>>>> الرد الرابع :
المصدر اسلام اونلاين
"وكان بذلك أول باحث حاول أن يحدد أبعاد المشكلة، ويحدد العناصر الأساسية في الإصلاح، ويبعد في البحث عن العوارض، وكان كذلك أول من أودع منهجا محددا في بحث مشكلة المسلمين على أساس من علم النفس والاجتماع وسنة التاريخ"1. ولم يكن ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول مؤلفاته، بل كان في جوهره "شخص الفكرة"، كان بالأساس تعبيرا عن رؤية منهجية واضحة، ومفكرا معرفيا، أدرك أزمة الأمة الفكرية، ووضع مبضعه على أُس الداء، وهو بنيتها المعرفية والمنهجية، إنه -من دون شك- واحد من أهم رواد مدرسة "إسلامية المعرفة" وإصلاح مناهج الفكر، وإن مفاتيح مالك لا تزال تملك قدرة توليدية في مجال المفاهيم والمنابع والعمارة الحضارية بكل امتداداتها وتنوعاتها"2.
ابن خلدون العصر
لا غرابة أن نجد من الدارسين للفكر الإسلامي الحديث من يعتبر مالك بن نبي بمثابة ابن خلدون العصر الحديث، وأبرز مفكر عربي عني بالفكر الحضاري منذ ابن خلدون، ومع أنه قد تمثل فلسفات الحضارة الحديثة تمثلا عميقا، واستلهم في أحايين كثيرة أعمال بعض الفلاسفة الغربيين فإن ابن خلدون بالذات يظل أستاذه الأول وملهمه الأكبر" 3. ومالك نفسه لا يخفي تأثره بفكر ابن خلدون ونظرياته حول العمران البشري، بل أشار إلى ذلك في مواضع شتى من كتبه، كما ذكر ذلك في مذكرات حياته "شاهد القرن"4 . وهكذا ظهر "مالك بن نبي" وكأنه صدى لعلم ابن خلدون، يهمس في وعي الأمة بلغة القرن العشرين، فأظهر أمراض الأمة مع وصف أسباب نهضة المجتمعات، ووضع الاستعمار تحت المجهر؛ فحلل نفسيته، ورصد أساليبه الخبيثة في السيطرة على الأمم المستضعفة، وخاصة المسلمين، ووضع لهم معادلات وقوانين "الإقلاع الحضاري"..
ولكن الأمة لم تقلع حضاريا؛ وذلك إما لثقل حجم التخلف بين أفرادها ومؤسساتها، وإما لضعف المحرك المقرر أن يقلع بها، وإما لاجتماع السببين معا. ومع ذلك فقد بقيت هذه المعادلات والقوانين "نظريات" مفيدة للمحركين الذي يهتمون بانطلاق "المشروع الحضاري" للأمة.5 مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي
ينبني مفهوم الحضارة عند ابن نبي على اعتقاده الراسخ بأن "مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها".
وانطلاقا من هذا الاعتقاد الراسخ بأهمية الحضارة وضرورة "فقه" حركتها منذ انطلاقتها الأولى إلى أفولها يحاول ابن نبي إعطاء تعريف واسع للحضارة، يتحدد عنده في ضرورة "توفر مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطوار نموه". 6 وعلى هذا فكل ما يوفره المجتمع لأبنائه من وسائل تثقيفية وضمانات أمنية، وحقوق ضرورية تمثل جميعها أشكالا مختلفة للمساعدة التي يريد ويقدر المجتمع المتحضر على تقديمها للفرد الذي ينتمي إليه. 7 ويتبين من خلال هذا أن مفهوم الحضارة عند ابن نبي شــديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه؛ سواء في صعوده في مدارج الرقي والازدهار، أو في انحطاطه وتخلفه، وبالتالي فلا بد من فهم عميق، و"فقه حضاري" نافذ لكل من يريد دراسة المجتمعات دراسة واعية وشاملة؛ لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية "لسنن" و"قوانين" اجتماعية وتاريخية ثابتة، لا بد من الإحاطة بها، وإدراك كنهها لكل من يريد أن يعيد لأمته مجدها الحضاري، ويحقق لها ازدهارها المنشود. وهذا ما أكده بقوله: "إن أول ما يجب علينا أن نفكر فيه حينما نريد أن نبني حضارة أن نفكر في عناصرها تفكير الكيماوي في عناصر الماء إذا ما أراد تكوينه؛ فهو يحلل الماء تحليلا علميا، ويجد أنه يتكون من عنصرين (الهيدروجين والأكسجين)، ثم بعد ذلك يدرس القانون الذي يتركب به هذان العنصران ليعطينا الماء، وهذا بناء ليس بتكديس"
والعناصر الضرورية التي تتشكل منها كل الحضارات -حسب مالك- هي ثلاثة: الإنسان + التراب + الوقت.8 الحضارة إبداع وتميز وليست تقليدا وتبعية
يدعو مالك بن نبي في جل كتاباته إلى ضرورة إبداع بدائل فكرية ومناهج علمية مستقلة تتناسب مع البيئة الإسلامية بدل استيرادها كما هي من الغرب الأوربي. ويلح على ضرورة الاستقلال الفكري في دراسة مشكلاتنا الحضارية والاجتماعية؛ لأنه يعتقد -كغيره من الدارسين للحضارات الإنسانية- أن هناك خصوصيات كثيرة تتميز بها كل حضارة عن غيرها. "فلكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها، وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به نحو الأشياء، بينما الحضارة الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها، سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة.. نحو الأفكار"
ومن أهم الخصوصيات التي ميزت نشوء الحضارة الإسلامية أن نشوءها سببه الوحي الرباني؛ مما جعلها حضارة خالدة خلود المبادئ والتعاليم التي تحملها وتدعو إليها، "فجزيرة العرب.. لم يكن بها قبل نزول القرآن إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به؛ لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، التراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح: مكدسة لا تؤدي دورا ما في التاريخ؛ حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء -كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن- نشأت بين هذه العناصر الثلاثة (الإنسان + التراب + الوقت) المكدسة حضارة جديدة؛ فكأنها ولدتها كلمة "اقرأ" التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم" 9. . ولهذا "فالحضارة" لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن "الحضارة" إبداع، وليست تقليدا أو استسلاما وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى؛ "فبعض القيم لا تباع ولا تشترى، ولا تكون في حوزة من يتمتع بها كثمرة جهد متواصل أو هبة تهبها السماء، كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة، ويضع الخير في قلوب الأبرار 10. فالحضارة من بين هذه القيم التي لا تباع ولا تشترى.. ولا يمكن لأحد من باعة المخلفات أن يبيع لنا منها مثقالا واحدا، ولا يستطيع زائر يدق على بابنا أن يعطينا من حقيبته الدبلوماسية ذرة واحدة منها" الحضارة هي التي تلد منتجاتها
وبما أن الحضارة إنجاز لا يمكن أن يوهب أو يشترى أو يستورد؛ فإن ابن نبي أولى كل اهتمامه لتحريك الإنسان المسلم الذي يمثل بالنسبة له جوهر الحضارة وعمودها الرئيسي نحو مواقع "الفعالية" و"العطاء" و"الإنتاج"؛ لأن "المقـياس العام في عملية الحضارة هو أن الحضارة هي التي تلد منتجاتها"، وسيكون من السخف والسخرية حتما أن نعكس هذه القاعدة، حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" 11. وعملية استيراد أشياء الغرب ومنتجاته، والاكتفاء بذلك سبيلا للتقدم.. أشبه بالذي يحاول أن يعالج أعراض المرض ونتائجه البارزة الظاهرة للعيان، بدل أن يعالج أسبابه العميقة، وأصوله الباطنية؛ مما يظهر المرض في الظاهر كأنه قد اختفى، لكنه في الحقيقة لا يزال ينخر صحة المريض، ويستنزف قواه في الباطن. لهذا علينا في معاجلة تخلفنا -كما يرى أحد تلاميذه ابن نبي- ألا نتبع سبيل الاستيراد؛ فنحاول أن نصبغ من الخارج دارنا المتهدمة بلون الحضارة الغربية ونملؤها بأثاثها، ونقتنع بذلك كوسيلة تجعل دارنا المتهدمة المحطمة دارا قوية شديدة الأركان. فإن النظرة البسيطة تشير إلى أن الدار تستدعي مهندسا يدرس أسباب الخلل الذي يوشك أن ينقض البناء، لا تاجرا يملأ البيت بالأدوات والأثاث" 12 . وطالما بقي المجتمع الإسلامي عاجزا عن إيجاد البدائل الفكرية والمنهجية التي تنسجم مع عقيدته وواقعه؛ فهذا يعني أن هذا المجتمع ما زال يعاني من التبعية والتخلف، ولم ترقَ أفكاره بعدُ إلى درجة الاستقلال والتحرر الشاملين، وهذا هو الذي يشكل خطرا على حاضر ومستقبل المسلمين في نظر ابن نبي؛ لأن "المجتمع الذي لا يصنع أفكاره الرئيسية لا يمكن على أية حال أن يصنع المنتجات الضرورية لاستهلاكه، ولا المنتجات الضرورية لتصنيعه، ولن يمكن لمجتمع في عهد التشييد أن يتشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج.. فعلينا أن نكتسب خبرتنا؛ أي أن نحدد موضوعات تأملنا، وألا نسلم بأن تحدد لنا بكلمة، علينا أن نستعيد أصالتنا الفكرية، واستقلالنا في ميدان الأفكار حتى نحقق بذلك استقلالنا الاقتصادي والسياسي"13 القابلية للاستعمار تكبل المجتمع وتحول دونه والإبداع
يرى ابن نبي أن الاضطراب والفوضى والتناقض والغموض، وغير ذلك من السلبيات التي تتصف بها بعض النتائج الفكرية في العالم الإسلامي إنما ترجع في جانب كبير منها إلى تلك "القابلية للاستعمار" التي تسكن نفوس أبناء هذا المجتمع، وتدفعهم من موقع الدونية والتقليد إلى تمثل أشياء الغرب وأفكاره دون أي دراسة دقيقة وواعية بالتمايز الحضاري الشاسع الموجود بين المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية14. وبدل أن تساهم كتابات أولئك المغتربين في تشييد البناء الحضاري للأمة الإسلامية، نجدهم يلجئون إلى تكديس "المعارف"، والانجذاب إلى الإكثار من الألفاظ الرنانة، وتلويك المصطلحات الغربية التي فقدت الحياة بمجرد قلعها من بيئتها الحضارية الأصيلة في الغرب. وطبيعي أن هذا التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة أسوة حسنة.
إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها، وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".
وهكذا نجد هؤلاء المغتربين والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين. وهذا عكس ما فعلته "النخبة المثقفة" في اليابان مثلا التي استطاعت في تعاملها مع الغرب أن تفرق بين ما هو صالح للاقتباس، لا بد منه ولا ضرر يخشى منه، وما هو طالح وخاص بالقيم والأخلاق الغربية التي تتعارض مع قيم الإنسان الياباني وأخلاقياته15. ابن نبي وضرورة استلهام التجربة اليابانية
شكلت التجربة اليابانية لكثير من المفكرين والمهتمين بقضايا التنمية عموما في العالم الإسلامي نموذجا يختزل كثيرا من الدروس التي ينبغي استخلاصها للنهوض وتحقيق التنمية المنشودة؛ ولهذا نجد ابن نبي في كثير من مؤلفاته يشيد بدوره بهذه التجربة؛ فقد كانت الانطلاقة الحديثة للمجتمع الإسلامي -في نظره- معاصرة لانطلاقة أخرى في اليابان؛ "فالمجتمعان قد تتلمذا سويا في مدرسة الحضارة الغربية، واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها".
وفي مقابل هذا يرى الأستاذ أن المجتمع الإسلامي -رغم الجهود المبذولة من قبل رواد عصر النهضة- ما يزال مجتمعا متخلفا؛ لأنه مجتمع لم يستطع أن يتعامل مع الحضارة الغربية تعاملا علميا ونقديا، يقول: "الواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها. فالطالب المسلم الذي يلتحق بمدرستها هو بين نموذجين: الطالب المجد، والطالب السائح. وكلا الطالبين (المجد والسائح) لا يذهبان إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها" 16. فالفرق شاسع إذن بين تعامل المسلمين مع الغرب، وتعامل الإنسان الياباني معه؛ حيث إن هذا الأخير ترك القشور واهتم بالجوهر، فتمكن من استيعاب العلوم الغربية التي تمثل سر شموخ حضارتها. دون أن يؤدي به ذلك إلى فقدان هويته، والسقوط في التبعية والتقليد. "فإذا كان اليابان قد بنى مجتمعا متحضرا؛ فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحجة، درس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته. فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه، أما نحن فقد أخذنا منها كل رذيلة، وأحيانا نأخذ منها بعض الأشياء الطيبة التي قدرها الله لنا" 17. وقد خصص ابن نبي مقالات عديدة للرد على هذه النخبة المغتربة التي لا تفرق في اقتباسها واستلهامها لأفكار ومناهج الحضارة الغربية بين ما هو صالح للاقتباس وما هو خاص بحضارة معينة، لا يمكن نقله لأي بيئة حضارية أخرى مغايرة.18 الدورة الحضارية عند ابن نبي
استخلص ابن نبي من قراءاته المتعددة للتاريخ البشري وفلسفته، ولتاريخ الحضارة الإسلامية على وجه الخصوص أن مسيرة الأمم والجماعات تخضع لنـظام دوري، قلما تنجو أي أمة من الأمم من جريانه. وهذا في نظره هو الذي يجعل الأمة في فترة من فترات تاريخها الحضاري تسجل مآثر عظيمة ومفاخر كريمة، تبقى خالدة في سجل تاريخها وتاريخ البشرية من حولها، كما تسجل عليها في فترات أخرى انتكاسات وهزائم حضارية وعمرانية وعسكرية، وغير ذلك من الحالات المرضية التي تهوي بالأمة إلى مهاوي التخلف والانحطاط في آخر طور من أطوار دورتها الحضارية.
وهكذا تلعب الشعوب دورها، وكل واحد منها يبعث ليكون حلقته في سلسلة الحضارات، حينما تدق ساعة البعث، معلنة قيام حضارة جديدة، ومؤذنة بزوال أخرى"
ويرى ابن نبي أن هذا القانون طبيعي جدا؛ لأنه يخضع لنفس النواميس التي تخضع لها باقي مخلوقات الله في هذا الكون؛ فاليوم يبدأ بالشروق والزوال، ثم يتبعهما الغروب الذي يسدل الظلام على الكون، والشهر كذلك يبدأ ببزوغ الهلال، ثم يستكمل تدريجيا دورته؛ لينتهي بعد ذلك إلى الزوال ليبدأ شهر آخر، واحدا بعد الآخر في إطار سلسلة دورية مستمرة. انطلاقا من هذا يقول ابن نبي: "إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر" 19 ولا يعني هذا أن التاريخ يفرق هداياه، أو يوزع أمجاده لأي كان، كما تنشر الشمس أشعتها حينما تؤذن بالشروق، لكن التاريخ كتلة من السنن والنواميس الإلـهية التي تتحكم في توجيه الأفراد والمجتمعات على السواء. وهذه السنن والقوانين لا بد من استيعابها، والسير على هداها لمن أراد النهوض والريادة الحضارية. أما الذين لا يحترمونها ولا يستوعبون عبرها ومراميها؛ فإن حركتهم تكون حركة مضطربة لا يحكمها ضابط ولا هدف؛ مما يؤدي إلى مصادمة السنن الهادية إلى البناء والدخول في فترة الخمول. و"من عادة التاريخ ألا يلتفت للأمم التي تغط في نومها، وإنما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في نومها أبطالها الخالدين وقد أدوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبار عنيد" 20 ولكي يخرج المسلمون مما هم عليه الآن من سبات حضاري وخذلان لا بد أن يستوعبوا سنن الله الثابتة في الكون التي يخضع لها الأفراد والجماعات؛ لأنهم بهذا الاستيعاب فقط يمكن أن تكون حركتهم في التاريخ حركة ثابتة وهادفة بدل أن تبقى كما هي عليه الآن حركة عشوائية تحكمها الصدف، وتوجهها الأهواء الفردية والنزوات الشخصية. "فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا، ولعل أعظم زيفنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية، ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه؛ حيث يسير خبط عشواء" 21 ويرى ابن نبي في هذا الصدد أن كل الحضارات الإنسانية خضعت لنفس هذا القانون الدوري المتحكم الذي تخضع له الحضارة الإسلامية بدورها. 22 وختاما لا بد من الإشارة إلى جملة من الملاحظات التي تتعلق بفكر مالك بن نبي.
أولا: على الرغم من اهتمام ابن نبي بقضايا الحضارة ومشكلاتها فإن ذلك لم يجعله ينحو بتحليلاته منحى التجريد والنظر البعيدين عن هموم الأمة الإسلامية وقضاياها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية؛ بل ظل على الدوام ملتصقا بواقع الأمة، وراصدا لمختلف التحولات التي تطرأ عليها.
ثانيا: تتبُّع مالك بن نبي لواقع الأمة الإسلامية ورصده لمختلف ظواهره لم يجعل فكره يتيه في طلب حلول جزئية أو ترقيعية لمعالجة هذا الواقع؛ بل نفذ ببصيرته ليكشف الخيوط الرابطة لتلك الظواهر، وليضع الحلول المناسبة لمشكلات الأمة، على شكل معادلات رياضية وقوانين دقيقة.
ثالثا: إن أهمية فكر مالك بن نبي وسمو اجتهاداته لم تقابلها بعض الدراسات والبحوث القادرة على النفاذ إلى مقاصدها، وهذا ما يدعو إلى ضرورة بذل المزيد من العناية بهذا الفكر، وذلك بالآتي:
1- إعادة نشر كثير من مؤلفاته والتعريف بها ومدارستها بعمق.
2- وضع مفاتح منهجية لتتبع اجتهادات هذا المفكر في مختلف المجالات، وتعميق النظر في "المفردات" و"المفاهيم" و"المعادلات" و"القوانين" التي أبدعها بقصد استيعابها والبناء عليها، وتوظيفها لتحليل وتوليد الحلول المناسبة لكثير من المشكلات الحضارية المستجدة في واقع الأمة.
=========
>>>> الرد الخامس :
معنى ذلك..اخي khelifa8...سترغمني بان ابقى ملتصقا بالصفحة...الى غاية هضمها..كليا
اتجول في سطورها وما خلف سطورها....و لا اتعب....ولا اشبع
الوجبة دسمة جدا كما يقول زميلنا...
falsafa...
ربي يحفظك....ان شاء الله...... و يكثر من امثالك...اخي khelifa
ولا تنســــوا khelifa مــن صــالــح دعـــائكــــم
" الكلمة الطيبة صدقة "
=========
بارك الله فيك اخي tercha على مرورك الطيب
وعلى كلامك الجميل
أجمل ما كتب في احد المنتديات
شهد عام 1905م ولادة ثلاث عبقريات:
ـ فأما الأولى فكانت في الفيزياء النووية دشنها (آينشتاين) في نظرية النسبية الخاصة.
ـ وأما الثانية فكانت في الفلسفة، فشهدت ولادة فيلسوف الوجودية (سارتر) الذي كتب حتى عمي، وكان من أغزر من كتب.
ـ والثالثة كانت في علم الاجتماع الذي جدد سيرة ابن خلدون، وجاءت من مهندسكهربائي، من خارج حقل علم الاجتماع كما هو دأب المبدعين، وكانت من جزائري هو المفكر (مالك بن نبي)، كما كان الحال مع ابن خلدون من تونس
.
مالك بن نبي والعولمة
نقلا عن جريدة الرياض
في هذا العصر الذي يسمى عصر العولمة أو العالمية كما كان مالك بن نبي يطلق عليه، فرض على المسلم تحديات متنوعة، تستهدف العمق الاستراتيجي للأمة الذي هو الشباب باعتباره القلب النابض والطاقة الكامنة والحامل المستقبلي للتغيير وإعادة بناء الأمة.. كما جاء في دراسة للأستاذ بدران بن الحسن عن رؤية مالك بن نبي لدور الشباب المسلم في عصر العولمة التي ءوضح فيها مساهمة مالك في علاج هذه المسألة من خلال نظريته في البناء الحضاري للأمة وحل أزمتها التي هي - كما سبق أن أوضحت - في عمقها أزمة حضارية شاملة تقتضي عدم التجزيء سواء في معرفة الأسباب أو التحليل أو إيجاد الحلول.
وقد ناقش مالك ما يطلق عليه الآن عصر العولمة بقوله: (إن العالمية في مجراها هي ظاهرة القرن العشرين وهي في واقعها المادي نتاج رائع لمقدرة الإنسان وللمستوى الجديد الذي رفعت إليه هذه المقدرة ألوان نشاطه حتى أصبحت العالمية غريزة القرن العشرين ومعناه). يقول مالك: هذه الصبغة العالمية تبدو وكأنها تقود الإنسانية نحو قطب يتحقق فيه معنى الآية: {وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون}.
هذه العالمية في مفهوم مالك قانون تاريخي وسنة من سنن التاريخ تسير إليها البشرية أسست لها الرسالة الخاتمة وتحقق الكثير منها بفعل حركة التاريخ وسنصل إلى مرحلة الإظهار، إظهار الإسلام على الدين كله، التي أشارت إليها الآية الكريمة المذكورة سابقاً. وهذا القانون التاريخي يحتاج إلى وعي لطبيعته ليتمكن الشباب المسلم من ممارسة دوره التاريخي الرسالي، فالمسلم ملزم بأن ينظر إلى الأشياء من زاويتها الإنسانية الرحبة حتى يدرك دوره الخاص ودور ثقافته في هذا الإطار العالمي..
ويرى مالك أن أهم ما يميز عصر العالمية أربع خصائص هي: وحدة المصير الإنساني، وهيمنة النموذج الغربي، والإفلاس الذي تعانيه الأديان الأخرى، وعالمية الأزمة الحضارية.
في ظل هذا العصر المطبوع بالعالمية على مستواه العلمي والسياسي والاجتماعي والحضاري وفي ظل ما يواجهنا كمسلمين من تحديات يطرحها هذا العصر ما هو دور الشباب المسلم؟!
إن من أهم الركائز التي أولاها مالك بن نبي اهتمامه هي الوعي بالذات الإسلامية، والوعي بخارطة الواقع الحضاري، وتكامل الأصالة والفعالية، ودخول التاريخ من باب الواجب، وتقديم نموذج عملي للإسلام مثلما كان عليه عهد السلف الصالح.
فالوعي بالذات الإسلامية كما يراه مالك واستعرضه الأستاذ بدران بن الحسن، أمر ضروري ومهم ودونه لا يمكن حل مشكلاتنا ولا أن نبلغ الهداية للآخرين ورسالتنا في عصر العالمية تتحدد بمدى فهمنا وتمثلنا للقيم الإسلامية ولا يمكن أن نحقق التغيير المطلوب إذا لم نرتفع إلى مستوى الإسلام. والوعي بالذات الإسلامية يعني أن يتمثل الفرد المسلم (الشاب) والمجموع المثل الإسلامية ويعيشها وأن تصبح صبغة لمفردات الحياة اليومية للمسلم وليس فقط التلفظ بعبارات التوحيد والتوكل والرضا والاتقان للأعمال.. وغيرها. ثم إن مواجهة أي غزو فكري تتطلب هذا الوعي بالذات حتى يميز المسلم بين تفوق ذاته الإسلامية وقصور مصدر هذا الغزو وبالتالي تحقيق الحصانة من الغزو والقضاء على عنصر القابلية للاستضعاف والغزو. فقبل أن نواجه الغزو الفكري لابد من بناء شخصياتنا وتحصين أنفسنا لنصبح ممنوعين من تأثير الغزو وليس عندنا قابلية له.. وكي يتم هذا لابد من أن نبني شخصيتنا بحيث تكون مصبوغة بصبغة الإسلام وموسومة بسمة الإيمان.
أيضاً لابد من الوعي بخارطة الواقع الحضاري، فالخريطة الحضارية للمجتمع الإنساني المعاصر تتشكل من حضارات وكل حضارة تعبر عن نموذج حياتي متميز عن غيره وفهم الحضارة مقرون بوعي مذهبيتها ونظامها الفكري ومشروعها الاجتماعي ومنهجيتها المعرفية التطبيقية ولم يعد من المستساغ علمياً وواقعياً الغفلة عن ما يجري من حولنا في القرية العالمية وإلاّ فإن وعينا سيصيبه الضمور ونجهل المعالم التي تتحرك على منحاها أحداث التاريخ، فالمستوى الشخصي للمسلم حتى ولو نما نمواً نسبياً يمكن أن يبدو في حالة تضاؤل بقدر ما ينمو تطور الآخرين بسرعة أكثر. ويربط مالك بين تطور ونضج الوعي باتساع دائرة الاهتمام التي يوليها كل منا اهتمامه ويمثل لذلك بدوائر متعاقبة وذلك عند حديثه عن تجربة الوحدة الإسلامية بالنسبة لفرد من الجزائر ودوائر وعيه المتعاقبة من الجزائر إلى العالم العربي إلى العالم الإسلامي وصولاً إلى الدائرة الإنسانية. فيقول في مؤلفه (فكرة كمنولث إسلامي): (بقدر ما يعي فيه الفرد المولود في الدائرة رقم (1) والدائرة رقم (2) أعني مشاكل العالم العربي واتجاهاته وآماله، بقدر ما يكتمل وعيه بذاته وينمو مستواه الشخصي، وبقدر ما يتخطى دائرة داخلية إلى أخرى خارجية بقدر ما ينمو عالم أفكاره، وعندما يبلغ وعيه الاكتمال المتطابق مع الدائرة العالمية يكون مستواه الشخصي قد بلغ أقصى اكتماله بحيث ينبت حضوره في سائر أجزاء المعمورة». ولهذا فهو يرى أن الاهتمام بالآخرين يفرضه المنطق الإنساني وتحتمه التداخلات بين الشعوب والأمم.
٭٭ إن دور الشباب المسلم في عصر العالمية دور مهم وصعب ولا يمكن الحديث عنه بالشكل الأدبي أو النظري البحت مهما كان هذا التنظير عميقاً وشاملاً وحتى يؤدي الشباب المسلم دوره لابد من تكاتف جميع الأجهزة على إعداده بما في ذلك المنظومة التربوية والإطار الاجتماعي والحكومات في المجتمعات الإسلامية.
فالمنظومة التربوية حتى تحقق أهدافها لا بد أن تركز في بناء الإنسان الذي هو محور البناء ومرتكز أي انجاز ولتحقيق بناء الإنسان الذي سيظهر الإسلام على الدين كله لابد من تزويده بالقيم الثابتة والرؤية الواضحة والأداة الفعالة. فالرؤية الواضحة هي الرؤية القائمة على التوحيد الخالص لله عز وجل والتوحيد المطلوب هو الذي يربط الإنسان بالله ربطاً مستمراً فينطبع في تعامله مع نفسه ومع الإنسانية ومع الكون كله فيستحضر أنه عبد لله وأما القيم الثابتة فهي التي تحفظ خط سير الإنسان من أن لا ينحرف أي نعلم الشباب أنه مستخلف في هذه الأرض وأنه يحمل أمانة الهداية ومكلف بعمارة الأرض وفق هداية الوحدة. وأما الفعالية فهي العودة إلى المنطق العملي الذي جاء به الإسلام من خلال ربط العلم بالعمل وتحقيق القدرة ومداومة التحرك بين حدي الرجاء والخوف وهذان الحدان هما اللذان يضبطان حركة المسلم فلا يقع في الإفراط أو التفريط.
بارك الله فيك. مواضيع تستحق الرد بالفعل
شكرا على المجهودات القيمة