الإنسانُ لا يَدْري ما يقولُهُ العصفورُ فوقَ أطْرَافِ الأغصان ، و لا المِياهُ في الوِدْيانِ، ولا الأمْوَاجُ إِذْ تأتِي الشَوَاطِئَ، ولا يفهمُ ما يَحْكِيهِ المطرُ إذْ يتساقطُ مُنْهَمِلاً على أوراق الأشجارِ، ولا يــُدْرِكُ ما يقوله النَّسيمُ لِزُهورِ الحقلِ، ولكنّهُ يَشْعُرُ أنَّ قلبَهُ يفهمُ مَفَادَ جميعِ هذه الأصواتِ، فيَهْتَزُّ لها تَارَةً بِعَوَامِلِ الطَّرَبِ، ويَتَنَهَّــدُ طَوراً بِفَوَاعِلِ الأسَى والكَآبَةِ . هي أَصْواتٌ تُنَاجِيـهِ بِلُغةٍ خَفِيَّةٍ، إنّها المُوسيقى .
فالموسيقى تُرَافِقُ أرواحَنا وتَجتازُ معنا مَراحلَ الحياةِ، فإذا ما بكَى الرَّضِيعُ، اقتربت منه وَالِدَتُه وغَنَّت بصوتِها الموسيقيِّ المَمَلُوءِ رِقَّةً وحُنُوًّا، فَيُشْعِرُهُ بالعطْفِ والحَنَانِ، فَيَكُفُّ عن البُكاء ويرتاحُ لألْحَانِ أمِّهِ وينامُ .
الموسيقى رَفِيقَةُ الرَّاعِي في وِحْدَتِهِ ، وهُو إنْ جلسَ على صخرة في وسطِ قَطِيعِهِ نَفَخَ بِشَبَّابَتِهِ أَلحاناً تَعْرِفُها نِعَاجُهُ، فَتَرعَى الأعشابَ آمِنَةً، والشَّبَّابةُ عند الرّاعي كصَديقٍ عزيز لا يُفارِقُ وَسَطَهُ، فبِأنغامها الشَّجِيَّةِ يُبَدِّدُ سُكونَ الأَوْدِيةِ الرَّهِيبِ .
و الموسيقى تَسِيرُ مع العَساكِر، إلى الحَرب فَتُجدّدُ عَزِِِيمَتهم وتُقَوِّيهم على الكِفاح، وتُؤَلِّفُ منهم صُفُوفاً لا تَتفرَّقُ .
وقد تطَوَّرتِ الموسيقى بتطوّرِ العُلُوم الأُخْرَى وتَغَيَّرت آلاتُها وتنوّعت، فصارت فَنًّا لهُ لُغتُه ورُمُوزُه ورُوّادُه ومُحِبُّوه، خَلَّدَ أسماءَ شَخصياتٍ كثيرةٍ أمثال: زِرياب ، الفاربي ، بِتهوفن .....
كما أنَّها تُعتَبَرُ عُنصراً أساسيًّا في الأعمال السِّينمائية والمسرحية للتَّعبير عَنِ المَواقِفِ المُخْتلِفةِ، فقد تُوحِي بالفرحِ أوٍ الحُزن أو القلق أو الخوف، فتكونُ وحدها كافِيةً للتَّعبير عن مشهدٍ كاملٍ فَتُوفِّرُ للفَنَّان الكلمةَ والحركةَ .
جبران خليل جبران ( بتصرف )