عودة الى الشيخ بن حمر العين
افتقدناه و لم نعوضه ، طيفه متواتر العودة إلينا و كثير الطوفان بنا هي لحظاتٌ في مدة الدهور إنه طافحٌ على سطح الذاكرة ممتطي موج الخيال المجنح ، ما ينفك يحضر ، و ما يلبث يزور و كأن به حاجة الى تفقد طلبته و مريديه ، و شوقٌ يلم به فيحملهُ على جناح السرعة الى أولاده وأهل بيته و ذويه طلباً للإستحمام في أنفاسهم ، و القيلولة في نور أعينهم متدثراً بأشفارها ، ما أندر هذه اللحظات و ما أمتعها لأنها تتيحُ لنا نيل حضنا في اللقاء مع من نحب وتشبع فضولنا بل تغرقنا في فيض علمه و أخلاقه في حالة تذكره واستعادة ذكراه واسترجاع طيفه وهو في العالم الآخر (( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدَاء وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا )) سورة النساء الآية 69، نشعر و كأنه حيٌ يرزق كما كان تماماً قبل أن يمت من نافل القول أن نذكر برسوخ قدمه في الفقه و حسن تملكه و تحكمه في زمام اللغة العربية نحواً و صرفاً و بلاغةً وتمرسه بعيون نصوصها نثراً وشعراً فركاً لتراكيبها و فلياً في طبقات ألفاظها ودلكاً للنصوص وقد أصبحت عجينة ملك يديه ، ومادة تحت تصرف عقله طيعة للصرف و التحويل لينةً للتعبير عن أوجه الحياة وألوان المشاعر سلسة منقادة في متانة و حسن سبك اذا خاض في مسألة من مسائل العقيدة أو الفقه أو الأخلاق بقصد شرحها وتقريبها الى العقول وجعلها قريبة المأخذ سهلة المنال ميسرة للإستعاب طابع العطاء و بصمة التمثل و التأثر بينة واضحة في صلب حديثه وتداعياته ونبرات صوته سواء كان ذلك موجه لطلبة العلم أو لعامة الناس من من يريد شحن وعائه الواعي بطاقة لمضاعفة النشاط التعبدي و الإستمرار فيه والملاحظ أن عامة الناس تهفو إليه وتميلُ الى سماع مواعظه وعامة دروسه ، وتحمله على محمل الجد ، اطاعة ، و تسليماً وتطبيقاً بطيب خاطرٍ و رضا نفس ، وانشراح صدر ، وقلبٌ مأخوذٌ بدرر المعاني وجواهرها التي تنحدر من فمه كما ينحدر السيل من علٍ ، متيمٌ مسحور بسمته وسره وشدة حضوره ، وما إن تدخل عالمه وقد تدخله مرغماً ،تجد نفسك محتواً مأسوراً لا تستطيع الإفلات منه ولا الإنفكاك عنه ، وعلة ذلك أنك تستيقض و تصحو في جو هذا العالم و تؤوب الى رشدك وقد لمست التسديد ، ووفقت الى التأييد ، منةً ورحمةً من رب العالمين وكرامة من هذا الرجل الذي أنفق حياته في العبادة و التبتل والدعاء ،و المناجات ،و التوسل ، وقد حضيت ،أو وفقت ،أو أرادت الأقدار ذلك ،أن دخلت هذا العالم أو هذه العوالم مراتٍ عديدة وولجتها مراراً وتكراراً ولكم كانت سعادتي غامرة وغبطتي عامرة ولا أغلو إذا قلت أني كنت اُستقبلُ من لدنه ببشاشة و طلاقة وجه ، وكلماتٍ فيها دفءٌ وحنان ونظراتٍ فيها كثيرٌ من التقدير و الإحترام وما إن يستقر بنا المجلس ويفرغ كل منا لصاحبه حتى يهرع الى مخزون الذاكرة أو يستنجد بالتجربة الوجودية وكما لا يخفى فإن مكثف هذه التجربة وبعدها الذي تمتد جذوره الى الأماكن القصية ، ينهض على الموقف الذي يتخذ من قضية الحياة و الموت و ما ينتج عنهما من مصائر لها اليد الطولى في رسم مسارات الحياة البشرية وضبطها و التحكم في تفاصيلها ودقائقها وردفها بزبدة التفكير الناتج عن العبقرية و الذكاء ،وقد مر من قناة التوتر الحاد و المعاناة المنهكة ، وارتقى في معارج الحضارة واستوى على عرشها لمساتٌ جمالية ونفحات روحية وأغداقٌ تكنولوجية وعمرانية ،قد يبدو هذا الكلام غريباً أو مجافياً للواقع متنكباً للصواب ، لما انفصل عن الواقع كما هو ، وابتعد عن الحياة التقليدية البسيطة ، أو الكيفيات و الحالات التي كان يحضر فيها التراث كأشكال وقوالب للحياة الفردية و الإجتماعية وتجلياتها النفسية وصبغتها الدينية الشعائرية لعل ريح العصر ونسائم الحداثة أغرتنا ودغدغت عواطفنا ومس سلطانها الساحر طموحنا و خيالنا فحلق بنا عاليا ، وكأن الأمر يقوم بدون قواعد وأعمدة تشدُ عمارة الحضارة وتصنع تماسكها ومتانتها ،وتلحقها بخلفياتها الثقافية ،وعمقها الروحي ،مهما يكن وكيف ما كان الحال ؟ فإن الأفكار والتصورات والرؤى التي تقفز بالإنسان من مستوى معين في الحياة ولتكن تسميته المجتمع التقليدي ، أو المجتمع البدائي ، أو المجتمع الفطري ، الى مستوى في الحياة أرقى وأغنى وأكثر تركيباً وتعقيداً ،وهو ما يسمى مدنية ثم حضارة يعسر أو يستحيل في عرف التقدم ،ونموس الحضارة أن تستعار أو تؤخذ هذه الأفكار و التصورات و الرؤى من الغير ، بل لابد أن تكون أصيلة وذاتية تنبع من عمق المجتمع و تصدر من عقول رجاله ومبدعيه إن أعمالاً ونشاطات ،وكيفيات في التعامل والتعاطي مع الناس ومع الحياة ومع الطبيعة وطرق في التفكير ، وأساليب في العرض والمحاججة قد تبدو سطحية وغير مجدية لبادي الرأي لكنها في الحقيقة الخطوة الأولى لمسافة الألف ميل ، مولانا وشيخنا العالم الجليل الشيخ محمد الصالح حمر العين رضي الله عنه تندرج أعماله ونشاطاته في هذا المجال وتجري في هذا المجرى الفوار المتدفق المتلاطم الأمواج إن أعلميته وألمعيته لم تحجزه عن النضال المجاني المستمر حتى وهو في سن الشيخوخة وفي مرحلة الضعف الجسدي طبعاً ولم تمسكه عن الإنغماس في غمار الناس وكأنه واحدٌ منهم بلا انفصال أو تمايز يخدمهم بتوجيهاته ومواعظه و فتاواه ، وفي نفس الوقت يحرص كأحسن ما يكون الحرص على اقامة حلقات العلم معطياً اياها كل جهده وكل روحه يطعم طلابه العسل المصفى ويسكب في صدورهم مقادير من النور ليحدث من خلالهم تغييراً و اصلاحاً في المجتمع ولينشيء منهم نخبةً متميزة تصير معلماً يهدي المجتمع الى غاياته العليا ، وليكونوا منارة تطردُ جيوش الظلام التي تربك المجتمع وتتسببُ في ذهاب النظام وغياب الترتيب وفعلاً ترك طلاباً و مريدين أو أوقد شموعاً لم تنطفئ و لن تنطفئ من خالطهم وعركهم يعجب كل العجب لتحصيلهم العلمي ولحكمتهم وحنكتهم في التصرف في هذا المقدار من العلم ، وفي الإمتثال لهذا العلم في سلوكهم العام والخاص ، أما تواضعهم وخدمتهم للناس فحدث ولاحرج .
بقلم : محمد الفاضل حمادوش
الأحد 21 جويلية 2015 ميلادي
الموافق لـ 12 شهر رمضان 1434 هجري