عنوان الموضوع : دعوة للقراءة .. قصة التفريغ الثقافي قضايا المجتمع
مقدم من طرف منتديات العندليب
ذيل الرسالة / قصة التفريغ الثقافي
ذيل الرسالة
والآن لم يبق إلا أن أضع بين يديك قصة التفريغ الثقافي الذي حتمت به كلماتي آنفا في رسالة في الطريق إلى ثقافتنا أنقلها من كتاب المتنبي ص 19 34 في التصدير الذي سميته لمحة من فساد حياتنا الأدبية وفيها شهادتان :
شهادتي أنا من موقعي بين أفراد جيلي إليه وهو جيل المدارس المفرغ من كل أصول ثقافة أمته وهو الجيل الذي تلقى صدمة التدهور الأولى حيث نشأ في دوامة من التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي
وشهادة الدكتور طه حسين من موقع الأستاذية لهذا الجيل
فاقرأهما بتدبر وأناة حتى تلم بأطراف البلاء الذي حاق بي وبك وبأمتك العربية و الإسلامية وحتى لا تدخل تحت المعنى الذي قاله أبو عبادة البحتري :
ومن العجائب أن أرى أعين مفتوحة .... وعقولهن تجول في الأحلام
= أحلام النهضة والتجديد والأصالة والمعاصرة والثقافة العالمية وأحلام أخرى كثيرة لا تنقضي !! أحلام جعلت صدمة التدهور مستمرة متمادية متفاقمة إلى هذه الساعة التي تقرأ فيها هذه الرسالة ولله الأمر من قبل ومن بعد
قلت : ومرت الأيام والليالي والسنون بين سنة 1928 وسنة 1936 وهي السنة التي كتبت فيها هذا الكتاب المتنبي وهمي مصروف أكثره إلى قضية الشعر الجاهلي وإلى طلب اليقين فيها لنفسي لا معارضة لأحد من الناس ومشت بي هذه القصة في رحلة طويلة شاقة ودخلت بي في دروب وعرة شائكة وكلما أوغلت انكشفت عني غشاوة من العمى وأحسست أني والجيل الذي أنا منه وهو جيل المدارس المصرية قد تم تفريغنا تفريغا يكاد يكون كاملا من ماضينا كله من علومه وآدابه وفنونه وتم أيضا هتك العلائق بيننا وبينه وصار ما كان في الماضي متكاملا متماسكا مزقا متفرقة مبعثرة تكاد تكون خالية عندنا من المعنى و من الدلالة ولأنه غير ممكن أن يظل الفارغ فارغا أبدا فقد تم ملؤ هذا الفراغ بجديد من العلوم والآداب والفنون بحيث لا تمت إلى هذا الماضي بسبب وإننا انستقبله استقبال الظاميء المحترق قطرات من الماء النمير المثلج
في خلال هذه الأعوام تبين لي أمر كان في غاية الوضوح عندي وهو قصة طويلة قد تعرضت لأطراف منها في بعض ما كتبت ولكني أذكرها هنا على وجه الإحتصار صار بينا عندي أننا نعيش في عالم منقسم انقساما سافرا : عالم القوة والغنى وعالم الضعف والفقر = أو عالم الغزاة الناهبين وعالم المستضعفين المنهوبين
كان عالم الغزاة الممثل في الحضارة الغربية يريد أن يحدث في عالم المستضعفين تحولا اجتماعيا وثقافيا وسياسيا فهو صيد غزير يمد حضارتهم بكل أسباب القوة والعلو والغنى والسلطان والغلبة والطريق إلى هذا التحول عمل سياسي محض لا غاية له إلا إخضاع هذا العالم (المتخلف) إخضاعا تاما لحاجات العالم (المتحضر) التي لا تنفد ولسيطرته السياسية الكاملة أيضا ومع أن هذا العمل السياسي المحض المتشعب قد بدأ تنفيذه منذ زمن في أجزاء متفرقة من عالمنا إلا أنه بدأ عندنا في مصر قلب العالم الإسلامي و العربي مع الطلائع الأولى لعهد محمد علي بسيطرة القناصل الأروبية عليه وعلى دولته وعلى بناء هذه الدولة كلها بالمشورة والتوجيه ثم ارتفع إلى ذروته في عهد حفيده اسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي الخديوي حتى جاء الإحتلال الإنجليزي في سنة 1882 وبمجيئه سيطر الإنجليز سيطرة مباشرة على كل شيء وعلى التعليم خاصة إلى أن جاء (دنلوب) في (18 مارس 1897) ليضع للأمة نظام التعليم المدمّر الذي لا نزال نسير عليه مع الأسف إلى يومنا هذا .
كان التمهيد لهذا العهد طويلا متعدد الجوانب وكان قوامه إعداد جيل من (المبعوثين) يعودون من أوربة ليكونوا قادة هذا التحول الرفيق العميق ويراد منهم أن يؤسسوا قاعدة ثابتة لانطلاق التحوّل إلى غاية يراد لنا أن نبلغها على تمادي الأيام . وكان الغزاة يقنعون يومئذ من هؤلاء المبعوثين بأن يعودوا إلى بلادهم ببضعة أفكار يردّدونها ترديد الببغاوات تتضمّن الإعجاب المزهوّ ببعض نظاهر الحياة الأوربية مقرونا بنقد بعض مظاهر الحياة في بلادهم = وبأن يكاشفوا أمتهم بأنّ ما أعجبوا به هو سرّ قوّة الغزاة وغلبتهم وأن الذي عندنا هو سرّ ضعفنا وانهيارنا . وقد وجدت ذلك ظاهرا ممثلا أحسن تمثيل عند رفاعة ال طهطاوي وأشباهه . ولكن لما جاء عهد ( دنلوب ) أصبح كان أمر المبعوثين وحده لا يكفي وأصبح الأمر محتاجا إلى ما هو أكبر وأوسع انتشارا . فكان الرأي أن تنشأ أجيال متعاقبة من ( تلاميذ المدارس ) في البلاد يرتبطون ارتباطا وثيقا بهذا التحوّل عن طريق تفريغهم تفريغا كاملا من ماضيهم كلّه مع هتك أكثر العلائق التي تربطهم بهذا الماضي اجتماعيا وثقافيا ولغويا ومع ملئ هذا الفراغ بالعلوم والآداب والفنون = ولكنها فنونهم هم وآدابهم هم وتاريخهم هم ولغاتهم هم أعني الغزاة .
وقد تولى نظام (دنلوب) تأسيس ذلك في المدارس المصرية مع مئات من مدارس الجاليات التي يتكاثر على الأيام عدد من تضمّ من أبناء المصريين وبناتهم . وقد كان ما أراد الغزاة ولم يزل الأمر إلى يومنا هذا مستمرا على ما أرادوا بل زاد بشاعة وعمقا في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي بظهور دعوات مختلفة كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية وأشباه ذلك في الصحافة والكتب المؤلفة . لأنّ تفريغ الأجيال من ماضيها المتدفّق في دمائها مرتبطا بالعربية والإسلام يحتاج إلى ملئ بماض آخر يغطّي عليه فجاؤوا بماض بائد مغرق في القدم والغموض ليزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحيّ الذي يوشك أن يتمزّق ويختنق بالتفريغ المتواصل .
في ظلّ هذا التفريغ المتواصل وهذا التمزيق للعلائق وهذه الكثرة التي تخرج مفرّغة أو شبه مفرّغة إلى (البعثات) وهذا التحول الاجتماعي والثقافي والسياسي المضطرب وهذا التغليب المتعمّد للثقافة الغازية واللغات الغازية بلا مقابل في النفوس من ثقافة ماضية حيّة حياة ما وباقية على تماسكها وتكاملها = في ظل هذا كلّه انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشا غير واضح المعالم ولكنه يقوم على أصل واحد في جوهره هو ملئ الفراغ بما يناسب آدابا وفنونا غازية كانت قد ملأت بعض هذا الفراغ فهي تحدث في النفوس تطلّعا إلى زاد جديد منها .
فالمسرح مثلا وكان له شأن أيّ شأن يعتمد اعتمادا واضحا على المسرح الأروبي في تكوينه كلّه . وأيسر سبيل كان إلى إمداده بمادّته هو (السطو) على مؤلفات المسرح الأوربي مسلوخة يعاد تكوينها بألفاظ عربية أو عامية على الأصحّ ودون إشارة إلى هذا (السطو) وكانوا يسمّون هذا حياء ومكرا : (التمصير) بيد أنه عبث مجرّد وسطو لا رقيب عليه . أمّا الكتاب الجادون فكان أكثرهم يعتمد على تلخيص نتاج الفكر الأوربي في الأدب والفلسفة والإجتماع والسياسة تلخيصا ما وإن كان أكثره خطفا وسطوا ينسبه الكاتب إلى نفسه بلا رقيب ولا محاسب .
والقصة أيضا كانت ضربا من ( السطو ) والتقليد تحوّر فيها الأسماء والأماكن والوقائع ثمّ ترقّع بأفكار مسلوبة مختطفة ثمّ توزّع توزيعا ماهرا على فصولها المختلفة حتى تضمن لأصحابنا إخفاء معالم السطو والانتهاب والتقليد [ وهذا أمر لم يزل مستمرّا بقوّة إلى يومنا هذا ] .
وبالثرثرة واللجاجة في الصحف والمجلات صارت هذه الظاهرة مألوفة لا غبار عليها . وزادها رسوخا إثارة قضية كثيرة الضجيج محفوفة بألفاظ مبهمة مغرية تقبلها النفوس بلا ممانعة وهي قضية (القديم) و (الجديد) و(التجديد) و(ثقافة العصر) .. والنظر في حقيقة هذه القضية يفضي إلى شيئين ظاهرين : ميل ظاهر إلى رفض (القديم) والإستهانة به دون أن يكون الرافض ملما إلماما ما بحقيقة هذا (القديم) = وميل سافر إلى الغلوّ في شأن (الجديد) دون أن يكون صاحبه متميّزا في نفسه تميزا صحيحا بأنه (جدّد) تجديدا نابعا من نفسه وصادرا عن ثقافة متكاملة متماسكة بل كل ما يميّزه أنّ الله قد يسّر له الإطّلاع على آداب وفنون وأفكار تعب أصحابها في الوصول إليها من خلال ثقافتهم المتماسكة المتكاملة وكفى الله المؤمنين القتال
هذه خطوط من صورة لجانب من الحركة الأدبية والثقافية في ذلك العهد وأكثرها باق إلى يومنا هذا ومقبول أيضا بلا استبشاع له .
ولكن هذه الصورة لا تتم وحدها . في خلال التحوّل الإجتماعي الثقافيّ المتصاعد المتكاثر كان هناك جانب راكد مختنق لم يفرّغ هذا التفريغ ولكن ضرب عليه حصار مفزع وبيل مهين . هذا الجانب كان هو الوارث للماضي المتكامل المتماسك ولكنه كان يزداد على مرّ الأيّام تخلخلا وتفككا وحيرة وانطواء . يمثّل هذا الجانب جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم وأشباههما . كان أكبر همّ هذا الجانب في هذا اليمّ المتلاطم من حوله هو محاولة المحافظة على الماضي محافظة مّا ولكنّ قبضته كانت تسترخي شيئا فشيئا تحت الحصار وتحت القذائف المدمّرة التي يرمى بها والتي تزلزل نفوس أبنائه من قواعدها . وكان مطلوبا طلبا حثيثا أن تفتح أبواب هذا الحصن العتيق المنيع لتدخل عليه نفس العوامل التي أدّت إلى تفريغ (تلاميذ المدارس) من ماضيها وإلى تهتّك علائق ثقافته وعلومه وإلى ربطه بالحركة الأدبية الغازية المتصاعدة تحت ألوية (الجديد) و(التجديد) و(ثقافة العصر) وسائر الألفاظ المبهمة المغرية
وقد كان واحتاج شقّ الطريق إلى هذه الغاية إلى وسائل كثيرة متنوعة والذي يهمّني منها هو ما يتعلّق بأمر (السطو) لا غير . كان الذي يحول بينهم وبين بلوغ هذا الغرض هو أنّ جمهور المتعلمين المنتسبين إلى الأزهر ودار العلوم لم يكن لهم لسان غير العربية قلّما كان يعرف أحدهم غير هذا اللسان فعمدوا في مصر خاصة إلى إجافة باب يتيح لهم أن يطّلعوا = أو يصدموا على الأقل بما عند الحضارة الغازية من نظر ورأي في آداب العربية وعلومها وفنونها وتاريخها ودينها أيضا كان هذا موفورا في مؤلفات (المستشرقين) عامّة لأنّه هو كلّ عملهم في (الإستشراق) المرتبط كلّ الإرتباط بالإستعمار والتبشير أي تدمير الأمم المستضعفة وتحطيم ثقافتها وآثارها وماضيها كله . فكان ولابدّ إذن من نشر هذه الأفكار على نطاق واسع ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .
انبرى لذلك رجال كثيرون في مصر والشام وغيرها لا يربطهم في أنفسهم بهذا الماضي إلاّ اللسان العربي وحده أما ضمائرهم فمرتبطة بشيء آخر . فكتبوا مقالات ونشروا كتبا في آداب العرب وعلومها وفنونها وتاريخها ودينها على قلّة معرفتهم بها معرفة تتيح لهم الكتابة ولكنها كانت معبّرة عن اتجاه (الإستشراق) لا غير .
فكانت كلّها (سطو) مجرّدا على آراء المستشرقين ومناهجهم في النظر مبثوثا في ثنايا كلّ ما يكتبون . وكذلك تيسّر لكل من لا يعرف غير العربية لسانا أن يجد على مدّ يده شيئا (جديدا) يقال عن ماضيه وبمناهج لم يألفها أيضا .
ولكن حال بين هذا الضرب من (السطو) وبين أن يكون شيئا عامّا مؤثرا تأثيرا نافذا في جمهور (المحافظين) الذين لا يعرفون غير العربية = أنهم رجال وفدوا إلى مصر مع استقرار الاحتلال الإنجليزي فيها (1892) وكانت الشبهة فيهم توجب الحذر منهم فأضعف الحذر أثر ما يكتبون في أكثر القراء من هذا الجمهور وإن كان لهم في جمهور (تلاميذ المدارس) المفرّغين من ماضيهم أثر بليغ . ومع ذلك فإن الهدف لم يذهب هدرا فإنه على الأقل فتح الباب ويسّر السبيل للساطين وجعل (السطو) المباشر أمرا مألوفا لا غبار عليه بل زاد فقرّب إلى الأذهان سبيل الإقناع بأنه ضرب من (التجديد) ومن متابعة (ثقافة العصر) ومناهج تفكيره في الدراسات الأدبية والتاريخية الخاصة يلغة العرب وتاريخهم وعلومهم وفنونهم ودينهم أيضا
ومعنى ذلك باختصار هو أنّه صار الآن ممكنا أن يصبح من الممكن ومن السهل اليسير أن يكون معنى (الجديد) و(التجديد) في دراسة آداب أمة ما وفي دراسة تاريخها : أن يعمد (المجدد) إلى اقتباس آراء وأفكار قد تولّى صياغتها من هو لصيق دحيل عليها وعلى لسانها لم ينشأ فيه وإنما تعلمه على كبر فهو لا يعلم مته إلاّ القليل ومن هو نابت في لسان آخر بآدابه وعلومه وفنونه وعقائده ومن هو محروم
بطبيعته من القدرة على تذوق آدابها تذوقا شاملا = والتذوق وحده عقدة العقد= ومن هو مسلوب كلّ إحساس بتاريخه كلّه فضلا عمّا يكنّه في سريرته من العداوة المتوارثة والبغضاء المتأججة ومن المصلحة المتجددة في تشويه صورتها تشويها متعمدا لأغراض (حضارية) = يا للعجب
أهذا ؟ أم أنّ (الجديد) و(التجديد) لا يمكن أن يكون مفهوما ذا معنى إلاّ أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل ثقافة متكاملة متماسكة حيّة في أنفس أهلها = ثم لا يأتي التجديد إلاّ من متمكّن النشأة في ثقافته متمكّن في لسانه ولغته متذوّق لما هو ناشيء فيه من آداب وفنون وتاريخ مغروس تاريخه في تاريخها وفي عقائدها وفي زمان قوتها وضعفها ومع المتحدّر إليه من خيرها وشرها محسّا بذلك كلّه إحساسا خاليا من الشوائب = ثم لا يكون (التجديد) تجديدا إلاّ من حوار ذكي بين التفاصيل الكثيرة المتشابكة المعقّدة التي تنطوي عليها هذه الثقافة وبين رؤية جديدة نافذة حين يلوح للمجدد طريق آخر يمكن سلوكه من خلاله يستطيع أن يقطع تشابكا من ناحية ليصله من ناحية أخرى وصلا يجعله أكثر استقامة ووضوحا وأن يحلّ عقدة من طرف ليربطها من طرف آخر ربطا يزيدها قوة ومتانة وسلاسة .
فالتجديد إذن حركة دائبة عمادها الخبرة والتذوق والإحساس المرهف بالخطر عند الإقدام على القطع والوصل وعند التهجم على الحلّ والربط . فإذا فقد هذا كله كان القطع والحلّ سلاحا قاتلا مدمّرا للأمة وثقافتها وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكك والضياع إذ يورث كلّ جيل منها جيلا بعده ما يكون به أشدّ منه حيرة وتفككا وضياعا .
هذه هي العاقبة التي تفرض نفسها فرضا وما أبشعها من عاقبة .
فما ظنّك إذن بالعاقبة إذا كان القطع والحلّ مرادا لذاته وكان مرادا أيضا أن لا يكون معه أو معه أو بعده وصل وربط في داخل التكامل والتماسك الذي يجعل لهذه الثقافة معنى وحياة وحركة ؟ = وما ظنك بالعاقبة إذا كان هذا ولم تكن الأفكار (المجددة) إلاّ ترديدا لصياغة غريبة صاغها غريب عن الثقافة منتسب إلى ثقافة غازية مباينة وهو مع ذلك ناقص الأداة لا خيرة له بتشابكها وعقدها ثم هو نفسه لا يضمر لها إلاّ التدمير والاستهانة لغرض راسخ في قرارة النفس ؟ = ثم ما ظنّك أيضا بالعاقبة إذا صار (التجديد) عند أصحاب الثقافة أنفسهم لا يزيد على أن يكون (سطو) مجرّدا على هذه الصيغة الغريبة ثم إقحامها إقحاما على ثقافتهم لا لحاجة أدّى إليها النظر والفكر والتدبر بل الهوى وخبّ الظهور من مفرّغ أو من شبيه بالمفرّغ من ثقافته المتكاملة المتماسكة ؟ ما أبشع العواقب عندئذ وأبشعها التدهور المستمر
وكذلك كان مقدّرا لجيلنا نحن جيل المدارس المفرّغ أن يتلقى صدمة التدهور الأولى لأنّه نشأ في دوامة دائرة من التحول الإجتماعي والثقافي والسياسي . جئنا في أعقاب حرب الإستعمار الكبرى وهي التي يسميها أصحابها (الحرب العالمية الأولى) .
خرج منها (الحلفاء) منصورين وبدأوا من فورهم في تقسيم عالمنا وتبديده وأخذ كلّ مستعمر منهم يشدد قبضته على ما وقع في يده من الغنائم . وبالدهاء والمكر والسطوة جعل يدفع هذا التحوّل دفعا شديدا لكي يتمّ له أن يخضع عالمنا (المتخلف) لحاجات عالمه (المتحضر) وجئنا أيضا في مصر مع الرّجةالعظمى التي أحدثتها ثورة سنة 1919 والتي انتهت بعد قليل بفجيعة مزّقت الأمة تمزيقا مفزعا بفضل الدستور والانتخابات وتعدّد الأحزاب وتكالب كلّ حزب على الظفر بالحكم تحت علم السيادة البريطانية المتحضّرة .. وتبددت نفوسنا وتفتّتت تحت ضغط هذا التحوّل السريع المتمادي المريب المروّع
وفي ظلّ هذا كله كما قلت انتعشت الحركة الأدبية والثقافية انتعاشا غير واضح المعالم .. وأقول (غير واضح المعالم ) لأنّ الأساتذة الكبار الذين انتعشت على أيديهم هذه الحركة كانت علائقهم بثقافتهم غير ممزّقة كلّ التمزيق = أما نحن جيل هذه المدارس المفرّغ فقد تمزّقت علائقنا بها كلّ التمزيق فصار ما يكتبه الأساتذة فيما له علاقة بهذه الثقافة باطلا أو كالباطل . فهو لا يقع منا ومن أنفسنا بالموقع الذي ينبغي له من الفهم ومن الإثارة ومن الترغيب في متابعته ومن إعادة النظر في ارتباطنا بتلك الثقافة = بل كان عند كثير من أهل جيلنا غير مفهوم البتة فهو يمرّ عليه مرورا سريعا لا أثر له . أمّا الذي أخذه جيلنا عنهم فهو الإتجاه الغامض إلى المعنى المبهم الذي تتضمّنه كلمة (التجديد) = وإلى هذا الرفض الخفيّ للثقافة التي كان ينبغي أن ننتمي إليها = وإلى الإنحياز الكامل إلى قضايا الفكر والفلسفة والأدب والتاريخ التي أولع الأساتذة بتلخيصها لنا لكي نلحق بثقافة العصر الذي نعيش فيه وبمناهجه في التفكير كما صوّروا لنا ذلك من خلال ما يكتبونه وغاب عن الأساتذة الكبار أنّ الزمن الدوّار الذي يشيب الصغير ويفني الكبير هو الذي سيتولّى الفصل بينهم وبين أبنائهم الصغار الذين كاموا يتعلّمون اليوم على أيديهم .
والقصة تطول ومع ذلك فليس هذا مكان قصّها على وجهها إذا أنا أردت أن أقيّد ما كان كما شهدته فيما بين سنة 1928 وسنة 1936 بل إلى ما بعد ذلك إلى يومنا هذا أيضا . ويكفي أن أقول : إنّ جيلنا جيل المدارس المفرّغ كان في خلال ذلك قد كبر وانفلق عن فريقين : فريق قانع بما تجود به عليه أقلام الأساتذة الكبار من (تلخيص) و(تجديد) فهو لا يزال إليهم متطلّعا وبهم متعلّقا ثم لا يزيد = وفريق يسّر الله له السبيل إلى معرفة المنبع فرأى نفسه قادرا على أن يغترف من حيث اغترف أساتذته . لقد اطّع على أصول ما كانوا يلخّصونه وما كانوا (يجددون) به مكتوبا بلغته أو بلغاته على الأصحّ . وأحسّ أيضا أنّ (الأصل) الذي يقرؤه بلغته مضيء حيّ مكثف عميق الدلالة = وأن تلخيص الأساتذة وتجديدهم كاب لونه خامدة حياته متخلل قريب المتناول .
ومع هذا الذي أحسّ به فإنّه لا يدري يشعر بتفوّق هؤلاء الأساتذة الملخّصين المجدّدين عليه ولكنه لا يستطيع أن يجد تفسيرا لهذا التفوق مع أنّ تفسيره يسير هيّن . وذلك أنّ علائق الأساتذة بثقافة أمّتهم كانت علائق لم تمزّق كلّ التمزيق وبفضل هذه العلائق استطاعوا أن يعطوا تلخيصهم نفحة من سرّ أنفسهم يمتازون بها وأن يكونوا أقدر منهم على (التجديد) لأنّ ما عندهم كان يمكنهم من الإختيار ثم من نفي ما هو غث أو ساقط ومن إخفاء (السطو) إخفاء فيه ذرو من المعرفة . أمّا هم فقد فرّغوا تفريغا يكاد يكون تامّا من أصول ثقافتهم التي ينتمون إليها (بالوراثة) ولذلك فهم يحسّون في أنفسهم ما يشبه العجز إذا ما قارنوا بين أنفسهم وبين هؤلاء الأساتذة .
وهذا هو الموقف العصيب الذي كان فيه جيلنا يومئذ ثمّ استمرّت عليه الأجيال بعدنا وهي تشعر شعورا واضخا بتفوّق هذا الجيل من الأساتذة الكبار (الملخّصين) و(المجدّدين) مع أنّ الأمر كما قلت قائم في الحقيقة على (السطو) البيّن أو الخفي على أعمال ناس آخرين يكتبون في لغاتهم بألسنتهم ويعبّرون عن أنفسهم وعن حضارتهم وعن ثقافتهم = لا عن أنفسنا أوعن حضارتنا أو عن ثقافتنا نحن ..
ومع ذلك فإن جيلنا والأجيال التي تتابعت بعده لم ترد أن تكشف هذه الحقيقة لأنّهم إذا فعلوا ذلك كشفوا أمر أنفسهم لأنّهم لا يستطيعون شيئا آخر سوى منهج (التلخيص) و(التجديد) على السنّة التي سنّها لهم هؤلاء الأساتذة الكبار ولو فعلوا لما بقي لهم شيء يقولونه حين يرثون موقع الصدارة للتعليم والتثقيف بعد هؤلاء الأساتذة الكبار .
ولذلك فقد قنعوا بالوقوف تحت مظلّة (التجديد) و(عالمية الثقافة) و(الثقافة العالمية) و(الحضارة الإنسانية) وسائر هذه المبهمات التي أشرت إليها آنفا وتكاتموا هذه الحقيقة بينهم ثم كان الأمر بعد ذلك كما قيل في المثل (خلا لك الجوّ فبيضي واصفري) ..
ومع ذلك فأنا أحبّ أن أقرر هنا حقيقة أخرى تعين على توضيح هذه الصورة التي صوّرتها وكنت أنا أحد شهودها فصوّرتها فيما سلف . فالدكتور طه حسين وهو أحد هؤلاء الأساتذة الكبار سوف يشهد في سنة 1935 شهادته هو من موقعه هو أي من موقع الأستاذية ومن وجهة نظره هو ومن دوافعه هو إلى الإدلاء بهذه الشهادة .
ومن المعلوم أنّ الدكتور طه في سنة 1926 حين ألقى محاضراته (في الشعر الجاهلي) زعم أنّ له منهجا يدرّس به تراث العرب كلّه وسمّى هذا المذهب (مذهب الشكّ) فكان فيما قاله عن مذهبه إنّ هذا المذهب سوف : (يقلب العلم القديم رأسا على عقب وأخشى إن لم يمح أكثره أن يمحو منه شيئا كثيرا) [في الشعر الجاهلي ص:3]
ثم انطلق في كتابه هذا مستخفا بكلّ شيء بلا حذر حتى قال : (والنتائج الملازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجدّدون عظيمة جليلة الخطر .. وحسبك أنّهم يشكّون فيما كان الناس يرونه يقينا وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنّه حقّ لا شكّ فيه . وليس حظ هذا المذهب منتهيا إلى هذا الحدّ بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثرا . فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتّفق الناس على أنّه تاريخ وهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنّه تاريخ وهم قد ينتهون إلى الشكّ في أشياء لم يكن يباح الشك فيها .. ) [في الشعر الجاهلي : 6]
والإستخفاف الذي بنى عليه الدكتور طه كتابه معروف أمّا الذي كان يقوله في أحاديثه بين طلبته فكان استخفافه عندئذ يتجاوز حدّه حتى يبلغ بنا إلى الإستهزاء المحضي بأقوال السلف . وأمّا الذي كان يدور بين طلبته الصغار (المفرّغين) من ثقافتهم كما قلت فكان شيئا لا يكاد يوصف لأنّه كان استخفاف جاهل واستهزاء خاو يردد ما يقوله الدكتور لا يعصمه ما كان يعصم الدكتور طه من بعض العلم المتصل بهذه الثقافة . وعلى مرّ الأيام كانت العاقبة وحيمة جدا . كبر الصّغار الذين تأثّروا بما قاله في سنة 1926 فقد فطمتهم السنّ وفطمتهم معرفة جديدة حازوها وتنكّروا أو كادوا للثدي الذي كان يرضعهم . وخرجت (الطلائع) تدفعها الحميّة وطلب الصّدارة في ميدان (التثقيف) و(التجديد) وبدا كأنّهم جاؤوا يزاحمون الأساتذة الكبار في مواقع الأستاذية . وساروا على نفس النّهج الذيمهّدوه لهم من (التلخيص) لفكر (الحضارة الحديثة) = أي الحضارة الأروبية = والذي هو في حقيقته سطوّ مجرّد ولكنّهم لم يسيروا سيرة الأساتذة في معالجة (القديم) حتّى يخيّل للناس أنّه إحياء للقديم وتجديد له بل كان الغالب على أكثرهم هو (رفض القديم) والإعراض عنه والإنتقاص له والإستخفاف به . وعندئذ أحسّ الدكتور طه نفسه بالخطر وهو هو الذي أضاء لهم الطريق بالضّجة التي أحدثها كتابه (في الشعر الجاهلي ) ..
كان إحساس الدكتور بهذا الخطر الذي تولّى هو كبر إحداثه ظاهر جدا ففي يناير سنة 1926 = بعد تسع سنوات من صدور كتابه : (في الشعر الجاهلي) سنة 1926 = بدأ ينشر في جريدة الجهاد مقالات انتهى منها في 22 مايو سنة 1935 وكان محصّلها رجوعا صريحا عن إدّعائه الأوّل في سنة 1926 الذي أعلنه في أوّل كتابه وهي قوله : ( إنّ الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء وإنّما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين وأكاد لا أشك في أنّ ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدلّ على شيء ) [في الشعر الجاهلي ص: 7]
بدأ الدكتور هذه المقالات بمقالة عنوانها : (أثناء قراءة الشعر القديم) وأدار الحديث بينه وبين صاحب له وهو يحاوره : (إنّكم لتشقّون علينا حين تكلّفوننا قراءة شعركم القديم هذا وتلحّون علينا فيه وتعيبوننا بالإعراض عنه والتقصير في درسه وحفظه وتذوّقه لأنّكم تنكرون الزمن إنكارا وتلغونه إلغاء وتحسبون أننا نعيش الآن في القرن الأوّل قبل الهجرة أو بعدها ... ) إلى آخر ما صوّر به الدكتور حقيقة إحساسه بآراء من يحيطون به من جيلنا الذي بلغ الفطام واستقلّ .
ثمّ قال بعد ذلك (ص : 9 من حديث الأربعاء ج : 1) : ( وقد تحدّث إليّ المتحدّثون بأنّ أمثال صاحبي هذا قد أخذوا يكثرون ويظهر أنهم سيكثرون كلّما تقدّمت الأيام ) وصدق ظن الدكتور فقد كان ذلك وكان ما هو أبشع منه ..
وسأحاول هنا أن ألخّص ما قاله الدكتور طه بألفاظه هو لا بألفاظي لأنها شهادة أستاذ كبير يقول :
(والذين يظنون أن الحضارة الحديثة حملت إلى عقولنا
(خيرا خالصا يخطئون فقد حملت الحضارة الحديثة إلى عقولنا
(شرّا غير قليل ... فكانت الحضارة مصدر جمود
(وجهل كما كان التعصب للقديم مصدر جحود وجهل
(هذا الشّاب أو هذا الشيخ الذي أقبل من أوربة
( يحمل الدرجات الجامعية ويحسن الرطانة بإحدى اللغات
( الأجنبية ... يجلس إليك وإلى غيرك منتفخا متنفّشا
( مؤمنا بنفسه وبدرجاته وبعلمه الحديث أو أدبه الحديث
( ثم يتحدّث إليك كأنّه ينطق بوحي أبولون . فيعلن إليك
( في حزم وجزم أن أمر (القديم) قد انقضى وأن الناس
( قد أظلّهم عصر (التجديد) وأنّ الأدب القديم يجب
( أن يترك للشيوح الذين يتشدّقون بالألفاظ ويملأون
( أفواههم بالقاف والطاء وما أشبههما من الحروف الغلاظ
( وأنّ الإستمساك بالقديم جمود والإندفاع في الحياة إلى
( أمام هو التطوّر وهو الحياة وهو الرقي . هذا الشاب
( وأمثاله ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة لأنه لم يفهم
( هذه الحضارة على وجهها ولو قد فهمها لعلم أنها لا تنكر
( القديم ولا تنفر منه ولا تنصرف عنه وإنّما تحببه وترغّب
( فيه وتحثّ عليه لأنّها تقوم على أساس منه متين ...
( هذا الشابّ ضحية من ضحايا الحضارة الحديثة
( أو من ضحايا جهل الحضارة الحديثة وشرّه ليس مقصورا
( عليه وغنّما يتجاوزه إلى غيره من الناس . فهو يتحدّث
( وهو يعلّم وهو يكتب وهو في هذا كلّهينفث السمّ
( ويفسد العقول ويمسخ في نفوس الناس المعنى الصحيح
( لكلمة (التجديد) فليس التجديد إماتة القديم
( وإنما التجديد في إحياء القديم وأخذ ما يصلح منه للبقاء .
( وأكاد أتّخذ الميل إلى إماتة القديم أو إحيائه في
( الأدب مقياسا للذين انتفعوا بالحضارة الحديثة أو لم
( ينتفعوا بها فالذين تلهيهم مظاهر الحضارة عن أنفسهم
( حين تلهيهم عن أدبهم القديم لم يفهموا الحضارة الحديثة
( ولم ينتفعوا بها ولم يفهموها على وجهها وإنّما اتّخذوا
( منها صورا وأشكالا وقلّدوا أصحابها تقليد القردة
( لا أكثر ولا أقلّ ..
( والذين تلفتهم الحضارة الحديثة إلى أنفسهم وتدفعهم
( إلى إحياء قديمهم وتملأ نفوسهم إيمانا بأن لا حياة لمصر
( إلاّ إذا عنيت بتاريخها القديم وبتاريخها الإسلامي
( وبالأدب العربي قديمه وحديثه عنايتها بما يمس حياتها
( اليومية من ألوان الحضارة = هم الذين انتفعوا وهم
( الذين فهموا وهم الذين ذاقوا وهم القادرون على أن
( ينفعوا في إقامة الحياة الجديدة على أساس متين ) .
وهذه الشهادة من أحد الأساتذة الكبار الذين سنّوا لمن بعدهم السنن في الحياة الأدبية وفي مناهج تفكيرها شهادة مهمّة جدا لتاريخ الحياة الثقافية التي امتدّت بعدهم إلى يومنا هذا بل هي تكشف عن جذور التدمير المفزع الذي يشمل اليوم المجتمع العربي كلّه حيث تنطق العربية .. لا بل حيث يدين غير العرب بالإسلام ويوجب عليهم إسلامهم أن يضعوا العربية في المقام الأوّل لأنّ إسلامهم لا يكون إسلاما إلا بالقرآن وهو الذي نزل عليهم بلسان عربي مبين وإلاّ بسنّة الرسول الأميّ العربيّ صلى الله عليه وسلم وهي أيضا بلسان عربي مبين .
وليس من همّي هنا أن أفسر هذه الشهادة ولا أن أوضّح مدى صدقها حيث صدق توقع الدكتور في تكاثر عدد من وصفهم من (المثقفين) في شهادته وأخشى أن أقول إن هذه الصفة على نقصها تشمل عامة المثقفين في زماننا هذا إلى سنة 1977 = ولكن الذي يجب عليّ أن أقوله : إن شهادة الدكتور على اختصارها إنّما هي وجه آخر لشهادتي التي كتبتها هنا قالها هو من موقع (الأستاذية) وقلتها أنا من موقعي بين أفراد جيلي الذي أنتمي إليه وهو جيل المدارس المفرّغ من كلّ أصول ثقافة أمته وهو الجيل الذي تلقّى صدمة التدهور الأولى حيث نشأ في دوّامة من التحوّل الإجتماعي والثقافي والسّياسي كما أشرت إليه آنفا [ص : 161] .
ثمّ قلت في ختام ما سميته (لمحة من فساد حياتنا الأدبية) [كتاب المتنبي : 122-123] :
أمّا الآن فإنّي أتلفّت إلى الأيام الغابرة البعيدة حين كنت أشفق من مغبّة السنن التي سنّها لنا الأساتذة الكبار كسنّة (تلخيص) أفكار عالم آخر ويقضي أحدهم عمره كاملا في هذا التلخيص دون أن يشعر بأنّه أمر محفوف بالأخطار ودون أن يستنكف أن ينسبه لنفسه نسبة تجعله عند الناس كاتبا ومؤلفا وصاحب فكر هذا ضرب من التدليس كريه . ومع ذلك فهو أهون من (السطو) المجرّد حين يعمد الساطي على ما سطا عليه فيأخذه فيمزقه ثمّ يفرّقه ويغرقه في ثرثرة طاغية ليخفي معالم ما سطا عليه وليصبح عند الناس صاحب فكر ورأي ومذهب يعرف به وينسب كلّ فضله إليه . ومع ذلك فهذا أيضا أهون من (الإستخفاف) بتراث متكامل بلا سبب ولا بحث وبلا نظر ثم دعوة من يعلمون علما جازما أنه غير مطيق لما أطاقوا إلى الإستخفاف به كما استخفّوا . ومع ذلك أيضا فهذا أهون مما فعلوه وسنّوه من سنّة (الإرهاب الثقافي) الذي جعل ألفاظ (القديم) و(الجديد) و(التقليد) و (التجديد) و(التخلف) و (الجمود) و(التحرر) و(ثقافة الماضي) و(ثقافة العصر) = سياطا ملهبة بعضها سياط حث وتخويف لمن أطاع وأتى وبعضها سياط عذاب لمن خالف وأبى .
أتلفّت اليوم إلى ما أشفقت منه قديما من فعل الأساتذة الكبار .. لقد ذهبوا بعد أن تركوا من حيث أرادوا أو لم يريدوا حياة أدبية وثقافية قد فسدت فسادا وبيلا مدى نصف قرن وتجدّدت الأساليب وتنوّعت وصار (السطو) على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان (البحث العلمي) و(عالمية الثقافة) و(الثقافة الإنسانية) وإن لم يكن محصوله إلاّ ترديدا لقضايا غريبة صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كلّ قضية واختلط الحابل بالنابل قل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت فإنّه صادق صدقا لا يتخلّف . فالأديب منّا مصوّر بقلم غيره والفيلسوف منا مفكّر بعقل سواه والمؤرّخ منّا ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه والفنّان منّا نابض قلبه بنبض أجنبي عن تراثه وفنّه .
وأمّا الثرثرة والإستخفاف فحدّث ولا حرج فالصبيّ الكبير يهزأ مزهوّا بالخليل وسيبويه وفلان وفلان ولو بعث أحدهم من مرقده ثم نظر إليه نظرة دون أن يتكلّم لألجمه العرق ولصار لسانه مضغة لا تتلجلج بين فكّيه من الهيبة وحدها [دون] علمه الذي يستخف به ويهزأ .
والله المستعان على كلّ بلية وهو المسؤول أن يكشفها وهو كاشفها بمشيئته رحمة بأمّة مسكينة هؤلاء ذنوبها وأشباه لهم سبقوا وغفرانك اللهمّ .
الأحد 25 من ذي القعدة سنة 1397 .. 6 من نوفمبر سنة 1977
أبو فهر
محمود محمّد شاكر
والأصل الذي نسخته منه هو كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا) نسخة pdf المرفوع على المكتبة الوقفية وجاء المحتوى المنسوخ ملحقا بآخر الكتاب تحت عنوان :
ذيل الرسالة / قصة التفريغ الثقافي
..
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
شكرا على الموضوع
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
عفواً .. تشكر على إهتمامك أيضا
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :