المقدمة :
منذ أول تجمع بشري تطوّرت حاجيات الانسان و التي بدأت بيولوجية ثمّ نفسية لتصبح اجتماعية و في هذه المرحلة احتاج الانسان إلى وسيلة للتواصل مع غيره،فأوجد ظاهرة اصبحت خاصة به ألا وهي "اللغة" ، هذه الأخيرة قد اجتهد جمع من المفكرين في تعريفها بأنّها جملة من الشارات و الرموز التي تؤدي معنى ، نفهم من هذا أنّها تقتصر على مكونين ( اللفظ) و (المعنى) اللذان اصطلح عليهما الفلاسفة اسما (الدال) و (المدلول)، فاذا لم يخنلف خؤلاء العلماء على أسمائهما فأنهم قد اختلفوا حول العلاقة التي تربطهما، حيث هناك من اعتبر بأن هناك علاقة ضرورية لازمة بينهما ، في حين ذهب آخرون على القول بأنّها علاقة اعتباطية لا أساس لها من الصحة و هذا الخلاف دفعنا للتساءل: هل العلاقة بين الدّال و المدلول تحكمها الضرورة أم يفرّقها الاعتباط ؟.
عرض الموقف الأول :العلاقة الضرورية
يرة أنصار هذا الموقف و على راسهم افلاطون ، بنفست ، لودفيغ أنّ علاقة الدال بالمدلول هي علاقة تحكمها الضرورة بحيث يتطابقان و يتصلان ببعضهما البعض ، و يشكلان ثنائية متكاملة ، فارتباطهما ببعضهما يعدّ ارتباطاً على انقطاع له ، فلا دال بدون مدلول ولا مدلولو بدون دال ، لأن ذكر أي واحد منهما يستدعي الآخر في الذهن و هذا الاخير الاخير كما قال سابير < لا يختوي على اشكال فارغة أي لا يختوي على مفاهيم غير مسماة>، و قد شعر اليونان قديما يوجود هذه الرابطة بينهما و لعل هذا ما يتجلى في كلمة لوغوس التي تعني اللغة(اللفظ) كما تعني الفكر(المعنى) ، و من الحجج المثبتة لقولهم نجد أنهم أكدوا على أن كل من الدال و المدلول قد نوقشا في الذهن في آن واحد و حضور احدهما يستوجب حضور الاخر، فالدال هو التعبير الصوتي للمدلول و المدلول هو المقابل الدهني للدال ، فبمجرد تلفظنا لكلمة ' سماء' تترسم في اذهاننا الصورة الواقعية لها ، و قد يحدث العكس أيضا حين نتخيل السماء الواقعية ففي اللحظة ذاتها نكون قد أطلقنا عليها مصطلح 'سماء' دون ان نشعر بذلك ، و هذا ما يحدث للطفل الصغير ، فبحكم أنه يولد صفحة بيضاء لا يكاد يفقه شيئا من المحيط الذي يعيش فيه خاصة و انه لا يجيد اللغة المحكية إلا عندما نقدّم له مختلف المعارف في شكل محسوس مثل الاشكال الهندسية مع تعليمه مسمايتها، بهذا يصبح حين يرى تلك الاشكال يسمّيها لانه قد تذكر صورتها المتشكلة في ذهنه فألزمه ذلك نطق الاسم.كما ذهب (لودفيغ) الى نظرة تشييئية للغة اعتبر فيها الالفاظ التي ليس لها مقابل واقعي ليست ذات معنى البتة ، و هذا ما يعلل التطابق الذي يميز رابطة الدال بمدلوله.أصحاب هذا الموقف لم يقتصروا على هذا فحسب بل راحوا الى ابعد من ذلك حين اعتبروا ان لولا هذه الوحدة الموحدة بينهما لفقدت اللغة دلالتها و في هذا يقول (بنفست) في كتابة ' الالسنية العامة للغة'<أن أحد مكونات الصورة هي التعبير الصوتي 'الدال' اما المكون الاخر فهو المفهوم أو ' المدلول'> ، و هذه الظواهر نجد علم النفس قد فسرها بحيث وجود الدال دون مدلوله يعتبر ضرباً من الجنون او كما يصطلح عليها العلماء ' الببغائية' ، كما وجود المدلول دون داله لا يكاد يحقق شيئا من التواصل مع الغير لانه يبقى تواصلا مع الذات فقط و يظل وهما و ضربا من الهذيان ، اذ يبقى في حيز الصمت و الكتمان و لا تتم عملية التعبير عنه ، لان الدال هو الذي يخرجه من دائرة اللغة الصامت الى دائرة اتصريح فتصبح لغة محكية تقوم بوظائفها التي وُجدت من اجلها فيتحقق التواصل بين الانسان و غيره.(افلاطون) هو الاخر اتجه الى الجزم بأن العلاقة بين الدال و المدلول هي علاقة مادية تحاكي فيها الكلمات اصواتا طبيعية حيث يكفي سماع الكلمة لمعرفة دلالتها كقولنا : هديل الحمام ، خرير المياه ، زقزقة العصافير.....و هذا ما جسده في محاورة كراكوليوس ' كراتيل' التي توحي بان الكلمات تستوجب معناها في وقت واحد فكلمة ' طرق' ما هي الا انعكاسا للصوت الذي تصدره عملية الطرق. موقف ( افلاطون) هذا نجده مجسد في الفكر العربي الاسلامي على يد (ابن فارس) صاحب الموقف المدافع عن النظرية التوفيقية الذي اكد على العلاقة الضرورية بين الدال و مدلوله و قد فسّرها بالآية الكريمة في قوله تعالى < و علّم آدم السماء كلها > ، حيث يرى أن اللغة و الاصطلاح بيست من وظيفة الانسان و انما الله قد وضعها ليسهل له عملية التواصل و التمييز بين الأشياء، فهي من وحي من عنده و ما الانسان الا كائناً مقيداً و لغته مفروضة عليه و لا سبيل له من التنكر منها.كما يلعب عامل المشابهة دورا هاما في هذه العلاقة بحيث يقوم الذهن بتوسيع المعاني على الاشياء و الظواهر المشابهة لاشعورياً و بدون وعي منّا ، و مهما اختلفت فانه سيكشف عن التشابه و التقارب بينهم، و في هذا الشأن يروي ( داروين) أنه في يوم من الايام رأة طفلا بطّة تسبح فوق مياه النهر فأطلق عليها اسم ' كواك' نسبة الى صوتها ، ثم اطلق نفس الكلمة ( كواك) على الدجاج حين راى أمه تنقّعه ثم على الحمام في السماء ، ليعممها على كافة الطيور الاخرى ، فبالرغم من صغر سنّه و انه لا يعلم شيئا عن المحيط الخارجي الا انه استطاع ان يكشف عن التشابه بين الطيور فظنّ ان كل حيوان له اجنحة و تغطي جسمه ريشات و له منقار أنه هو نفس الحيوان الذي راه يسبح في النهر مصدرا صوته ' كواك'.
النــــقد 01 :
صحيح ان العلاقة بين الدال و المدلول ضرورية قد بينها الواقع بشكل واضح و جليّ خاصة و ان الحجج التي جاؤوا بها قوثة تستهدف العقل مباشرة ، لكن أيضا لا يمكننا التسليم و بكل سهولة بمطلقية ما جاؤوا به لانهم اعتبروها علاقة يحكمها التطابق و اللزوم في كل وقت و مكان ، ضرورة لا يشوبها انفصال و لو حتى للحظات فقط ، حتى و لو سلمنا جدلا بهذه العلاقة الدائمة فبماذا نفسّر يا ترى تعدّد المعاني للّفظ الواحد كقولنا : ' زهرة' قد نقصد الزهرة الموجودة في الطبيعة ، اسم بنت ، اسم مجلة ، اسم قناة تليفزيونية ، مكان ، مقال ، قصة ، علامة تجارية....و لعل هذا ما يفسر بشكل قوي استعانتنا بالقاموس اللغوي حين نعجز عن تحديد المعنى المقصود لأي كلمة حين نقرأ مقالاً او روايةً او حتى جريدة رغم سهولة لغتها ، باحثين عن المعنى المعين و الذي يتطابق مع المعنى المفهوم من سياق الكلام ليتضح الغموض و يزول الابهام، كما نجد ايضا و بشكل واسع تعدد الاسماء و المعنى واحد كقولنا : ليث ، ملك الغابة ، السبع ، الضرغام ، مفترس المفترس...فكل كلمة من هذه القائمة اللامتناهية تدل على نفس المعنى الذي تدل عليه الاخريات ، فجميعها اسامي لحيوان واحد هو ' الأسد' بعينه لم يتغير بتغير اللفظة ، و لربما هذا ما يعطل وظيفة اللغة التي وجدت لأجلها ألا وهي ' التواصل' ، فما فائدتها إن كنا نعلم الدال و نعلم المدلول لكن خلال عملية التخاطب قد لا يفهمني الغير ما اعنيه بالضبط ، و كأن اللغة لم تفسر السبب الذي وجدت لأجله و هذا تعطيل لمبدأ السببية الذي يقضي بأن ما من ظاهرة تحدث إلا و لها سبب ، و انه لمن المؤسف !. علاوة على كل هذا و ذاك فان الواقع بين أن هناك بعض الكلمات لا نعلم ان كانت دالا او مدلولا كقولنا : الحرية ، المسؤولية ، التسامح...فان كانت دالا فما مدلولها ؟ و ان كانت مدلولا فما دالها ؟ لانه لا يمكن تصور صورتها و معناها في الذهن كما لا نجد لها اثراً ماديا في الواقع يدل عليها ، و هذا ما يثبت الخطأ الذي وقع فيه القائلون بأن العلاقة بينهما مادية لان مثل هذه الكلمات هي معنوية و نجد لها صوتا او صورة او حتى شكلا. و عليه ان انضار هذا الموقف بالغوا في تقديس العلاقة الضرورية و رفضوا العلاقة الاعتباطية و التي ستُوضح في الموقف التالي.
عرض نقيض الاطروحة : العلاقة الاعتباطية
ذهب انصار هذا الموقف و على رأسهم أرسطو ، جوزيف فندريس ، كاسير الى الجزم بان العلاقة بين الدال و المدلول علاقة اعتباطية لا تتخلها ضرورة ابداً لأن اللغة من وضع الانسان و المجتمع فرضتها حاجتهم الماسة الى وسيلة للتواصل خاصة و انها من المرتكزات و الاطر الاجتماعية التي لا يستمر الوجود البشري الا بها.تحت مبرر أن المقارنة بين الدال و المدلول لا تكشف على أي شكل من الاشكال عن وجود تطابق بينها فالصورة الصيغة الصوتية لكلمة ' كتاب' لا تشبه على أي نحو كان الكتاب الموجود في الواقع و كأن الانساء لم يفسر لماذا اختار هذا الدال لهذا المدلول بالضبط دون غيره.كما كان (لارسطو) الحظ في اعطاء كلمته حيث أكد هو الاخر على عدم توافقهما لانهما من اصطلاح الانسان و هذا الاخير مهدد بالوقوع في الخطأ و متبع لأهوائه ، و نفس موقفه نجده مُطبَع في الفكر الاسلامي على يد (ابن جني) الذي وضع لمسة يقين على عشوائية العلاقة بينهما حيث قال < إن اشرف اهل النظر يؤكدون على ان اصل اللغة تواضع و اعتباط لا وحي و توقيف>، جاء هذا رداً على ابن فارس ، كما فسر الآية < و علّم آدم الأسماء كلّها> بقوله ان الله قد وهب القدرة للانسان و ترك له حرية التصرف و الاصطلاح فأصبحت كلمة ' علّم' بمعنى ' أقدر '، و لا دخل للوحي مادام الله قد أقدر الانسان على الوضع و الاصطلاح و التمييزو بما أن الانسان له القدرة على خلق اللغة فبإمكانه في أي وقت أراد ان ينشئ لغة على حسب ذوقه لذا قال (دولاكروا) <ان اللغة عبارة عن اشارات و رموز تتبناها هيئة اجتماعية ما تنظم بواسطتها عمل التخاطب بينها > ايضا < ان الافراد هو الذين وضعوا للكلمات دلالات و في هذه الدلالات يلتقي الافراد >.زيادة على هذا ، كيف نفسر تعدد الاسماء للمعنى الواحد و اختلاف الكلمات باحتلاف اللغات فالصورة الصوتية بالعربية لكلمة " النجاح " لا تشبه على أي نحو الصورة الصوتية بالفرنسية و بالانجليزية و اكدوا على ان كلما اختلفت اللغة اختلف الدال ، ثم ان الالفاظ المادية التي تحدثوا عنها اصحاب الموقف الاول هي ألفاظ قلّما توجد في اللغات و لا تعبتر من القواعد الهامة فيها فالطرق و المزمار و الدف...ماهي الا اصوات لآلات و اشياء وهذا ما ليس منطقي تماماً، فلو سلمنا بهذه الفكرة للزُم عنه تعدد اسماء الانسان نظرا لتعدد الاصوات التي يصدرها.
النقـــــــــــــــد02 :
لا ننكر أن وجة نظر هذا الموقف هي الاخرى مقبولة و منطقية لديها ما يبررها و يثبتها ، كما انهم كشفوا الاخطاء التي وقعت فيها جماهير الموقف الاول ، لكن هذا لا يعني عصمتهم من الزلل ، فهم الاخرون قد وقعوا في الخطأ و وُجهت لهم انتقادات لاذعة أسقطتهم أرضاً.فقولهم بأن الانسان له القدرة على اصطلاح لغة كيفما شاء و وقتما شاء ينتج عنه بالضرورة تضارب لغات الناس و هذا تعطيل لوظيفة اللغة الاساسية ' التواصل' ، و كأنّ لهم الحرية المطلقة في اختيار الدال الذي يشاؤون للمدلول الذي يشاؤونه ، مما يصعب التخاطب مع الغير بحكم أن لكل واحد لغته الخاصة و من المستحيل أن يتعلم الفرد كل لغات الافراد المحيطين به ليتواصل معهم.ثم ان اللغة عبارة عن كلمات لها معاني و هذه الاخيرة لا يمكن التعبير عنها الا بواسطة الكلمات و هذا ما يثبت اتصال المعني بلفظه.و ليس بالضرورة ان يكونا متشابهين ليكونا متصلين لأن المهم ليس الاشكال و تقاربها و انما الاهم هو اتصالهما و حاجة كل واحد منهما للاخر ، و لنوضح ذلك بمثال واقعي منطقي : لولا توافق المعني مع اللفظ لما استطاعوا هم شخصيا التعبير عن ارائهم التي كانت معاني و افكار ثم البسوها لباسا لغويا لتتم عملية ابداء الراي من طرفهم و الفهم من طرفنا.
التركيــــــــــــــــــب :
ان العلاقة الضرورية ليست دائمة و مطلقة و لا الاعتباطية كذلك ، لذلك وجب تظافرهما بحسب اللغة المستعملة و الشخص المستعمل لها ، فيحدث احيانا ان يترابط الدال بالمدلول ارتباطا لا انقطاع له كما يحدث احيانا اخرى ان ينفصلا و يصبحا بمعزل عن بعضهما البعض لذا قيل :< لولا اللغة لبقي المعنى مجهولا ، و لولا المعنى لبقيت اللغة جافة >.فعند استعمال لغة واحدة نجدهما متصلان مترابطان بغض النظر عن شكلها او طبيعتها ( مادية ، معنوية) ، اما عند استعمال عذة لغات فانهما يبتعدان عن بعضهما بالضرورة.
و كراي شخصي : اجد أنهما متصلان تربطهما علاقة جد ضرورية لان < اللغة تصنع الفكر و هو يصنعها > فلولا وجود اللفظ ( الدال) في الذهن لما تمكّنا من التمييز عن مدلوله لدا فهما وجهان لعملة واحدة اذا فسد ان اوجهها فسدت العملة بأكملها.
حل المشكلـــــــــــــــــة :
من خلال التحليل السابق نستنتج ان علاقة الدال و المدلول لا ضرورية دائما ولا اعتباطية دائما ، و انما تتقلب من حين لآخر من لغة الى اخرى ، من متحدث الى آخر ، لذا وجب القبول بازدواجية العلاقية و الاقرار بانهما قد يترابطان و قد ينفصلان لان اللغة ككل هي خاصية اجتماعية مما يجعلها نسبية متغيرة من مجتمع الى اخر و هنا نجد ستالين يقول < مهما اختلفت المعاني و الافكار التي تجيء الا فكر الانسان فانها لا تستطيق ان تنشأ و ان توجد الا على مادة اللغة >