والسر يكمن في أنها ليست مجرد موسيقى عادية، بل هي موسيقى ذات ايقاعات قوية محملة بتاثيرات روحية جياشة، ومشحونة بالإرث الحضاري الافريقي والبربري والعربي.
إنها تراث موسيقي يناجي الأرواح الخفية ويغازلها و يربط معها اشد العلاقات الجياشة و غير المفهومة ،
توسل بالايقاعات والألوان والقرابين واحراق البخور، وكل الوسائط الخفية الأخرى،
ولها ادواتها الخاصة و البسيطة كالكنبري أو السنتير (عبارة عن آلة وترية من ثلاثة حبال تصنع من معي المعاز)، والكنكة (الطبل)، والغيطة (المزمار) ثم القراقش او القراقب (صنوج حديدية).
والعزف الكناوي له هندامه الخاص، كما طقوسه المرافقة التي من دون توافرها لا يكون الحفل الطقوسي مكتمل الشروط والمقاصد.
ومن أهم الشروط التي تتم مراعاتها احترام الألوان الخاصة بـ «الملوك»، أي ملوك الجان الذين يؤمن بهم كناوة وخصوصا اللونين الأحمر والأزرق,,, حتى لا يغضبوا ملوك الخفاء، فيتحول الحفل الطقوسي إلى مدعاة لانتقامهم, فاغضاب احدهم مثل لالا ميرة في المغرب او سيدي بلحمر في الجزائر - مثلا - التي تحسب في عداد «ملوكهم» ، يكون مدعاة للاصابة باللعنة
هؤلاء الملوك غير معروفون و ان كانت اسماؤهم خليط من اسماء الجن و الاولياء
اسماء الجن في معظمها ثابتة في كل المناطق اما اسماء الاولياء فتتغير حسب قباب و اضرحة كل منطقة و حسب معتقدات كل ناحية كذلك
و المتفق انها جميعها ملوك سبعة بالوان سبعة و ان تعددت الاسماء و كثرت
و لكل ملك نشيده او برجه و لونه و بخوره و عبيده من اتباع الطريقة الكناوية
فهناك ملوك البحر او الموساويين و لهم اللون الازرق الفاتح مثلهم مثل اتباع سيدي موسى
الملوك السماويين و لهم الازرق الداكن
ملوك الغابة او رجال الغابة و لهم اللون الاسود مثلهم مثل اتباع سيدي حمو ذو اللون الاسود كذلك
الملوك ذوي اللون الاحمر
اللون الابيض و الاخضر هو للاولياء المحليين في كل منطقة كمولاي عبد القادر الجيلاني
و اللون الاصفر للالا ميرة
و كل من كناوة الا و يكن احتراما و تبجيلا خاصة لكل هؤلاء الملوك و يختص بعلاقته الخاصة مع احدها هاته العلاقة الغريبة و التي هي خليط ما بين الانبهار و الحب و الاخلاص و الخدمة
و التي تجعل المريدين متلهفين الى لقاء ملوكهم باحياء الطقوس المناسبة للاتصال بهم في نوبات صرع جنونية الا انها ذات نشوة روحية تنمو مع الايقاع و تتواصل الى حد فقدان الوعي هكذا يعرفها اصحابها و يدعونها الجذب
الحفل
ويسمى الحفل الذي يقام على شرف ملوك وملكات الجان، او التعبير بالاصح بعضها، التي تحظى بالتقدس من طائفة كناوة (سيدي شمهاروش، لالة مليكة، لالة ميرة، سيدي بلحمر,لالة جميلة، سيدي حمو، سيدي ميمون,لخضر, مولاي عبد القادر الجيلاني )، تسمى ليلة الدردبة في المغرب، أو وعدة سيدي بلال في الجزائر,
لكن ثمة مناسبات أخرى في يومية الطائفة تستغل لاستحضار الأرواح «العليا»، لغرض توسل تدخلها لقضاء بعض المطالب ذات الطابع الخاص و الغامض
فخلال عيد الأضحى ، يعتقد كناوة في أن دم اضحية العيد خصائص سحرية تجعلها قربانا مقبولا من «الملوك»، وتستغل الشوافة الكناوية (قارئة الحظ) المناسبة لأجل التقرب إلى ملكة الجان لالة ميرة (و التي ليست الا الجني ابو مرة ) كي تمنحها القدرة على النظر في عالم الغيب، فالجان بحسب المعتقد يطلعون على محتوى اللوح المحفوظ الذي دونت فيه مصائر البشر.
وتقوم عملية التقرب من ملكة الجان على مجموعة من الطقوس، فيتم تبخير مكان الذبح بالبخور السبعة التي تروق روائحها للملوك، ويعد طبق من عناصر سحرية متنوعة (مواد غذائية، حناء، ماء الورد,,,,) يقبل الملوك على أكلها بينهم,,, وبمجرد ذبح خروف العيد يقدم قليل منه حارا للشوافة كي تشرب منه، ويمرر أحد شيوخ الطريقة الكناوية الدمع على جبهتها وهي جالسة
ليلة الدردبة او الوعدة
أهم طقوس كناوة على الاطلاق، وحسب علماء الانثربولوجيا فان لها شبها بحفلات الزار في مصر وبعض الاحتفالات الطقوسية لدى الفودو في البرازيل وجزر الانتيل باميركا اللاتينية, وتنظيمها داخل الدور السكنية الخاصة لبعض أعضاء الطائفة في مواعيد سنوية محددة، غالبا ما تكون خلال النصف الثاني من شهر شعبان او في اوقات اخرى من الاشهر القمرية.
واختيار شهر شعبان له علاقة بالاعتقاد في الجان الذي يشكل أساس طقوس ومعتقدات كناوة, فحسب المعتقد، تتحدد مصائر الناس للعام الموالي خلال ليلة منتصف شهر شعبان من كل عام, ويلعب الجان في تحديد مصير البشر دورا مهما، ولذلك ينبغي التوسل إلى ملوكهم (ملوك الجان) لأجل تحقيق أمنيات العلاج وزوال العكس والنجاح في الأعمال، وغيرها من الأغراض قبل ان يسجن الجان جميعهم طيلة النصف الثاني من شعبان، فكائنات الخفاء محكوم عليها - بحسب المعتقد - ان تقضي الفترة التي تسبق شهر الصيام محبوسة في معازلها الاسطورية، ولن تعانق حريتها من جديد الا في ليلة القدر.
قمة الاحتفال
«الليلة» في التعبير الكناوي هي قمة الاحتفال بملوك الجان البيض الذين يسمون في لغة الطائفة الخاصة (جيلالة), وتأخذ طابعا يمزج بين التراتيل الدينية التي تمتدح الله والرسول، الى جانب الطقوس والتراتيل الخفية و المتسترة التي لا يستطيع فك شفرتها الا اصحابها.
وتمر «الليلة» بثلاث مراحل:
مرحلة الطواف بالاضحية/ القربان والتي تكون غالبا عبارة عن تيس أسود,او عجل وتسمى هذه المرحلة (العدة) وتكون مفتوحة، اذ يسمح خلالها بالحضور لغير المنتسبين الى الطريقة الكناوية, وبها تنطلق الليلة على ايقاع دقات الطبول وأنغام المزاميرر والقراقب.
مرحلة التصعيد الايقاعي تمهيدا للهياج الجماعي للحضور وهي - إضافة إلى المرحلة الأخيرة - «مغلقة»، ولا يسمح خلالها بالحضور لاتباع الطائفة، دون غيرهم.
المرحلة الثالثة، وهي الحاسمة في الليلة، يكون خلالها الهياج الجماعي قد بلغ أوجه, وتكون خلالها الملوك قد نزلت بين المحتفلين بها.
الانطلاق
تنطلق الوعدة او الليلة بعد منتصف الليل، بتنسيق بين «معلم (تنطق بتسكين الميمين) كناوي «مصحوب بفرقته و«شوافة كناوية» (الشوافة تسمى لدى كناوة الجزائريين: التي تأتي بالكلام، بحسب درمنغن) ومساعدتها، وجميعهم من اتباع الزاوية, في مرحلة الطواف بالقربان، تعزف الفرقة بالمزامير وتضرب الطبول.
ويبدو دور المعلم ضابطا لايقاع الحفل حيث يأتمر العازفون بتوجيهاته, ويقومون خلال المرحلة الأولى باستعراض مهارتهم في الرقص الايقاعي والحركات البهلوانية، فيبدون وكأن قوى خفية تحركهم.
وحين يأخذ الإيقاع في التصاعد بالتدريج، يغادر الغرباء الفضوليون الحفل الطقوسي ليتركوه لأهله, فهم يدركون حتى دون ان يطلب منهم الانسحاب، ان المرحلة التالية سوف تشهد دخول كناوة في علاقة حميمة مع «ملوكهم» وقد يكون في حضورهم خطر عليهم.
والموسيقى التي تعزف تلك الليلة و المعروفة بالابراج ليست مجرد ايقاعات راقصة قوية، كما قد يبدو لغير العارف بخبايا كناوة، بل ان المقاطع الراقصة تتوزع وفق نسق يجعل الفرقة الكناوية تعزف تباعا الايقاعات الخاصة بملوك الجان السبعة الذين يقدسهم أفراد الطائفة،
بحيث يستطيع اصحاب الحال او الممسوسون بالجان ان يجدوا ضالتهم في أحدها, فإذا كانت إحداهن ممسوسة بأذى «الملكة ميرة»، مثلا، فان الفرقة ما ان تعزف لحن تلك الملكة حتى تنهض الممسوسة، كما لو انها مدفوعة من قوة خفية، فتشرع في اطلاق ضحكات هستيرية مخيفة، ثم تبدأ في الجذب المحموم مع الصراخ والتمرغ على الأرض, وقد تطلب شيئا من المحيطين بها ، فيسارعون الى مناولتها لها، لان الملكة هي التي طلبته في الحقيقة,
وبعد ان تسقط الممسوسة وهي تتلوى تسارع إليها معاونات العرافة لرمي غطاء من الثوب فوق جسمها المطروح أرضا, وينبغي ان يكون الثوب في لون الملكة التي تكون آنذاك بين الحضور.
وليلة «الدردبة» هي ليلة «الطلاعة/الشوافة/العرافة» (وجميعها اسماء المجذوبة الكناوية بحسب المناطق)،
وخلال المراحل المتقدمة من «الليلة»، عندما يصل ايقاع الحفل الى أوجه، وتعزف فرقة كناوة موسيقى الملوك، يبدأ الرقص الطقوسي طريق الصعود نحو مرحلة الهياج التي ستتوج، والحفل بـ «نزول الملوك» بين الراقصين،
تكون البخور السبعة اطلقت سحائب شفافة من دخان له رائحة نفاذة وزكية, يشرع بعض اتباع «المعلم» في الطواف بين الراقصين برايات تحمل الألوان السبعة لـ «الملوك» من اجل دعوتها الى النزول بين المحتفلين بها.
و يتم الاتصال مع مريديها و عاشقيها من البشر و كثيرا ما يكون الرقص مصاحبا لأعمال خارقة
كاللعب بالسكاكين من طرف عبيد سيدي حمو ذو اللون الاسود و مول الذبايح كما يسمونه
او بالماء الساخن كحال عبيد سيدي موسى
في حالة من الهستيريا الخيالية و التي يجد فيها اصحابها لذتهم و راحتهم و يجد فيها الحضور فرجة و اثارة غير مألوفة
و يجد فيها اهالي المرضى و الممسوسين طريقة سهلة للعلاج و الاتصال بالمجهول لاخبارهم بطريقة علاج ذويهم اين يكون دور العرافة التي يفترض انها اقرب الحضور الى القوى الخفية المدعوة الى النزول.
تبدأ الطقس الخاص بها باختلاج حاد يمتلك أطرافها، كما لو كانت مصابة بالصرع, فيفهم الحاضرون ان احدى الملكات بدأت في الحلول في جسدها، فتزيد مساعدتها من البخور في المجامر، كي لا ينقطع الدخان المحبب الرائحة لدى الملوك، في ملء الفضاء المسكون بروح الأسطورة,,, ثم يقمن بتغطيتها بأثواب من مختلف الألوان: ثوب أسود، أصفر، أزرق,,, إلى أن تهدأ، فيعرفن من خلال اللون الاخير هوية الملكة التي حلت في جسدها
وتبدأ العرافة الكناوية في «النطق» بتنبؤاتها، فتنصح هذه بأن تلبس اللون الأحمر، لان الملك الاحمر هو الذي يعاكس سعادتها, وتنصح تلك الأخرى بأن تقيم حفل الحضرة او معروفا على شرف الملكة «عايشة» , ان هي أرادت ان تتزوج ابنتها العانس، او ان تلد مولودا ذكرا، الخ، ثم تنتهي التنبؤات، التي يعتقد في ان الملكة هي التي كانت توزعها بين الحاضرات على لسان العرافة.
وينتهي الحفل بذبح تيس اسود او العجل قربانا في ليلة الملوك, التيس الأسود في المغرب او العجل في الجزائر وليس غيرهما من قرابين الدم الأخرى هما الذان ترضى بقبوله الملوك عن طائفة كناوة, وقبل ان يُذبح، يقوم المعاونين بتقديم الحليب للحيوان كي يشرب منه، ويرش بماء الورد و توضع بجبهته الحناء و تعلق عليه الاعلام قبل ان يقطع الذباح الكناوي حنجرته,,, فتشرب العرافة من الدم الحار المنساب من القربان، قبل ان يغمس شيخ الطريقة الكناوية اصابع يده اليمنى ويطلي بالدم جبهتها.
وتحمل الذبيحة الى بيت شيخ الطريقة الكناوية كي يطبخ في الصباح
وسيقدم لحلقة ضيقة من المحظوظين والمحظوظات الذين سيناولون بركة الوعدة, وطبعا يطبخ الطعام بالقربان من غير ملح لأن الجان سيأكلون منه،
وفي الساعات الأولى من الصباح، تنسحب الملوك الى مخابيها الاسطورية، وينسحب اتباع الطائفة طلبا للراحة بعد ليلة متعبة, وينتظر الأوفر حظا من بينهم ان يقاسموا ملوك الخفاء أكلة الكسكس،
لينتهي الحفل الكناوي او وعدة سيدي بلال بمريديها الكثيرين و التي تستقطب جميع اطياف المجتمع من المثقفين الى الطبقات ذات المستوى المحدود و الجميع يجمعهم هذا الارتباط القوي و الغير مفهوم كما يبررون به طقوسهم و علاقتهم باسيادهم كما ينعتونهم
و كثيرا ما يعبرون عن تلك العلاقة بالتسليم او النية او الخدمة او العبودية لملوك الخفاء الذين يعشقونهم الى درجة الارادة المسلوبة و العاطفة الجياشة المتارجحة بين الخوف و الرجاء بين الواقع و الخيال و على طريقة المتصوفة القدماء و علاقتهم اللامفهومة بالله عز وجل
و مع محاصرة الاسلاميين لطائفة كناوة و الضغط عليهم بتعاليم الدين الاسلامي من جهة
و ملاحقة المثقفون ذو الرؤية الغربية لهم بدعوى التخلف و البدائية من جهة اخرى
جعل الكثير منهم يكتفون بالشكل الموسيقي للقناوة لا غير خاصة و انها مطلوبة عالميا و اعتماد التقية في الباقي ....
و لقد ناقشت الكثير من الاصدقاء الذين اعرفهم من طائفة كناوة خاصة من الشباب المثقف فكانت اراءهم تصب جميعها على انهم تحت تاثير قوى خفية يعشقونها لا يستطيعون تفسير علاقتهم بها و لا التخلي عنها هكذا فهمت منهم ...................