عنوان الموضوع : في العلوم الانسانية بكالوريا ادبي
مقدم من طرف منتديات العندليب
مبحث العلوم الإنسانية = ()
مقدّمة ومحاولة تعريف:
هل يمكن للإنسان أن يكون موضوعًا للدراسة العلمية؟
وما هي المناهج المطبقة في علوم الإنسان أو في العلوم الاجتماعية؟
هل يمكن تحديد العلوم الاجتماعية تحديدًا واضحًا ودقيقًا، أم أن مصطلح “علم اجتماعي” هو مصطلح يكتنفه الغموض والاضطراب؟
يعتبر لالاند في قاموسه الفلسفي أن مصطلح “العلوم الاجتماعية” هو تعريف واسع يشمل إضافة إلى علم الاجتماع كل العلوم التي تهتم بدراسة العلاقات المجتمعية. فالمصطلح نفسه ينطبق بالتالي على علوم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا البشرية والحقوق والأخلاق والتربية.
والعديد من المفكرين يطلقون تسمية العلوم الإنسانية على مجمل العلوم التي تدرس مواقف الإنسان وسلوكياته. فإلى جانب التاريخ وعلم النفس يقترح موتشيللي Muchielli إضافة علم نفس الجماعة وعلم الاجتماع النفسي والأنتربولوجيا والأتنولوجيا والجغرافية البشرية وتوزيع السكان والحقوق والاقتصاد السياسي. وبهذا الشكل يمكن القول أن المصطلحين، علوم اجتماعية وعلوم الإنسان، هما مصطلحان مترادفان يقصدان علومًا واحدة.
لكن كوفيليه Cuvillier يرى الأمور بطريقة مختلفة. فعلم الاجتماع برأيه لا يمكن أن ينظر إليه كعلم مستقل ومنفصل بالكامل عن سائر العلوم الاجتماعية من مثل الاقتصاد السياسي والحقوق وعلوم الأديان والألسنية، الخ.. فإذا ما أفرغ علم الاجتماع من محتواه الواقعي فهو سينقلب إلى فلسفة اجتماعية مضطربة”.
ومن هذا المنطلق يحدّد كوفيليه هذا العلم بقوله: “يهتم علم الاجتماع بدراسة شاملة وكلية لمختلف ظهورات الحياة المجتمعية ولذلك فهو يشتمل على كافة فروع المعرفة الاجتماعية المتخصصة. وهذه الوساعة التي يمتاز بها العلم الاجتماعي تماثل وساعة علم الفيزياء الذي تنضوي تحت لوائه كافة فروع المعرفة المتخصصة بالضوء والأصوات والحرارة والكهرباء، الخ..
هذا الخلط الذي يحكم العلاقة بين علم الاجتماع وسائر المعارف الاجتماعية المتخصصة كان محط اهتمام الفيلسوف السياسي ريمون آرون الذي حاول أن يوضح طبيعة العلم الاجتماعي بقوله: “بما أن علم الاجتماع هو ضرب من المعارف التي تدرس العلاقات المجتمعية التي تحدّدها شروط المجتمع الخاصة والتي يعيشها الأفراد، فإن علم الاجتماع له طبيعة خاصة وطبيعة كلانية توليفية في آن معًا. فهو علم خاص لأنه لا يسقط من حساباته سائر العلوم والمعارف الاجتماعية، كما أنه ليس متضمنًا في واحد منها. وهو علم كلاّني وتوليفي لأنه يستهدف دراسة الإنسان الفرد ككائن اجتماعي أي كشخص واقعي يعيش نسيجًا من العلاقات الاجتماعية، وبذلك فإن ما يهدف إليه علم الاجتماع هو الغاية القصوى التي تهدف كل العلوم الإنسانية الوصول إليها”.
موضوع علم الاجتماع (الظاهرة الاجتماعية):
علم الاجتماع أو الفيزياء الاجتماعية، حسب رأي مؤسسه أوغست كونت، هو الدراسة الوضعية للظواهر أو الأحداث الاجتماعية مثل العادات والتقاليد والاعتقادات والأحوال المتبدلة وكل أصناف المؤسسات السياسية والتشريعية والدينية والاقتصادية.
ويتكون هذا العلم من قسمين كبيرين: الأول يختص بدراسة السكونية الاجتماعية حيث يتناول البنى والنظم والنشاطات الاجتماعية في عصر من العصور. والثاني يختص بدراسة الحركية الاجتماعية بحيث يهتم هذا القسم بالنظر في التبدلات التي تطرأ على المجتمعات عبر العصور.
أراد “دركيهم” أن يجعل من علم الاجتماع علمًا وضعيًا مستقلاً عن علم الأحياء وعلم النفس. وقد اعتبر أن الوقائع الاجتماعية بمختلف لواحقها السياسية والاقتصادية والسلوكية هي وقائع أصيلة قابلة للتحليل على ضوء مبدأ الحتمية المطبق في علوم المادة.
إن علم الاجتماع ليس علم نفس يدرس علاقات فردية لأن المجتمع ليس مجموعة أفراد، بل هو كائن مستقل له حياته الخاصة ويخضع لسببية اجتماعية لا يمكن تفسيرها بإرادات أفراده. إن الحادث الاجتماعي يفسّر من خلال الوعي الجماعي أي الإلزامات العقائدية والأخلاقية الخاصة بمجتمع من المجتمعات.
هذا يعني أن الظاهرة الاجتماعية هي جماعية (Collectif) أي ليست نابعة من توافق الأفراد بل هي تتأتى من الروح الجماعية التي يُصطلح على تسميتها بالوعي الجماعي (La conscience collective).
كذلك فإن الظاهرة الاجتماعية تعبر عن حقيقة متسامية على الأفراد مما يجعلها ملزمة للجميع وضاغطة، أي قهرية تتسلّط على سلوكات الأفراد دون استثناء.
ولما كانت الظواهر الاجتماعية مستقلة عن الأفراد فيجب أن ندرسها بموضوعية كالأشياء المادية بعيدًا عن تأثير المذاهب والأفكار المسبقة. ولذلك باشر “دركهيم” بدراسة ظاهرة الانتحار في السجلات الإحصائية معتبرًا إياها ظاهرة موضوعية يمكن تفسيرها على غرار تفسيرات علوم المادة.
أخيرًا فإن تفسير الظاهرة الاجتماعية يتجاوز كل التفسيرات الفردانية المتبعة في علم النفس والتابعة للطبيعة البشرية وميولها. فالسببية الاجتماعية لا تشبه لا من قريب ولا من بعيد آليات التفسير النفسية، هذا يعني أنها ترفض تأثير الإرادات الفردية وتتجه من الجماعة إلى الأفراد وليس العكس. فالأحداث أو الظواهر الاجتماعية لا تفسّر بالأسباب الغائية ولا بالذكاء الفردي، بل هي نتائج لأسباب اجتماعية خارجية.
ويضرب “دركهيم” مثلاً عن تقسيم العمل. إنه نتيجة لزيادة في حجم المجتمعات وكثافتها وليس لنوايا الأفراد وأهدافهم. بالتالي إن كل ظاهرة اجتماعية تتم على نحو فيزيائي بمقتضى حتمية آلية كما في العالم المادي. وقد تعرض موقف “دركهيم” لانتقادات عديدة إذ إن فرضية الحتمية لا يمكن أن تفسر بسهولة الأحداث الاجتماعية، لأن الأفراد ليسوا مجرد كميات وآلات مسيرة، بل إنهم كائنات واعية تتميز بأفكار ومشاعر وقدرة على المبادرة. فالمعلوم أن المجتمعات البشرية عبر تاريخها قد تأثرت بالغ الأثر بمبادرات الأشخاص المميزين. فالكنيسة المسيحية تأثرت بعمق بتلامذة السيد المسيح. وهذا ما يشير إليه “برغسون” حين يعتبر أن الأخلاق هي من نتاج عظماء التاريخ من الأنبياء والقادة. بالتالي فإن نبض الأحداث ووقعها يتأثران بصفات الأفراد الذين يمسكون بزمام الأمور.
كذلك فإن استبعاد الأسباب الغائية من مجرى الأحداث الاجتماعية أمر مثير للجدل. فحيثما يكون الوعي البشري يصبح تفسير السلوك من منطلق الأسباب الغائية أمرًا ضروريًا. لذلك فإن هيمنة النموذج الفيزيائي على العلوم الإنسانية يبدو أمرًا غير مقبول.
مناهج علم الاجتماع
1- طرائق التفسير (التفسير من خارج على غرار علوم المادة)
أ- طريقة الاختبار بالمقارنة:
إنه يشبه المنهج الاختباري دون أن يكون اختباريًا بالمعنى الدقيق للكلمة. إن عمومية الحادث الاجتماعي تجعلنا نتوقع، نتيجة لتطور المجتمعات، حدوث ظواهر اجتماعية متشابهة وقابلة للمقارنة. وإن تكرار هذه الظواهر هو بمثابة تجارب عفوية مباشرة. وعلى هذا الأساس يعتمد عالم الاجتماع على طريقة المقارنة فيقارن ما بين الظواهر في مجتمع واحد أو في عدة مجتمعات بهدف الوصول إلى القوانين الخاصة التي تحكم هذه الظواهر. فطريقة المقارنة هي إذًا طريقة أصيلة في علم الاجتماع تجعله شبيهًا بالعلوم الاختبارية.
إن ميدان علم الاجتماع غني اليوم بالتجارب حيث تكثر الأزمات الاقتصادية والمشاكل الاجتماعية والصراعات العرقية في مناطق كثيرة من افريقيا والشرق الأوسط. وهذه المناطق تشكل في الواقع حقل تجارب واسع ومعقد ملائم للدراسات الاجتماعية وملائم لاستخدام طريقة المقارنة.
ب- المقارنات والدراسات الانتربولوجية:
هناك مقارنات يصح تسميتها بالمقارنة الانتربولوجية حيث تتخذ الدراسة الاجتماعية شكل مقارنات بين الحضارات والأديان والطقوس والتقاليد والإبداعات عبر حقبات تمتد آلاف السنوات في عمر البشرية، وهي اهتمت بصورة خاصة بدراسة المجتمعات البدائية.
فالدراسة الانتروبولوجية هي مجال جديد وسّع من نطاق البحوث الخاصة بطريقة المقارنة التاريخية، وتتناول هذه الدراسة الأشكال الأولى للمجتمعات البشرية. فيجب مراقبة المجتمعات البدائية كما هي باقية إلى يومنا هذا في بعض بقاع الأرض مثل قبائل افريقيا الاستوائية والشرق الأقصى، وأوستراليا، وما تبقى من قبائل الهنود في أميركا الشمالية والجنوبية.
وتتناول دراسة المجتمعات البدائية نُظُمها ومؤسساتها وتقاليدها ومعتقداتها وممارساتها السياسية ونشاطاتها الاقتصادية وتقنياتها وفنونها وآدابها.
وقد توصل “شتراوس Strauss” في مجال دراساته عن البدائيين إلى نتائج هامة إذ تبين له أن الثقافة هي الطابع الأساسي لكل مجتمع، وأن الحالة الطبيعية غير الاجتماعية هي مجرد خرافة. فالمجتمعات البدائية لها مؤسساتها ونظمها، كما أن الضغط الاجتماعي فيها هو في بعض جوانبه أشد وطأة وقهرًا منه في المجتمعات المتمدنة.
ج- الاستطلاعات والإحصائيات:
إن الاستطلاعات كثيرة الرواج في علم الاجتماع، وهي تتناول جميع جوانب الحياة الاجتماعية. وعندما تأخذ شكل إحصائيات فإنها تهدف إلى إخضاع الأحداث الاجتماعية للدقة الرياضية. ومن أشهر التحقيقات الرائجة اليوم تلك الخاصة باستطلاعات الرأي العام في موضوع معين، لكن أكثر الأحداث مناسبة للإحصائيات هي الأمور الاقتصادية كالصادرات والواردات وتقلب الأسعار، والعرض والطلب، وميزانيات الفئات الاجتماعية، وأوضاع الأجور عند مختلف الطبقات، ونسبة غلاء المعيشة. ويشمل الإحصاء كذلك النظر في التحركات السكانية الديموغرافية كالهجرة والتجمعات في المدن والبلدات والقرى. والمقصود أن يفتح الإحصاء أمامنا آفاق الوصول إلى حقائق عامة تعتمد لغة الأرقام والرسومات البيانية لتعبر عن بعض الثوابت الاجتماعية.
إن الإحصائيات بدورها توفر مادة غنية للمقارنة. وكلما كانت الحالات المدروسة أكثر عددًا أصبحت النتائج أكثر دقة وانضباطًا. إلاّ أن تفسير الإحصائيات واستخلاص النتائج يبدو أكثر أهمية من عملية الإحصاء نفسها. ذلك لأن المعطيات غالبًا ما تكون متداخلة بشكل لا يمكّن من الكشف بسهولة عن العلاقات السببية التي تحكم الظاهرة.
د- المقارنة التاريخية:
إن التحقيقات والدراسات الاجتماعية هي مجرد وسائل استقصاء تحتاج إلى تفسير على ضوء مقارنات تاريخية. ويجر هذا النوع إلى دراسة تاريخية للفئات الاجتماعية ضمن المجتمع الواحد، أو لدراسة تاريخ عدة مجتمعات كبيرة لمقارنتها ببعضها واكتشاف قوانين تطوّرها. فعلى سبيل المثال نستطيع دراسة تطوّر مؤسسة الزواج والتشريع والملكية والسلطة في المجتمع الواحد أو في العديد من المجتمعات.
إن علم الاجتماع يشرح التاريخ، والتاريخ يوفر لعلم الاجتماع مجالاً استقرائيًا واسعًا من الأحداث والظواهر التاريخية لتحليلها والوقوف على تطور المؤسسات المرتبطة بها. فالتاريخ هو بديل المنهج الاختباري في علم الاجتماع، وهو كذلك من أهم العلوم المساعدة لنجاح الدراسة الدينامية والتطورية للمجتمعات.
2- طريقة الفهم (الفهم من داخل بما يلائم خصوصية علوم الإنسان)
وضع العلماء الألمان أمثال “ديلتيه” و “فبير” مذهبًا لدراسة الأحداث الاجتماعية يختلف عن المنهج التفسيري الذي أكّد عليه “دركهيم”. هذا المنهج الجديد يرمي إلى إدراك معاني الأحداث الاجتماعية كما هي في داخل الوعي وفي ضمير الناس. فالمطوب إذًا هو نوع من التعاطف والتواصل الذي ينقلنا إلى داخلية الآخرين بقصد إدراك هدفية الأحداث في وجدانهم فضلاً عن السببيات الخارجية. فالأحداث الاجتماعية حسب ما يرى “فيبر” هي حقائق نفسية يعيشها أهل مجتمع معين في ظروف معينة.
إنها حقائق نسبية خاصة بذهنية شعب من الشعوب، ولذلك لا نستطيع تفسيرها من خارج، بل علينا الدخول إلى عمق ذهنية الجماعة وروحها لكي نستطيع أن نفسر الظاهرة التي أصبحت بهذا المعنى تجربة معاشة مختلفة بالكلية عن الظواهر الفيزيائية.
وليس بعيدًا عن هذا المنهج موقف الفلسفة الظواهرية الذي يحاول بدوره أن يتجاوز التفسير المادي والتاريخي للأحداث الاجتماعية. ففلاسفة الظواهر يشددون على التجربة المعاشة، فيؤكدون أهمية دراسة الظاهرة من خلال معانيها العميقة التي لا تنفك عن ذهنية الجماعة الثقافية وتجربتها الخاصة.
وقد انتقد “مونيرو” فكرة الحتمية الاجتماعية وردّ مباشرة على “دركهيم” عندما قال: إن الظواهر الاجتماعية ليست أشياء، بل إن الحادث الاجتماعي باعتباره حقيقة إنسانية لا يمكن الإحاطة به عبر الأساليب المستخدمة في دراسة الظواهر المادية.
وبخلاف الأحداث الفيزيائية والكيميائية التي نعمد إلى تفسيرها من خارج، فإن الحادث الاجتماعي يفترض المباشرة بأسلوب الفهم من داخل حيث تضاف هذه المعاني والدلالات الداخلية والعمقية إلى نظيراتها الخارجية الأفقية لتشكّل دراسة وافية للحدث من كافة جوانبه.
صحيح أنه لا بدّ من أن نأخذ بالاعتبار المعاني الداخلية للحادث الاجتماعي، ولكن البعض يعتبرون أن هذا الأمر لن يفيدنا علميًا في شيء. فإذا ما تواصلنا مع الآخرين ودخلنا إلى أعماقهم فإن ذلك لا يعدو كونه ضربًا من الحدس. والمعلوم أن الطرق الحدسية تبقى مقصورة على عمليات فهم داخلية غير قابلة للتواصل مع الآخر، أي غير قابلة لأن تنقلب إلى معرفة علمية ودقيقة. لذلك لا يمكن البتة استبعاد طرائق المقارنة المشار إليها آنفًا. بالتالي فإن علم الاجتماع التفهمي = (الذي يعمد إلى طريقة الفهم) لا يهدف إلى الحلول محل علم الاجتماع التفسيري بل، يبقى الفهم مجرد طريقة مساعدة للتفسير.
محاذير منهجية
حتى يصبح علم الاجتماع علمًا منضبطًا وبعيدًا عن الشروح العقدية علينا أن نحاذر من الوقوع في تفسيرات أحادية الجانب من مثل التفسيرات المادية التي ترد كلّ ما هو اجتماعي إلى عوامل جغرافية واقتصادية. فإلى جانب العوامل المادية والاقتصادية فإن العوامل الروحية والفكرية والدينية يجب أن تكون دائمًا حاضرة في تفسير الحركة المجتمعية.
وهكذا فإن كل تفسير أحادي الجانب يبدو غير كافٍ. إن الكيان الاجتماعي المكوّن من عناصر فيزيائية جغرافية واقتصادية وتاريخية وروحية، هو عبارة عن شبكة مترابطة من العلاقات السببية لا يمكن تفسيرها إلاّ بمنهج المقارنة التاريخية.
علم الاجتماع والعلوم المساعدة
أ- علم الاجتماع والتاريخ
صحيح أن التاريخ هو واحد من العلوم الإنسانية التي تهتم بدراسة الكثير من الحوادث الاجتماعية، إلاّ أنه من المستحيل أن ننطلق من منظور التماهي بين التاريخ وعلم الاجتماع، إذ إن كل منهما يشكل علمًا متخصصًا ومستقلاً بذاته من حيث موضوعاته المتميزة، ومن حيث مقارباته وطرائقه الخاصة. فحين يدرس التاريخ بعض الموضوعات أو الظواهر الاجتماعية فإنه يدرسها لجهة فردانيتها الخاصة ولجهة تمركزها الزماني. فالتاريخ يهتم بدراسة الحوادث الواقعية الفردانية والخاصة أكثر مما يهتم باستخراج القوانين والتعميمات. أما علم الاجتماع فإنه حين يدرس هذه الأحداث عينها، فإنه يحيلها إلى موضوعات وظواهر خاضعة للتحليل ثم للقوننة والتعميم، الأمر الذي يجعل من هذه الظواهر نماذجًا تعميمية غير زمانية، أي غير متحددة في حقبة زمانية واحدة.
الواضح إذًا أن الاختلاف بين علم الاجتماع والتاريخ لا ينطلق من كون العلم الاجتماعي يعاين الحاضر بإزاء التاريخ الذي يرصد الماضي. فالموضوعات التي يدرسها علم الاجتماع ليست فقط مرهونة بالحاضر، بل إن عالم الاجتماع يحاول أن يحذو حذو العلماء فيدرس ظواهره من حيث كونها حقائق مقولية صادقة باستمرار خارج الزمان والمكان.
وهذا هو المنطلق الذي اعتمده “لاكومب” في قسمته للظواهر إلى نوعين:
ظواهر أولى ثابتة تتشابه في كل المجتمعات ويطلق عليها تسمية “مؤسسة اجتماعية” (Institution). وظواهر أخرى هي بمثابة وقائع أو أحداث مفردة وخاصة، تشكل موضوع الدراسة التاريخية. وعلى هذا النحو فإن دراسة النظام الاقطاعي في منطقة بورغونيا Bourgogne حتى العام 1360 هو موضوع للدراسة التاريخية. أما تحديد طبيعة النظام السياسي الاقطاعي وخصائصه ومحدداته العامة فهو من اختصاص علم الاجتماع.
وبالرغم من الاختلافات العميقة بين الاجتماع والتاريخ، إلا أنهما يتبادلان الخدمات، ويسهم كل منهما في إغناء العلم الآخر. فالتاريخ لا يُستغنى عنه في الدراسات الاجتماعية، لأن علم الاجتماع لا يمكنه أن يسقط من حساباته فكرة الصيرورة. وهذا ما يعبر عنه “موس” Mauss حين يعتبر أن الظاهرة الاجتماعية تتحدد بأنها لحظة من لحظات تاريخ الجماعة تتميز بنهاية حالة وبداية حالة جديدة.
وفي المقابل فإن التاريخ بدوره يحتاج إلى علم الاجتماع لكي يصف الأحداث بشكل صحيح ومنضبط. فعملية الوصف تكون مشوّهة إذا نحن لم نفهم الموضوع أو الحدث الذي نقوم بوصفه. والفهم هو عبارة عن استخدام مقارنات ومشابهات لتحويل الحدث إلى مسألة تصورية أو علاقة. ولذلك يقول “دركيهم” أنه من غير الممكن أن نصف حدثًا مفردًا لأننا لا نراه ولا نفهمه. فالمقارنة والخروج من حالة الحدث الفردانية الخاصة تجعل فهمنا للأحداث التاريخية أكثر نضوجًا وعمقًا.
وبكل تأكيد فإن علم الاجتماع لا غنى عنه في تفسير الأحداث التاريخية والكشف عن أسبابها. ولكن إذا كان علم الاجتماع هو المسؤول عن صياغة العلاقات بين الظواهر، إذ من خلال ملاحظاته واعتماده على فكرة السببية يستطيع أن يستخرج القوانين والعلاقات الثابتة، فإن التاريخ من جهته يحاول أن يبتدع بناءات وتركيبات عبقرية، أي ينطلق من تفسيرات سببية تبرّر نظرته الخاصة إلى تسلسل الأحداث.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
=========
>>>> الرد الثاني :
=========
>>>> الرد الثالث :
=========
>>>> الرد الرابع :
=========
>>>> الرد الخامس :
=========