عنوان الموضوع : اسباب السعادة في حياة اصحاب رسول الله قضايا المجتمع
مقدم من طرف منتديات العندليب

أسباب السعادة في حياة أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم

بسم
الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب
ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده
ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى
يوم الدين، أما بعد: فإن المؤمنين متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى أكمل
جيل وأمثل رعيل, كانوا شامة في جبين الأيام وتاجاً في مفرق الأعوام, حتى قال عنهم
الشاعر العربي: الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه فأصحاب محمد
صلوات الله وسلامه عليه بهم نصر الله جل وعلا الدين وأعز الملة, نشئوا في مدرسة
محمد صلوات الله وسلامه عليه, فهم المطعمون المنفقون الشاكرون في السراء, وهم
الثابتون الصابرون في الضراء والبأساء وَلَمَّا
رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا
[الأحزاب:22]. أن من ينشد الحياة
السعيدة لن يجدها ظاهرة بينة واضحة كما يجدها في حياة محمد صلوات الله وسلامه عليه
وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, والحديث عن تلك القمم الشامخة حديث يطول,
ولكننا نحاول أن نقف على بعض أجزاء منه, إن تعذر علينا أن نقف عليه كله. إن أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم وذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل كانت فيهم صفات عدة, ومن
عظمة السيرة وما حفلت به أنه يمكن أن يتدارسها الناس من عدة طرائق؛ لأنك لا تدرس
فيها شيئاً خفياً لتظهره, وإنما هي ظاهرة بينة واضحة كالشمس المشرقة, وإنما ينهل
منها الواردون, ويستقي منها الطالبون, وكل يوفقه الله جل وعلا ولو إلى حيز -بحسب
دوره في المجتمع- من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم
الخوف من الله
الخوف من الله أعظم مقاصد الشرع, وأعظم ما يثيب الله جل وعلا عليه، قال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فالخوف من الله تبارك وتعالى سبيل لكل غاية, وإذا أراد الله بعبد خيراً وطَّن قلبه على أن يخشى ربه جل وعلا ويخاف منه، قال تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]. وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل , فلما هم قابيل بقتل هابيل ما منع هابيل ضعف في بدنه، وإنما منع هابيل أن يقتل أخاه خوفه من الله، فقال: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [المائدة:28]، فالخصيصة الجلى التي كان عليها أنبياء الله من قبل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم من بعد, وعلمها صلى الله عليه وسلم أصحابه في حياته هي الخوف من رب العالمين جل جلاله؛ لأن العبد إذا خاف الله اجتنب الذنوب والمعاصي أن يقتحمها. وإن لم يرزق في قلبه خوفاً من الله -والعياذ بالله- تجرأ على المعاصي وتجرأ على الذنوب, ومثل هذا أين يرجى أن يؤتى كمالاً أو يعطى منالاً من ربه تبارك وتعالى. فأنشأ محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل على الخوف من ربهم تبارك وتعالى, وأورثهم ذلك الخوف البعد عن المحرمات, والمسارعة والمسابقة في الخيرات, وإلا فإنه لا يعقل أن أحداً يتجرأ على معصية إلا إذا قل الخوف فيه من الله, وقد لا ينعدم منه بالكلية, ولكن يقل، ولا يمكن أن يأتي أحد إلى طاعة إلا مع حسن ظنه بالله أن يثيبه، قال الله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وليس العلماء من حفظوا المتون وأملوا الدروس, فكل من خشي الله فهو عالم بمقدار خشيته, وكل من عصى الله فهو جاهل بمقدار معصيته. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنما العلم الخشية. أي: الخوف من الرب تبارك وتعالى. فهذه الخصلة أولى وأعظم ما ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أمته، وهي المفتاح الحق للحياة السعيدة


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [التوبة:71]، وقال جل وعلا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]. والفساد في الأرض أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه، قال تعالى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، ولما أثنى الله جل وعلا على رجال قد خلو وأمم قد سبقت قال: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، و(لولا) هنا في مقام الحض والحث، والذي يعنينا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظمى, حملها النبي صلى الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده وفي حياته صلوات الله وسلامه عليه. وتوحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة أعظم المعروف، والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم المنكر, ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وأعظم المعروف توحيد الرب تبارك وتعالى، ولهذا بدأ الرسل جميعاً بلا استثناء دعوتهم لأممهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وإفراد العبادة له جل وعلا دون سواه, مع التحذير والنهي عن الشرك، وقال الله حكاية عن العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]. ثم إن من أعظم المعروف الذي أمر به جل وعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الأركان، أما المنكرات فإن من أعظمها بعد الشرك اثنان: القتل، والزنا. فهذه الثلاثة -الشرك بالله- والقتل والزنا -حرمها الله في جميع الشرائع- قال الله جل وعلا في سورة الفرقان: وهي مكية: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]. فهذه الآيات نزلت في العهد المكي, قبل أن تفصل الشرائع كما وقع في المجتمع المدني. فأما القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل مسلم) ذلك أن الكعبة إذا هدمت فإنما هي بنيان، فيأتي الصالحون فيعيدون بناءها, أما المسلم إذا قتل وأزهقت روحه فلا سبيل أبداً إلى عودة روحه, ومن هنا كان قتل المسلم معظماً جداً عند ربنا تبارك وتعالى، إلا بالحق كما قيد ربنا جل وعلا، والله جل وعلا ذكر في القرآن خبر قابيل و هابيل , وأن قابيل تجرأ على هابيل فقتله, فلما حار في أخيه كيف يصنع به، وأراد الله أن يعلمه عامله الله جل وعلا بمثل صنيعه, فكل شيء مما فيه روح قابل لأن يبعثه الله ليعلم قابيل , ولكن الله اختار الغراب وهو من أعظم الفواسق, حتى يقول لـقابيل : هذا من جنسك أنت، قال الله جل وعلا: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ [المائدة:31]، فاعترف بأن الغراب أفضل منه, والسبب في ذلك أنه تجرأ على دم حرام لم يبحه الله جل وعلا. والمسلم الذي يعلم ما هو المعروف وما هو المنكر, لا يتجرأ على الدماء بيده، ولا يتجرأ على الدماء بلسانه فيريق دماً مسلماً معصوماً بفتوى أو بغيرها يريد بذلك عرضاً من الدنيا, وإنما دماء المسلمين حرام، فقبل أن يتكلم المرء فيها يجب عليه أن يتقي الله جل وعلا تقوى عظيمة. ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في أيامه ظهرت في مكان كان يسكنه شوكة الخوارج الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة, فجاءه ذات يوم رجلان منهم وهو في المسجد فرفعا سيفين عليه, وقالا: جنازتان في الباب -أي: بباب المسجد-: الأولى لرجل شرب الخمر فغص بها فمات, والأخرى امرأة حبلى من الزنا ماتت قبل أن تتوب، فما تقول فيهما؟ وكان يريد أن يقول: إنهما كافران، فاحتال عليهما فقال: هل هما يهوديان؟ فقالا: لا. فقال: هل هما من النصارى؟ فقالا: لا. فقال: هل هما من المجوس؟ فقالا: لا. فقال: ممن هما؟ فقالا من غير أن يشعرا: هما مسلمان. فقال: أنتما حكمتما بأنهما مسلمان, وأنا لم أقل شيئاً. فقالا: دعنا من ألاعيبك, قل لنا: هما في الجنة أم في النار؟ فقال -رحمه الله تعالى-: أقول فيهما ما قاله خير مني فيمن هو شر منهما, أقول فيهما ما قاله عيسى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، وأقول فيهما ما قال خليل الله إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]. كل ذلك ورعاً أن يحصل سفك للدماء بسبب كلمة أو فتوى يقولها. والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء بطرائق شرعية معروفة, فلا يجوز لمؤمن أن يسفك دم مسلم، وفي الحديث (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً). والمنكر الثالث بعد الشرك والقتل الزنا عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه رأى رجالاً ونساءاً في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه يتضاغون فيه, قال: (قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني) عياذاً بالله. وينبغي على المجتمع المسلم أن يتعاضد أفراده وآحاده على إيقاف الرذائل مهما كانت, وعلى نشر الفضائل وحراستها, وعلى إشاعة فضيلة الحياء في الناس, حتى يبتعد الناس بقدر الإمكان عن ذلك المنكر الذي حرمه الله, وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم, بل قد قال العلماء: جاءت الشرائع كلها بتحريمه، وعلى أن العاقل -إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينكر منكراً- أن يكون حكيماً عاقلاً لبيباً عالماً, لئلا يؤدي إنكاره إلى مفسدة أكبر منها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً -أي: مباني عديدة, ودياراً كاملة- ليبني قصراً. أي: ليبني قصراً واحداً, وإنما ينظر من تصدر للقرار وللكلام وللحديث وللفتوى وللتدريس ينظر إلى المجتمع, وقد يمكن السكوت على منكر خوفاً مما هو أعظم منه في بيئة, ولا يمكن السكوت عنه في بيئة أخرى. وهذه أمور يدركها كل من تأمل الشريعة حق التأمل, ونشأ مؤصلاً نفسه علمياً على سنن صالح الأسلاف رحمة الله تعالى عليهم.
لمودة والرحمة
الخصيصة الثالثة في المجتمع المحمدي: التواد والتراحم. أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم, فيلقي أبا بكر و عمر في ساعة لم يكونا يخرجان فيها, فقال: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا الجوع, فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا -والذي نفسي بيده- ما أخرجني إلا الجوع)، فهذا النبي الأمي لم يكن غنياً ولم يكن فقيراً, تمر عليه أيام يجد فيها ما يأكله, وتمر عليه أيام لا يجد فيها ما يطعمه، وبهذه النظرة الكاملة يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى:6-8]. فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر و عمر رضوان الله تعالى عليهما قد أخرجهما الجوع, فقال: (وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع)، ومن هنا تعلم أن بعض الفضلاء من الناس إذا قال كلمة (أنا) تعوذ, وقال: أعوذ بالله من كلمة (أنا), ولا يوجد تثريب شرعي في أن يقولها الإنسان, وإنما نقمها الله على فرعون وعلى إبليس لما بعدها لا للفظة نفسها؛ لأن إبليس قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، وفرعون -عياذاً بالله- قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]. ولكنها تكره إذا كان طرق الإنسان باباً فسئل من أنت؟ فقال: أنا، ففي مثل هذه الحالة لا تفيد معنىً، ولا تؤدي جواباً، ولا يعرف من أنت ما لم تسم نفسك, فمن أجل ذلك كرهها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع المقيد. فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر و عمر ، فأتوا بيت أبا الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن في الدار، بل كانت زوجته, فلما رأتهم فرحت, ولخوفها من أن يذهبوا قالت: مرحباً وأهلاً, وأدخلتهم الدار, فجاء أبو الهيثم ، فلما رآهم قال: ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني. وصدق رضي الله عنه وأرضاه, فلم يكن يومها على وجه الأرض أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ، فبادر إلى عذق في النخلة فأخرجه بسراً وتمراً ورطباً, وقدمه لهم وقال: تخيروا. ثم عمد إلى المدية -وهي السكين- فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في يده؛ فتأمل -أيها المبارك- كيف يربي النبي عليه الصلاة والسلام الأمة، فقال: (إياك والحلو)، أي: لا حرج، ولكن لا تذبح شاة حلوباً يستفيد منها أهل الدار، فلو منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم من أن يذبح لمنعه من إكرام ضيفه، وهذا لا يعقل أن يفعله عليه الصلاة والسلام, وفي نفس الوقت كان يخشى على أهل البيت الضرر، فقال: (إياك والحلوب) وهكذا العاقل في تعامله مع من حوله في القضايا التي تلج عليه مع الناس، فلا يمكن أن يسلب الناس ما يفخرون به ويفرحون به, وفي نفس الوقت لا يطلق العنان حتى تصبح المسألة مسألة ضرر، فتنقلب من إكرام ضيف إلى ضرر بالأهل, فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب). ونظير هذا في السنة أنه في يوم أحد كثر القتلى من المسلمين حتى بلغوا سبعين, فحملت الأنصار قتلاها تريد أن تدفنهم في المدينة, فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الشهداء في أماكنهم, والعدد سبعون, والصحابة الذين نجوا كانوا مرهقين جداً، حتى إنهم صلوا الظهر قعوداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم, فعاد عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبه الأمثل, فلم يوافق على أن ينقلوا القتلى إلى المدينة, حتى تشهد أرض أحد لهم, وفي نفس الوقت لا يريد أن يكلف هؤلاء المثخنين بالجراح بأن يحفروا سبعين قبراً, فقال: (اجعلوا الرجل والرجلين والثلاثة في قبر واحد)، فإذا جعلنا ثلاثة من قتلى المسلمين وشهدائهم في قبر واحد قل عدد القبور, فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة مثلى تجمع بين عدم إرهاق الصحابة ودفن الشهداء عند جبل أحد في أرض المعركة. وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب)، فذبح لهم رضي الله عنه وأرضاه, فقال صلى الله عليه وسلم بعدها لصاحبيه: (لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما يحمله في قلبه من مودة ورحمة مع علو كعب في الفهم -كأنه عرف أن أبا الهيثم ليس له خادم, فلما فرغ من ضيافته قال له: (ائتنا إذا جاءنا سبي) فلما قدم بسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو الهيثم وقد كان السبي غلامين, فقال صلى الله عليه وسلم: (اختر أيهما شئت) فقال: يا رسول الله! اختر لي: فقال عليه الصلاة والسلام كلمته التي سارت بها الركبان وضربت مضرب المثل: (المستشار مؤتمن) يعلم الأمة أن من استشارك فقد قلدك أمانة في عنقك, فاتق الله جل وعلا فيمن استشارك لتكون بطانة خير له, فتخبره بما ينفعه, وتدله على الصواب, ولا يقع في مثل هذه الأحوال غيبة، فقال صلى الله عليه وسلم ليبين للأمة الطريق المثلى في الحكم على الناس: (اختر هذا فإني رأيته يصلي) فلما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الصلاة على النفس قال لهذا الصحابي الجليل: (اختر هذا فإني رأيته يصلي)، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (واستوص به معروفاً) شفقة على هذا الرقيق, فرجع أبو الهيثم مع الرقيق الذي أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم إياه من السبي, فدخل على زوجته يظهر الفرح على أسارير وجهه, فأخبرها الخبر, ثم قال لها: وإن نبي الله قال لي: (واستوص به خيراً أو معروفاً) فقالت المرأة الحاذقة: يا أبا الهيثم ! أعتقه؛ فبهذا تتحقق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم, ولم يكن مراد رسول الله -فيما نعلم- أن يعتقه, ولكن المرأة أرادت أن تبلغ الكمال في حمل حديث نبي رب العزة والجلال صلوات الله وسلامه عليه, فأعتقه, فبلغ خبر عتقه النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن المرء لا بد له من بطانة، إما بطانة خير، وإما بطانة سوء, وقصده أن هذه المرأة وهذه الزوجة كانت بطانة خير لزوجها بما أشارت به عليه.. وقد سقنا الحديث لنبين التواد والتراحم في المجتمع المدني آنذاك, والنماذج على هذه كثيرة، ولكننا حدثنا ببعضها.




القيام بحقوق البيوت
الخصيصة الرابعة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مما رباهم عليه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه: القيام بواجب المسلم نحو أسرته. فالله جل وعلا ذكر لهم حقوقاً, فقدم الوالدين في الذكر وقال بعد ذلك: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26] وبين حق الجار، والعاقل ينتقل من دائرة ضيقه إلى دائرة أوسع, فلا يقدم من أخره الله, ولا يؤخر من قدمه الله. وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون حق أسرهم عليهم، ألا ترى أن أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به؟! فـخديجة زوجته، و أبو بكر صاحبه، و زيد غلامه، و علي ربيبه؛ فهؤلاء أول الناس إسلاماً؛ لأنهم كانوا قريبين جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون عطفه ورحمته وشفقته فتأثروا, فلما دعاهم إلى الإسلام بادروا. وينبغي للمؤمن أن يدرك واجبه نحو أسرته, فـجابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما استدعاه أبوه ليلة أحد, ثم قال له: يا بني! قد حضر ما ترى -أي: القتل والحرب والمعركة- وإني لا أراني إلا أول من يقتل غداً, فإذا أنا مت فاقض ديني واستوص بأخواتك خيراً, وكان جابر رجلاً ذكراً واحداً بين أخوات، فحضرت المعركة وكان عبد الله بن حرام والد جابر صادقاً مع ربه, فكان من أوائل من قتل في المعركة, يقول جابر : فدفنت والدي مع غيره, وجاء في رواية -أظنها في الموطأ من مراسيل مالك - أنه دفن مع عمرو بن الجموح , يقول: لم تطب نفسي بعد ستة أشهر أن يدفن رجل مع أبي, فحفرت فوجدته كيوم دفنته إلا شيئاً يسيراً في أذنه. ثم إن جابراً أخذ بوصية أبيه في العناية بأخواته فتزوج على الطريقة المحمدية في تعليم الناس, بحيث لا تترك الأشياء بالكلية, ولا تؤخذ بالكلية, وإنما كان يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية في التعامل مع الأشياء، فـجابر أوصاه أبوه بأخواته, وهو في نفس الوقت شاب لنفسه عليه حق أن يتزوج, فكان أمامه طريقان: إما أن يترك الزواج ويعتني بأخواته، وإما أن يقول: سينشأن على رعاية الله، وسأتزوج بكراً وأنظر لنفسي، ولكن جابراً التلميذ في المدرسة المحمدية لم يصنع هذا ولا هذا, بل تزوج امرأة ثيباً, فلما تزوج الثيب أسقط شيئاً من حق نفسه حيث لم يتزوج بكراً, ولكنه لم يسقط الزواج بالكلية, وفي نفس الوقت أسقط شيئاً يسيراً من حق أخواته, فلم يتفرغ لهن بالكلية, ولكنه تزوج ثيباً حتى تقوم على أخواته، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه تزوج: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ذكّره بوصية أبيه, فقال: يا نبي الله! إن أبي ترك أخوات، والأمر كذا وكذا, فأقره صلى الله عليه وسلم على قوله ذلك بسكوته، ولم يعنفه ولم يثرب عليه صلوات الله وسلامه عليه. إن من حولنا من أبوين وزوجة وبنات وبنين أحوج الناس إلينا, ولا خير فينا إن كان الإنسان منا يحاول أن يعطي الأبعد ويترك الأقرب, ولكن يقدِّم من قدمه الله؛ لأن من يعطي الأبعد ويترك الأقرب نقول له: إن كنت تريد ما عند الله فليس هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لنا, وإن كنت تريد ما عند الناس فإن الناس لا يملكون قلوبهم حتى يهبوها لك, فكيف تطلب منهم شيئاً لا يملكونه ولا يطيقونه؟! وإنما يعرف الرجل الرباني بسيره على منهاج الله وبوقوفه عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. قال المؤرخون: إن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر ذات ليلة على فتية من الأنصار يحتسون الخمر في حائط: أي: في بستان, فاعتلى السور ودخل عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث، قال الله: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] وأنت تجسست، وقال الله: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] وأنت أتيتنا من أعلى السور، وقال الله: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور:27] أي: تستأذنوا، وأنت لم تستأذن، وكان عمر يملك الرد على هذا, ولكنهم لما أتوا عن طريق الآيات أطرق رضي الله عنه وأرضاه رأسه لهم, وهذا هو حقيقة الوقوف عند آيات الله. قال حافظ رحمه الله: وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها وهذا هو الشاهد من القصيدة كلها، فعندما تقبل قول أحد لأنه استدل عليك بالقرآن, تقبله للدليل لا لذاته, وهذه تربية عظيمة يربي المرء عليها نفسه, ولكنها تحتاج إلى نوع من المكابدة والاستمرار والأخذ والعطاء ما أمكن إلى ذلك سبيلاً. ويندرج في هذا الأمر كذلك حب الإنسان للصغار من أهل بيته، فأعظم الوشائج بين الأبناء والبنات وبين أبويهم تلك التي تورث في الصغر، والتي يكون فيها الإنسان وافر العطاء من الحنان والشفقة والمودة لمن يحب، فقد قطع نبينا صلى الله عليه وسلم خطبة له وهو يرى الحسن و الحسين يمشيان فيعثران، فلما رآهما يمشيان ويعثران قطع الخطبة وحملهما ووضعهما بين يديه ورقى أعواد منبره، ثم قال: (صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] لقد نظرت إلى ابني هاذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما)، وقام من الليل -كما في المسند بسند صحيح- يسقي الحسن و الحسين صلوات الله وسلامه عليه.
العفو عند المقدرة
ومن خصائص المجتمع المدني الذي من الله جل وعلا عليه بالحياة السعيدة آنذاك العفو عند المقدرة، والعفو شيم من شيم الكرام كانت العرب تتغنى به في الجاهلية، فلما بعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ربى أمته على هذه الخصلة، وجاء القرآن من قبل بها فقال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، فكلها رغائب ذكرها جل وعلا في كتابه تحث المؤمنين على العفو، ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من ملك ثم عفا من البشر، يقول بعض أهل السير: إن أبا سفيان بن الحارث -وهو أحد خمسة يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن و الحسين و قثم و الفضل و أبو سفيان بن الحارث رضي الله تعالى عنهم جميعاً- يقولون: إن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يقرض الشعر ويهجو النبي عليه الصلاة والسلام حتى أهدر دمه، فلما من الله عليه بالهداية استحيا من دخوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إن إحدى أمهات المؤمنين أشارت عليه بأن: قل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد خيراً منه. أي أنه ينافس في الطاعات ويسابق في الخيرات صلوات الله وسلامه عليه، فلما قالها قبل النبي صلى الله عليه وسلم خطابه وعفا عنه. وأعظم ما يدفع إلى مثل هذا انتظار الفضل من الله؛ لأن الله أبهم -أي: لم يبين مقدار الجزاء لمن عفا الله عنك- فقال جل وعلا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، وما أبهمه الله جل وعلا في هذا الموقف فإن سياق القرآن يدل على أنه شيء عظيم تشرئب إليه الأعناق، وينشده الأفاضل من الرجال والنساء، ولا ريب في أن من أعظم ما يمكن أن نتعلمه من الدين أن كل من أوقفه الله جل وعلا ضعيفاً بين يديك وأردت أن تعامله فعامله بمثل ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت بين يديه.


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :