمناً لها..
الثعلب: لقد حميت ظهرك.. وكنت لك نعم العون. ثم إن ما أخذته من غنائم في المرة الماضية وما جنيته من شهرة بسببي.. تعادل كل ما آخذه أنا الآن..
الذئب: وعهدنا.
الثعلب (ضاحكاً): وهل سمعت يوماً عن ثعلب يرعى عهداً، عهدنا تعرفه أكثر مني.. قانون الغابة نحن مَنْ وضعناه معاً، عشيرتنا.. وعشيرتكم.. لكنك زيّنت لنفسك فوق استحقاقها عندما لامست ضعف يدي المجروحة. أوَ تظنني لم أفطن لذلك؟.
يدي الآن يا صديقي معافاة.. فهل ترغب في العراك لتعرف قانوني الجديد..
الذئب: ((وهو يعوي بصوت يشبه البكاء)):
لا.. لا أريد التجربة.. أنا منهك من حربين طاحنتين ولا أعرف إن تركتك ماذا سيحل بي من عشيرتي وأهلي لأني صادقت ثعلباً؟ ولا أعرف إن غامرت معك ثالثة إلى أين ستقودني يا صديقي..؟


õöõ




من المنطقي أكثر أن نذهب لملاقاة الأحداث
بدل التصدي لها.
إنّ هذا أكثر سلاماً وإنسانية
وبالتالي أوفر ربحاً


(المفكر اللبناني نجيب عازوري)



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :