عنوان الموضوع : الشيخ أبي يحيى الليبي : ليبيــا ماذا يراد لها؟ خبر مؤكد
مقدم من طرف منتديات العندليب
ليبيــا ماذا يراد لها؟
الشيخ أبي يحيى الليبي(حفظه الله)
02 ذو الحجة 1432 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد :
أمتي الإسلاميةَ الحبيبة، أهلي وإخواني المسلمين في ليبيا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فقبل أن أهنئ أهلَنا في ليبيا بمقتل الطاغية المستبد، وسقوطِ نظامِه البالي، وتشتُّتِ شيعته الأشرار، أفتتح كلمتي بتقديم خالصِ العزاءِ والمواساة إلى كلِّ أسر الشهداء من أمهاتٍ وآباءٍ وزوجاتٍ وأبناء، أولئك الشهداء الذين قدّموا أرواحهم وبذلوا دماءَهم حتى يَعتقوا رقابَهم ورقابَ شعبِهم وبلدهم من ربقة العبودية السوداء التي ضربها عليهم الطاغية الهالِكُ منذُ أكثرَ من أربعين سنةً، فأسأل الله العلي الكريم أن يتقبلهم عنده ويرفعَ درجتهم ويسكنهم الفردوس الأعلى، وأن يجزيهم عنا وعن أمتنا خير الجزاء، كما أسأله أن يُلهِم أهلهم الصبرَ ويربط على قلوبهم وينفِّس كروبهم، وأن يعوّضهم فيهم خيراً، وأسأله سبحانه وتعالى أن يعجِّلَ بشفاء الجرحى وأن يُسبغ عليهم أثوابَ الصحة والعافيةِ، وأن يجعلهم ممن يأتي يوم القيامة وجروحُهم تسيلُ دماً اللونُ لونُ الدم والريح ريح المسكِ، وأرجو من الله الكريم أنَ يقيِّض لهذا البلد من أهل الصدقِ والوفاء والإيمان والعزيمة والرَّشَدِ من يحفظ تلك التضحياتِ الجليلة ويصونها من عبث أهل الأهواء وسرَّاق الثورات.
وأثني بتهنئتكم بسقوط ركنٍ من أركان الطغيانِ في هذا العصر، وانهيار نظامٍ من أبْأسِ أنظمة الاستبداد الأسود –وكلُّ استبدادٍ فهو أسود- وتهاوي عمودٍ من أعمدة الظلمِ والغَشم والتجبُّر والتكبُّر، وتمزُّقِ حكمٍ بالٍ سخيف قد شاقّ سبيلَ الحقّ وحادَّ اللهَ ورسوله، واتخذَ آيات الله هزواً وعتا عتوّا كبيراً، وطغى في البلاد فأكثرَ فيها الفساد!، ليلحقَ وفي بضعة أشهرٍ بجاريهِ جَارَيْ السُّوء، ويتجرَّعَ معهما مرارةَ الخزيِ والذلِ والهوانِ في الدنيا، ولعذابُ الآخرةِ أخزى وأنكى لمن مات منهم على كفره، أو تمادى وأصَّر، ولم يتُب ويرجعْ إلى الحق ويفِقْ من غيّه، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60]، قال الله تعالى :{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وعن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» قال: ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
إخواني المسلمين في ليبيا:
بعد تمكُّن نظام القذافي الذي استمر أكثر من أربعينَ سنةً عجافاً، قد تيسرت له فيها كل أسباب التسلُّط، وتهيئت ظروف التصرف المطلق، وبسطَ يدَه على البلادِ والعباد، وقد أُمِدَّ بأموالٍ وبنينَ، ورفع شعار أماني الخلود في هذه الدنيا (الفاتحُ أبدا!)، وغرَّه بالله الغرور، ها قد أذهبها الله تعالى بتدبيره في بضعة أشهرٍ، بعد أن سلكَ الناس سنَّة التغيير وجروا على قانونِه، وأتوا البيوت من أبوابها، فاتّحدوا وتحدّوا، وأزالوا عن قلوبهم داءُ الوَهنِ الذي كان الطاغيةُ يسوسهم به، ذلكَ الداء العُضال الذي حذَّرنا النبي صلى الله عليه وسلم منهُ، ونبّهنا على خطورته وسوء عواقبه إن دبَّ في أمة الإسلامِ، فانقلبت أمور هذا الطاغيةِ –بفضل الله- رأساً على عقب، وأظهر الله من آياته في هذه الأحداث ما يجعل المرء يزداد لربِّه خضوعا وتواضعاً، وبه ثقةً تعلُقاً، ولفضلِه إقراراً واعترافاً، ويعلمُ علم اليقين أن الملك كلَّه لله يدبِّره كيفما شاءَ بعلمه وحكمته وقدرته، يؤتيه من يشاء وينزعُه عمّن يشاء، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وأن هؤلاء الطغاةَ المغرورين مع ما بأيديهم من القوة والسلاح والرجال والأموال والتسلط أهونُ على الله من أن يعجزوه أو يفلتوا منه أو يسبقوه قال الله تعالى : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ} [الأنفال: 59]، وقال عز وجل : {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [النور: 57]
وهذا يعلَّمون أن الظلم والطغيان يجب أن يحارَب ويكفَّ في مبدئه قبل أن يستفحلَ ويتمادى ويتمكّن، فلو أنَّ المسلمين في ليبيا قاموا في وجه هذا الطاغية قومتَهم هذه من أول أيام أو سنيِّ تسلطه، أو وقفوا بجانب من خرج عليه وقاتلَه من قَبل، لما أصابهم ما أصباهم على يديه من أنواع النكالِ والهوانِ والكبتْ والرُّعب والتشرُّد الذي لازمهم طِوال هذه العقود، ولَما احتاجوا إلى كلِّ هذه التضحيات الباهظةِ التي نسأل الله أن يتقبَّلها ويجعلها مفتاح خيرٍ للبلاد والعباد، فنحمد الله سبحانه حمدا كثيراً ونشكره شكرا دائماً باقياً على ما أنعم به عليكم وعلى أمة الإسلامِ، وما أراكم من آياته الكبرى في هذا الطاغية وأبنائه المفسدينَ وعصابته المجرمين الذين كان جزاؤهم من جنسِ عملهم، فقتل منهم ومن فلذات أكبادهم كما مردوا على القتل طوال مدةِ حكمهم، وتشرَّدوا في الأرض بَددا كما كانوا يشرِّدون الناس أبدا، وحيل بينهم وبين أبنائهم وأهلِهم ومُزِّقوا في الأرض، كما فعلوا ذلك بكلِّ أمٍّ أو زوجةٍ أو أبٍ، وفرَّوا لاجئين كما فرَّ آلافٌ من الشعبِ لاجئين بسبب ظلمهم وتجبُّرهم وتنكيلهم، وهاهم يعيش من يعيش منهم مطارَداً مرعوباً كما كانوا يطاردون ويرعبون، وسُلِبوا ملكهم كما سلبوا أملاك الناس وعَقاراتهم وأموالَهم، فلَكم أيها المسلمون اليوم أن تتلوا قولَ الله تعالى في خضوعٍ وتواضعٍ وشكرٍ : {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } [الدخان: 25 - 29] ولْتعلموا –إخواني المسلمين- أن الله قد ألقى على كواهلكم أمانةً ثقيلةً عليكم أن تحفظوها وتحافظوا عليها، وأن تقوموا على حقها خير قيامٍ، فإنَّ هذا النصر الذي تحقق لكم.. كان هبةً ربانيةً امتنَّ الله بها عليكم، فصيانتُه من الضياعِ، وحراستُه من السرقةِ، من أعظم ما يجب الآن على أهل الصدق والإخلاصِ، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
والآن بفضل الله تعالى قد ذهب القذافي وأبناؤه وعصابته ونظامُه النكِد إلى غير رجعة بإذن الله تعالى، ولكن ماذا بعدُ؟
إن نشوة النصر، والانشغالَ بأحاديث البطولاتِ، والإغراق في إحصاء المآثر، قد تكون سبباً مباشراً في ذهاب ثمرة المعارِكِ، وتضييعِ الأهداف التي اشتعلتِ لتحقيقها، وربما وقفت حاجزاً مُحكَماً دون قطف الثمرة التي أريقت لأجلها الدماء وأزهقت الأرواح وغارت الجِراح، لا سيما إذا كان ذلك النصر باهرا مفاجئاً لم يكن متوقعاً لأصحابِه، ولنا في حادثة غزوة أُحد خيرُ عبرةٍ كما قال عز وجل : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
إن ضريبة تحصيلِ النصر ليست سهلةً في مواجهة نظامٍ دموي سفَّاح متمكِّن، ولكنَّ الأثقلَ من ضريبةِ بلوغِ النصر الحفاظُ عليهِ وتحقيقُ غايته على وجهها الصحيح، فينبغي على أهل الإخلاص والصدق والعقل والحكمة في ليبيا أن لا تُشغلَهم فرحةُ الانتصار فيغفُلوا عن واجبهم الذي يتطلبُ منهم التيقُّظَ الشديد، والفطنةَ الدائمة، والحذر التامَّ، حتى لا تضيعَ تلك التضحيات وتتلاشى في خِضم نشوة الأحاديث عن تعداد البطولاتِ، فيبسطَ أهلُ السوء أيديَهم -على حين غفلةٍ من المُخلصين- ليسرقوا تلكَ الجهودَ العظيمةَ ويتشبعوا بها ليُقرِّوا كما هي عادةُ نتائجِ كثيرٍ من الثورات المعاصرة التي ضاعت جهود أهلها من بعدِ ما أراهم اللهُ ما يُحبون!، واختُطِفت عندما أينعتْ ثمارُها وحانَ قِطافُها، فما ذاقَ الذين تحملوا عناءها وكابدوا لأواءها إلا مرارةَ الحسرةِ والأسى وعضُوا الأصابعَ حيث لا ينفع الندم، قال تعالى : {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم («لا يلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين»).
فالمعركة مع هذا النظام المتجبر قد انتهت بفضل الله تعالى، وعمَّا قريبٍ ستطوى صفحتها لتكون تاريخاً يروى وأحداثاً تُذكرُ وتحكى بما فيها من مآسٍ وأفراح، وتضحياتٍ وفدائيةٍ، وإقدامٍ ومواقِفَ، ودماءٍ ودموعٍ، وشدائدَ وخطوب، وقد كان ذلك كلُّه ضريبةً واجبةً لازمةً لمن أراد أن يخرج من عباءة الاستبداد الخانِق لينعمَ بشيء من كرامته وحريته.
فلا يَبني الممالكَ كالضحايا ... ولا يُدني الحقوقَ ولا يُحِقُّ
ففي القتلى لأجيال حياة ... وفي الأسرى فدى لهمو وعتق
وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ
ولكن علينا –إخواني المسلمين في ليبيا وغيرها- أن نعلم علم اليقين أن قضيتنا الكبرى ومصائبنا العظمى التي نصطلي بجحيمها ونتقلَّبُ في لَظاها منذ عقودٍ طويلة ليست متعلقةً بشخص القذافي ولا مبارك ولا زين العابدين ولا غيرهم من أوتاد الطغيانِ وأعمدةِ الفرعنة، وإنما داؤنا العُضالُ يكمنُ في تسليط هؤلاء المجرمين أنظمتَهم الكفريةَ الإجراميةَ على شعوبهم وعزلهِم لهم عن حكم ربهم جل وعلا، فهؤلاء الفراعنة المجرمون قد أقاموا الظلم مقام العدل، وأحلُّوا الشدة والفظاظة والهوان محلَّ الرحمةِ والرأفةِ والعزةِ، ونشروا الفساد والمفسدين ومنعوا الإصلاح وشرّدوا المصلحين، وحكَّموا شرائع الأهواء وأقصوا شريعة رب الأرض والسماء، واستأصلوا شأفة الدين وألزموا العباد بقانونهم الوضعيِّ اللعين، ووالوا أعداء اللهِ من كلِّ نحلةٍ وعادوا أولياءَه ونكّلوا بهم ومزقوهم كلَّ ممزقٍ، وأشاعوا الفاحشة والرذيلة في الذين آمنوا وحاربوا الفضيلة والطُّهرَ والعفافَ، فساروا في الأمة بسيرة الجاهلية، وسلطوا عليها دساتيرهم الوضيعة التي تنادي بجعل الأنداد لله والذي هو أعظمُ ذنبٍ على الإطلاقِ، وإن منَّوا على ربهم بشيءٍ وتركوا له بعضَ الدينِ فعلى طريقة أسلافهم الجاهليين : {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]، ولهذا تجد دساتيرهم –ومنها الإعلان الدستوري الليبي المؤقّت – تنص على أن الشريعةَ الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، تماما كما جرى عليه أهل الجاهلية الأولى الذين كانوا يطوفون بالكعبة ويلبون قائلين : (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك)! ويستنكفون من جعل الشريعة الإسلامية مصدرا وحيداً يبطُلُ كلُّ ما يخالِفها من النُّظم والقوانين كائنا ما كانَ مصدرها، وكأنَّ شريعة الإسلام ناقصة تحتاج إلى تكميلٍ، قال تعالى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ دِينَ الله لن ينصره إلا من حاطه مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ)اهـ.
إذاً فلن تنعم الأمة الإسلامية في أية بقعة من بقاع الأرض بالكرامة التي تطلبها، والحرية التي ترنوا إليها، , والسعادة التي تسعى لتحصيلها إلا بأن تتفيأ ظلال حكم الله تعالى، الذي هو حكم العدل، والرحمة، والإحسان، والهداية، والنور، وكلما ابتعدت أو أبعدت عن هذا الحكم فلها من الشقاء والعناء والظلم والهوان والذلة والخُذلان بحسب ذلكَ، إذاً فمن الخطأ الكبير أن نعلِّق قضيتنا في شخصٍ من الأشخاص جاء أو ذهب، ونغفُلَ عن لبِّ القضية ونتجاهلَ محورَها الأساسي.
والأمة الإسلاميةُ الثائرةُ اليوم تقف على مفترق طرقٍ فلتختر لنفسها أَحَدَ السبيلين: فإما أن تحكم أمتَنا الإسلاميةَ في ليبيا أو غيرها شريعة الإسلامِ فينعموا بما يكرمهم الله به من العزة والعلوِّ الإيماني والسعادة والأمان، وإما أن يحكموا بشرائع الأهواء تحت أي اسمٍ كانَ فيرجعوا بأنفسهم إلى ظلمات الكبت ونكد الاستبداد وعَنَت الطغيان ولو تنوَّعت صوره وكثُرت أسماؤه، قال تعالى : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124]
إن هذه الحقيقة هي من المسلمات التي يعرفها أو يجب أن يعرفها كلُّ مسلمٍ، فلا يُرهق نفسه وأمته بالبحث عن السعادة والهناءِ وطيبِ الحياة بالركض وراء سراب الأفكار المنحرفة مهما زينت وزخرفت، وما قلتُ هذا إلا تذكيراً... ولا ضير! فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قال الله تعالى لهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ}الآية.
ونحن لن نعيش في أجواءِ الخيالِ، ولن نحلِّق بعيدا عن الواقِع، أو نسبح في عالَمِ الافتراضات، بل نُدرك تماماً حجم التضحيات التي يجب أن تبذَلَ لتحقيق هذا الواجب الشرعي، والجهودَ المتضافرةَ المستمرة التي ينبغي أن لا تنقطع، كما أننا نعلم أنَّ الإصلاح المنشودَ لن يحصل أو يتحققَ بعصاً سحريةً وفي طرفةِ عينٍ، خاصةً في بلدٍ خضع لسياسة أهواءٍ غريبةٍ متسلطةٍ عليه أكثر من أربعين سنةً أُبعِد فيها الناسُ عن دينهم بكل وسيلةٍ، وأرغموا على التجهيلِ القاتِل بعد أن حُجِبوا عن كلِّ منارات العلمِ وأنوارِه، ولا يخفى على أحدٍ مدى العقبات الكبيرة والتحديات الثقيلة التي ستُنصب في طريق أهل الإصلاحِ سواءً من الداخل أو الخارج، ألا أن المسلم دائماً صاحبُ همةٍ وتفاؤلٍ وعزيمةٍ وتحدٍّ.
فحتى نصل إلى هذا الغاية الشريفة التي يبذل من أجلها كلُّ شيءٍ، والتي هي طريقُ نيل النجاح في الدنيا والفلاحِ في الآخرة، فإنني أحببت أن أؤكد على بعض الأمورٍ:
الأمر الأول : ابتداءً أقول مستعيناً باللهِ: إنني لأعلم أن في ليبيا من أهل الخبرة والإيمان والصدق والغيرةِ والتضحيةِ والسابقة من يكفي ليسوس بجدارةٍ تامَّةٍ أمةً وليس شعباً فقط، وهم رجالٌ قد عركتهم الأحداث، وأنضجتهم التجارب، ومحَّصتهم الشدائد، فإذا كان القذافي على تخبُّطِه وارتجالِه وتقلُّبِ أمزجتِه استطاعَ أن يديرَ البلاد وَفقَ أهوائه المتصارِعة أكثر من أربعين سنةً، فكيف لا يتمكَّن أولئك الأخيار الذين يضبطهم الإيمان والصدقُ والورعُ من سياسة البلادِ والعِبادِ؟! إلا أنَّ معرفتي بقدرات أولئكَ الرجالِ وإدراكي لِكفاءتهم لا يمنعُ من المشاركةِ بما يفتح الله به من النصيحةِ والتذكيرِ، فإذا كان أوباما المرتد عن دينِ أبيه، وسركوزي اليهودي، وكامرون النصراني قد جعلوا لأنفسهم الحقَّ في أن يدلوا بدلوهم ليحددوا نوعَ النظام الذي يجب أن يحكم ليبيا، فنسمعَ منهم : (يجب،ويتعين، ولا بد، ويلزم) وغيرَها من كلمات الكبر والترفّع والتعالي التي لا تصدر إلا من آمرٍ لمأموره أو سيِّدٍ لعبدِه، فلا أحسب أن هناك من تثريبٍ على أبي يحيى الليبي، أن يكون ناصحاً لأهلِهِ الذين يجمعهم به أخوة الإسلامِ ورابطة النَّسب.
فأقول: هؤلاء الأبطال الثائرون المخلِصون المتجرِّدون من حظوظِ أنفسِهم الحريصون حقَّا على مصلحة شعبِهم وأمتِهم يحتاجون إلى رِفدٍ يكون عوناً لهم، وقوةٍ تساندهم ولن يكون ذلك –بعد الله تعالى- إلا أنتَ أيها الشعبُ المكلوم المضحِّي، لتصطفِّ معهم، وتدعمَ جهودَهم التي ستحقِّق لك يقيناً ما تسعى إليه من الكرامةِ الخالصةِ والحريةِ الحقيقيةِ والعزةِ التي فقدَّتها سابقاً وهناكَ من يسعى لمنعكَ منها بعد ثورتكَ وباهظ تضحياتك، وهذا يتطلبُ من شعبنا المسلمِ في ليبيا أن يكونوا على قدرٍ من الجدِّية والوعي والمسؤوليةِ، حتى تفرِّقوا بين الزيفِ والحقِّ، ولا تروجُ عليكم الدعاوى وتخدعكم زخارف الأقوال والألقابِ، أما الرجوع إلى حقبة الهتافات لكل ناعقٍ عليمِ اللسان، وعدم التفريق بين الصادقين المخلصين الذين خاضوا غمار الحرب بأنفسهم واستقبلوا رصاص الطغيان بصدورهم، وبين تُجَّار التضحياتِ الجوَّالينَ عبر عواصم العالم حينما كانت الحرب على أشدها، فإن هذا يعد تفريطاً في هذا الانتفاضة الكبيرة وأي تفريط، واحذروا أن تكونوا من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
الأمر الثاني : إن هذه الثورة التي قدِّمت فيها من التضحيات حتى الآن ما لم يقدم في أي ثورة من الثورات الأخرى، قامت أولاً لإسقاط ذلك النظام العفن المستبد، الذي جعل ليبيا وشعبها حقل تجارِبٍ لأفكاره المعوجة، وآرائه الساقطة، فقد تحقق –بفضل الله تعالى- هذا الهدف الآن، ولكن ماذا بعدُ، ماذا بعد أن سقط القذافي، أو أسقط القذافي ونزع منه الحُكمُ وهو صاغر ذليلٌ، وذاق هوان الدنيا قبل جحيم الآخرة، ما هي الوجهة التي يجب أن يتجه إليها قطار الثورة الكبيرة.
فإنَّ عدمَ تحديد أهداف الثورةِ وضبطِها يجعل وجهة الأفكار تائهة، ومشارِبَ النَّاس متنوعة، ويوقعهم في أمرٍ مريجٍ مختلطٍ، فلا تسمع إلا عبارة: حتى الآن لم تحقق الثورة أهدافها، كما هو الحال الآن في تونس ومصر، وإذا سألتَ ما هي هذه الأهداف التي لم تتحقق لوجدتَ من الأجوبة ما لا يُحصيه عدٌّ، ولكلٍّ وجهةٌ هو موليها، ويبقى النَّاس يعيشون على الأمانيِّ والأحلامِ والتطلُّعاتِ التي تطمح إليها نفوسهم.. ولا تتحقق في واقعهم، فالسؤال الحقيقي الآن ما هو الوفاء الحقيقي لهذه الثورة الكبيرة والتي يُمثِّل أهدافَها ومقاصدها؟ فما هو الوفاء الحقيقي لعشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمشردين والمفقودين، ما هو الوفاء الصادق لشيوخ وعجائز مصراته وبنغازي وطرابلس والزاوية والزنتان وغيرها، ما هو الوفاء المرجو الذي يطلبه شباب درنة وسبها ونالوت وصبراته واغدامس؟ هل سيُزحلقون كُرها –وبعد هذا الثمنِ الباهظِ الذي قدموه- ليُغرقوا في مستنقع الدولة الديمقراطية الآسِن بعد أن طهروا بلادهم من رجس الطغيان بدماء زكية ودموع شجية، فنرى ليبيا المسلمة وشعبَها المسلم وقد مزقتها الأحزاب وجعلتها شيعاً وفرقاً يلعن بعضُها بعضاً باسم التعددية السياسية وحرية الرأي والفكر حتى ترضى تماسيح الغرب الشرهة، هل سنرى ليبيا المصحف بلادَ المليون حافظ وقد غزاها الغرب بأفكاره المسمومة ومجونه الخليع وسفوره الفاضح؟ هل سنرى ليبيا الجهاد والصبر والمصابرة مرتعاً لمنظمات التبشير والتنصير تحت مظلة المنظمات الإنسانية وحقوق الإنسان، ثم نقول في خاتمة المطاف إننا قد حققنا أهداف ثورتنا أو نكاد؟
ولن أكون –بعون الله تعالى- متشائما ولم أذكر ما ذكرتُ لهذا المقصد ولكني ذكرتُ ما ذكرتُ حتى يعلم أولوا الأحلام والنهى، والغيرة والصدق من قادة الثورة الذين خاضوا غمارها بأنفسهم –وهم كثر والحمد لله- حتى يعلموا أن الطريق لا يزال طويلاً وأن ثمار الثورة اليانعة لم تقطف بعدُ، وأن أداء الأمانة إلى أهلها من الشهداء والجرحى والمُشرَّدين وعامة المسلمين لن يكون حتى يرفرف في سماء ليبيا علمُ الإسلامِ خفّاقاً لا ينزاعه علَمٌ ولا يزاحمه حكمٌ، وعلى هذا فليوطِّدوا أنفسهم، ولا يَقْنعوا بالنقص وهم قادرون على الكمال.
وفي هذا الصدد فإنني أرى –تبعاً لما اقترحه أحدُ الفضلاء - تكوين هيئة من أهل النزاهة والإخلاص والخبرات المتنوعة تكون مراقِبةً لتحقيق مطالب الثورة والتي يجب صياغتها وتحديدها حتى لا تبقى هائمة مائعةً، ولْيُنفَ عن هذه الهيئة كلُّ شخصٍ كان يوماً من الأيام في صف نظام القذافي والذين تحاول دول الغرب أن تحشرهم بينكم حشراً.
الأمر الثالث : إنكم اليوم على مفرق طريقٍ لا يحتمل إلا اتخاذ قرار حاسمٍ واضحٍ لا تردد فيه، هذا المفرق الذي وجدتم أنفسكم فيه، فإما أن تختاروا نظاما علمانيا يرضي تماسيح الغرب الجشعةِ، ويتخذونه مركبا لتحقيق مآربهم، وإما أن تقفوا موقفا صارماً لإقامة دين الله الذي نصركم على عدوِّكم واستخلفكم في الأرض لينظر كيف تعملون.
إخواني المسلمين في ليبيا : إنكم أكثر الشعوب المنتفضة في هذه الثورات على طواغيتها تضحية، فيجب أن تكونوا أكثر الشعوب مكسباً من وراء ذلك حريةً وتمكيناً ونصاعةً واستقلاليّةً وبعداً عن التبعيةِ، وإن الثمن الذي دفعتموه من دمائكم وأشلائكم وأرواحكم حتى أطحتم –بتوفيق الله- بهذا النظام العاتي المتجبِّر قد تحتاجون لمثلِه لكي تحصِّلوا النظام العادل المحسِن في عقود آتية إن أنتم تقاعستم عن السعي لإقامته حق الإقامة وتطبيقه حق التطبيق في هذه الفترة الجارية.
إخواني المسلمين في ليبيا : علينا أن نعلم أن من الناسِ من تكون الحرية سبباً في انتفاضته وثورته واستعداده لتقديم كل التضحيات من أجل تحصيلها والاستهانة بكل ما يبذل لنيلها لأنه عرف قيمة السلعة فهان عليه ثمنُها، وقد أكرمكم الله في هذه الثورةِ بهذه المنقبةِ، وهناك من يكونُ حرصه على الحرية مانعا له من تحصيلها وداعيا لمزيد من هوانِه وتذلله وتنازله واستسلامه خشية أن تُسلَب منه، وهو لا يدري أنها قد سلبت من يومِ أن شحت نفسه عن دفع ثمن تحصيلها والحفاظ عليها، فبقي يسبح في عالم أوهام الحريات، وهو عبد ذليلٌ مسلوب الإرادةِ يشعر بذلك أولا يشعر، وما لجرح بميت إيلام، وأنا أربأ بكم بعد هذه التضحيات الباهظة العظيمةِ أن يسهل عليكم التنازل عن استقلال إرادتِكم وتتميم حرّيتكم خشيةً من الغرب الغارق في أوحال الأزماتِ، والمنهك بالجراحات، ولئن كانت ليبيا اليوم في ثياب عرسها بعد أن خرجتْ من رَهَق تسلُّط المستبد فاحذروا أن تأتوها بأكفانها على أيدي المستعمرين الجُدد ليُجهَز عليها بالنَّهب والتسلُّط وسلب الإرادةِ وغرس التبعيةِ بالمعاهدات المجحفة مع من لا عهد لهم ولا ميثاق.
الأمر الرابع : إخواني المسلمين في ليبيا : إن التخلِّي عن السلاح الذي كان أحد أسباب انعتاقكم من رقٍّ قاتلٍ استمر أكثر من أربعة عقودٍ يسومكم فيها القذافي سوء العذاب يعني بكل بساطةٍ الرجوعَ إلى العبوديةِ بثوبٍ جديدٍ، والتسليمَ لطغاةٍ عتاةٍ داخليين أو خارجيين يسلبون إرادتكم ويتحكمون في حريتكم حتى وإن بهرجوا فسادهم بالألفاظ الخلابة والخطابات الخادعة التي شبع الناس منها.
فما أذلت أمتنا إلا بتخليها عن سلاحها، وما تسلط عليها الطغاة وأذنابهم إلا لما رضيت لنفسها أن تكون بعيدة كل البعد عن أحد أسباب قوتها {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]
إن المسلمين لم يكونوا يوما من الأيام أعداءً لأسلحتهم، وطوال تاريخهم المجيد قد أدركوا أن الاحتفاظ بقوتهم وإعدادَهم هو مصدرُ هيبتهم مع تمسكهم بدينهم، ومن هنا فإنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم –وهو الناصح لأمته الشفوق عليها – قد نهى عن التخلي عن السلاح والتدريب عليه حتى بعد الفتح والتمكين، فقال : «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرَضُونَ، وَيَكْفِيكُمُ اللهُ، فَلَا يَعْجِز أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ» ، بل عدَّ نسيانَ الرمي بعد تعلمه جحودا لنعمة الله تعالى، وهل يكون الرمي والحفاظ عليه وبقاء تذكره إلا بالاحتفاظ بالسلاحِ والمداومة على استعمالِه، قال النبي صلى الله عليه وسلم («مَنْ علِمَ الرَّميَ ثمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى»
لقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا جنودا مجاهدين، وأبطالا مقاتلين، قد أعدوا أنفسهم وتهيئوا للنزال في كل لحظةٍ فما أن ينادي منادي الجهاد حتى ينفروا إليه جماعاتٍ ووحدانا، ولم يكن للمدينة النبوية جيشٌ خاصٌ يُقصَر التدريب والقتال عليه ويحرم منه من سواه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يحض الصحابة جميعا على الإعداد بصوره ليتحقق فيهم معنى القوةِ وإرهاب أعداء الله تعالى فيقول لهم : {أرموا واركبوا ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا}، ويقول : («ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا،)، فهكذا كانت سيرتهم وتلك هي طريقتهم، وهذا هو منهج تربيتهم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}.
فإذا كانت الأسلحة في أمريكا تباع كما يباع البَطيخ، وتصل إلى يدِ كلِّ مجرمٍ سفَّاكٍ سفَّاحٍ، ويعدُّ الترخيص لبيعها وشرائها نوعاً من أنواع الحرية المصانة والتي لا يجوز المساس بها، فِلمَ تسعى أمريكا وأخواتُها من دول الغربِ إلى منع وحرمان شعوبنا من هذا الحقِّ الذي كفله لنا ديننا الإسلامي قبلَ أن توجدَ أمريكا وتُشرَّعَ قوانينها، وهل يرون أن شعوبهم أورع وأبعد عن سفك الدماء الممنوعةِ منَّا معشرَ المسلمينَ؟ ونحنُ الذين نقرأ في كتابِ ربنا : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92]، ونقرأ أيضاً : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]،
ولهذا فبجانب دعوتنا لشعبنا المسلم في ليبيا بأن يحتفظوا بسلاحهم في أيديهم، ندعوهم أيضاً بأن يتخذوا هذا السلاح للدفاع عن دينهم وأنفسهم وأعراضِهم وأموالِهم منضبطين في ذلك بضوابط الشرع الدقيقةِ والصريحةِ، بعيداً عن العصبيات القبلية، والنزاعات الجاهلية وليحذروا أشد الحذر من أن يسفكوا بها دماً حراماً لمسلمٍ أو كافرٍ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى حتى عن توجيه وتصويبِ المسلمِ سلاحَه إلى أخيه المسلم فكيف إذا استعمله في قتله أو قتالِه، فإذا كان الغربيون تمنعهم أحيانا قوانينهم عن اقتراف جريمة القتل بأسلحتهم، فإن المسلم يمنعه من ذلكَ خشيتُه لله تعالى، وحذرُه من أن يخسرَ بقتل أخيه دنياه وآخرته.
الأمر الخامس : لقد دأب أعداء الله تعالى منذ أمد بعيدٍ على إقصاء العلماء عن معامع السياسة، وتبعا لداء العلمانية الذي يفصل الدين عن الدنيا قَنع كثير من العلماء على حصر أنفسهم بين المحاريبِ وسواري المساجد بعيداً عن خوض غمار السياسة، وأخلوا المجال لمِن هو أجهل منهم في شؤون الدين والدنيا، فارتسم في أذهان الناس أن العالِم الورِع الفطِن التقيِّ الزاهدَ هو الذي لا علاقة لها بالسياسة وإدارة الدولِ، والرَّقابة على الحكَّام، فقطعا لدابِر هذا الداء الدويِّ فإنني أحرض العلماء والدعاة وطلبة العلم الصادقين في ليبيا أن لا يكون دورهم دور المتفرج المنتظر، وأن لا يرضوا لأنفسهم بالتهميش والإقصاء، وأن يحطموا هذا المفهوم السخيف الذي غرسته العلمانية، أوَ لم يكن الخلفاء الراشدون هم ساداتِ العلماء وقادةَ الدول؟ كذلك لم يزل العلماء عبر تاريخنا الإسلامي المجيد، أهلَ الحنكة والخبرة والدراية السياسية، وهم صِمام الأمان الذي يحفظ الأمراء من الروغان ويردعهم عن التلاعب بالأهواء، فالمطلوب من طائفة العلماء الصادقين، أن لا يخلوا المجال للجهلة الذين تربوا في أحضان الغرب وتظاهروا بالكياسة والثقافة، وأحدهم لا يكاد يقيم جملة واحدة صحيحة، بل على علمائنا الأجلاء أن يكون في الصدارة وأن يُسمعوا صوتهم بكل قوةٍ، وأن يتبوءوا مراكز التوجيه والتأثير بكل جرأة وحزمٍ ليعيدوا للعلم والعلماء مكانتهم، ويُحيوا بين الخاصة والعامة هيبتهم، وشعوبنا المسلمة لا تلتف على شيءٍ التفافها على أهل العلم الصادقين الذين يجمعون بين العلم والعمل، ولا تصغي لأحد كما تصغي للعلماء المخلصين، ولهذا حرَص الطغاة على إقصاء الصادقين منهم، واستغلال الذين باعوا دينهم بدينا غيرهم ليكونوا لهم بوقاً يروض الناس ويذللهم لأهوائهم.
ومن هنا فإنني أقترحُ على العلماء والدعاة وطلبة العلم في ليبيا أن يكوِّنوا لهم لجنةً مستقلِّةً جريئة شجاعةً، تتكفَّل بإصلاحِ أي انحرافٍ يصيبُ الثورةً، أو يراد تمريره لتحريفها، وأن تراقِب كلَّ تصريحٍ أو بيانٍ وتقرؤه قراءة عميقةً لتحكمَ عليه تأييداً أو نقداً ورداً، وأن يكون لهذه اللجنة الدور الأوَّل والمباشر في صياغة الدستور إن كان لا بد من صياغتِه، وتضطلع بغير بذلك من المهام العظيمة التي لا ينبغي للعلماء أن يكونوا آخر من يعلم بها أو يتكلم فيها أو يناقشها.
كما أحضُّ العلماء والدعاة على اغتنام هذا الانفتاح الكبيرِ لينشروا دعوةَ الحقِّ، ويربَّوا الناس على المعاني القرآنية السامية والأخلاق النبيلة، ويربطوهم بمواقف البطولة والشجاعةِ والعزة الإيمانية التي يجب أن يتصف به المسلم، فإن الشعب الآن قريب عهد بمحنٍ ومعاركَ وتحدٍّ وتضحياتٍ، وقد تحطم عنده حاجز الخوف والوهَن الذي طوَّقه وكبَّله طوال أربعين عقداً، وقد تنسَّم في هذه المعارك من معاني العزة والشجاعة والبطولة ما يجعله الآن مؤهلا ومهيئا لقبول التربية الجهادية وغرس معانيها في نفسه، وأن لا يعاد إلى دائرة التدجين بعد إذ نجاه الله منها، والتي يحاولُ البعض أن يكبِّلوه بها ولكن بقيودٍ ذهبيةٍ، والمقتولُ مقتولٌ وإن قدِّم دمه على طَبقٍ من ذهبٍ!
فالواجب على الدعاة أن يستغلوا هذه الفرصة تمام الاستغلال، وأن يتحملوا مسؤوليتهم أمام الله تعالى، ويبذلوا ما في وسعهم من التوجيه والتحريض والتعليم والتربية على أحكام الشرع، والتذكير بأيام الله، وربطهم بمعاني الشهادة والتضحية والإقدام التي عايشوها وعاينوها ولا يزالون حديثي عهد بها بعدما حُرموا منها زمناً طويلاً، مع بذل الجهد لتصحيح نياتهم وتنمية الإخلاص في قلوبهم ليكون قتالهم لله وحده، وإنما الحياة فُرصٌ.
الأمر السادس : من المعلوم قطعاً عند كل ذي عقلٍ أن الذي دفع دول الغرب فرنسا وبريطانيا وأمريكا ومن شايعها للتدخل بقواتها الجوية ليس هو الحفاظ على الدم الأحمر دم المدنيين كما يزعمون، وإنما هو خشية انقطاع الدم الأسود الذي يغذي اقتصادهم ويضخ الحياة في مصانعهم أعني البترول، والآن ستبدأ فاتورة الحسابِ المُرهقة من تماسيح الغرب الجشع، وسيتولون نهبَ الأرصدة المجمّدةِ ليمُنُّوا بأقلِّ القليلِ منها، فإن لم يدرك شعبنا المسلم في ليبيا هذه الحقيقة، ويعلم طبيعة النفسية الغربية الجشعة، فإن ما سيدفعونه من دمائهم أو سلب إرادتهم أو فرض التبعية إلى الغرب بثوب جديد سيكون أضعاف الذل والهوان الذي كان الطاغية القذافي يفرضه عليهم، فينبغي قطع أوصال المنِّ والأذى الذي سيصدر من عواصم الغرب حولَ مشاركتهم في إسقاط القذافي، ومواجهة تلك الأطماع بكل حزمٍ وجرأة، فمن ضحى من أجل أن ينال حريته وكرامته التي سلبها القذافي ليُسلمها بعد ذلكَ إلى عواصم الغرب ويبقى مرهوناً بفرض سياساتهم وتحكُّم قراراتهم، فما حاله إلا كالمستجير من الرمضاء بالنارِ، ولتعلموا أن حاجة الغرب إلى نفطكم وفي هذه المرحلة الحرجة بالنسبة لهم حيث الانهيارُ الاقتصادي الذي يواجهه، وكفرُ شعوبه بالنظام الرأسمالي أصلا لهي أشدُّ من حاجتكم إلى دعمهم ومقترحاتهم وقوانينهم.
وأخيراً أعيد التهنئة لأهلنا المسلمين في ليبيا أن شفى الله صدرونا وصدورهم بعد أن رأينا الطاغية المتكبِّر ذليلاً حقيراً ليلحقَ بقارون وفرعونَ وهامانَ، كما أشكر كل من بعث إلينا بالتهنئة في هذا الحدث العظيمِ، ونسأل الله أن يعجِّل بأخذ كل طاغيةٍ أخذ عزيز مقتدرٍ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مؤسسة السّحاب للإنتاج الإعلامي
المصدر: (مركز الفجر للإعلام)
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :