عنوان الموضوع : لمن يعاني من مادة الجغرافيا حوليات جديدة
مقدم من طرف منتديات العندليب
الجغرافيا البشرية:
هي أحد الفرعين للجغرافيا العامة التي تتكون من الجغرافيا الطبيعية و الجغرافيا البشرية.
موضوع الجغرافيا البشرية:
يتناول كل الإنجازات التي توجد في المجال (المكان)والتي هي من فعل الإنسان وتدخله: فالحقول والمنازل، والمناظر الصناعية، والطرقات، والسكك الحديدية، والقنوات، الخ. هي كلها ظواهر بشرية.
والجغرافيا البشرية تهتم بدراسة المناظر (المشاهد)،paysages ، سواء المباشرة، أي على الطبيعة، أو عن طريق الخرائط و الصور الجوية، لكون المنظر يعكس الترابط الموجود بين العناصر المشكلة له: فالمنازل المجمعة في أسفل السفح، أو على قمة تل، أو على حافة نهر، أو عند تلاقي رافدين، تقتضي دراسة العلاقات التي تربط بين عناصرها والتي يقترحها المنظر. وبالتالي فالجغرافية البشرية تعتمد على المعطيات الطبيعية والحضارية في تفسير جوانب الظاهرة البشرية الموجودة في المجال، سواء كانت هذه الظاهرة فلاحية، عمرانية، ثقافية، صناعية، أم خدماتية.
لتغطية هذه المواضيع قسم مقياس الجغرافية البشرية المقرر لطلبة السنة الثانية للمدرسة العليا للأساتذة إلى خمسة محاور رئيسية:
المحور الأول: الجغرافية البشرية ومكانتها بين العلوم الاجتماعية
المحور الثاني: الجغرافية البشرية و الوسط الطبيعي
المحور الثالث: الجغرافية البشرية والتوزيعات العامة للسكان
المحور الرابع: الجغرافية البشرية والأنشطة الاقتصادية
المحور الخامس: الجغرافيا البشرية وتنظيم المجال
وهذه بعض المصطلحات، الكثيرة التداول في الجغرافيا البشرية
ترتوار territoire : موطن (قطر)، هو امتداد من الأرض تابع لدولة، أو لمدينة، أو لمحمية خاصة بالحيوانات، ومعناه قريب من الإقليم أو من المجال اللذان يستعملان في كثير من الأحيان مكان بعضهما البعض، ويختلف الموطن عن المجالespace وعن الإقليم لاحتوائه معنى الملكية، أي أنه تابع لجهة معينة.
المجال espace :
هو امتداد من الأرض غير محدد، و مرادف للترتوار ولكن لا يتضمن صفة الملكية، وهكذا نقول المجال العالمي، المجال الإقليمي، والمجال المحلي، أي غير محدد بالتبعية أو بالملكية.
الإقليم région :
هو امتداد من الأرض، يكون منسجما في ظواهره الطبيعة ( المناخ، النبات، التضاريس)، أو في ظواهره البشرية (الإعمار peuplement ، والاقتصاد، والبنيات
السياسية أو الإدارية، الخ.). كأن نقول الأقاليم القطبية، أو المدارية، أو إقليم المدينة، أي الجهات التابعة لها، أو إقليم فلاحي، صناعي، تجاري، الخ.
المنظر (المشهد)paysage :
امتداد من الأرض يمثل رؤية عامة على الطبيعة، أو على الصورة.
فلاحي – agricole :
صفة تطلق على كل ما يتعلق بالفلاحة، يعني الأعمال الخاصة بالحقل وتربية الماشية. فالآلة الحاصدة هي آلة فلاحية.
زراعي – agraire :
صفة تطلق نظريا على الحقول المزروعة، ولا توظف إلا في عبارات مثل القانون الزراعي، والإصلاح الزراعي، والثورة الزراعية، والتي تعني ملكية الأرض المزروعة.
ريفي – rural :
صفة تطلق على كل ما يخص البادية campagne . فيقال مدرسة ريفية ، ومؤشر ريفي
فناج - finage :
يعني مساحة من الأرض تدل على المكان المشغول، المستصلح، والمستعمل من طرف جماعة من الأشخاص. فهو مفهوم اجتماعي بالدرجة الأولى.
تروار terroir :
يدل على مساحة من الأرض داخل الفناج، لها خصائص فلاحية متجانسة. فهو مفهوم تقني . يتكون الفناج في بعض الأحيان من ثلاثة أو أربعة تروار، فنقول تروار الكروم و تروار المراعي وتروار الحبوب.
المحور الأول
الجغرافيا البشرية و العلوم الاجتماعية
الجغرافيا، علم يدرس التوزيعات والتنظيمات على المجال (المكان). سؤالها الجوهري هو (أين؟)، لأن أي خطة جغرافية لا يمكنها الاستغناء عن توطين الظاهرة البشرية أو الطبيعية، وهذا هو الفرق الأساسي بين الجغرافيا وباقي العلوم الاجتماعية. ويستخلص من هذا أن الانشغال الرئيسي للجغرافيا هو التوطين، أي تحديد الموقع الجغرافي situation .(الموقع الجغرافي يحدد بالاتجاهات الأربعة بالنسبة للعناصر البشرية، أو الطبيعية، التي يتكون منها المحيط الذي تقع فيه الظاهرة المراد توطينها، أي موضعها بالنسبة للطريق أو السكة الحديدية أو للمدينة أو للوادي أو للجبل، أي بالأشياء المجاورة لها (شمال، جنوب، شرق، غرب). بينما الموقع الفلكي position فيحدد بإحداثيات خطوط الطول والعرض، أي الموقع الفلكي. فالظاهرة البشرية في المجال تحدد بالموقع الجغرافي، سواء تعلق الأمر بالحقول، أو الشبكات، أو المدن،الخ.
التوزيعات قد تشمل السكان، والمعامل، و الحقول، و الغابات، والكثافات، و البريد، و الماء، والغاز، والكهرباء، والصحف، و الكتب، الخ. فهذه التوزيعات يتم تحليلها، وتوصف أشكالها، فنقول مثلا: توزيع متواصل، أو توزيع متقطع، له شكل إكليل، أو شكل حزام، شكل مائل، شكل خطي. و نبحث كذلك عن المركز وعن الهوامش، وهناك توزيعات أخرى غير مرئية مثل: مستوى التكوين للسكان، أو تأهيل العمال، أو نسبة الخصوبة. فتحليل التوزيعات المجالية هي واحدة من المهمتين الأساسيتين للجغرافيا وهما: التوزيع و التنظيم.
أما تنظيم المجال فهو موضوع الجغرافيا ذاته. فالجغرافيا تنطلق من مبدأ أن المجال الأرضي منظم، ويمكن أن تكتشف عليه الترتيبات التي جعلت المجتمعات تنتجه وتحوله. والمجال هو في الحقيقة ليس منتوج فقط،، بل هو منظم أيضا، ويمكن أن نتعرف من خلاله على المنظومة التي أنشأت هذا التنظيم. والتنظيم يأتي من العمل اليومي للفاعلين، سواء كانوا جماعات أو فرادى ، مؤسسات عمومية أو خاصة، ومن القرار الصادر من المؤسسات العمومية، ومن الجماعات المحلية التي تضمن وتطبق التوجهات الكبرى.
لكل مجال جغرافي تنظيم، وهذا التنظيم يمكن اعتباره كوسيلة للإنتاج، بل هو طاقة الإنتاج.
ينصب اهتمام الجغرافيا البشرية على كشف و تقييم طبيعة العلاقات التي تميز حياة الجماعات البشرية، ضمن أطر مجالية (مكانية) ذات أبعاد متدرجة المراتب، فإن كانت على مستوى الكرة الأرضية سميت بالجغرافية العامة، وإن كانت على مستوى قاري أو شبه قاري سميت بالجغرافيا الإقليمية، وإن كانت على المستوى المحلي سميت بالجغرافيا المحلية ( إقليمية أو عمرانية). هذه العلاقات تتعامل مع معطيات مختلفة في طبيعتها، منها المتعلقة بالوسط الطبيعي (جغرافية طبيعية) ومنها تلك التي تتعلق بالإنجازات التي قام بها الإنسان في الماضي و في الحاضر، والأنواع المتعددة لنشاطاته (الجغرافيا البشرية).
وإذا كانت العلاقة بين الجغرافيا الطبيعة والجغرافيا البشرية معروفة لدى المختصين، لكون الطبيعة وما تمثله من مناخ ونبات وتراب، تلعب دورا أساسيا، حسب بعض المدارس الجغرافية، في توجيه النشاط البشري واستقرار المجتمعات البشرية في نقاط معينة من العالم دون سواها، ولذلك يستعين المختص في الجغرافية البشرية بفروع الجغرافية الطبيعية من
جيولوجيا و جيومورفلوجيا وعلم المناخ وعلم التربة وعلم الأحياء، الخ. لتفسير الظاهرة البشرية، إلا أن علاقة الجغرافية البشرية مع العلوم الاجتماعية الأخرى تبقي غير واضحة المعالم، إذا ما استثنينا التاريخ، مع أنها تعد سندا هاما للجغرافيا البشرية مثل الأنثربولوجيا anthropologie، وعلم الاجتماع والديموغرافيا والاقتصاد.
المحاضرة الأولى
الجغرافيا البشرية والأنثربولوجيا anthropologie (أو علم طبائع الإنسان)
يعتمد كل من الجغرافي والأنثربولوجي في دراسة تنوع الكائنات البشرية على تصنيفها وفق أنماط معاشها، وأجناسها، ولغاتها، وأديانها.
1-التصنيف حسب النمط المعيشي
تهتم الجغرافيا البشرية بدراسة الأنماط المعيشية للمجتمعات، كما تهتم بتنوع الكائنات الحية، شأنها في ذلك شأن الأنثربولوجيا والإتنولوجياethnologie (أو علم السلالات). وقد حظي مفهوم النمط المعيشي (أوأسلوب الحياة) بعناية كبيرة من طرف الجغرافيين، الذين رأوا فيه وسيلة لفهم طبيعة المجتمعات وطرق تنظيمها وأساليب معاشها وبالتالي حضارتها. فراحوا يحللون الأنماط المعيشية، واصفين العادات المشتركة لجماعات تمت معاينتها، والتي تعيش على العموم في مناطق معزولة. فوصفوا سكناتها، وكيفية إشغالها لهذه السكنات، وتوزيعها، والطرق التي تتبعها في تنظيم حياتها، ووسائل عملها، وأوقات نشاطها.
إلا أن مفهوم النمط المعيشي هذا لم يطبق على المجتمعات الحديثة بل اقتصر على المجتمعات التي توصف بأنها بدائية، أو مجتمعات ما قبل الثورة الصناعية. وقد ركز بعض الجغرافيين و منهم ماكس درييوMax Derruau على أنماط معيشية خاصة، مثل النمط المعيشي للجماعات التي تقتات من الصيد والقطف، وكذا النمط المعيشي لكثير من الشعوب، وخاصة منها هنود أمريكا الجنوبية، والإسكيمو، والرعاة الرحل في الصحاري وفي الأقاليم السهبية، وكذلك الأنماط المعيشية للشعوب التي تقيم في المرتفعات الشاهقة وفي العروض العليا، أين تنتشر حشائش التندرا وبعض الأعشاب النادرة، أو في المناخ الشبه المداري الجاف. ففقر مراعي هذه الأقاليم يفرض على الجماعات التنقل مع مواشيهم للبحث عن المراعي. إلا أن كثيرا من السكان الذين لهم أنماط معيشية تعتمد على مورد واحد، ويقيمون في أقاليم معزولة، قد غيروا من نمط معاشهم تحت ضغوط متعددة، وخاصة منها حرص السلطات العمومية على مراقبة الجماعات التي تقع ضمن حدودها الوطنية، وهذا هو شأن الرعاة الرحل في الصحراء الكبرى الذين تخلى معظمهم عن حياة الترحال واستقروا في الواحات التي أصبحت تحتضن اليوم مدنا يتجاوز عدد سكان البعض منها المائة ألف.
2- تصنيف المجتمعات على أساس الأجناس (السلالات)
كل السلالات البشرية الموجودة في العالم اليوم أصلها من نوع واحد وهو الإنسان العاقل الذي يطلق عليه أومو-سابيا Homo Sapien والنوع هو مجموعة متجانسة لا تستطيع التزاوج مع غيرها من الأنواع. والجنس كما يعرفه منجد الجغرافيا dictionnaire de la géographie هو مجموعة من الأشخاص يمثلون سمات جسمانية وجينية أو وراثية مشتركة. وأن أول السمات يعتمد عليها في التمييز بين الأجناس هي السمات البارزة والمرئية: كالقامة، ولون البشرة (أسود، أبيض،أصفر)، وشكل الرأس، وفصائل الدم ولون العين وشكل الأنف ولون الشعر وشكله.
ودراسة الأجناس هو ميدان آخر يشترك في تحليله كل من الجغرافي و الأنثربولوجي، ولكن من زوايا مختلفة. ففي الوقت الذي يركز فيه الأنثربولوجي و الإتنولوجي على الجوانب المتعلقة بالروابط الموجودة لجماعة ما مع الجنس الذي تنتمي إليه، والنتائج السلوكية المترتبة عن هذا الانتماء، ونمط معاشها، بل و تأثير الجنس على النمط المعيشي، يقتصر اهتمام الجغرافي على توزيع مختلف الجماعات على المجال، وشرح أسباب هذا التوزيع على ضوء الهجرات الكبيرة، القديمة منها والحديثة، مثل التجارة بالزنوج، واستيطان الأوروبيين في أمريكا، والاستعمار بصفة عامة. فالجنس الأبيض، الذي يشكل زهاء المليارين من البشر أي ما يمثل ربع سكان العالم، يشغل على العموم أوروبا وشمال إفريقيا، وغرب آسيا، والجنس الأصفر الذي يمثل هو بدوره قرابة المليارين، يشغل باقي آسيا وأمريكا، كما يتقاسم أوقيانوسيا Océanie (استراليا زائد جزر المحيط الهادي الواقعة بين آسيا غربا وأمريكا شرقا) مع الجنس الزنجي الذي يختلف عن الزنجي الإفريقي المقيم جنوب الصحراء وجنوب شبه الجزيرة الهندية. والجنس الزنجي الذي يقدر عدده ب 600 مليون نسمة، يتمركز معظمه جنوب الصحراء الإفريقية. وباقي البشرية أي ما يمثل نحو مليار ونصف تشكله الشعوب المختلطة.
أما الهجرات الحديثة فقد أدت بكثير من الزنوج والأوروبيون إلى أمريكا وأستراليا وجنوب إفريقيا.
إلا أن الجغرافية الحديثة لم تعد تولي اهتماما كبيرا لدراسة الأجناس، خاصة عندما استغلت هذه الأخيرة من طرف بعض الأنظمة السياسية مثل ألمانية النازية التي صنفت البشر تصنيفا عنصريا، إلى مجتمعات راقية وأخرى منحطة.
المحاضرة الثانية
تصنيف المجتمعات على أساس اللغات والأديان
3- تصنيف المجتمعات على أساس اللغات:
اللغة هي مجموعة من رموز كلامية أو رسومية (حرفية)، تسمح للذين يمارسونها بالتواصل فيما بينهم. وهناك دراسات في اللسانيات تظهر بأن اللغة هي بمثابة الرمز، فهي منتوج اجتماعي، وإرث ثقافي، يعبر ويبرز الانتماء إلى جماعة ما.
وجغرافية اللغات: تدرس التوزيعات المجالية للغات واللهجات، وتساهم بخرائطها في اكتشاف أصول اللغات و انحداراتها ، كما تعرفنا على تنقل السكان عبر المجال (شكل 1)
لغات سكان العالم عديدة، يمكن حصر أشهرها فيما يلي:
هناك اللغات الأوروبية المتفرعة عن اللاتينية وهي (الفرنسية، الإسبانية، البرتغالية، الإيطالية، الرومانية).
وهناك اللغات الأنجلو- سكسونية، وتشمل (الألمانية،الانجليزية، والهولندية، واللغات اسكندنافية).
وهناك اللغات السامية (العربية، العبرية)
وهناك اللغات الحامية (الأمازيغية والإثيوبية).
وهناك اللغات اليونانية، و اسلافية، والبالطية-الألبانية، و الهندية الآرية والإيرانية.
وهناك لغات آسيا الشمالية (التركية ، الأورالية، المنغولية، اليابانية، الكورية، المجرية و والفنلندية )
ولغات آسيا الجنوبية ( الصينية ، الفيتنامية، الخمرية، التايلاندية، التيبتية، والبرمانية). كل هذه اللغات مقننة وتستعمل في الكتابة.
و هناك اللغات الإفريقية، و الاقيانوسية، و القوقازية والباسكية التي هي على العموم لغات تمارس من طرف أقليات، و تسود في بعض البلدان، لغة المجموعة الأكثر عددا، التي ترسم عادة كلغة وطنية (مثل الأولوف في السنغال، والملغاشية في مدغشقر).
إلا أن الثورة الصناعية وما ترتب عنها من تنمية اقتصادية و ثورة في وسائل النقل، قد أعطت لبعض لغات الدول القوية والتي كان لها ماضي استعماري، مكانة ميدانية كلغة تجارة ولغة علوم في مختلف بلدان العالم، وتستخدم موازاة مع اللغات الأصلية، وهي: الانجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والروسية والإيطالية، وبدرجة أقل الألمانية والهولندية و اليابانية. وتتفاوت أهمية هذه اللغات من بلد لآخر حسب الاستعمار والتاريخ، لكن الوزن الاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية ورغبتها في الهيمنة، جعلت من الانجليزية اللغة العالمية للتبادل التجاري والعلمي.
4- تصنيف المجتمعات على أساس الأديان
الديانة: هي مجموعة من المعتقدات، مصحوبة بقواعد سلوكية ( الطقوس)، وهي في كثير من الأحيان تدار من طرف تنظيم تمثله هيئة دينية. ولكل ديانة أماكن للعبادة كالمساجد و الكنائس، و المعتقد هو ظاهرة عالمية.
فالجغرافي يستفيد من وصف توزيع الديانات عبر المجال، ويمكنه أن يذهب أبعد من ذلك، أن يحاول مثلا دراسة إمكانية التعايش المحتمل بين الديانات أو في استمرار انتشارها عبر المجال. وهكذا، فالغزوات الاستعمارية كانت في كثير من الأحيان مصحوبة أو متبوعة - بل
وفي بعض الحالات مسبوقة- بمحاولات تبشيرية لجلب السكان الأصليين إلى اعتناق الدين. وعندما يصبح الغازي يمثل الأغلبية، كما هو الحال في أمريكا وأستراليا، فإن معتقد الغازي هو الذي يفرض نفسه. وهكذا فرض الفرنسيون والإسبان والبرتغال والإيطاليون مذهب الكاتوليكية في أميركا اللاتينية (الجنوبية). وفرض الانجليز والهولنديون والألمان مذهب البروتستنت في أعظم أجزاء أمريكا الشمالية وفي أقيانوسيا. كما فرض الروس مذهب الأورطودوكس في بعض أجزاء الدول المجاورة لهم، الخ. أما في الحالة التي يبقى فيها السكان الأصليون يمثلون الأغلبية، فإن الحملات التبشيرية لا تفلح عادة، كما هو الحال عند الشعوب الإفريقية الواقعة بين المدارين. وأخيرا، هناك بعض الديانات تمكنت من الانتشار دون غزوات جديدة: كالإسلام الذي انتشر ولا يزال ينتشر لدى الشعوب الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء.
ويلاحظ على خريطة الأديان (شكل 2 ) أنها لا تنطبق لا على خريطة اللغات ولا على خريطة السلالات، لأن رسالة الأديان عالمية، والأهمية الجغرافية لخريطة الأديان تكمن في هيمنة الديانتين، الإسلام والمسيحية، على ثلثي مساحة العالم، كما تبدو أهميتها الجغرافية في توطين الديانتين، واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، حيث يشغل الإسلام الإقليم المداري والشبه المداري في كل من قارتي إفريقيا وآسيا، أي في الأقاليم الحارة والتي في معظمها جافة، بينما تشغل المسيحية الإقليم المعتدل في أوروبا، و الإقليم المداري الرطب في أمريكا اللاتينية. و تطرح هذه الظاهرة عدة تساؤلات، لماذا يتمركز الإسلام في الجنوب والمسيحية في الشمال؟ ما هي العوامل التي رجحت هذا التوطين؟ و لماذا انفردت هاتين الديانتين دون سواها، في احتلال ثلثي مساحة العالم؟ الجواب على هذه الأسئلة هو في غاية من الأهمية، إذ يجعل الجغرافي يشعر بالضرورة الملحة بالإلمام بالعلوم الاجتماعية الأخرى لكي تساعده على الإجابة على هذا النوع من الأسئلة. فهو يستعين بالتاريخ مثلا لدراسة أسبقية المسيحية على الإسلام في الانتشار في الأقاليم التي خضعت للأمبراطورية الرومانية وخاصة منها أوروبا، والتي تتطابق على العموم مع المناطق المعتدلة. بينما الإسلام الذي ظهر بعد المسيحية في شبه الجزيرة العربية، أي في إقليم مداري جاف وحار، انتشر في الأقاليم المماثلة له أي في الأقاليم الجافة والشبه الجافة في كل من إفريقيا وآسيا الوسطى، يعني الأقاليم التي لم تبلغها الأمبراطورية الرومانية، أو التي كانت على هوامشها.
كما يمكن الاستعانة بالأنثربولوجية لمعرفة أي السلالات كانت حضارتها أكثر قابلية لتقبل مفاهيم هذا الدين أو ذاك. إذ ينتشر الدين الإسلامي عند الشعوب التي كان نمط معاشها يقوم على أسلوب الرعي الترحالي بالدرجة الأولى، و المعروف في بعض الأقاليم برحلتي الشتاء والصيف، وعلى مسافات كبيرة ومنبسطة، تندر فيها الطبيعة الجبلية، ويتخذ من الخيمة مسكنا له. بينما كان انتشار المسيحية الذي رافق توسع الأمبراطورية الرومانية، يقوم على حضارة العمران والزراعة والسكن الثابت، وهي تتماشى مع مناخ معتدل الحرارة والرطوبة، وفي أقاليم يغلب عليها الطابع الجبلي. وهكذا يمكن تفسير اقتصار انتشار الإسلام على المناطق الجافة، لكونه اعتمد على البدو الرحل الذين كانوا يتمتعون بمهارة قتالية فائقة في الأقاليم المنبسطة والجافة، بينما يجدون صعوبة في الأقاليم الباردة
والرطبة والمعقدة تضاريسيا، فحتى الجزء القليل من المناطق المعتدلة التي فتحوها لم يتمكنوا من الاحتفاظ بها، مثل إسبانيا وجنوب فرنسا.
كما يمكن الاستفادة من خريطة الديانات، بتوزيع المذاهب مجاليا، ولا سيما المذاهب المسيحية، حيث تظهر الخريطة، وبشكل واضح المذاهب المسيحية الثلاثة المشهورة
(الكاتوليك، الأرتودكس، البروتستانت )، والإقليم الجغرافي الذي يحتله كل مذهب. حيث يشغل مذهب الكاتوليك جنوب أوروبا (إيطاليا، فرنسا، إسبانيا، البرتغال)، وكل دول أمريكا الوسطى والجنوبية (أمريكا اللاتينية)، وكذلك المكسيك في جنوب أمريكا الشمالية، وفي بعض الدول الإفريقية، والفيليبين. بينما يشغل مذهب البروتستانت شمال أوروبا (ألمانيا، بريطانيا، هولندا،النمسا، الدول اسكندنافية)، وأمريكا الشمالية (الولايات المتحدة، كندا).
و يشغل مذهب الأرتودكس دول شرق أوروبا، كما يظهر على شكل أقليات في بعض دول العالم الإسلامي.
ويستخلص من هذه الخريطة المذهبية للديانة المسيحية أن المجال الجغرافي الذي يشغله مذهب البروتستانت، هو المجال الأكثر تطورا اقتصاديا وتكنولوجيا، وفيه ظهرت الثورة الصناعية. بينما يظهر المجال الذي يشغله مذهب الكاتوليك، مجالا متخلفا. فأوروبا الجنوبية تشكلها دول متخلفة ومحافظة مقارنة بأوروبا الشمالية، والمناطق التي استعمرتها والتي تدين بالمذهب الكاتوليكي بقيت هي أيضا متخلفة مثل أمريكا اللاتينية، مقارنة بأمريكا الشمالية البروتستانتية. ويعزى هذا الفارق إلى كون الكاتوليك مذهب محافظ ، بينما مذهب البروتستانت الذي ظهر في القرن السادس عشرة، و الذي يدعو إلى العودة إلى التعاليم الأصلية البسيطة للمسيحية، والتخلص من القيود التي يعتبرها دخيلة على تعاليم الدين المسيحي في الطقوس وفي الحياة الاجتماعية، فهو يسمح مثلا بزواج الكهنة، ويعطي للعمل مكانة مرموقة في العبادة.
المذاهب الإسلامية الأربعة (المالكية، الشافعية، الحنبلية، والحنفية) لم تعد لها خرائط لتقاربها في المفاهيم من جهة، و تداخلها مجاليا من جهة ثانية، باستثناء المذهب المالكي الذي يشغل مجال البلدان المغاربية من شرقها إلى غربها.
وهناك جوانب أخرى، يمكن استخلاصها من خريطة الديانات، كالنظام الغذائي الذي يخلو من لحم الخنزير في المجالات(الأراضي) الإسلامية، وكذلك ندرة زراعة كروم الخمر عبر هذه المجالات، الخ.
المحاضرة الثالثة
الجغرافيا البشرية والعلوم الاجتماعية
1-الجغرافيا البشريةو التاريخ
التاريخ:
هو معرفة الماضي، وقد ألفت بشأن تعريفه وتحديد معناه كتب كثيرة. و الخلاصة، أن كل ما هو غير مكتوب أو غير مدون فلا يعد تاريخا، ولهذا سميت الفترة البشرية التي سبقت الكتابة بما قبل التاريخ.
العلاقة بين التاريخ و الجغرافيا
العلاقة بين التاريخ و الجغرافيا علاقة متينة ومتبادلة منذ القديم، فالتاريخ في حاجة إلى الجغرافيا لتوطين مسرح الأحداث التاريخية، ومعرفة أسباب قيام حضارات في مناطق معينة دون سواها، مستعينا في ذلك بطبوغرافية المنطقة، وبالمناخ السائد فيها، وبأنواع الترب، ليكتشف مثلا بأن الحضارات الكبرى القديمة قامت على الدلتات، أي في مناطق سهلية وعلى ترب طمي الوديان مثل الحضارة الفرعونية، وحضارة وادي الرافدين، وحضارة نهر السند،الخ. كما أن الطبوغرافية والمناخ يلعبان دورا أساسيا في تفسير انحصار ظاهرة بشرية أو انتشارها في أقاليم معينة، مثل أسلوب الرعي الترحالي، الذي يسود في الصحاري وفي السهوب ويختفي في الجبال. فالمؤرخ الذي لا يأخذ في الحسبان البعد المجالي في تفسيره للحدث التاريخي موضوع الدراسة، يبقى مسعاه ناقصا.
بينما تستعين الجغرافيا البشرية بالتاريخ في تفسير الظاهرات البشرية التي يعكسها المجال. فالجغرافي يستعين بالتاريخ مثلا لتفسير ظاهرة اكتظاظ بعض الجبال بالسكان، رغم العوائق الطبوغرافية من مرتفعات ومنحدرات التي تعيق التنقل، وتحول دون توسيع وتطوير النشاط الزراعي الذي تعتمد عليه تقليديا، في حين تبقى السهول المجاورة لهذه الجبال نادرة أو قليلة السكان، فيكتشف الجغرافي بعدها أن الإقامة في هذه الجبال يرجع لأسباب تاريخية، حيث كانت ملجأ حصينا يصعب على الغزاة اقتحامه، فتأقلم السكان مع الطبيعة الجبلية الصعبة مع مرور الأيام، وأقاموا أنظمة فلاحية-رعوية ذكية تتلاءم مع طبيعة الجبل، وابتكروا تقنيات زراعية مثل زراعة المدرجات، والتنظيم العقلاني لمختلف أوساط الجبل، حيث تخصص أعالي الجبل مثلا للمراعي، ووسطه للإقامة وممارسة بعض الزراعات المعيشية، وفي أسفل الجبل تغرس الأشجار المثمرة،الخ.
وأول ما تلجأ إليه الجغرافية البشرية في شرح الظاهرة التي يعكسها المجال هو الوسط الطبيعي والتاريخ، لأن الظاهرة البشرية موجودة في المجال، والعوامل الطبيعية تكون قد مهدت لها، والظروف التاريخية ساعدت على إقامتها.
والعلاقة الوطيدة بين التاريخ والجغرافيا جعلت كثيرا من الأنظمة التربوية في العالم تسندها إلى أستاذ واحد هو أستاذ الاجتماعيات.
2-الجغرافية البشرية و علم الاجتماع
علم الاجتماع:
هو العلم الذي يدرس العلاقات بين الأشخاص والجماعات، كما يدرس بنية وحياة هذه الجماعات، خلافا للجغرافية البشرية التي تدرس علاقة الإنسان بالمجال وكيفية تنظيمه لهذا المجال، حتى قيل أن الجغرافيا هي علم المجال، أو علم المنظر( ما يعكسه المجال). والجغرافيا، باهتمامها بالتوطين، تعتبر مقدمة ضرورية لدارس علم الاجتماع،
لأن الموطن الذي تعيش فيه أي جماعة، له خصوصيات بيئية، تلعب دورا في الفوارق الاجتماعية التي يبحث عنها دارس علم الاجتماع. وميدان المقاربة بين الاختصاصين (الجغرافية البشرية وعلم الاجتماع)هو موضوع الدراسة، حيث تهتم كل من الجغرافيا البشرية وعلم الاجتماع بالمجتمع الريفي والمجتمع الحضري، و الصناعة، والثقافة، ولكن من مقاربات ومنهجيات مختلفة. فنقاط تلاقي الاختصاصين عديدة منها المجالية (المكانية) والزمانية:
- التلاقي في المحال: رغم أن المجال هو ميدان الجغرافيا، إلا أن علم الاجتماع يوظفه في تحديد المجتمعات العامة، كما يوظفه في تحليل المجالات الحيوية لمختلف الجماعات، ودراسة مجال العلاقات، حيث تعد خرائط للأمراض العقلية مثلا من طرف المختصين في علم الاجتماع. كما يوظف علم الاجتماع تنظيم المجال للتمييز بين الوظائف، و الطبقات الاجتماعية والمهنية والديموغرافية ، التي تقوم على المجال.
- التلاقي في الزمان: الزمان الذي هو ميدان التاريخ، يهم كل من الجغرافيا وعلم الاجتماع، مثل الانتشار في الزمان والمكان للمخترعات التكنولوجية والطبية، الخ. ودراسة المكانة التي يوليها الناس للزمن، والفائدة الاقتصادية المترتبة عنه.
و الجغرافية البشرية الحديثة، تعكف أكثر فأكثر على الجوانب الاجتماعية، ذلك أن تطور الوعي بالمشاكل المعقدة التي تطرحها المجتمعات البشرية، ووسائل العمل الموجهة إلى تحسين الظروف الإنسانية، قد عملت على توجيه الجغرافية البشرية أكثر فأكثر نحو الجغرافية الاجتماعية. فهذه الأخيرة تم إثراؤها باختصاصات دقيقة: فالفوارق المتفاقمة بين المجتمعات الغنية والمجتمعات الجائعة قد ضاعفت من أهمية دراسة سوء التغذية والتخلف. فالجغرافية، بأدواتها، وقدرتها على توقع الأخطار، تبدو كعلم اجتماع مفيد، يسمح بفهم علاقات فعل الإنسان على المستوى العالمي، وإثارة إشكالية البيئة، والإشارة إلى الظروف الملائمة للتنمية المجالية في إطار معين، والتحذير من محاولات التركيز على المردودية العالية على حساب التوازن البئوي، و على التكنولوجية. فالجغرافي، بحكم ممارسته الدائمة للميدان، و رجوعه المستمر إلى المصادر، يحس بطبيعة الوسط، ولا يغامر أبدا، رغم الدعائم الغير المحدودة التي توفرها التكنولوجيا، وراء العمل النظري دون التأكد من صحة المعلومات ميدانيا. فلا يمكنه البقاء في المكتب أو في المخبر مهما كانت تجهيزاته متطورة. فالجغرافي رجل اتصال، فهو مطالب بملاحظة الارتباطات المجالية، وتفكيكها، لفهم تعقيداتها وأبعادها فهما جيدا. فالجغرافيا تواجهها اليوم مشاكل الساعة، التي هي في بعض الحالات ذات أهمية حيوية، وفي بعضها الآخر مأساوية. ونظرا لكفاءتها وتجربتها النظرية والعملية، فالهيئة الجغرافية عليها أن تكثف تواجدها أكثر فأكثر أثناء الأزمات المتكررة على الكرة الأرضية، والتي تعلن عنها أجهزة الإعلام ، بدءا بالزلازل و الكوارث البيئية بصفة عامة، ومن الأحداث التابعة للمنشآت الفنية إلى تلك المتعلقة بتنقل الأشخاص والبضائع. هذا وتجدر الإشارة إلى أن بعض الاختصاصات قد تفوقت في اهتمامها بهذه القضايا: مثل الجغرافيا السياسية و التاريخ و الفلسفة و الشعر والفن، إلا أنها تفتقر إلى تحليل التوطين(الموقع الجغرافي)، لكونها لم تتعود على الرؤية المجالية الخاصة بالجغرافيا. فالتصوير على الجدران، والأحكام المسبقة، والحلول التي لا تتماشى مع الواقع هي الأشياء المحبذة عند وسائل الإعلام.
على كل، فالتعقيدات المتزايدة للمشاكل الاجتماعية المجالية، والمزج البشري والاقتصادي الكبير، وتحويل التكنولوجيا، كل هذا أدى إلى تفكيك المجتمعات، و إلى عدم استقرار الأشخاص، كما أضعفت أو ألغت المرجعيات. فهذه التحولات هي التي يجب أن ينتبه إليها الجغرافي بالدرجة الأولى.
3- الجغرافيا البشرية و الديموغرافيا
الديموغرافيا هي علم السكان، تدرس حركات النمو الطبيعي، والهجرات السكانية، وتطورها، وخصائصها العامة. وهي تعد بالنسبة للجغرافي واحدة من الفروع العلمية الهامة المرتبطة بالجغرافيا. و الجغرافي يستعين بها عند دراسة جغرافية السكان. فالديموغرافي الذي يهتم بدراسة السكان، وحجمهم، وبنيتهم (من حيث السن، والجنس، وقانون الزواج، والأصناف الاجتماعية المهنية)، وتطورهم، وحركاتهم، وخصائصهم العامة، وهذا من المنظور الكمي (لكون الديموغرافيا تعتمد كثيرا على التحليل الإحصائي، ومنهجيتها تقوم على التحليل الديموغرافي)، فهذا الديموغرافي يهمل التوزيع المجالي للسكان، كما يهمل توزيع بنيتهم والخصائص العامة لتطورهم، ولهذا فهو في حاجة إلى الجغرافية لمعرفة الفوارق المجالية لكل عنصر من هذه العناصر الديموغرافية. يعني أن الجغرافيا تعطي للديموغرافيا بعدا مجاليا للظاهرات السكانية
4- الجغرافية البشرية و الاقتصاد
الاقتصاد، هو علم الإنتاج والتوزيع واستهلاك الثروات، وهو من العلوم الهامة التي لها علاقة بالجغرافيا، والتي أنشئ لها فرع يسمى بالجغرافيا الاقتصادية، التي تختص بدراسة القطاعات الثلاثة الفلاحة والصناعة والخدمات من حيث الإنتاج والتوزيع والاستهلاك عبر المجال. وكانت الجغرافيا الاقتصادية في بدايتها تركز على المواد الأولية، الفلاحة والمعدنية وغيرها، ثم بالإنتاج في وقت لاحق
وخلاصة هذا المحور الأول، هي أن الجغرافية البشرية تستعين بكل هذه الاختصاصات القريبة منها ولكن لا تحل محلها، فهي تعطي لكل منها بعدها المجالي الذي تفتقر إليه، لإثراء مقارباتها ومعاينة الفوارق المجالية للعناصر التي تتضمنها هذه الاختصاصات. فالجغرافيا كعلم مجال، هي علم تلخيصي أفقي لاختصاصات عمودية.
المحور الثاني
المحاضرة الرابعة
الجغرافية البشرية والوسط الطبيعي
تسعى الجغرافيا البشرية إلى الاستقلال عن الجغرافيا الطبيعية التي هيمنت عليها زمنا طويلا، حيث كانت جل المؤلفات الجغرافية تخصص للجانب الطبيعي القسم الأوفر من صفحاتها، ولا تتناول الجغرافيا البشرية إلا في عدد قليل منها. ذلك، أن المدرسة الجغرافية التي ينتمي إليها أصحاب هذه المؤلفات يرون في العوامل الطبيعية العناصر الأساسية التي تحدد وتوجه نشاط الإنسان واستقراره ونمط معاشه، و يقتصرون في تفسيرهم للظاهرات البشرية على العوامل الطبيعية من مناخ وتربة ونبات، ولا يعيرون إلا اهتماما ثانويا للدور الذي تلعبه العوامل الحضارية في توجيه نشاط الإنسان وفي اختيار أسلوب معاشه. وهم بهذا يقرون بالحتمية الجغرافية التي تجعل من الوسط الطبيعي العنصر المتحكم في مصير الإنسان.
ويناهض هذا التيار الذي يؤمن بالحتمية الجغرافية، تيار آخر تمثله المدرسة التي تدعو إلى استقلالية الجغرافية البشرية عن الجغرافية الطبيعية، لكون الإنسان يتمتع بمؤهلات جسدية وحضارية تمكنه من تذليل الإكراهات والعوائق الطبيعية وتسخيرها لمشيئته. فالإنسان يقيم في كثير من نقاط العالم، طبيعتها غير ملائمة لحياة البشر، مثل الأقاليم القطبية التي يغطيها الجليد طول السنة، إلا أن الإنسان تمكن من الإقامة فيها وتغلب على طبيعتها القاسية، المفرطة في البرودة، وهذا بفضل التقنيات والأساليب المعيشية التي أبتكرها، مثل بناء بيوت من الثلج لتقيه من الرياح الباردة العاتية، واتخاذ فرو الدببة لباسا له، لما يوفره من دفء للجسم، ومن لحمها الدسم الذي يزوده بالطاقة الحرارية الكافية لمواجهة البرد الشديد، قوتا رئيسيا له. فمجتمع الإسكيمو لا يقبل بديلا لنمط معاشه هذا، لأنه يمثل حضارته التي أقامها منذ زمن طويل.
ونفس الشيء يقال عن سكان صحاري العالم الذين تحدوا طبيعتها القاسية بشتى التقنيات الإنتاجية والمعيشية. فسكان وادي سوف عندنا في الجزائر مثلا، الذين يقيمون في وسط طبيعي معادي لكل حياة بشرية، أي في قلب العرق الشرقي، المشكل من رمال تغطي مئات الكيلومترات. فالمجتمع السوفي تمكن بفضل عبقريته، ابتكار تقنية الغوط ( حفرة ذات حجم يتراوح شعاعها بين 50 و 100م داخل الرمال على شكل مخروط،، يلامس عمقها رطوبة المياه الجوفية، وعند هذه الرطوبة تغرس أشجار النخيل، وبهذه التقنية تذهب الشجرة إلى الماء لتسقى، بدلا من سقيها من الأعلى، حيث يستغني فلاح وادي سوف عن سقي نخيله الذي تتغذي جذوره من المياه الجوفية (السماط) مباشرة. ولتخفيف وطأة الحرارة الشديدة يتوج سكان وادي سوف سكناتهم بسقف على شكل قباب تمتص الحرارة وتجعل الجو لطيفا داخل المنازل.
إذا فالمدرسة التي تدعو إلى استقلالية الجغرافية البشرية عن الجغرافية الطبيعية ترى بأن الإنسان بفضل قدرته العالية على التكيف مع مختلف الأوساط الطبيعية، ومهارته في اكتشاف تقنيات تتلاءم مع الوسط الذي يعيش فيه، فهو لم يعد يخضع للحتمية الطبيعية، وبالتالي، فأي تفسير للظاهرة البشرية يسند فيه كلية على العوامل الطبيعية هو تفسير ناقص إذا لم يأخذ بعين الاعتبار منذ البداية المعطيات الحضارية والتاريخية للمجتمعات الإنسانية.
وهناك مدرسة ثالثة تتوخى الوسطية، حيث تعتمد في تفسيرها للظاهرة البشرية على الفرعين: الطبيعي والبشري وترى بأن كل ظاهرة بشرية تشترك العوامل الطبيعية والحضارية في تشكيلها.
كل ما هو في المجال من فعل الإنسان وتدخله هو موضوع الجغرافيا البشرية. وأول ما ينصرف إليه فكر الباحث هو العلاقة الموجودة بين العناصر الطبيعية و العناصر البشرية داخل المجال، هل هذه متأثرة بتلك أم لا؟ فالظاهرة البشرية ذات علاقة معقدة مع الوسط الطبيعي، وبالتالي، فعند الدراسة، يجب الأخذ بعين الاعتبار الجانب الطبيعي، مع تفادي استخدامه للشرح المباشر للظاهرة البشرية. لأن فهم المناظرpaysages يتطلب الرجوع إلى مجموع العوامل الاجتماعية، الثقافية، والسياسية، التي يسميها الجغرافي بيير جورو (تقنيات التأطير). فالباحث يكتشف بأن المناظر البشرية هي جد مختلفة، مع أنها تقع في أوساط طبيعية متشابهة.
فالعناصر البشرية للمنظر، تعكس المعالم الحضارية للجماعة التي أنتجته. و المنظر قد يكون ريفيا، صناعيا، عمرانيا، وهو يخضع في جميع هذه الحالات إلى التحليل، والتوطين وشرح العلاقة الموجودة بين الظواهر البشرية للمجال، وخاصة منها البحث عن أساليب أو تقنيات الإنتاج (كتقنيات استغلال الوسط الطبيعي،والتقنيات المعيشية)، وتقنيات التأطير (أسلوب العلاقة القائمة بين الناس، وطرق تنظيم مجالهم). والجغرافيا البشرية لا تقتصر على الملاحظة الميدانية فحسب، فهذه الأخيرة ضرورية، ولكنها تبقى ناقصة إذا لم تزود بمقارنة نقدية، مبنية على معرفة التاريخ والحضارات.
وسنحاول فيما يلي معرفة مدى تأثير العوامل الطبيعية في توجيه نمط معاش الإنسان و استقراره:
لا شك أن للعوامل الطبيعية أثر في توزيع السكان على الكرة الأرضية. فالتباين في كثافة السكان، من نطاق جغرافي لآخر، ومن إقليم لآخر، يظهر الترابط الوثيق بين العوامل الطبيعية وتمركز السكان، فلكل من المناخ والتضاريس والعروض والصحاري والتربة، دور في التوزيع الحالي للسكان، كما أن للحضارة دور ريادي في هذا التوزيع وفي نمط النشاط الاقتصادي الممارس والتقنيات المستعملة.
1- المناخ والجغرافية البشرية
النطاقات الحضارية الكبرى والمناخ
لقد عرفت البشرية خلال القرن العشرين تطورا سكانيا مذهلا، بزيادة لم يسبق لها مثيل (لقد مرت من 1،6 مليار في بداية القرن العشرين إلى 6 ملايير نسمة في نهايته)، وخاصة سكان المدن الذين بلغت أعدادهم ثلاثة ملايير نسمة.
ويتفاوت توزيع السكان على الكرة الأرضية تفاوتا كبيرا، حيث يتمركز أكثر من ¾ بين خطي عرض 20 و 60 درجة في النصف الشمالي للكرة الأرضية، أي في النطاق الذي تغطيه المناطق المعتدلة والأجزاء الشمالية للإقليم المداري، بينما تبقى المساحات الشمالية الشاسعة الواقعة شمال خط عرض 60° شبه خالية من السكان.
هناك ¾ من مساحة اليابسة لا يقيم عليها إلا 10/1 سكان العالم، وتتشكل خاصة من المناطق القطبية وأقاليم الصحاري، وأن قرابة 60 % من هذه المساحات هي شبه خالية من السكان، وهذا بسبب المناخ. فالبرد والجفاف هما المتسببان الرئيسيان لهذا العالم الخالي من السكان. هذا العالم يقابله عالم آخر يعج بالبشر، والذي لا تغطي مساحته سوى ¼ اليابسة، تشكله الأقاليم الواقعة شمال النطاق المداري وأقاليم المناطق المعتدلة (شكل 3)
يضاف إلى هذا التباين الكبير بين النطاقات الخالية من السكان والنطاقات المكتظة بهم، تباين آخر في توزيع السكان داخل هذه النطاقات ذاتها، حيث يقل عدد السكان في الأقاليم التي تنتشر فيها الكتل الجبلية والصحاري، في حين تعج دلتات الأنهار والأحواض والسهول الساحلية بالسكان.
و المناطق الأكثر ازدحاما في العالم عددها ثلاثة:
- الأقاليم الواقعة شرق وجنوب شرق آسيا، و التي تمتد من شمال الصين إلى شبه الجزيرة الهندية، ويقدر سكانها بحوالي 000 3 مليون نسمة، أي ما يعادل نصف سكان العالم.
- إقليم أوروبا و روسيا الأوروبية ويبلغ عدد سكانه حوالي 1200 مليون نسمة
- أما الإقليم الثالث والأخير فهو الإقليم الشرقي لأمريكا الشمالية والذي يبلغ عدد سكانه حوالي400 مليون نسمة أي ما يمثل 4 في المئة من سكان العالم.
وتسود اليوم في النطاق المداري والنطاق المعتدل حضارتين متباينتين: حضارة زراعية في النطاق المداري، وحضارة عمرانية في النطاق المعتدل. وعلى هذا الأساس، يمكن توزيع نسبة تحضر بلدان العالم في بداية القرن العشرين إلى ثلاث مجموعات رئيسية:
فالمجموعة الأولى، وهي السائدة في بداية القرن 20، تمثل الحضارات الزراعية، أي المجتمعات التي هي ريفية في أغلبيتها الساحقة، ولها ارتباط وثيق بالأرض، و تضم هذه المجموعة سكان آسيا، وإفريقيا السوداء، ولها بعض الجوانب العمرانية، إلا أن المدينة لا تحتل مكانة مرموقة في هذه الحضارة.
أما المجموعة الثانية فتتقدمها أوروبا واليابان، وهي تتميز بحضارة عمرانية متطورة، يفوق عدد سكان المدن فيها سكان الأرياف، مثل المملكة المتحدة. فوفرة الأنشطة غير الفلاحية المدفوعة الأجر، لدول هذه المجموعة، أدى إلى نزوح ريفي متواصل، ميز التطور العام لهذه المجتمعات. و يمكن القول، أنه لغاية منتصف القرن 20، كان ثلثي سكان العالم يعتمدون في معاشهم على خدمة الأرض. حيث كان النشطاء (الذين هم في سن العمل) من سكان العالم يقدر عددهم بواحد مليار في منتصف القرن العشرين، وكان الفلاحون يمثلون ¾ هذا العدد، منهم 500 مليون في آسيا و150 في أوروبا، و 350مليون موزعين على باقي مناطق العالم.
أما المجموعة الثالثة وهي مجموعة الدول الجديدة (البرازيل، كوريا الجنوبية، الطايوان)التي استغلت الأرض استغلالا مفرطا، وبأسلوب زراعي واسع، دون أن يترتب عن ذلك ما كان منتظرا من استقرار سكاني مكثف في الأرياف. فالعلاقات بين الفلاحة والمناخ كانت نتائجها الاجتماعية -المجالية لدى هذه المجموعة الثالثة مغايرة لتلك التي سادت في الدول ذات الحضارة الزراعية التقليدية، التي استغلت مجالها بصفة عقلانية، كان فيها الانسجام كبيرا بين الوسط الطبيعي والمجتمعات التي تستغله. فقد فقدت هذه المجموعة الثالثة منذ الربع الأخير من
القرن الماضي، أسباب وجودها القائمة على الفلاحة، باستثناء البرازيل، وأصبحت تصنف مع البلدان الأكثر تحضرا في العالم، مثل أوروبا، واليابان.
وإذا كان تطور سكان الحضر قد أصبح اليوم ظاهرة عالمية، إلا أنه في البلدان المدارية، لا يزال الريفيون يشكلون أغلبية السكان، مثل الهند. ونفس الشيء يقال عن إفريقيا السوداء، التي لا تزال أريافها تحتفظ بأغلبية السكان، والفائض الديموغرافي تستقبله المدن، التي تتعايش مع الريف في انسجام تام، مما يعبر عن استمرار العلاقة القوية القائمة بين الوسط الطبيعي و المجتمعات الفلاحية المعتمدة على العمل اليدوي بالدرجة الأولى. و الصين، هذا البلد الكبير، الذي يمثل استثناء بين البلدان الواقعة في المنطقة المعتدلة، حيث لم يطغ العمران فيه على الزراعة، كما هو الشأن في الدول الأوروبية وفي اليابان التي يغلب عليها الطابع العمراني. فالصين يعد البلد الوحيد داخل المنطقة المعتدلة الذي لازالت الفئات الفلاحية فيه تمثل أغلبية السكان. فالعلاقة بين المناخ و المجتمعات الأوربية واليابان قد عرفت تغيرات عميقة خلال القرن 20، والتي تزامنت مع تقلص كبير للفلاحين التقليديين داخل هذه المجتمعات.
يتضح من خلال هذا العرض، أن المجتمعات الزراعية تنتشر في الأقاليم المدارية والشبه المدارية، حيث تمثل غالبية السكان، بينما ترجح كفة الحضر في المناطق الخارجة عن الأقاليم المدارية.
أما مجتمعات العروض العليا الواقعة شمال خط عرض 60° فهي تعتمد أساسا على الصيد البري والبحري.
لكل مناخ خصائصه وحدوده، فهو لا يسمح بأي نشاط زراعي أو رعوي. فالمناخ المعتدل الجيد لأوروبا الشمالية الغربية لا يسمح مثلا بزراعة قصب السكر أو الأناناص ( قبل ملاءمة هذين المحصولين بطرق علمية مع المناخ المعتدل أخيرا)، كما أن المناخ المداري الجيد لبلد مثل سيريلانكا لا يسمح بإنتاج القمح أو الإجاص.
غير أن كل المناخات تتيح إمكانات اقتصادية أوسع من التي يستغلها الإنسان في الوقت الحاضر. فسكان المناطق القطبية لا يربون كلهم حيوان الرن rennes، مع أنه بإمكانهم فعل ذلك، كما أنهم يهملون كثيرا من الموارد المحلية. والأستراليون قبل الاستعمار البريطاني، لا يستغلون إلا جزءا قليلا من موارد صحرائهم، مقارنة بسكان الصحراء الكبرى. كما أن هؤلاء يمكنهم الحصول على المزيد من الثروات لو استغلوا الإمكانيات السياحية الشتوية لصحرائهم الكبرى.
والحقيقة أن الإنسان له قابلية العيش في كل أنواع المناخات إذا توفر الطعام، فالمانع الوحيد الذي يعيقه هو ندرة الأكسجين في المرتفعات العليا. حيث لا يستطيع الإنسان العيش عند علو يساوي أو يفوق 5500م. كما تقر بذلك البحوث العديدة. فحسب بيير جورو، أنه يوجد هناك في البيرو منجم يقع على ارتفاع 5700م، كان عماله يقيمون في مكان أسفل منه على علو 5200م، ويتسلقون يوميا 500م التي تفصل المنجم عن مكان إقامتهم، وقطع هذه المسافة يوميا شيء مرهق، ومضيعة للوقت، فهيئت لهم إقامة جديدة لا يفصلها عن المنجم إلا 200م، أي على ارتفاع 5500م. إلا أن العمال رفضوا الإقامة في هذا المركز الجديد الذي هيئ لهم، رغم قربهم من المنجم، لأنهم يشتكون عند هذا الارتفاع (5500م)، من قلة النوم، و فقدان شهية الأكل، وكذلك فقدان وزنهم، في الوقت الذي كانوا يعيشون بصفة عادية في إقامتهم القديمة على ارتفاع 5200م.
فالظروف المناخية يمكنها أن تمنع الإنسان من إنتاج قوته، إلا أنها لا تمنعه من ممارسة نشاط آخر غير الزراعة، كما هو الحال بالنسبة لعمال المنجم المذكور أعلاه.
فالضرورة الحقيقية للإنسان هي الطعام والتنفس (الأكسيجين)، يليهما اللباس والمسكن اللذان يمكن اعتبارهما من الكماليات مقارنة بالطعام والتنفس. فالإنسان لا يعيش بدون طعام تحت أي مناخ كان، ولكن بإمكانه أن يعيش بدون لباس أو بلباس خفيف في كثير من المناخات، كالأقاليم المدارية مثلا التي يكتفي سكان بعض المناطق منها بستر عوراتهم بألياف النخيل، بينما تبقى أجزاء الجسم الأخرى عارية. إلا أن اللباس يصبح ضرورة ملحة كلما اشتد البرد. فالإنسان في المناطق القطبية يربى أغنام الصوف ويصطاد الحيوانات الفروية، لما توفره له من غذاء دسم تعزز مقاومته للبرد الشديد من جهة، و يصنع من صوفها و فروها ألبسته التي تمتاز بفعاليتها في مقاومة البرد الشديد من جهة ثانية،. في الوقت الذي تمارس زراعة القطن وقطف ألياف النخيل في المناخ الحار.
المحاضرة الخامسة
1-الجغرافية البشرية والمناخ القطبي.
الأقاليم المناخية النطاقية الكبرى هي أربعة : الإقليم القطبي، الإقليم المعتدل، الإقليم المتوسطي، الإقليم المداري، وهناك من يضيف إليها إقليمي الشبه المداري والاستوائي، اللذان يحسبان على الإقليم المداري، وتارة يقتصر على خاصية هذه المناخات النطاقية فيقال مناخ بارد، حار، جاف، رطب. كما توجد مناخات محلية مثل المناخ المحيطي ،الجبلي، الموسمي (شكل 4).
فالمناخ القطبي يسود إقليم القطب الشمالي وإقليم القطب الجنوبي. و ما يجب الإشارة إليه هو الفارق الطبيعي و البشري بين القطب الشمالي والقطب الجنوبي، فالأول يغطيه المحيط القطبي الشمالي المتجمد، وتقوم عليه حياة بشرية عريقة في القدم. أما الثاني (انتراكتيك Antarctique) فتشكله القارة القطبية الجنوبية التي تغطيها الكتل الجليدية العملاقة المنتهية قممها بقباب، و لم يعرف هذا القطب الجنوبي أي حياة بشرية، قبل أن تقام عليه محطات علمية في القرن 20 ، والتي يبلغ عددها اليوم 40 محطة تابعة ل 17 دولة، أولها أقيمت سنة 1928، تابعة للولايات المتحدة الأمريكية. وقد صنفت القارة القطبية الجنوبية كحظيرة طبيعية عالمية، في المعاهدة المصادق عليها في مدريد بإسبانيا سنة 1991، والتي يمنع بموجبها استغلال مناجمها، و تخصص فقط للأبحاث العلمية، كدراسة التحولات المناخية التي تعود إلى العهود السابقة، قصد محاولة إسقاطها على المستقبل. وتعتبر القارة القطبية ، القطعة الوحيدة من اليابسة التي لا تتبع لدولة معينة، أي أنها غير مملوكة.
ونظرا لغياب الحياة البشرية على القارة الجنوبية القطبية، سنركز في هذه الدراسة على الجغرافية البشرية في القطب الشمالي.
و أول ما يلفت انتباه الزائر للإقليم القطبي الشمالي هو العلاقة بين الظروف الطبيعية و الجغرافية البشرية، المتميزة بقلة السكان، وغياب الزراعة.
الإقليم المساحة عدد السكان الكثافة في كم2
كندا الشمالية 470000 كم2 6500 0.014
ألاسكا 1،5 مليون كم2 550000 0.4
جرينلند 2،2 مليون كم2 55000 0.02
سيبريا 13 مليون كم2 32017000 2.5
المجموع 16170000 كم2 32611500 2.01
جدول 1 Source : climats et sociétés.1999.
فالسكان، رغم قلتهم، ليسوا موزعين بكيفية منسجمة عبر الأقاليم القطبية، كما يوضح ذلك (الجدول رقم 1) حيث أن الكثافات تتباين من إقليم قطبي لآخر، فهي تتراوح بين 2.5 في سيبريا، وهي أعلى كثافة في المنطقة القطبية، و0.014 في كندا الشمالية، وهي أخفض كثافة في هذه الأقاليم الجليدية، ومعدل الكثافة السكانية، إذا ما استثنينا سيبيريا، هو دون 0.3 في كم2 . فهذه الكثافات الضعيفة تتمركز خارج الكتل الجليدية الكبرى، أي أنها عند الدائرة
القطبية أو في شمالها قليلا التي تشكلها اليابسة المحيطة بالمحيط القطبي الشمالي. والسؤال المطروح، لماذا تركت شعوب المنطقة القطبية الأقاليم الجنوبية التي يسود فيها المناخ الشبه المعتدل، بل المعتدل والتي كانت خالية من السكان، وصعدت إلى الشمال في اتجاه الدائرة القطبية، حيث الجليد الدائم والبرد القارص والرياح العاتية؟ كيف تفسر هذه المفارقة؟
لقد أصبح مؤكدا بأن البشرية الأولى لم تظهر تحت المناخ القطبي، فسكان هذا المناخ قدموا بدون شك من مناخات جنوبية أكثر اعتدالا. ولكن، لماذا هاجروا هذه المناطق المعتدلة؟ والجواب على هذا السؤال يبنى حسب الدراسات على فرضيتين:
- الفرضية الأولى: ترجح بأن الإسكيمو كانوا يقيمون في الجنوب، وصعدوا إلى الشمال عندما تراجع حيوان الرن، تبعا لتراجع المناخ الجليدي في اتجاه الشمال (حيوان الرن يعيش تحت المناخ الجليدي في كل من سبيريا واسكندنافيا وجرينلند و كندا. تبلغ قامته 1.5م، وهو حيوان يقتنع بالشيء القليل من الأكل ومقاوم. وخشب قرونه مسطحة في نهايتها، تسمح له بالنبش تحت الثلج عن حشائش الليشين lichens التي يتغذى بها. فهو حيوان نصف مستأنس عند شعوب إقليم لبوني Laponie \\ط¥ظ‚ظ„ظٹظ… يقع في أقصى شمال القارة الأوروبية، أي شمال الدائرة القطبية، ويوزع بين النرويج والسويد وفنلندا وروسيا، و يبلغ عدد سكانه حوالي 45000 نسمة\\، والإسكيمو يستعملون الرن لجر عرباتهم. أما لحمه، و دمه، و حليبه، وجلده، و خشب قرونه، فهي تمثل موارد ثمينة بالنسبة لهم)،
أما الفرضية الثانية: هي أن الإسكيمو كانوا يقيمون على السواحل، وقد تابعوا عجل البحر(شيخ البحرphoque ) في اتجاه الشمال، لارتباطهم الشديد بهذه الطريدة. ومهما كانت قوة هاتين الفرضيتين، فإن ظاهرة الشعوب القطبية تبقى ظاهرة غريبة.
1-1 الأنماط المعيشية للمجتمعات القطبية
تختلف الوسائل الحضارية للمجتمعات القطبية باختلاف الأقاليم، رغم تشابه هذه الأخيرة في مناخها، المتميز بالبرودة الشديدة، و التي تستحيل معها أية فلاحة (باستثناء الفلاحة البلاستيكية). هذا الاختلاف، يظهر في تنوع الوسائل المعيشية والتنظيمية لهذه المجتمعات، حيث يمكن التمييز بين مجموعتين رئيسيتين: الأولى يقتصر نمط معاشها على الجمع (صيد الأسماك، الصيد البري، قطف الثمار)،
والمجموعة الثانية تضيف إلى ذلك، تربية الرن لهدف غذائي.
وتشترك كل المجتمعات القطبية في تربية الكلاب، وذلك لغرضين: تستخدم في جر الزحافات على الجليد من جهة، وتستعمل في الكشف عن الثقوب التي يتنفس من خلالها عجل البحر في الجليد، من أجل اصطياده). والتساؤل هنا هو، لماذا يربى الرن عند مجموعة كمورد أساسي للتغذية، ولا يربى عند مجموعة أخرى، و لا تتغذى منه، رغم أن الظروف الطبيعية لتربية الرن ملائمة عند المجموعتين؟ و الجواب على ذلك: أنه عندما تكون الظروف الطبيعية متشابهة، فالاختلاف في النمط المعيشي يصبح قضية حضارية ، فاختيار تربية الرن، أو عدم اختياره، لا يعود إلى الظروف الطبيعية، إنما للعادات، والتقاليد، والمعتقد، وهذه عوامل حضارية.
والتنظيم الاجتماعي لهذه الشعوب القطبية مثير للدهشة : فإسكيمو شمال كندا مثلا يجتمعون في فصل الشتاء، حيث يحفرون منازل عند قدم المنحدرات الشديدة، إذا سمحت طبيعة المنطقة بذلك، أو يبنون منازل من الثلج، مطمورة تحت الأرض، حيث تكون لكل أسرة صغيرة حيزها على المقعد الذي يحيط بالمجال المسكون، غير أن الحياة تبقى جماعية، والتموين يكون بصيد عجل البحر عند الثقوب التي أنشأها عبر الجليد للتنفس منها. وفي الصيف يفترق الإسكيمو في عائلات صغيرة، حيث تكون لكل عائلة خيمة من جلد الرن أو عجل البحر، تقام على عصي طويلة تثبت في الأرض بالحجارة. إلا أن التموين في الصيف لا يكون بعجل البحر بل بالصيد البري.
وقد فسر المنزل الجماعي في الشتاء عند الإسكيمو بأنه لغرض الحصول على تدفئة أفضل. فاجتماع العديد من الأشخاص في منزل واحد يزيد من حرارة المنزل، ويقتصد من استعمال الوقود (يوقد المصباح بشحم عجل البحر)، وهذا تفسير موضوعي، كما أن التجمع في الشتاء والتبعثر في الصيف يفسر بالتموين، حيث تتموقع عجول البحر في أماكن محددة في الشتاء، ويسهل صيدها ، بينما تتفرق في فصل الصيف ويصعب الحصول عليها، وهذا أيضا تفسير لا بأس به ، لكنه لا يكفي، إذ كيف يفسر استعمال الخيم طول السنة ، وتحت أجواء جد باردة، وتدفئة شبه منعدمة، عند قبائل الهنود الذين يعيشون في جزر شمال كندا، و هنود غابة ألاسكا، ومع ذلك لم يفكروا في إقامة منازل جماعية قصد التدفئة.
والفروق في أنماط السكن وفي تجمعه بين إسكيمو شمال كندا وإسكيمو أطا في جرينلند لا يدعم الفرضيتين السابقتين المبنيتين على التجمع من أجل التدفئة، والتشتت نتيجة تبعثر عجول البحر. فإسكيمو جرينلند يقيمون في الشتاء في منازل عائلية منفصلة مصنوعة من الخشب، إلا أنها مجمعة في منطقة واحدة، وفي الصيف تتفرق العائلات، حيث ينصرف الرجال لصيد عجل البحر بالبندقية، والنساء يجففن شرائح اللحم، بينما يقوم الأطفال بصيد الأسماك وتجفيفها لتستهلك في الشتاء.
فالفروق في أنماط السكن، وفي تجمعه تمليها إذا عوامل حضارية. فالحياة الجماعية تتوافق مع انشغالات اجتماعية دينية: فالحياة الدينية عند الإسكيمو مثلا، تقلص في الصيف، بينما هي كثيفة في الشتاء.
ورغم أن الإسكيمو مشهود لهم بمعرفة المناخ القطبي وتوقعات تغيراته، كما تؤكد ذلك الكثير من الدراسات، و يبدو هذا من خلال العناية التي يولونها في إعداد ملابسهم الشتوية المصنوعة من جلد الرن، إلا أنهم لا يكترثون كثيرا بغذائهم. فهم، إن كانوا يعرفون تحضير مؤنهم من اللحم والأسماك المجففة، التي يدخرونها في مخابئ لتبقي جامدة، فهم لا يوفرون مؤنهم للشتاء بكميات كافية، مما يجعلهم عرضة لمجاعات، تدفعهم في بعض الأحيان إلى أكل لحم البشر، وهي حالات ليست نادرة في فصل الشتاء، والنساء يؤكلن الأوائل.
يعتقد الإسكيمو أن الشجاعة والمهارة هي أثمن من المؤن المدخرة، وأنهم يعرفون دائما كيف يخرجون من المحن، ولا يحتاطون إلا قليلا لما هو غير متوقع (كالأمراض، والعواصف العاتية)، فهم ضحية الثقة المفرطة في قدراتهم.
إلا أن إسكيمو جرينلند، الذين اختلطوا مع شعوب اسكندنافية، هم أكثر حداثة من غيرهم من مجتمعات المناخ القطبي، فقد عرفوا تجددا ديموغرافيا نتيجة اختلاطهم مع المستعمرين الدانماركيين، كما عرف اقتصادهم نموا مزدهرا . فالرجل الجرينلندي يمتهن صناعة صيد سمك المورو morues، ويتمتع بكفاءة عالية في مهنته، كما أنه صاحب مبادرة. فهو يربي الأغنام ، التي يشكل سمك المورو جزء من غذائها، لتصديرها. إلا أن التقلبات المناخية تقلص في بعض الأحيان من وفرة المورو وتعرض تربية الأغنام للخطر. لقد عانت جرينلند في شتاء 1966-1967 من برد شديد، ترتب عنه تدحرج الكتل الجليدية العملاقة نحو الجنوب، وتبعها تدحرج عجول البحر والدببة البيضاء، التي أتلفت قطعان الغنم بعد ما عرفت هذه الأخيرة انتشارا ملحوظا.
المحاضرة السادسة
2- الجغرافيا البشرية و الصحاري الحارة
تختلف المجتمعات الصحراوية في أنماط معاشها كاختلاف المجتمعات القطبية، وهي نوعان: بدو رحل، وسكان مستقرون في الواحات أين يتوفر الماء. وإذا كانت حياة المجتمعات القطبية تبدو غريبة و قاسية بالنسبة للذين يقيمون في الأقاليم المعتدلة، فإن المجتمعات الصحراوية تبدو هي أيضا غريبة وحياتها قاسية. إذ كيف تقبل هذه المجتمعات العيش في بيئة صحراوية جافة، و حرارة لا تطاق، بينما توجد مناطق شاغرة ومعتدلة في الشمال؟
فالصحاري في جملتها، غير صالحة لإقامة الإنسان، وعلى الإنسان تفاديها. لكن مع ذلك هناك جماعات اختارت الإقامة فيها، وهذا يعني أنها وجدت وسائل العيش، كاللقط،، وتربية الماشية، والفلاحة، والتجارة. وإذا كانت إقامة المجتمعات القطبية فسرت بفرضيتي انحصار الرن وعجل البحر في اتجاه الشمال تبعا لانحصار الجليد، فان إقامة المجتمعات الصحراوية، تفسر كملجأ آمن تارة، وكبقايا لشعوب خلت تارة أخرى. أي أن الصحاري هي ملاذ يلجأ إليها كل من لا يستطيع أعداؤه ملاحقته، كما تفسر أيضا بالبقايا، أي أنها تمثل بقايا لمجتمعات خلت كان فيها مناخ الصحاري رطب، وأكثر قابلية للسكن على ما هو عليه اليوم. والمجتمعات الصحراوية، تعرف اليوم تحولات اجتماعية اقتصادية لم يسبق لها مثيل، وهذا خلافا للمجتمعات القطبية التي لم تعرف إلا تغييرا طفيفا في أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية.
فالجغرافيا البشرية لمجتمعات الصحاري تبدو أهميتها في مقارنة وضعيات بشرية مختلفة، وليس في تحديد أنماط معيشية متطابقة عبر صحاري العالم. فالصحراء الكبرى، وشبه الجزيرة العربية، وأستراليا، والكلهاري، وصحاري أمريكا الشمالية لها جغرافية بشرية مختلفة، حيث تطغى الأصول المحلية على الملامح المشتركة.
2-1 شبه الجزيرة العربية والصحراء الكبرى
لا زالت تستعمل لحد الآن في كل من الصحراء الكبرى وفي شبه الجزيرة العربية تقنيات الإنتاج التقليدية. فبعض السكان يعيشون من جمع القوت، كقبيلة النيمادي في موريطانيا الشرقية، التي تعيش خاصة على القطف، وعلى الصيد، فهم لا يربون مواشي اللحم والحليب، و يحملون أولادهم على أكتافهم أثناء التنقل.
ومن جهة أخرى، نجد أن بعض سكان الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية يمارسون الزراعة المسقية في الواحات، ويربون المواشي الترحالية (المتنقلة).
عرف السقي الممارس في الواحات تطورا كبيرا في تقنياته خلال النصف الثاني من القرن الماضي، حيث تسمح هذه التقنيات الجديدة بسقي مساحات أكبر بكثير عما كانت عليه في الماضي. ففي منتصف القرن العشرين كان الفلاح في الصحراء الجزائرية يسقي واحته من بئر لا يزيد عمقها عن 10 إلى 15م في أفضل الحالات، ويخرج الماء بواسطة دلو تتراوح كميتها بين 50 إلى 60م3 في اليوم، وهذه الكمية من الماء لا تكفي لسقي أكثر من 1هكتار، إذا عرفنا بأن الهكتار الواحد في الصحراء يتطلب واحد لتر في الثانية لتغطية حاجات محاصيله. وهذا يعني أن هذه التقنية التقليدية لا تسمح إلا لسقي مساحات صغيرة. أما التحولات التي طرأت على نظام السقي في نهاية القرن العشرين، فتتمثل في تقنية التنقيب التي تستخرج الماء من أعماق بعيدة وبكميات متضاعفة يتراوح معدلها بين 30 إلى 40لتر في الثانية، بل أكثر من هذا بكثير في بعض الحالات (النهر الأعظم في ليبيا)، مما يسمح بسقي مساحات كبيرة في الصحراء خارج الواحات كما هو الشأن في الصحراء الليبية وفي المملكة العربية السعودية. وبفضل تقنية التنقيب، ازدادت مساحة السقي اتساعا كبيرا في الواحات التقليدية، وتضاعفت أعداد النخيل، كما هو الشأن في واحات الجزائر، وعلى وجه الخصوص بسكرة. ولتفادي تبذير مياه السقي تستعمل اليوم تقنية السقي بالتقطير، التي بدأت تنتشر في بعض الواحات الصحراوية. ومن نتائج الديناميكية الزراعية التي تعرفها الصحراء اليوم، ازدياد عدد سكان مدن الواحات التي يغذيها تراجع الرعي الترحالي واستقرار البدو الرحل.
هؤلاء البدو الرحل، الذين أجبرتهم الظروف الطبيعية الصحراوية على امتهان تربية المواشي، و يبدو أنها المهنة الوحيدة التي تسمح بها الظروف الصحراوية القاسية. فهم يتنقلون لاكتشاف أماكن الرعي وتوطينها في أذهانهم، وفي نفس الوقت اكتشاف الأماكن الجدباء لتفاديها. ولهذا كانت تنقلاتهم تتم وفق المواسم، وتكون مدة الإقامة حسب الأمطار. فهم يتنقلون في الصحراء من مكان رطب لآخر. ففي المناطق الشمالية للصحراء في كل من الجزائر والمغرب، يتنقل البدو الرحل بين أعماق الصحراء، حيث تسقط بعض الأمطار في فصل الشتاء ، ويصعدون نحو الشمال ونحو الجبال في فصل الصيف اتقاء للجفاف والحرارة المحرقة، بحثا عن طقس معتدل ورطب.
2- 2 أستراليا، كلهاري، الصحاري الحارة لأمريكا الشمالية
الصحراء الأسترالية وصحراء كلهاري في جنوب القارة الإفريقية وكذلك الصحاري الحارة الواقعة في الجنوب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية هي أقل قساوة من الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية. فهي أقل جفافا وحرارة، وفي نفس الوقت أقل سكانا. فهي ليست صحاري بأتم معنى الكلمة إذا أعتبرنا أن كمية الأمطار التي تسقط في هذه الصحاري والتي تتراوح بين 200 و 300مم سنويا، كافية للإبقاء على حياة نباتية سهبية، وهي الكمية التي تسقط في السهوب الجزائرية والتي تسمح بغطاء نباتي رعوي متواصل. إلا أن استغلال هذه الصحاري يختلف فيما بينها. فالأستراليون الأصليون لا يستفيدون من صحرائهم، فهم لا يعرفون حياة البدو الرحل التي تعتمد على تربية المواشي، و لا الواحات التي تخلو منها صحراؤهم، و لا يتحكمون في التقنيات الفلاحية. فهم مجتمع بدائي يعتمد على الالتقاط والصيد في معاشه.
أما المجتمع الصحراوي الكلهاري فهو مجتمع يقوم على تربية المواشي، ويتنقل بها من مكان لآخر،أي يعيش حياة الحل والترحال، ولكن بدون إرهاق كبير، لأن الوفرة النسبية للأمطار تسمح بوجود مراعي التي تقلل من التنقلات الطويلة. والصحراء الحقيقية هي الجزء الغربي الواقع على سواحل نميبيا، أما باقي كلهاري فهي عبارة عن سهوب.
الصحاري الحارة الواقعة في الجنوب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية، لا تتضمن إلا أجزاء محصورة من الأراضي التي يمكن اعتبارها صحاري، والتي تتلقى كمية من الأمطار تقل عن 55مم سنويا، بينما باقي الصحاري فتتلقى 250مم سنويا، بل أكثر من ذلك على مرتفعات السلاسل الجبلية التي تتخلل هذه الصحاري.
عرفت هذه المناطق الصحراوية للولايات المتحدة الأمريكية تعاقب حضارات متنوعة لهنود أمريكا، منها من اعتمدت على الجمع، وهي القبائل التي كانت تعيش في المنخفضات، و منها من اعتمدت على الفلاحة والسكن القروي والتي تقع على هضاب الكولورادو الرطبة نسبيا والتي لا تزال آثار مدرجاتها الزراعية شاهدة عليها. فقد طبقوا مختلف أنواع السقي ، منها السقي القائم على بناء سدود بسيطة من الأحجار على الوديان عند أقدام الجبال، وتحويل مياهها صوب الأراضي المزروعة، وهذه التقنية معروفة لدى البلدان التي تقل فيها الأمطار. كما يقيمون حواجز عديدة من الأحجار على طول الأودية الجبلية للتخفيف من حدة الفيضانات من جهة، ولترسيب الغرين على ضفافها لاستغلالها زراعيا من جهة ثانية. كما استعملوا تقنية البئر والينابيع في سقي محاصيلهم الزراعية. أما اليوم وبعد الاستيطان الأوروبي لأمريكا فقد أخذت هذه المجتمعات الهندية في الانقراض تدريجيا، ولم يبق منها الآن إلا الشواهد. وقد تحولت صحاري جنوب غرب أمريكا اليوم إلى مجال صناعات مختلفة، وخاصة منها السنمائية ، كما طورت فيها الفلاحة وخاصة زراعة النخيل، وتشهد نموا عمرانيا كبيرا.
المحاضرة السابعة
3- الجغرافيا البشرية والمناخ الرطب والحار
الأقاليم المدارية نوعان : أقاليم حارة وجافة تتربع عليها الصحاري والسهوب، وأقاليم حارة ورطبة تتاخم عادة المسطحات المائية وتستفيد من رطوبتها عندما تهب الرياح الموسمية، وتقع هذه الأقاليم الحارة والرطبة على نفس خطوط عرض الصحاري الحارة، وهي تغطي أمريكا الوسطى وجنوب القارة الهندية، ويمكن أن تضاف إليها الأقاليم الاستوائية،الواقعة في كل من إفريقيا وأمريكا الجنوبية. والمعدل الشهري للحرارة لا يهبط عن 18°، في هذه الأقاليم، ولا آثار للجليد فيها. والأمطار كثيرا ما تكون غزيرة، وهي نوعان: سنوية على الأقاليم الاستوائية، وموسمية صيفية على الأقاليم المدارية. وإذا كانت الأقاليم الاستوائية، ذات الرطوبة العالية والحرارة الخانقة، لم تكن ملائمة لاستقبال الناس، ولم تقم عليها أية حضارة، لا رعوية، ولا زراعية ولا عمرانية، بل حافظت على غاباتها الكثيفة الباسقة، التي تزود العالم بالأوكسجين. هذه الأقاليم الاستوائية، بقيت في معظمها خالية من السكان إلى يومنا هذا، لعدم ملاءمة طبيعتها للإنسان.
أما الأقاليم المدارية الرطبة فهي عكس ذلك، فقد شهدت حضارات زراعية راقية تعرف بحضارة الأرز، ويقيم فيها اليوم 3/4 فلاحي العالم، والمناظر السائدة فيها هي المناظر الزراعية، لا يحتل فيها الوسط العمراني والصناعي إلا مكانة ضئيلة. والزراعة في الأقاليم المدارية الرطبة، هي زراعة تقليدية معيشية، قليلة التوجه نحو السوق، و لم تمسها بعد التحولات التقنية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا. وهذا لا يعني أن فلاحي الأقاليم المدارية الرطبة يجهلون التقنيات الفلاحية الحديثة، بل عرفوها من خلال الاستعمار الأوروبي. فقد جلب الاستعمار تقنيات حديثة وأدخل غراسة تجارية جديدة لم يعهدها فلاحو الأقاليم المدارية. إلا أن الزراعة التقليدية المعيشية لا تعني إنتاج محصول واحد. فالزراعية متنوعة ولا تقتصر على زراعة الأرز، وهذا التنوع لا تمليه عوامل اقتصادية، بل توجهه الظروف الطبيعية.
الإقليم المداري يشمل أيضا مناطق تتراوح بين المطيرة والجافة وهي أقاليم حشائش السفانا التي تأتي مباشرة شمال وجنوب خط الاستواء، والتي تمارس فيها الزراعة المتنقلة القائمة على الحريق، كما سنتعرض إلى ذلك في المحاضرات القادمة.
والزراعة في الأقاليم المدارية تتنوع بتنوع الكثافات البشرة، فهو الإقليم الذي يضم في نفس الوقت المناطق الأقل كثافة سكانية في العالم (الصحاري) وأكثرها ازدحاما (جنوب وجنوب شرق آسيا).
4- الجغرافية البشرية والمناخات المعتدلة
تمتاز المناخات المعتدلة بشتاء بارد ومطير، تتوقف أثناءه الحياة النباتية، وبفصل حار وجاف نسبيا، وطويل بما فيه الكفاية، مما يساعد على الاستغلال الجيد للمحاصيل الفلاحية. وهذه الخصائص المناخية الجيدة، جعلت الكثير من المؤلفات تعتمدها في تفسير ميلاد الحضارات الراقية للأقاليم المعتدلة، مثل المعجزة الإغريقة. وترى بأن المناخات المعتدلة هي أكثر المناخات ملاءمة للنشاط الجسدي والفكري، والنفسي، والاقتصادي. وقد اعتمدت هذه المؤلفات في بحثها على وفرة الإحصائيات والقياسات، لتبرير هذا المبدأ. و بطبيعة الحال، فقد تم تأكيد هذا المبدأ، كما هو الحال عندما تؤخذ العناصر التي تتفق مع الفكرة، و تهمل العناصر التي تخالفها. وهذا موقف ذاتي، كما يراه بعض الباحثين. لأن المناخ المعتدل في حد ذاته ينقسم إلى أنواع، منه المحيطي والقاري و المتوسطي، وأي هذه المناخات المعتدلة أفضلها؟ فالحضارة الإغريقية نمت تحت مناخ البحر الأبيض المتوسط،، والحضارة الأوروبية الحديثة نمت تحت المناخات المحيطية والقارية المعتدلة، والحضارة الصينية ظهرت تحت مناخ معتدل قاري، قبل أن تزدهر بعد ذلك تحت مناخ معتدل إلى شبه مداري، والحضارة المصرية نمت وازدهرت تحت مناخ صحراوي، وحضارات آسيا الغربية لمعت تحت مناخات جد مختلفة، مثل الحضارة الفارسية، وحضارة وادي الرافدين، والحضارة السورية، وحضارة الأناضول، وحضارة شبه الجزيرة العربية. فالحضارة الهندية الراقية ترعرعت تحت مناخ مداري، وكذلك حضارة هنود أمريكا الوسطى الراقية (جواتيمالا والهندوراس) المعروفة بحضارة مايا في أمريكا الوسطى ظهرت في المنطقة المدارية، وحضارة البيرو الساحلية لمعت تحت المناخ الصحراوي. كما أن الحضارة الحديثة، لا يجب أن يعاد سببها إلى جودة المناخ المعتدل، بل هي نتيجة ظروف تاريخية التي لا علاقة لها بالمناخ.
بعض هذه المناخات المعتدلة، التي يعتبرها الكثير بأنها جد ملائمة للنمو الفزيائي والفكري للإنسان ، وفي ميلاد الحضارات الراقية، كانت غير مجدية، أو بطيئة النتائج في بعض الجهات من العالم التي يسود فيها المناخ المعتدل، كجنوب أستراليا، وجنوب إفريقيا، والأرجنتين، وأمريكا الشمالية، وهذا رغم المساحات الشاسعة التي تغطيها المناخات المعندلة الجيدة لهذه البلدان. فسكان هذه البلدان كان عددهم قليلا جدا في بداية القرن العشرين، وحضاراتها ليست راقية. فسهل البامبا Pampa الأرجنتيني الشاسع جدا ( 500 ألف كم2 )، الذي يعتبر أخصب سهول العالم، والمزود بأحسن المناخات المعتدلة الموجودة على الكرة الأرضية، لم يسكنه قبل التدخل الأوروبي إلا عددا قليلا جدا من الهنود الذين كانوا يعيشون على الالتقاط،. مع أنه نادرا ما يوجد سهل بهذه المساحة، مكون من أراضي خصبة، منبسطة، وممطرة بالقدر الكافي في عالم المناخ المعتدل. و نفس الشيء يقال عن الأراضي السوداء في روسيا الجنوبية، وسيبيريا الغربية.
إن الجزء الأكبر من العالم المعتدل كان قليل السكان في بداية القرن 19، تقطنه شعوب ذات حضارات بسيطة، غير خلاقة.
هذه بعض المراجع التي أعتمدت في إعداد هذه المحاضرات
- الجغرافية العامة الطبيعية والبشرية. د. محمد السيد غلاب. مؤسسة شباب الجامعة 1995
جغرافية السكان. د.يسري ع.ب. الجوهري و د. ح. مصطفى محمد.
دار الكتب الجامعية. 1971
الجغرافيا الحضارية. أ.د. ناريمان درويش. مركز الاسكندرية للكتاب.2017
P. Merlin. Géographie humaine. Puf. 1997
G.Wackermann. Géographie humaine. Université. 2017
P. Goorou. Pour une géographie humaine. Ed. Flammarion
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
=========
>>>> الرد الثاني :
اللهم اغفر لي ولأخي هذا آآآآآآآآآآآآآآآممممممممممممممممممممممممممممممممممم مييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييي ين
=========
>>>> الرد الثالث :
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو سالم محسن
اللهم اغفر لي ولأخي هذا آآآآآآآآآآآآآآآممممممممممممممممممممممممممممممممممم مييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييييي ين
أسعدنا مرورك الكريم بارك الله فيك أخي
=========
>>>> الرد الرابع :
شكرا.......................................
=========
>>>> الرد الخامس :
جزاك الله خيرا أخي الكريم
=========
جزاك الله الف خير وجعلها في ميزان حسناتك
بارك الله فيك أخي الكريم
تحياتي
اريد دروس الجغرافيا شعبة اداب و علوم انسانية نظام قديم
يمكنني مساعدة من يشاء في كل من المواد التالية * تاريخ *رياضيات باعتباري علمية *ادب /مقالات/
جزاك الاه خيرا وان شاء الاه يعطيك ماتريد
الله يهدي ماخلق............
أسعدنا مرورك الكريم بارك الله فيك أخي
أسعدنا مرورك الكريم بارك الله فيك أخي
zebi et zebi et encore zebbi