عنوان الموضوع : لقد لبسنا قشرة الحضارة ...والروح جاهلية انشغالات البيداغوجية
مقدم من طرف منتديات العندليب

لقد قارن المفكر الجزائري العظيم مالك بن نبي حالنا بحال اليابان مقارنة ظريفة فقال: «حين كان الطالب الياباني يذهب إلى الغرب في أواخر القرن الماضي كان يذهب ليتعلم التقنية مع الحفاظ المتشدد على أخلاق بلاده، كما سيذهب بعده ذلك التلميذ الصيني المتواضع (نسيان هماسين) ليتعلم في مختبر جوليو كوري بباريس، وليعود لبلاده بالمعلومات النووية التي تدهش العالم اليوم. بينما غالبًا ما يحدث للطالب الذي يذهب من بلادنا أن يعود بشهادة، ولكن بعد أن يترك روحه في مقاهي أو خمارات الحي اللاتيني، أو في النوادي الوجودية بسان جرمان»(4)، «فنحن قد مررنا في طريقنا مر الكرام، تستوقفنا الزهور التي في جنباتها مرة، ونتسلى بالطيور أخرى، ونصغي إلى صوت أوروبا أحيانًا، ونشيد البلابل الأوروبية، أما الياباني فقد فكر في خطته تفكيرًا علميًا، وخطط لها تخطيطًا فنيًا، وبعث في الأنفس حقيقة فكرة عامة جعلت كل ياباني يتصل بالمجتمع الياباني كما تتصل النحلة بخليتها... إن اليابان قد بنى مجتمعًا متحضرًا، فهو قد دخل الأشياء من أبوابها، وطلب الأشياء كحاجة، ودرس الحضارة الغربية بالنسبة لحاجاته، وليس بالنسبة لشهواته؛ فلم يصبح من زبائن الحضارة الغربية يدفع لها أمواله وأخلاقه»(5)، «وقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، ووقفنا منها موقف الزبون، إنه استورد منها الأفكار بوجه خاص، ونحن استوردنا منها الأشياء بوجه خاص، إنه كان... ينشئ حضارة، وكنا نشتري بضاعة»(6).
وفي الحق أن فقدان الغايات وعدم تحديد الأهداف قضية تعم الحياة العربية كلها، وكذلك العناية بشكليات الأمور ومظاهرها. وقد كتب طه حسين منذ عقود غير قليلة مقالة، عنوانها (الوسائل والغايات)، تدور حول هذه القضية، يقول فيها: إن مصر تبني الجامعات لا لتعلم أبناءها وتنور شعبها، ولكن ليقال إن مصر بلد متقدم، والدليل على ذلك أن فيها جامعات، وتبني المستشفيات لا لتعالج شعبها وتقضي على المرض، لكن ليقال إنها بلد كأوروبا؛ لأن بها مستشفيات.
وهذه الشكلية والمظهرية أظهر في التعليم منها في غيره، أذكر أنني كنت في إحدى المراحل الدراسية في جمعية من جمعيات النشاط المدرسي، فكان مشرفاها يُحضِران محاضر اجتماعات الأعوام الخالية، فننقلها في دفتر محاضر هذا العام، فقلت لهما مرة: لماذا نحضر كل يوم لنكتب شيئًا لم نفعله؟ فقالا: إن الأمر كله شكلي، ومن الخير لنا أن ننسخ ما ننسخ حتى إذا سئلنا احتججنا بهذه المحاضر على أننا نعمل! وهذا المثال يوجز الحياة التعليمية في البلاد العربية كلها، كما ينفذها ويراها كثير من المدرسين في مراحل التعليم كلها.
ومن مظاهر الشكلية كثرة حاملي الألقاب العلمية ممن لا تتوافر فيهم صفة حملتها في الدول الصناعية ممن سماهم مالك بن نبي رحمة الله عليه (المتعالمين) وقال فيهم: «اليوم أصبحنا نرى مرضًا جديدًا مستعصيًا هو التعالم، وإن شئت فقل الحرفية في التعلم، والصعوبة كل الصعوبة في مداواته،... فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من القرن الماضي ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حاملي المرقعات من الثياب البالية، وحاملي اللافتات العلمية، فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها، لأن عقل هذا المريض لم يتقن العلم ليصيره ضميرًا فعالاً، بل ليجعله آلة للعيش، وسلمًا يصعد به إلى منصة البرلمان. وهكذا يصبح العلم مِس�'خةً وعملة زائفة غير قابلة للصرف. وإن هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق»(7).
وهذا يجيب عن سؤال كان قد طرحه كاتب عربي منذ أكثر من عشرين، هو: أن البلاد العربية فيها من حملة المؤهلات العلمية العالية عدد وفير، فلم لم تنتج ولم تلتحق بالدول المتقدمة؟
إن حمل اللافتات العلمية وحده لا يغني من العلم والتقدم فتيلا. وهو أشبه شيء بممثل في مسرحية يضع في عنقه سماعة، وعلى صدره صدارًا أبيض كالذي يلبسه الأطباء، ثم يجلس في حجرة مؤثثة بالأدوات الطبية، فيخيل إلى من يراه أنه طبيب، وهو إنما يمثل، ولا شأن له بالطب. فمن يؤمل من حاملي اللافتات العلمية الذين نعتهم مالك بن نبي إنتاجًا أو صناعة للحياة، كمن يرجو البرء عند ممثلي أدوار الأطباء.
ينبغي أن يكون التعليم تثقيفًا للعقل، بالمعنى اللغوي، أي تقويمًا وإصلاحًا، وتبصيرًا بحقائق الكون والحياة، ومصباحًا يهدي الفكر إلى المثُل الإنسانية العليا التي طمح الحكماء إلى إقامتها في الأرض، وأن يكون المعلم هو الدليل وحامل المصباح أمام الأجيال، لا أن يكون ملقنًا يميت العقول، وينفث في الروع بفعاله فلسفة تُضل�' وتهدم، وتجور بمن يقتدي به عن سبيل التعليم التي أنشئت المؤسسات الضخمة، وأنفقت الأموال الطائلة من أجلها، وعلقت عليها الأمم كل آمالها. ولن يتأتى لهذا التعليم وجود في بلداننا ما لم توضع له أسس وغايات واضحة، وتجعل مناهج تعليمنا وسائل لبلوغها، ولن توضع هذه الأسس إلا إذا وكل أمرها إلى أهله الذين لهم من العقل وفرة، وفي الحياة تجربة، وفي العلم منزلة، وفي الحكمة باع، ومن الضمير والنزاهة والنضج نصيب، ثم يوكل تنفيذها إلى معلمين كواضعي الأسس التعليمية نزاهة وتربية أخلاقية وعقلاً واستنارة فكر.
وإلى أن يتحقق ذلك يبقى على المعلم أن يستشعر مهمة التعليم، وأن يلقي في خلد تلاميذه أنه «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»، وأن للإنسانية جوهرًا ومعنى غير المادة، ليس يغذيه إلا العلم والحق والخير والفضيلة والجمال، فمن لم يسع في درك هذه، وأنفد العمر في طلب حاجات الجسم المادية، فهو في سبيل الحيوانية يعمه.



الموضوع منقول من مقالة في مجلة المعرفة العدد 170 / لماذا تقدمت اليابان والصين وتخلفنا؟


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :


=========


>>>> الرد الثاني :


=========


>>>> الرد الثالث :


=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========