عنوان الموضوع : أزمة الجزائر من 1960 إلى 1963 من تاريخ الجزائر
مقدم من طرف منتديات العندليب
أزمة.. الجزائر من 1960 إلى 1963
اخوتي الاعزاء اقدم لكم هذا البحث في تاريخ الجزائر في فترة عصيبة جدا وهي فترة قبيل اثناء وبعيد الاستقلال وهذا البحث هو للاستاذ
حرفوش مدني ،
عرفت الثورة الجزائرية أزمات كثيرة خاصة منذ انعقاد مؤتمر وادي الصومام، وفي كل مرة كانت تلك الأزمات تكلف الجزائر أثماناً باهضة في الأرواح؛ وبدلا من التوقف عند كل أزمة من أجل البحث عن أسبابها الحقيقية والعمل على اجتثاث المرض من أصله، فإن القيادات المختلفة والمتلاحقة كانت تفضل الحلول المؤقتة والأدوية المسكنة وهي في ذلك مدفوعة بعوامل معقولة عند النظر إليها بمنظار المصلحة الآنية في ذلك الوقت. وظلت بقايا تلك الأزمات تتراكم وتنتظر العامل المفجر لها إلى أن كان التوقيع على اتفاقيات ايفيان يوم 18/03/1962.
فالتوقيع على الاتفاقيات، إذن، لم يكن هو السبب في ذلك الزلزال الذي بلغ أعلى درجات عنفه في تلك الصائفة من سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، لكنه كان المنفذ الذي تسربت منه الأزمة إلى الشارع، لأجل ذلك وللمساهمة في تسليط الأضواء على جزء من الحقيقة التي كانت في أساس الجهاد من ثورة نوفمبر، ارتأينا العودة إلى سنة واحدة وستين وتسعمائة وألف نحلل بعض أحداثها التي جرت قبل وبعد أشغال المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته التي استبدلت السيد فرحات عباس بالسيد ابن يوسف بن خدة لرئاسة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
أولا : ان المجلس الوطني للثورة الجزائرية في دورته التي دامت من 16/12/1959 إلى 18/10/1960 قد ألغت وزارة القوات المسلحة وعوضها بلجنة مكونة من ثلاثة وزراء هم: بلقاسم كريم ولخضر بن طوبال وعبد الحفيظ بو الصوف الذين اسندت لهم مهمة الاشراف على جيش التحرير الوطني، وفي نفس الدورة تقرر أيضا إنشاء قيادة للأركان رئيسها العقيد هواري بومدين وأعضاؤها الرواد: علي منجلي وأحمد قائد ورابح زراري المدعو عز الدين.
ثانيا : ان المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد قرر في نفس الدورة، عودة ضباط جيش التحرير الوطني إلى داخل الوطن، معنى ذلك أن قيادة الأركان يجب أن تغادر الأراضي التونسية إذا كانت تريد الاشراف الفعلي على سائر الولايات. وتنفيذا لقرار المجلس الوطني للثورة الجزائرية اصدرت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أمرا صارما يقضي بان يكون يوم 31/03/1961 هو آخر أجل لاجتياز الحدود الشرقية والغربية (52).
ثالثا : على الرغم من امتثال (53) بعض الضباط السامين لأوامر الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فان قيادة الأركان قد رفضت الدخول إلى أرض الوطن خوفا من خط شال ومن رد فعل الولايات التي لم تكن مستعدة للانضواء تحت قيادة موحدة.
رابعا : ان عدم استجابة قيادة الأركان للأمر الصادر عن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية قد جعل القيادة المذكورة تخرج عن الطاعة وتتحول بالتدريج إلى معارض سياسي يمتلك قوة رادعة ويبحث عن شخصية بارزة يحتمي بها من أجل الاستيلاء على السلطة.
خامسا : في منتصف شهر جويلية- تموز- سنة 1961 ونتيجة لعدة أسباب في مقدمتها مسألة الطيار الفرنسي التي سبقت الاشارة إليها وقضية الاشراف المباشر على الولايات في داخل الوطن مع البقاء خارج الحدودين الشرقية والغربية للبلاد، قدمت قيادة الأركان استقالتها، إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وكان بإمكان هذه الأخيرة أن تحسم الموقف بتعيين قيادة جديدة لكنها ترددت خوفا من ان ينشر الخلاف على الملأ ولأن التحضيرات كانت تجري حثيثة لجمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي كان جدول أعماله يتضمن نقاط خطيرة في مجالس التنظيم والسياسة.
لقد كانت قيادة الأركان تدرك، قبل استقالتها، ان جيش الحدود في أغلبيته الساحقة منظم بكيفية يستحيل معها تسييره بدون العقيد هواري بومدين ومساعديه المقربين، ويبدو أن اللجنة الوزارية للحرب كانت هي الأخرى متأكدة من تلك الحقيقة؛ لأجل ذلك فانها سعت، من طرف خفي، ليتراجع المستقلون عن قرارهم لكنها، في نفس الوقت، ضاعفت جهودها، بسرية مطلقة، لتمتين علاقتها مع الولايات ومع الفيدراليات الثلاث محذرة اياها من التعامل المباشر مع قيادة الأركان.
سادسا : في أثناء تواجد قيادة الأركان بالمانيا الغربية مقر فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، حاولت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ممثلة في رئيسها السيد ابن يوسف بن خدة تعيين قيادة جديدة (54) لجيش التحرير الوطني لكنها لم تنجح الا في تحريض أعضاء القيادة المستقيلة يعودون إلى تونس ومنها إلى الحدود لاستئناف مهامهم وهم أكثر قوة من أي وقت مضى.
وفي الحقيقة، فان الذي خدم قيادة الاركان انما هو عدم انسجام اعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (55) من جهة ورغبة هذه الأخيرة في الحفاظ على مظهر الوحدة الذي كان ضروريا لمواجهة فرنسا في مرحلة التفاوض من جهة ثانية. وقد وظفت قيادة الأركان تلك الحقيقة لتثبيت سيطرتها على قوات جيش التحرير الوطني في الحدود الشرقية والغربية على حد سواء ولتنصب نفسها قوة موازية للحكومة نفسها.
واذا كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية لم تتجرأ على استبدال أعضاء قيادة الأركان وفضلت عدم الدخول معهم في صراع علني ومفتوح، فانها، بالمقابل، لم تتردد في توجيه أوامرها إلى كافة الولايات كي تقطع كل علاقة معهم. ويبدو ان بلقاسم كريم لم يتوقف عن ذلك الحد، بل حاول معهم تطبيق سياسة فرِّقْ تَسُدْ عندما عرض على العقيد هواري بومدين رتبة جنرال غير ان هذا الأخير رفض العرض وسجل اللقاء ثم أذاع الشريط على أمواج إذاعة جيش التحرير الوطني كي يدين التصرف ويدعم مكانته في اوساط وحدات الجيش.
الدورة الثالثة للجيش الوطني للثورة
في هذه الأجواء المكهربة المتسمة بانعدام الثقة بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبين قيادة اركان جيش التحرير الوطني وبالتهديدات الفرنسية الملوحة بامكانية اللجوء إلى تقسيم الجزائر في حالة فشل المفاوضات، ظهر أن من الضروري دعوة المجلس الوطني للثورة الجزائرية وتحركت الارادات الخيرة تجمع الاصوات اللازمة لذلك تم تحدد انعقاد الدورة بطرابلس للفترة ما بين التاسع والسابع والعشرين من شهر أوت- آب- سنة 1961.
كانت تلك الدورة حاسمة، اتسمت أشغالها بصراع شمل جميع المجالات وتبلورت فيها من جديد الحزازات السياسية القديمة (56) لكن الذي استوقف الجميع واستدعى معالجته كثيرا من الحنكة الدبلوماسية والمرونة السياسية مسألتان ارتبط بهما مصير الدورة وهما: العلاقات بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والمفاوضات بين جبهة التحرير الوطني وفرنسا.
لقد كان الصراع على أشده بين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وبين قيادة أركان جيش التحرير الوطني التي كانت قد استقالت كما سبقت الاشارة إلى ذلك احتجاجا على قبول التفاوض مع فرنسا وعلى التعليمات التي اصدرتها اللجنة الوزارية والتي تدعو سائر الولايات إلى عدم الاعتراف بقيادة الاركان.
ولم تكتف قيادة الاركان بالاستقالة بل أنها ناورت في أوساط الضباط السامين حتى لا يستجيبوا لرغبة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في استبدال العقيد هواري بومدين ومساعديه، وراحت في المناورة إلى أبعد ما يكون حيث عينت قيادة مؤقتة مكونة من ضباط أوفياء كل الوفاء لها (57). وبالموازاة مع ذلك كثفت اتصالاتها بسائر أعضاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية من أجل اقناعهم بضرورة تعيين مكتب سياسي لجبهة التحرير الوطني يكون هو المسؤول الأعلى للثورة فيما بين دورتي المجلس ويكون مقره في مكان ما بالحدود الجزائرية التونسية. أما الحكومة المؤقتة تتكون فقط جهازاً تنفيذياً لتلك الهيأة السياسية الجديدة. هكذا، تصبح قيادة الاركان في نفس مستوى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية السيد فرحات عباس الذي وصفته قيادة الاركان بالميوعة وعدم التشبع بالفكر الثوري وبالاستعداد للتفاوض مع فرنسا من أجل الحصول على أدنى شيء. أما الشخصية الثانية فهو نائبه السيد بلقاسم كريم الذي نعتته قيادة الاركان بالراشي الذي لا يتردد في استعمال جميع الوسائل في سبيل تقسيم أعضائها كما اتهمته بممارسة نوع من الجهوية الضيقة التي تتنافى مع مبادئ الثورة.
ورداً على هذه الاتهامات، وزعت مصالح الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية على المشاركين في الدورة محاضر جلسات التفاوض مع فرنسا، وعمل السيدان عباس وكريم على التشهير بقيادة الاركان التي ” وصلتها كل الاموال التي طلبتها وكل ما يلزم من ذخيرة واسلحة متطورة، وبدلا من امداد الداخل بما يحتاج إليه، راحت تشغل نفسها بامور سياسية لا ناقة لها فيها ولا جمل” (58).
وفيما يتعلق بالتفاوض مع فرنسا، فان قيادة الاركان العامة ترى، وحدها، ان الحل الذي يقود إلى التعاون مع فرنسا لا يخدم الثورةالتي يكمن مستقبلها في فرض حل عسكري شبيه بما وقع في فيتنام، لكن موقف قيادة الاركان كان ضعيفا لأنها لم تقدم للمشاركين في الدورة حلا معقولا لمسألة السدود المكهربة المقامة على الحدودين الشرقية والغربية والتي اصبح مستحيلا معها الدخول بقوات مسلحة إلى أرض الوطن دون ان يترك على الاسلاك الشائكة أو في حقول الالغام أكثر من ثلثي المحاولين.
وبعد ثلاثة أسابيع من النقاش الحاد ومن التوقف طويلا عند كل الاقتراحات المضادة الصادرة عن الاشخاص أو المجموعات العاملة على اصلاح ذات البين، وفي خضم المداولات الصاخبة تعرض المشاركون في الدورة بتدقيق كبير إلى التقارير التي أرسلها القادة المعتقلون في فرنسا؛ بعد ذلك كله، خرج المجلس الوطني بقرارات إجماعية مست جميع المجالات وقدمت اجوبة شافية للاسئلة الكثيرة التي كانت تثقل أجواء الدورة وتنبئ باقتراب ما لا يحمد عقباه.
ويبدو، للوهلة الأولى، ان المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد انتصر، من خلال قراراته، لقيادة الاركان العامة اذ صادق بالاجماع على استبدال السيد فرحات عباس بالسيد ابن يوسف بن خدة الذي كان واحدا من القادة الاساسيين للحركة الثورية في الجزائر، وواحدا من المساعدين الرئيسيين للشهيد محمد العربي بن مهيدي أثناء قيامه تنظيم المنطقة الرابعة والاعداد لمؤتمر الصومام*.
ومن الجدير بالذكر، ان الرئيس ابن خدة كان امينا عاما لحزب الشعب الجزائري قبل الازمة التي سبقت ثورة نوفمبر وظل رغم كل شيء وفياً للخط الايديولوجي ولم يفتأ ينادي بضرورة عودة القيادة العليا لجبهة التحرير الوطني إلى أرض الوطن، عملا بمبدأ أولوية الداخل على الخارج.
لكن السيد فرحات عباس لم ينظر إلى عملية استبداله بهذا المنظار، بل رأى في الامر انحرافا خطيرا لأنه أعاد إلى السطح تلك الخلافات التي كانت تميز العلاقات بين الاتحاد الديموقراطي للبيان الجزائري وبين الحركة من أجل انتصار الحريات الديموقراطية. وبهذا الصدد فيما بعده : “إنه يظهر جليا، بعد التحليل أن الحكومة المؤقتة الجديدة لم تعد تمثل جبهة التحرير الوطني في مجموعها، بل الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية وحدها. فالمؤامرات التي حيكت في تونس قد أدت إلى إبعاد ممثلي الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. مع اقتراب موعد الاستقلال تجمع المركزيون(59 ).إن فرحات عباس، في تحليله هذا، لم يكن واقعيا ولا منطقيا، فمن جهة يؤكد انضمام الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري إلى جبهة التحرير الوطني سنة ست وخمسين و تسعمائة وألف وطبقا للشروط المعمول بها في ذلك الوقت أي حل التنظيم والالتحاق الفردي والتخلي عن الإيديولوجية السابقة ومن جهة أخرى يعلل أبعاده عن رئاسة الحكومة بكونه فقط من الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري .أما جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فإن ممثلهم، فإن ممثلهم أن صح هذا التعبير ، قد زيح عن التشكيلة الثانية التي كان يرأسها عباس نفسه، ولم ير داعيا يومها، للتعليق على الإجراء الذي اعتبر عملا طبيعيا .
وبالنسبة للسيد كريم بلقاسم ، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية قد أبقاه نائبا للرئيس وعوضه عن الخارجية بوزارة الداخلية التي تركها لخضر بن طوبال ليتولي، من منصب وزير الدولة ، مهمة إعادة تنظيم جبهة التحرير الوطني وتحضيرها لقيادة الشعب بعد استرجاع الاستقلال الوطني . وقد اسند ت وزارة الشؤون الخارجية إلى السيد سعد دحلب وهو الوزير الوحيد الذي يعين لأول مرة رغم عضويته للجنة التنسيق والتنفيذ مند أشهرها الأولى.
وإلى جانب تعديل الحكومة، قام المجلس الوطني للثورة الجزائرية بدراسة أوضاع جيش التحرير الوطني في الخارج وفي الداخل وأمر قيادة الأركان بالتراجع عن استقالتها وأوصاها بمضاعفة الجهود من أجل تزويد الولايات بكل ما تحتاج إليه قصد تمكينها من الاستجابة لمتطلبات المرحلة الثالثة من مراحل الثورة، كما أنه ناقش الرسالة التي قطعتها المفاوضات وأصدر تعليمات لمواجهة المراحل المقبلة.
التسابق نحو السلطة
فالتسابق نحو السلطة لم يكن جديدا كما أنه لم يكن وليد وقف إطلاق النار، بل أنه بدأ مباشرة مع تكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كما سبقت الإشارة إلى ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني، وبلغ أوجه عندما تشكلت الحكومة الجديدة برئاسة السيد بن يوسف بن خدة الذي أقدم في السابع والعشرين من شهر سبتمبر- أيلول- سنة واحدة و ستين وتسعمائة وألف على أمر الولايات بقطع جميع العلاقات مع قيادة الأركان العامة التي رغم استقالتها، لم تفقد سيطرتها الفعلية على جيش التحرير الوطني المرابط على الحدودين الشرقية والغربية(60).
ولقد ازداد الخلاف حدة مع مطلع السنة الجديدة عندما عادت قيادة الأركان العامة إلى نشاطها وهي أكثر قوة من أي وقت مضى وعندما فشل السيد بلقاسم كريم في مسعاه المتعلق بتقسيم أعضائها(61) ثم عندما تقدمت المفاوضات مع فرنسا ولاح في الأفق تحالف محتمل بين أحمد بن بلة وقيادة الأركان العامة. صحيح أن السلطة كانت هي الهدف الأسمى الذي كانت جميع الأطراف تسعى إلى تحقيقه، ولكن المتصارعين عليها كانوا في جريهم وراءها ينطلقون من إيديولوجية مختلفة يمكن حصر أهمها في الأتي:
1-الموقف الرافض الذي يرى أن حل القضية الجزائرية يكمن، أول، في إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الاستعماري، وعليه فان التفاوض مع العدو يعد تنازلا خطيرا ونوعا من الخيانة التي يجب التصدي لها بكل حزم وصرامة .وصاحبة هذا الموقف هي قيادة الأركان العامة التي تعتبر اتفاقيات إفيان إجهاضا للثورة وإرساء لقواعد الدولة الليبرالية في الجزائر(62).
2-موقف القبول الذي يرى أن التفاوض مع فرنسا هو الطريق الأوحد و الأسلم لوقف إطلاق النار وتمكين البلاد من استرجاع استقلالها.
وبالطبع، فان الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي صاحبة هذا الموقف وهي تعتقد أن اتفاقية إيفيان، على ما فيها من نواقص، صالحة لأن تكون قاعدة متينة لبناء الدولة الجزائرية كما هي محدودة في النصوص الأساسية للثورة(63).
وإذا كان الموقف الأول متأثرا بالثورية التي تريد أن تكون حوصلة للتجربتين الكوبية و الصينية وهو، من ثمَّ، يشترط أن تنتقل السيادة الجزائرية مباشرة من الحكومة الفرنسية إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، و يدعو إلى بناء مجتمع اشتراكي في الجزائر متمايز عن المجتمعات الاشتراكية الأخرى بارتكازه على أبناء الريف ورفضه لمبدأ الصراع الطبقي، فإن الموقف الثاني متأثر، في الظاهر ،بنداء أول نوفمبر إذ اكتفى بالتفاوض مع فرنسا على أساس اعتراف هذه الأخيرة باستقلال الجزائر وبأن لا يتوقف إطلاق النار إلا بعد تسوية جميع القضايا السياسية. وفي الحقيقة، فان هذا الموقف متأثر برغبة ملحة لدى أعضاء الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في الإسراع بإنهاء حالة الحرب “خوفا من أن تعطى لفرنسا فرصة توظيف(64) الخلافات الداخلية لإجهاض الثورة” كما جاء ذلك في التفسيرات التي قدمها السيد ابن يوسف بن خدة .
وعلى الرغم من ثورية الموقف الأول إلا أن أصحابه لم يكونوا معروفين على الساحة السياسية، ولذلك توجهوا إلى قصر أولنوي(65) ووقع اختيارهم، في بادئ الأمر، على السيد محمد بوضياف لما اشتهر عنه من قدرة على التنظيم ومحاربة لعبادة الشخصية وتشبع بالمبادئ اليسارية. ولكن بوضياف رفض عرض مبعوث قيادة الأركان العامة السيد عبد العزيز بوتفليقة نظرا لارتباطه مع الحكومة المِؤقتة وبالضبط مع السيد بلقاسم كريم الذي كان قد تحالف معه من قبل ضد السيد أحمد بن بلة. ولقد تبنى هذا الأخير موقف قيادة الأركان العامة بدون أدنى تردد وأعلن عن انضمامه إليها في العمل من فرض حلها للأزمة والمتمثل في تشكيل مكتب سياسي يكون مسؤلا عن الحكومة المؤقتة وفي وضع مشروع جديد للمجتمع الجزائري(66).
ومما لا شك فيه أن قبول السيد أحمد بن بلة هذا التحالف مدفوع في جزء منه بمصالح شخصية ولكنه، أيضا، جاء نتيجة تكوينه السياسي و الإيديولوجي خاصة عندما نعرف أن فكرة الثورة بواسطة الأرياف تحتل مكانة رئيسية في برنامج نجم شمال إفريقيا ومن بعده حزب الشعب الجزائري وحركة الانتصار للحريات الديمقراطية.
في هذا الجو المكهرب، اجتمع المجلس الوطني للثورة الجزائرية وصادق، كما ذكرنا على برنامج طرابلس ثم لم ينه أشغاله، بل توقف عند مسألة تشكيل الهيآت العليا التي تسند إليها مسؤولية تسيير شؤون البلاد بعد اتفاق الجميع على أن “جبهة التحرير الوطني ستواصل مهمتها التاريخية في قيادة الثورة(67).
وتعبيرا عن الموقفين المذكورين أعلاه تبلورت في داخل المجلس نزعتان رئيسيتان إحداهما بزعامة السيد أحمد بن بلة وهي ترى أن المكتب السياسي المزمع انتخابه يجب أن يتكون من سبعة أعضاء وأن تعطى له كل الصلاحيات اللازمة لقيادة البلاد إلى أن يتم تزويدها بالمؤسسات الشرعية المنتخبة. واقترح السيد أحمد بن بلة إلى جانب اسمه كلا من السادة: محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد، رابح بيطاط محمدي السعيد والحاج بن علة. أما النزعة الثانية فقد تزعمها السيد كريم بلقاسم الذي اقترح مكتبا سياسيا من تسعة أشخاص وهم بالإضافة إلى اسمه: حسين آيت أحمد محمد بوضياف، محمد خيضر، رابح بيطاط، عبد الله بن طوبال، عبد الحفيظ بوصوف، أحمد بن بلة وسعد دحلب.
وعلى إثر مشاورات فردية قامت بها لجنة (68) عينها المجلس لهذا الغرض، تبين، أن قائمة ابن بلة تحظى بتأييد ثلاثة وثلاثين عضوا بينما لم يؤيد قائمة السيد كريم سوى واحد وثلاثون عضوا. فالفرق إذن، كان ضئيلا جدا ومعرضا للزوال لأن اثنين من المؤتمرين لم يعبرا عن رأيهما. وزيادة على ذلك، فإن التشكيلتين لم يراع فيهما التجانس، بل أن آيت أحمد ومحمد بوضياف قد صرحا أنهما يرفضان المشاركة في هيئة عليا يشرف عليها السيد أحمد بن بلة، وذلك بحجة أنهما لم يتفقا معه طيلة سنوات السجن وأن نظرتهما للجزائر تختلف كلية عن نظرته.
وعندما نراجع قائمة التشكيلتين ونستثني السيد الحاج بن عله، فإننا نجد أن كل العناصر المقترحة لعضوية المكتب السياسي كانوا وزراءفي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ووقعوا، قبل غيرهم، على اتفاقيات ايفيان وبالتالي فهم يكادون يمثلون توجها واحدا ولاتفرق بينهم سوى الحساسيات الشخصية و الحزازات التي لا علاقة لها بالإيديولوجية جبهة التحرير الوطني.وإذ تعمقنا أكثر في التحليل, فاننا نجد الخلاف بين السيدين آحمد بن بلة وبلقاسم كريم لا يعود إلى أشياء جدية ولكنه,فقط ينطلق من إعتقاد كل واحد منهما أحق من الآخر لقيادة الثورة.
فالسيد بلقاسم كريم يرى أنه التاريخى الوحيد من بين مفجري الثورة الذي ظل طليقا وعلى قيد الحياة,ولم يتوقف لحظة واحدة عن النشاط كمسؤول في أعلى قمة الهرم القيادي, وعليه فهو أولى من غيره وخاصة من إبن بلة الذي لم يعش الثورة من الداخل لم ينشط لفائدتها في الخارج سوى أشهر معدودة إعتقل بعدها ولم يستعمل السلاح الذي كان معه يوم إعتقاله ثم ظل يتابع الأحداث وفي مأمن من أخطارها(69) أما السيد ابن بلة فيرى أنه أولى بقيادة الثورة لأن كان مسؤولا عن المنطقة الخاصة التي كانت في أساس اندلاعها في حين أن السيد كريم ظل من أنصار الكتلة الميصالية إلى غاية الأيام الأخيرة التي سبقت بدء الكفاح المسلح، وإضافة إلى ذلك، فإن السيد كريم يتحمل مسؤولية كبرى في عقد مؤتمر وادي الصومام الذي يصفه السيد أحمد بن بلة بالمنعطف الخطير في طريق انحراف الثورة.
ومهما يكن الأمر، وأمام عدم ظهور أغلبية حقيقية لصالح واحد من الإقتراحين، فإن أطرافا كثيرة قد حاولت تقريب وجهات النظر وكان من الممكن أن يتفق الجميع على مكتب سياسي مكون من أحد عشر عضوا ويكون متضمنا لكل الأسماء الواردة في القائمتين. لكن ذلك لم يحدث بسبب تعنت السيد أحمد بن بلة الذي رفض عضوية الباءات الثلاث. ويقول السيد ابن يوسف بن خدة أنه خشي على الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المسؤولة مباشرة على توقيع اتفاقيات إيفيان، وخشي أيضا، أن يقود استمرار الخلاف إلى تفجير الأوضاع، فتحمل مسؤوليته كاملة وغادر طرابلس إلى تونس في اليوم السابع من شهر جوان- حزيران- مرفوقا بالسيد محمد بوضياف وأخرين (70).
هكذا، فإن المجلس الوطني للثورة الجزائرية لم يختتم أشغاله رسميا ولم ينتخب أية هيئة سياسية عليا أو دنيا كما أنه لم يجدد ثقته للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، معنى ذلك أن الأزمة ازدادت حدة وأن الأمل في تسويتها بالطرق السلمية لم يعد واردا، وراح كل طرف يبحث عن أنصار أقوياء يستعين بهم للإستلاء على السلطة، ومعلوم أن الأنصار الأقوياء موجودون فقط على رأس القوات المسلحة.
أما أحمد بن بلة، فإنه ضمن ذلك بتأييد قيادة الأركان العامة والولايتين الأولى والسادسة ثم راح يجمع، حوله، الإطارات السياسية التي تريد تصفية حساباتها مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أو مع الباءات الثلاث. وأما ابن يوسف بن خدة، فإنه استمال الولايات الرابعة والخامسة والثانية والثالثة بالإضافة إلى منطقة العاصمة وفيدرالية جبهة التحرير الوطني في أوربا ثم أعلن، باسم الحكومة، عن حل قيادة الأركان العامة وراح يبحث في الحدود الشرقية والغربية عن بديل لها (71).
وفي نفس هذا الإطار، ومخالفة للإتفاق المبرم مع فرنسا، دخل السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم إلى الجزائر خفية في اليوم التاسع من شهر جوان- حزيران- (72). لقد كان دخولهما بالاتفاق مع رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية من أجل حمل الولايات على تنسيق حركتها وتكوين هيئة موحدة لمواجهة قيادة الأركان العامة التي رفضت الامتثال لقرار حلها وشرعت في الإعداد لإدخال جيش التحرير الوطني إلى أرض الوطن. وكما كان منتظراً انعقد في زمورة بالولاية الثالثة، اجتماع دام يومي الرابع والعشرين والخامس والعشرين من نفس الشهر وشارك فيه ممثلون عن الولايات الثانية والثالثة والرابعة عن منطقة العاصمة وفيدرالية فرنسا. وبعد التدوال حول مجمل القضايا المطروحة على الساحة الوطنية، لاحظ المجتمعون أن الحكومة فقدت هيبتا وقد ترتب على ذلك تمرد قيادة الأركان العامة وانعدام السلطة، وعليه قرروا تأسيس لجنة للتنسيق تسند إليها مهمة وضع قوائم المترشحين للمجلس التاسيسي، وضبط الشروط الموضوعية اللازمة لعقد المؤتمر الوطني، وتنظيم عملية إدماج وحدات جيش التحرير الوطني المرابطة على الحدود في ولايتها الأصلية وتوفير الوسائل الضرورية لإدخال الأسلحة والذخيرة المخزونة في الخارج (73)
ولقد كان من الممكن أن تؤدي هذه اللجنة التنسيقية دوراً بالغ الأهمية في تغيير موازين القوة لو أنشأت قبل إطلاق النار، وحظيت بمشاركة باقي الولايات. لكن ظهورها عشية الاستفتاء أضفى عليها طابع المحاولة اليائسة لسد الطريق في وجه قيادة الأركان العامة التي لم تكن في حاجة إلى أراضي كل الولايات المجتمعة لإدخال الجيوش المرابطة على الحدود.
فالولايات التي لم تستجب لنائبي رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية هي التي كانت تتحكم في جميع البوابات الحدودية المعينة لتحقيق العودة إلى البلاد. فالحدود الغربية كلها تقع في أراضي الولاية الخامسة بينما تمتد معظم الحدود الشرقية على أراضي الولاية الأولى والقاعدة الشرقية أما الحدود الجنوبية فتابعة جغرافيا للولاية السادسة. وعلى الرغم من ذلك فإن اللجنة التنسيقية التي أدانت أعضاء قيادة الأركان العامة قد طلبت من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية أن تبقى موحدة وأن تستمر في التحضير لما بعد الثاني من شهر جوليت- تموز- سنة اثنتين وستين وتسعمائة وألف، كما أنها شرعت في تنظيم الحملات الدعائية ضد مناورات السيد أحمد بن بلة وجماعته، لكن مجرد الكلام لم يعد يجدي نفعا بل لابد للتخطيط النظري أن يكون مدعوما بالقوة العسكرية وهو ما كان ينقص الحكومة المؤقتة.
أما السيد أحمد بن بلة الذي تأكد من أن الوضع العسكري كان لصالحه وأن قيادة الأركان العامة تتحكم في الميدان كما ينبغي، فإنه تفرغ للتعبئة السياسية واستطاع في ظرف قصير جدا، أن يجمع حوله عددا كبيرا من المسؤولين الممثلين فعلا، لتوجهات مختلفة لكنهم موحدون من أجل إسقاط الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وتجاوز المجلس الوطني للثورة الجزائرية.
ومن بين المسؤولين البارزين الذين أضفوا على حركة بن بلة طابع الشمولية والشرعية والوحدة تجدر الإشارة إلى السيد فرحات عباس الذي كان محاطا بالإطارات القيادية في الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري(74). ولو كان الأمر يتعلق بصراع ايديولوجي لتموقع عباس في الجانب الآخر الذي يدعو إلى احترام اتفاقيات ايفيان التي خططت للنظام الليبرالي في الجزائر. وهناك أيضا مجموعة من الإطارات الذين شاركوا في اجتماع الاثنين والعشرين والذين تم اعتقالهم في فترات متفاوتة وأهملوا مدة حسبهم من طرف القيادة العليا ممثلة في شخص الباءات الثلاث (75).
وإذا كان السيد يوسف بن خدة قد طار إلى تونس حيث استأنف مهامه كرئيس للحكومة المؤقتة المسؤولة تجاه فرنسا عن تطبيق اتفاقيات ايفيان، فإن السيد أحمد بن بلة قد توجه إلى القاهرة معلنا بذلك عن شق عصى الطاعة مدعيا فيما بعد، أن الحكومة المؤقتة التي كان هو أحد نواب رئيسها قد حلت بمجرد انعقاد المجلس الوطني للثورة الجزائرية، لكن ذلك غير صحيح، لأن المجلس رفض بالإجماع استقالة الحكومة ولم يعين أخرى بديلة لها. وحينما ألح السيد ابن خدة على تقديم استقالته، فإن السيد ابن بلة قد قاد حملة واسعة النطاق من أجل إرغامه على سحبها (76). ويبدو أنه إنما فعل ذلك، فقط، ليسد طريق الرئاسة في وجه السيد بلقاسم كريم الذي كان يسعى جاهدا للحصول عليها.
فذهاب ابن بلة إلى القاهرة بدون استشارة أحد كان، إذن، دليلا على بدء الصراع العلني. وقد كان من المفروض أن يلتحق بتونس من أجل اجتماع توضيحي ومن أجل لَمْ شمل الحكومة وإجراء التحليلات اللازمة بحثا عن مخرج مشرِّف للأزمة الخانقة التي تهدد مصير الثورة، وإذ لم يفعل، فإنه عبر فقط عن عدم قدرته على الإرتقاء إلى مستوى عظمة الحركة الجهادية في الجزائر.
وبما كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تواصل نشاطها كسلطة تنفيذية عليا لجبهة التحرير الوطني، كان بن بلة في القاهرة يدعو إلى عدم الإعتراف بقراراتها ويندد بسلوكات أعضائها الذين هم في الواقع زملاؤه في النضال ولهم فضل البقاء خارج المعتقلات لضمان مواصلة الكفاح المسلح. ولقد كانت الثورة الجزائرية تستفيد أكثر لو أن أعضاء الحكومة كلهم اجتمعوا في تونس لمواجهة برنامج طرابلس على ضوء وثيقة وادي الصومام ومن أجل الإستعداد ميدانيا لما بعد الإعلان عن استرجاع السيادة الوطنية لمواجهة آثار التخريب الذي قامت به منظمة الجيش السري (77)
وبفضل وساطات متعددة قامت بها جهات مختلفة وخاصة الحكومة المصرية وفي مقدمتها الرئيس جمال عبد الناصر رجع ابن بلة إلى تونس وعقدت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية اجتماعا مطولا في اليوم السادس والعشرين من شهر جوان- حزيران-. لكن الأمور ازدادت تعقيدا عندما حضر الإجتماع المذكور ممثلون عن اللجنة التنسيقية للولايات (78)، ومعهم اقتراح بفضل رئيس وأعضاء قيادة الأركان العامة.
يقول السيسد محمد حربي: ” إن الاقتراح كان من وحي السيدين كريم بلقاسم ومحمد بوضياف” (79) لكنه لا يقدم أي دليل على ذلك. وقد اعتبره السيد أحمد بن بلة إجراءا استفزازيا ورفض حتى مجرد مناقشته ثم غادر قاعة الاجتماع. أما السيدان آيت أحمد وبوضياف فهما وجدا فيه حلا صائبا للأزمة القائمة بين الحكومة وقيادة الأركان العامة في حين أبدى السيد محمد خيضر معارضة شديدة له، وعلى سبيل الاحتجاج قدم استقالته التي كانت إيذاناً بانتهاء الحكومة وإعلاناً عن وقوفه رسميا إلى جانب ابن بلة وقيادة الأركان العامة.
الخروج من الأزمة
لم تكن لهذا الصراع أسس ايديولوجية، ولم يكن من أجل الدفاع عن مصالح الثورة، ولذلك فإن كل المساعي باءت بالفشل. واليوم، وبعد أكثر من ثلاثين سنة من وقوع الحادث نستطيع الجزم بأنه، في لحظة من اللاواعي واللاشعور، تمكن من القضاء على مكتسبات وطنية تطلب تحقيقيها كثير من التضحيات. وفي مقدمة تلك المكتسبات توجد وحدة الشعب الجزائري التي لم يَجْبُر كسرها بعد ذلك الحين. ومن جهة ثانية فإن الصراع على السلطة قد أمل الجانب الإيديولوجي وحرم الجماهير الشعبية الواسعة من المشاركة الفعلية في مناقشة مشروع المجتمع المزمع تجسيده على أرض الواقع.
إن المعتقلين التاريخيين الأربعة (80) يتحملون أكبر قسط من المسؤولية فيما وقع من مشاكل زائفة أفرغت الثورة من محتواها الحقيقي وفتحت أبواب القيادة واسعة للخونة والانتهازيين على اختلاف أنواعهم. وأول ما يعاب على أولئك التاريخيين عجزهم عن التفام فيما بينهم وهم في سجن واحد أمام عدو واحد ومصير واحد، ورغم تشبعهم بإيديولوجية واحدة. أما عيبهم الثاني فيتمثل في عدم قدرتهم على توظيف فترة اعتقالهم التي بلغت خمسة وستين شهرا لوضع مشروع مجتمع متكامل وبرنامج عمل شامل قصد مواجهة الفترة الموالية لوقف إطلاق النار واسترجاع الاستقلال الوطني، وإذ لم يفعلوا كل ذلك فإنه كان عليهم أن يتعففوا ويتركوا مسؤولية القيادة لمن برهنوا على أنهم أهل لها.
وعلى إثر انفضاض اجتماع الحكومة المؤقتة بالطريقة المشار إليها أعلاه، توجه السيد محمد خيضر في اليوم السابع والعشرين من شهر جوان-حزيران- إلى الرباط، وفي اليوم الموالي طار ابن بلة إلى القاهرة التي لن يغادرها إلا ليلتحق بصاحبه في اليوم التاسع من شهر جوليت. –تموز-أما الحكومة المؤقتة فإنها دخلت العاصمة يوم الإعلان عن استرجاع الاستقلال الوطني وهي مبتورة الأعضاء بفعل تمرد بعضهم واستقالة بعضهم الآخر (81).
وبعد ذلك التاريخ بأسبوع، شرع السيد أحمد بن بلة في تنفيذ انقلابه الذي كلف الجزائر آلاف القتلى والجرحى بالإضافة إلى تهميش مآثر الإطارات ممن دللوا، في الميدان وفي وقت الشدة، على تحليهم بالكفاءة والنزاهة والإلتزام. وكانت أول محطة هي تلمسان التي بدأت تستقبل أنصاره منذ اليوم الحادي عشر من شهر جوليت-تموز- والتي وقع عليها الإختيار لكونها الولاية التي بها مسقط رأسه (82) ولأن واليها هو السيد أحمد مدغري الذي يعتبر من العناصر الأكثر وفاء للعقيد هواري بومدين. وفي اليوم السابع عشر من نفس الشهر اجتمع بقادة الولايات في مدينة الشلف الحالية وطلب منهم تزكية المكتب السياسي الذي اقترحته على المجلس الوطني ولم يحصل إلا على واحد وثلاثين صوتا من جملة ستة وستين.
ومن الجدير بالذكر أن الولاية الثالثة أعطت موافقتها شريطة استبدال السيد محمدي سعيد بالسيد بلقاسم كريم (83). وبينما اقترحت الولاية الرابعة تكوين المكتب السياسي مؤقتا من قادة الولايات وتكليفه فقط بتحضير المؤتمر الوطني الذي ينتخب المؤسسات والهيئات الوطنية القارة، فإن الولايات الأولى والخامسة والسادسة قد طلبت مهلة للتشاور مع مجالسها. لكن بن بلة الذي استجاب لرغبتهم لم ينتظر عودتهم إلى تلمسان وفاجأ الجميع في اليوم الثاني والعشرين من الشهر ذاته بالإعلان عن تأسيس المكتب السياسي مشكل من سبعة أعضاءهم: أحمد بن بلة، محمد خيضر، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمدي السعيد والحاج بن عله.
ورغم المفاجأة والإعلان الأحادي، فإن موقف الحكومة المؤقتة والولايات كان متزنا إلى أبعد الحدود إذ لم يشترط سوى استدعاء المجلس الوطني للثورة الجزائرية وإنهاء حالة الحصار المفروضة على قسنطينة. لكن بن بلة كان يعرف عواقب ذلك الشرط، وعليه فإنه أمر باحتلال قسنطينة بواسطة جيش الحدود وقرر أن المكتب السياسي هو البديل للمجلس الوطني للثورة الجزائرية (84).
وفي اليوم الموالي وهو اليوم السادس والعشرون من شهر جوليت-تموز- أعلن السيدان محمد بوضياف وبلقاسم كريم عن معارضتهما، وشكلا، في تيزي وزو، اللجنة الوطنية للدفاع عن الثورة محددين لها مهمة التحضير للمؤتمرات وللانتخابات التشريعية.
وترتب عن الإعلان المذكور دخول الطرفين في مفاوضات تخللتها أحداث كثيرة وقادت في النهاية إلى إبرام اتفاق بين المعنيين في اليوم الثاني من شهر أوت- آب-. وبمقتضى ذلك الإتفاق تراجع السيد بوضياف عن استقالته من المكتب السياسي الذي كلف، دون غيره، بإعداد قوائم الإنتخابات وبتولي المهام التي كانت مسندة إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية. وفي اليوم العشرين من شهر سبتمبر-أيلول- توجه الشعب الجزائري إلى صناديق الاقتراع وزكى القوائم المقدمة له والمكون لأول مجلس تأسيسي ترأسه السيد فرحات عباس وانبثقت عنه أول حكومة برئاسة السيد أحمد بن بلة.
rr
r الهوامش
(50)- Tournoux (J.R), l’Histoire secète, Paris 1962, p291
(51)- نفس المصدر
(52) Abbas (Ferhat), Autopsie d’une guerre, l’aurore, Paris 1980
(53)- من بن هؤلاء الضباط، يعدد السيد فرحات عباس: العقيد لطفي، الرائد مبارك، الرائد بن شريف والرائد الطاهر الزبيري (انظر تشريح حرب، ص: 281)
(54)- Harbi (Med), le FLN, Mirage et réalité, Paris 1980, p: 288
(55)- لم يكن عدم الانسجام بسبب تناقضات ايديولوجية لكنه كان فقط نتيجة الجري وراء السلطة
(56)- تشريح حرب، ص: 318 يذكر السيد فرحات عباس بهذا الصدد “أن جبهة التحرير الوطني خرجت من هذه الدورة مقسمة ومشتتة.
(57)- هؤلاء الضباط هم: النقيب عبد الرحمن بن ساالم والنقيب عبد العزيز بوتفليقة والنقيب موسى بن احمد
(58)- فرحات عباس، تشريح حرب، ص: 317
* وقع كل ذلك بعد اعتقال السيد رابح بيطاط وخوفا من ان تضطرب الاوضاع منطقة تقع في دائرة اختصاصها عاصمة البلاد.
(59) - هم أعضاء اللجنة المركزية لحركة الإنتصار للحريات الديمقراطية المنشقة عن المكتب السياسي والمتمردة على زعيمها مصالي.
(60)- فرحات عباس، ص 318
(61)- أنظر الفصل الثاث من الباب الثاني حول استخلاف الشهيد زيغود يوسف بالسيد سعد دحلب.
(62)- حربي( محمد) جبهة التحرير الةطني، ص 286
(63)-ذكر لي السيد عبد الحفيظ بوالصوف أن كريم عرض على بومدين رتبة جنرال، وأن هذا الأخير سجل عرضه على غير علم منه ووزعه على إطارات جيش التحرير الوطني للتقليل من شأنه.
(64)- ابن بلة (أحمد) حديث أجريته معه في بيته يوم 24/06/1991 ويؤكد الرئيس بن بلة تأييده لهذا الموقف وهو ماجعله بقبل التحالف مع قيادة الأركان ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
(65)- بن يوسف بن خدة، اتفاقيات ايفيان، ص 26.
(66) نفس المصدر
(67)- حيث كان القادة الأربعة معتقلين وهو كائن ببلدية أولنوي في شمال فرنسا
(68)- بوتفليقة (عبد العزيز) حديث أجريته معه يوم 16/04/1991 في بيت السيد محمد الشريف مساعدية.
(69)- حزب جبهة التحرير الوطني، الأمانة الدائمة للجنة المركزية، النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني 1954-1962.نشر وتوزيع قطاع الإعلام والثقافة، الجزائر 1987، ص 53 ومابعدها.
(70)- تشكلت هذه اللجنة من العقيد محمد يزوران والرائد أحمد ومحمد بن يحي والحاج بن عله
(71)- بوالصوف (عبد الحفيظ) اللقاء المشار إليه سابقا.
(72)- ابن خدة (ابن يوسف) اتفافيات إيفيان، ص 21
(73) حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 288
(74)-Fares (Abderrahmane) La cruelle verité, l’Algérie de 1954 a l’indépendance, plon, Paris 1982, p.126.
(75)- Ben Khedda (Ben youcef) Historique du FLN,Alger 1964,p197
(76)- خاصة منهم أحمد فرانسيس وأحمد بومنجل بالإضافة إلى السيد قائد أحمد
(77)- من بين هؤلاء الإطارات تجدر الإشارة إلى: الزبير بوعجاج، أحمد بوشعيب، محمد مرزوقي وعثمان بلوزداد
(78)- النصوص الأساسية لجبهة التحرير الوطني، ص 49.
(79)- ابن طوبال (لخضر) الحديث المذكور سابقا
(80)- هؤلاء الممثلون هم الدكتور سعيد حرموش، الرائد رابح زراري والرائد عبد المجيد كحل الراس
(81) حربي، ج ت و السراب والواقع، ص 352
(82)- لأن الخامس وهو السيد رابح بيطاط كان معتقلا في الجزائر ولم ينضم إليهم إلا في الأشهر الأخيرة 32.
(83)- فارس (عبد الرحمن) ص 135
(84)- السيد أحمد بن بلة من مواليد مغنية الواقعة في ولاية تلمسان على الحدود الجزائرية المغربية
(85)- حربي (محمد) جبهة التحرير الوطني، ص 359.
(86) بوبنيدر (صالح صوت العرب) مقابلة أجريتها معه في بيته يوم
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
العجيب في الأمر أن أحدهم اليوم سألني أن أبحث لـه عن أزمة الجزآئر خلال هذه الفترة
شكرآ ألف شكر لك أخي مجيد على المشآركة القيمة ..
تحية طيبة *
لولو
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
مساء الخير lolita
انا هنا انشاء الله في خدمتك انت واصدقائك الطلبة الثانويين
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
اما الاخت دمعة حنين فنشكرك على زياراتك الدائمة لجميع المواضيع بالاضافة اى مواضيعك الشيقة
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
بارك الله فيك مشكور جدا