عنوان الموضوع : "شيخ المؤرخين الجزائريين" الدكتور أبو القاسم سعد الله شخصية جزائرية
مقدم من طرف منتديات العندليب

يعد سعد الله الملقب بـ"شيخ المؤرخين الجزائريين، أحد أعمدة العلم والتاريخ في الجزائر، ولد ببلدة "قمار" في ولاية الودي، ودرس بجامع "الزيتونة" في تونس من سنة 1947 حتى 1954 واحتل المرتبة الثانية في دفعته. وبدأ يكتب في صحيفة "البصائر"، وهي لسان حال "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" سنة 1954، وكان يطلق عليه "الناقد الصغير". كما درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في القاهرة، وحاز على شهادة "الماجستير" في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم انتقل إلى الولايات المتحدة سنة 1962، حيث درس في جامعة "منيسوتا" التي حصل منها على شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر باللغة الإنجليزية سنة 1965. ويصعب كثيرا الحديث عن هذا الرجل، فهو باحث ومؤرخ أنجز كتابا نفيسا يمتد على مدار تسع مجلدات يسمى "تاريخ الجزائر الثقافي"، وحفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم من لغة وفقه ودين، وهو من رجال الفكر البارزين ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني، وله سجل علمي حافل بالإنجازات من وظائف، ومؤلفات، وترجمات. وإلى جانب العربية، يتقن الراحل اللغة الفرنسية والإنجليزية كما درس الفارسية والألمانية، ومن أشهر مؤلفاته: "موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي" و"أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في 5 أجزاء، و"محاضرات في تاريخ الجزائر الحديث.. بداية الاحتلال"، بالإضافة إلى "بحوث في التاريخ العربي الإسلامي" و"تاريخ الحركة الوطنية" وغيرها من الإصدارات. وكان سعد الله يقول دوما "جيل الثورة قام بواجبه المقدس وهو تحرير الوطن وقد استشهد منه من استشهد على قناعة وإيمان وكان مسلحا بعقيدة الحرية للوطن والنضال من أجله إلى الموت. ولكن من بقي من ذلك الجيل على قيد الحياة لم يواصل كله مسيرة النضال عجزا أو خورا، وقد بدل وغير وجذبته الحياة بمغرياتها وانخدع لبعض الشعارات واستسلم لبعض الضغوط وتخلى بعضهم صراحة عن المبادئ التي كان يكافح من أجلها، والانحرافات التي كان ضدها، وقد غلبت على هؤلاء الأنانية والجهل بحقائق الأشياء وسلموا الراية لمن لا يستحقها ولا يعرف قدرها". وقال أيضا في أحد حواراته "للمؤرخ الحق مواصفات تكاد تكون عالمية فإذا لم يلتزم بها يضر الحقيقة شيئا فمنذ هيرودوت إلى الطبري إلى ابن خلدون إلى توينبي والمؤرخون منقسمون بين اختيار الموضوعية والالتزام بالحقيقة والبحث عنها في الوثائق والملابسات وتفسير الأحداث ونفسيات صناعها بما آتاه الله من عقل وحكمة وتجرد وضمير وبين اختيار المنفعة الشخصية حيث يكتب لينال حظوة من حاكم في وقته أو ترسيخ فكرة اقتنع بها ولا يحيد عنها مهما ظهر له من الحق أو الأخذ بالثأر من خصم له عن طريق تلبيس الحقائق ثوبا غير ثوبها وهذا التناول للتاريخ لا يمنع أن يكون المؤرخ ابن بيئته وعصره أيضا فهو لا يكتب دائما عن الماضي السحيق الذي لا تجمعه به جامعة في الزمان ولا في المكان".
من ناحية أخرى، لم يعرف عن الدكتور سعد الله جريا وراء المناصب، حيث ظل زاهدا مبتعدا عن الأضواء، حتى أنه نادرا جدا ما يجري حوارا أو لقاء مع وسائل الإعلام، وقدم للجزائريين تاريخهم في موسوعة عملاقة بعدما كان هذا التاريخ يأتي مشوها أو منقوصا من مصادر أجنبية، وخصوصا الفرنسية منها. ويقول في أحد حواراته أيضا "بعضهم صنفني من مؤرخي السلطة ربما على أساس أنني أكتب عن قضية الشعب الجزائري ولعل هؤلاء يريدون مني أن ألعن السلطة لكي أكون مؤرخا حقيقيا وهناك من صنفني مؤرخا ضد السلطة لأنني لا أمتدحها ولا أشيد بمواقف رجالها بل أنتقدها ضمنيا تارة وصراحة تارة أخرى والواقع أني مؤرخ مخضرم عشت في عهد الاستعمار الفرنسي وهو عهد عاشه الشعب الجزائري كله عهد تميز بالتجهيل والتفقير والقمع وكنا نطمع أثناء الثورة إلى أن مصيرنا سيتميز بالحرية والعلم والثورة.. أعرف أن هناك من ظل يمدح الاستعمار ويعتبر وجوده مكسبا وثقافته غنيمة والعلاقات معه تسامحا وانفتاحا وعالمية إنسانية وهؤلاء يقيسون ولاءهم للسلطة الجزائرية بميزان اقترابها وابتعادها عن القطب وهو دولة الاستعمار السابق".



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

ولاثراء الموضوع نطلب من الأعضاء الكرام التكرم علينا ببعض كتابته لأنه أحسن من كتب عن الجزائر وتاريخها


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :









رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته









رحم الله شيخنا ومؤرخنا واسكنه فسيح جناته


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :

الكاتب:
عبد العزيز فيلالي


شيخ المؤرخـــــين الجــــزائريين الدكتور سعد الله.. خالد بتراثه وفكره



تعود معرفتي بالأستاذ الكبير شيخ المؤرخين الجزائريين، أبي القاسم سعد الله، إلى نهاية الستينيات عندما كنت طالبا في قسم التاريخ الذي أنشئ حديثا، بكلية الآداب جامعة قسنطينة في السنة الدراسية 1969 ـ 1970 م فتتلمذت عليه، وحضرت بعض دروسه وهو أستاذ زائر لجامعة قسنطينة، ثم عرفته وأنا مدرس ونائب لعميد كلية الآداب ورئيس لقسم التاريخ في بداية السبعينيات، فصار بيننا تعاون بيداغوجي، في وقت كان قسم التاريخ يفتقر الى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر (01).
فكنا نحضر دروسه مع طلابنا، ونستمتع بمشيخته وعلمه ومنهجيته، فعوضنا بما كنا نحتاج إلى معرفته من تاريخ الجزائر والحركة الوطنية.
فكان الأستاذ مفعما بالحيوية والنشاط، غزير العلم، واسع المعارف، يحرص على أن يفرغ ما وسعه فهمه وعقله وذوقه وحسه الى طلابه، بكل جدية وعمق، لأن الدراسة في الأقسام العربية آنذاك، كانت تشكو من الطرق التقليدية والحشو، لكونها يعزوها الإطار الكفء والكتاب المرجعي، وتنقصها المنهجية الصحيحة، والطرق الحديثة،لأن الكثير ممن كانوا يدرسون في الجامعة، في تلك الفترة، لا يحملون شهادتي الماجيستير والدكتوراه،إلا القليل الناذر من الجزائريين، وكذا من بعض المتعاونين الأجانب الشرقيين منهم أو الغربيين (02).
فحاول الأستاذ الدكتور، نقل ما يمكن نقله، من أحدث ما توصلت إليه العلوم الإجتماعية من تطور وتقدم، من مضانها الأنجلو سكسونية،لأنه يدرك تمام الإدراك، بأن الغرض من التعليم الجامعي، هو تثقيف العقل، لا لإملاء الحافظة، وحشوها بالمعلومات بل غرضه تنمية ملكة البحث العلمي، ومعرفة منهجه،و توسيع أفاق الإدراك به، وتعويد الطالب على حب العلم والقراءة، والتحكم في وسائل البحث واكتساب المعارف والتعمق في اللغة التي يدرس بها.
وكان الأستاذ صارما جدا،في دروسه وتوجيهاته، معروفا بتشدده العلمي والمعرفي،فكانت له مقاييس منهجية ولغوية، لا يتساهل فيها مع طلابه، وخاصة منهم طلاب الدراسات العليا، وأن صرامته هذه صرامة الصادقين الناصحين.
فكان يتقد حماسة في مجال التدريس، وامتهان العلم والبحث التاريخي، فبنى لنفسه مجدا بين طلابه، ومكانة مرموقة بين زملائه، ولكن مع الأسف نفقد كانت زيارته الى جامعة قسنطينة، محدودة بل نادرة، ولعل السبب في ذلك، يعود الى كثرة انشغالاته بالجامعة المركزية في الجزائر، أو ربما يعود لعدم توفير الشروط المريحة للأستاذ الزائر آنذاك، لأن ميزانية الجامعة في بداية السبعينيات، كانت تشكو من الضعف، فضلا عن تهاون المسيرين في الحقل الجامعي وقلة إدراكهم لمثل هذا التعاون العلمي، وعلى الرغم من ذلك، فقد كنا نلتقي بالأستاذ في اللجان البيداغوجية، التي تدعو إليها الوزارة، وهي فرصة أيضا كانت تسمح لنا بالاستئناس، إلى حديثه وأرائه وأفكاره، ومقترحاته العلمية والتربوية المتعلقة بالبرامج الدراسية ومقرراتها وآفاق الجامعة.
فقد عودنا الأستاذ على تشجيع الباحثين، ولاسيما منهم الناشئين ويأخذ بأيديهم ويقدم لهم العون والدعم، في مجال البحث والدراسة والتأليف والطبع، ولم يبخل عليهم بجهده ووقته وعلمه، أو يتأخر عنهم،فقد كان له الفضل في طبع كتابي الموسوم: "المظاهر الكبرى لعصر الولاة في بلاد المغرب والأندلس" بدار المعرف التونسية، في مدة زمنية قياسية لم تتعد الستة أشهر، بينما ظل ما يزيد عن سنتين في الجزائر ينتظر دوره في الطبع والنشر.
وعندما كنت رئيسا لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية،شرفني برسالة تهنئة وتشجيع، تلقيتها عن طريق شقيقه "علي سعد الله" وهو في ديار الغربة، بالمملكة الأردنية الهاشمية، وهي لفتة كريمة منه، جعلتني لا أتردد في مفاتحة أخيه الذي كلفته بأن يقدم للأستاذ عرضا يتضمن عودته الى أرض الوطن، لأن جامعة الأمير عبد القادر في حاجة إليه وإلى علمه ومشيخته، وأن منصب رئيس المجلس العلمي للجامعة ينتظره، حتى نتمكن سويا من النهوض بهذه الجامعة الفتية، ذات الطابع الخصوصي المتميز، إلى المستوى والمهمة التي أسست من أجله، وهو بدون شك أهل لهذه المسؤولية لما يتميز به من قدرة علمية، ولما يتمتع به من سمعة بيداغوجية، عند الطلاب والدارسين، وكنت تواقا لرده.

لقد أتاحت لنا طليعة من زملائه وتلامذته، بأن نتشرف بالمساهمة في تأليف كتاب تذكاري، يضم أبحاثا وشهادات وانطباعات تعكس اهتمامات المشاركين المهنية، ومشاعرهم التقديرية نحو الأستاذ (03) .
دخل الأستاذ الدكتور الحياة الثقافية كاتبا وصحفيا وأديبا وشاعرا وانتهى به الأمر الى محقق ومؤرخ ومترجم يغوص في أغوار التراث والتاريخ، إذ وجد نفسه بفعل الدراسة الجديدة بأمريكا، يتحول من معالجة الأدب والشعر، إلى البحث في القضايا التاريخية والتراث، وأصبح البعد الثقافي الوطني هاجسه، وشغله الشاغل، يتحكم في توجهه ويشغل باله، إذ انتقل من الثقافة التقليدية، كما صاغتها جمعية العلماء المسلمين، وشكلتها الزيتونة، وطبعتها دار العلوم بالقاهرة، وصقلتها الجامعة الأمريكية إلى آفاق التخصص الواسعة والمتجددة في العلوم الإنسانية والإجتماعية (04) .
فقد ظل الأستاذ المثقف الذي يستمد مرجعيته وقيمه من الحضارة العربية الإسلامية، ويمتد أفقه خارج إطار الدعوة الفرنكفونية، حيث الأفاق العلمية الأنجلو سكسونية، فصارت له مواهب متعددة وآفاق واسعة، أفادت بعضها البعض، حتى صار من المثقفين الموسوعيين.
لازم الكتابة وقرض الشعر منذ نعومة أظفاره، وظل في ميدان الإنتاج الفكري أكثر من نصف قرن من العطاء المتواصل، أثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والمصنفات في مجالات معرفية شتى.
أما فيما يتعلق بمواقفه من قضايا التاريخ، فكان للأستاذ موقف حيادي من النضال السياسي في الجزائر في بداية الأمر، ثم أخذ يتغلغل وينفذ في الواقع الجزائري، ومعالجة القضايا الشائكة، الى أن أصبح يدلي بدلوه في اتخاذ المواقف الصريحة، في كبريات الأمور، وقضايا الساعة (05).
فكان يقول عن الكتابة التاريخية: "بأنها عملية متجددة، يمارسها كل جيل بالقدرة والعقلية التي وصلها، والوثائق المتوفرة لديه، والمستجدات الحضارية التي تحيط به"، ويقول أيضا: "أن المؤرخ ابن بيئته وظروفه وأسير ثقافته ووثائقه، ومن تمة فهو مرآة شعبه" (06) .
فقد ظل الأستاذ يدافع عن التعريب والجزأرة في التعليم، والديمقراطية وحرية التعبير، منذ وجوده في الجامعة المركزية بالجزائر سنة 1967 مع ثلة من زملائه وأصدقائه، وقد تميز عنهم، بأنه كان مهموما محموما بالثقافة الوطنية، واللغة العربية، التي يكتب بها (07) .
فقد كان مؤمنا بالوحدة الوطنية، ووحدة اللغة، والانتماء العربي الإسلامي، ولا يزال كذلك، يرفض التدجين والتغريب، فعن اللغة العربية المتيم بها، يعتبرها بمثابة روح الأمة، فقد ظلت ومازالت الحلم الذي يراوده، وجرحا غائرا يؤلمه، وألما شديدا يعانيه لواقع هذه اللغة، ولما أصبحت عليه اليوم في ديارها وبين أبناء أهلها في الجزائر، وأن ما آلت إليه اللغة في نظره يعود الى غياب استراتيجية ومفهوم المركزية الثقافية منذ الإستقلال، وما سماه بالتشرذم الثقافي، الذي انتاب الشعب الجزائري منذ العهد التركي مرورا بالعهد الفرنسي والى وقتنا هذا (08).
فتوحيد اللسان في نظره في الوطن الواحد، يعني توحيد الفكر والهوية والمصير والعقيدة، ويمكنه بعد ذلك، الانفتاح على تجارب الآخرين، بدون خوف على هويته وعقيدته، وأن يتعلم ما يشاء من اللغات والثقافات الأخرى، والتي تجعله بدون شك يطلع على المعارف وعالم المستجدات في ميدان العلم والفكر في البلدان المتقدمة الأخرى (09).
فبهذه الأفكار والمواقف، كان الأستاذ الدكتور، يقلق بعض الأوساط الرسمية والتغريبية واليسارية، وصار في نظرهم مثال غير مرغوب فيه، ونموذجا مزعجا للنمط الثقافي الذي خضعت له الجزائر بعد الإستقلال (10).
و قد عانى الأستاذ جراء ذلك الأمرين، بما ضرب حوله من حصار وتهميش واستفزازات داخل الحرم الجامعي وخارجه، لكن كعادته ظل صامدا مقاوما بهدوئه المعهودة ورزانته، واقفا متحديا شامخا شموخ الجزائر، لا يخاف لومة لائم في قضية الهوية والتراث، بل ظل يواجه المد المعاكس للثقافة الوطنية، ويتحدى أصحابه ودعاته في كثير من الأحيان، مع ثلة ممن يشاركونه في آرائه ومواقفه في الجامعة الجزائرية.
نهض الأستاذ الجليل، بمهام علمية ومسؤوليات تربوية في غاية الأهمية، منذ وجوده في الجامعة، تكوَّن على يده جيل من الأساتذة والباحثين، حاملين مشعله وطموحاته، كما كان له تأثير ملحوظ على جمهور عريض من المثقفين في الجزائر، وتزينت المكتبات الوطنية والعربية بمؤلفاته ومصنفاته، ونتاج فكره، مما جعل سمعته وشهرته العلمية تتعدى حدود وطنه، وكانت الجامعات العربية والإسلامية والأنجلو سكسونية، تدعوه للتدريس بمدرجاتها وعلى طلابها، وقد زادت مؤلفاته العشرين، فاق بها أقرانه بما أضفى عليها من كم وكيف هائل، تضمنت: "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر (خمسة أجزاء)، وأضواء تاريخية ودراسات نقد وتأملات وأفكار، وإيداعات ومترجمات، ومسار قلم، يوميات، وتاريخ الحركة الوطنية الجزائرية (ستة أجزاء)، وتحقيق التراث (ثلاثة أجزاء)، وموسوعة تاريخ الجزائر الثقافي (عشرة أجزاء) من القرن 15 إلى الاستقلال واستعادة السيادة الوطنية.
فهذه الأعمال الموسوعية لا تقل عن (33 جزءا) نشرت في ثلاثة وعشرين مجلدا، نشرته وزارة المجاهدين في دار الغرب الإسلامي بيروت في طبعة أنيقة.
ونحن نعرف أن شيخنا ومؤرخنا كان يدوِّن في مفكرته التي لا تفارق جيبه، كل الزيارات التي كان يقوم بها داخل الوطن وخارجه، وما يدور على الساحة الوطنية من أحداث هامة، نتمنى أن تلقى من ينشرها.
فقد أفنى عمره وجهده في جمع تراث الأمة، من مختلف المكتبات العامة في الجزائر وفي العالم، ومن المكتبات الخاصة عبر التراب الجزائري، يعمل بهدوء ورزانة وبصمت، يكره الأضواء والنرجسية، بسيطا في حياته، متواضعا تواضع المفكرين، رفض المسؤوليات السامية، حتى يبقى مع التراث والتاريخ.
وقد شاءت الأقدار أن يروح عنا الى الدار الباقية، بجسده وروحه إلا أن تراثه وأفكاره ومصنفاته الموسوعية المختلفة وما دونته قريحته ووجدانه ستظل باقية وخالدة مفيدة للدارسين والباحثين، وأتمنى أن ينهض تلاميذه لاستكمال العطاء العلمي والفكري وتحقيق التراث الذي سطره شيخ المؤرخين الجزائريين، لأن الجزائر وتراثها وتاريخها لا يزال في أمس الحاجة الى أمثاله، طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جنانه.

هوامش:
(1) - حاضر في السنة الجامعية 1971 - 1972.
(2) - عندما بدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في تطبيق الإصلاح الجامعي في السنة الدراسية 1971 - 1972 بدأت معها سياسة جزأرة الإطار الجامعي على الجزائريين في التدريس وفي التسيير بالجامعة، وبالتالي بدأ العد التنازلي، في تقليص التعاون مع الأجانب وخاصة المشرق.
(3) - الكتاب التذكاري عنوانه: دراسات وشهادات مهداة الى الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت 2000.
(4) - عن دراسته و تكوينه الثقافي انظر: حسن فتح الباب: شاعر وثورة، دار المعارف للطباعة والنشر سوسة تونس 1991، ص11 - 35 .
(5) - ناصر الدين سعيدون: أبو القاسم سعد الله، كاتبا ومفكرا من كتاب دراسات وشهادات ص 499 - 515.
(6) - جريدة الشعب : كتابة التاريخ 14/05/1990 ص511.
(7) - في هذا المجال، أي في قضية اللغة والتاريخ والتشرذم الثقافي، انظر ما كتبه أبو القاسم سعد الله في العديد من المقالات وما ألقاه في الكثير من المحاضرات نعالج فيها وضع اللغة العربية و التاريخ، انظر ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 499 - ص 515.
(8) - ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 511.
(9) - أبو القاسم سعد الله جريدة الشعب 14/05/1989.

(10) - انظر في هذا بالشأن: ناصر الدين سعيدوني: المرجع السابق ص 514 .

(*) جامعة قسنطينة2

https://www.echoroukonline.com/ara/articles/190374.html

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

الكاتب:
التهامي مجوري


الدكتور سعد الله: علّامة الجزائر وعلامتها




عندما لجأ الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى القاهرة في بداية الخمسينيات، قدمه الناس إلى المصريين بلقب "الشيخ الإبراهيمي علَّامة الجزائر"، فعقب رحمه الله على هذا اللقب بقوله أنا لست علَّامة الجزائر، وإنما علامتها وعلامة رفع لا علامة خفض. وأرى بهذه المناسبة أن هذا الوصف ينطبق على الأستاذ سعد الله تماما؛ بل هو علَّامة الجزائر وعلامتها.
لم أعرف الدكتور سعد الله في الجامعة لأنني عصامي، ولم اعرفه زميلا؛ لأنني لم أشركه عملا أكاديميا أو غيره من أنشطته العلمية المشهودة في العالم وليس في الجزائر فحسب، ولم أعرفه قرينا لأنه في سن والدي، وإنما عرفته في معترك الحياة، كقارئ جاد متعلق بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، وجد ضالته في كاتب جاد مرتبط بهويته الإسلامية العربية الجزائرية، يريد إيصالها للأجيال قبل أن يطلبوها.
تعرفت عن الدكتور سعد الله في ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة موضوعه الثوري الرائع "الحاج ديكرت"، المنشور في جريدة الشعب، وقبل هذا التاريخ لم أكن أعرف من هو سعد الله؟ فهذا المقال قد هزني كما هز الكثير من أبناء الجزائر من الشاعرين "بالاستقلال المنقوص"، ومنذ عرفته لم تنقطع صلتي به، مهاتفة ومعايدة واطمئنان على صحته، وقبل ذلك وبعده قراءة كل ما يصدر من مؤلفاته بداخل الوطن وخارجه.
ثم كان مقال "الحاج ديكارت" متبوعا بمقاله الأليم "أزمة ثقافة" وهو المقال المنشور أيضا في جريدة الشعب، الذي اشتكى فيه إلى الله سرقة حقيبته التي كانت تحتوي على فصلين من جزء من أجزاء كتابه الحركة الوطنية، وبطاقات مادة تاريخ الجزائر الثقافي، في مطار من مطارات بريطانيا، حيث كان الرجل طوال السنة في الجزائر يبحث ويقرأ ويدوّن، وعندما تحين فرصة الخروج إلى الخارج وإلى حيث الجو المناسب للكتابة؛ "لأن الكتابة في الجزائر معجزة" على حد قوله، يغتنمها في إنجاز ما اكتملت مادته مما جمع.. فسرقت منه الحقيبة بما فيها، ولم يتهم أحدا بعينه يومها، ولكن من قرأ ذلك المقال يحس أنه يتهم جهة ما معادية للجزائر وللثقافة الجزائرية سواء من داخل البلاد او من خارجها؛ لأن هذه السرقة وقعت في مرحلة كانت الجزائر تمر بموجة من التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية، فكان يومها مشروع مراجعة الميثاق الوطني، وموجة التفتح الفني، والانفتاح الإعلامي عبر تنشيط الصوت المعارض من خلال وسائل الإعلام الرسمي، الجرائد والإذاعة والتلفزيون، والتي توجت بعد ذلك بأحداث أكتوبر 1988 المعروفة.
فمقال الحاج ديكارت إلى جانب نكبة ثقافة، لم يكونا معزولين عن معارك أخرى للأستاذ في الظل كانت بين سعد الله وخصومه الطبيعيين، ويظهر ذلك في قصته مع المركز الثقافي الجزائري في فرنسا الذي يمثل "دولة" مستقلة عن الجزائر في توجهه، وإلى مشكلته مع جريدة الجزائر الأحداث الأسبوعية الناطقة بالفرنسية Algérie Actualité، التي أرسل إليها بمقال يرد فيه على قضية لا أتذكرها الآن، ولم تنشره، مما اضطره إلى نشره في جريدة الشعب.
سعد الله رجل مسالم وهادئ وأليف الطبع، ولكن توجهه الفكري والتزامه الأخلاقي جلبا عليه متاعب كثيرة، ابتداء من التماطل في تعديل شهادته "الدكتوراه" التي حصل عليها من أمريكا وانتهاء بمتاعب إتمام مشروع كتابه تاريخ الجزائر الثقافي الذي أكمل بدايته قبيل وفاته؛ لأنه عصي عن دخول الصف بسهولة.
صحيح أن الرجل عرضت عليه مناصب في الدولة ورفضها لشعوره بخطورتها على مشروعه الوطني الكبير وهو الحفاظ على هوية الجزائر بجميع أبعادها المحلية والإقليمية والدولية، بلا تهوين ولا تهويل، ولكن في نفس الوقت طبع له جزء من أجزاء كتابه "أبحاث وأراء في تاريخ الجزائر"، وأظنه الجزء الثالث او الرابع، حيث كان الكتاب يطبع تباعا الأول فالثاني فالثالث.. وهكذا، ولما طبع لوحظ ان فيه معلومة ذكرها موجودة في كتاب لرحالة وصف فيها منطقة ما.. بأن أصل أهلها يهود.. فطلب من الأستاذ حذف هذه المعلومة، إذ ان القوم فهموا من نشر هذه المعلومة أنها تصفية حسابات سياسية في جو صراعات عصب الحزب الواحد، فرفض الأستاذ؛ لأن الكلام الوارد في كتابه ليس كلامه، وإنما هو لصاحب الرحلة التي يتكلم عنها، فصودر الكتاب المطبوع في الشركة الوطنية، وبعد سنوات بيع الكتاب بالدينار الرمزي أيام تصفية الشركة الوطنية للنشر والتوزيع (SNED) او تقسيمها.
إن الدكتور سعد الله من هذه الناحية يتميز بصرامة علمية لا مثيل لها لا يعلمها القوم الذين أرادوا منه ما أرادوا، ولم يعلموا أنه قاس قسوة الجراح عندما يتعلق الأمر بالمعلومة التاريخية، ولم يستثن من ذلك نفسه حيث كان يذكر الأمر السلبي ولو كان متعلقا به.. فقد أورد كلاما في يومياته "مسار قلم"، لا يليق ذكره عادة وعرفا، منها مثلا أنه جلس مع فلان في مقهى مثلا فطلب هو شايا اما صاحبه فقد طلب زجاجة "ويسكي"، أو أنه استقبل امرأة في فندق وصعد معها إلى الغرفة؛ بل واحتج عمن عاب عليه ذلك، أو أن فلانا غضب منه لأنه يخالفه في أمر ما.. ولما قيل له إن هذه اليوميات لا يليق أن تنشر هكذا وهي من أسرار المجالس وخفايا أحاديث النفس، فقال هذا هو التاريخ وهذا هو الواقع الذي وقع بحلوه ومره؛ بل إنه حريص على إعادة نشر النصوص كما دونت في يومها ولو بأخطاء نحوية كتبت بها.
اتصلت بسعد الله هاتفيا لأواسيه عندما سرقت منه محفظته، ومؤازرة له في محنته، ولأعرض عليه المساعدة إن كان في حاجة إليها، من أجل إعادة مشروع تاريخ الجزائر الثقافي، فقال لي "يا ريت... أين نحن من جهد عشرين سنة يا فلان؟"، ومع ذلك سألني ألا أجد عندك نسخة من "تاريخ العدواني" مطبوعة او مخطوطة؟ فذهلت للطلب ولجلد الرجل ورباطة جأشه.. الرجل ضرب ضربة تسقط لهولها الكوكبة من الرجال، ومع ذلك بقي صامدا، تألم لوجع الضربة _نعم- ولكنه لم تنثن، واستمر في طريقه لإتمام مشاريعه العظمى التي كان يرى دائما أنها أطول من عمره المحدود.
إن مشروع تاريخ الجزائر الثقافي كان منذ بداية السبعينيات، وقد صدر له منه الجزآن الأول والثاني عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، وفي سنة 1988 كان يأمل في أن يكمل جزئين آخرين ولكن المحنة المشار إليها أخرته إلى ما يقارب نهاية التسعينيات.. ولكن هذه المرة صدر الكتاب في تسعة أجزاء أي أكبر مما كان يتصور، فقد زرته في سنة 1997 أو 1998 لا أتذكر في الأردن، يوم كان في جامعة آل البيت بالمفرق، وحاولت أن أعرف منه موضوع تاريخ الجزائر الثقافي، ولم يقل لي شيئا ولم أدر أنه كان يومها في مرحلته الذهبية في استدراك ما ضاع منه وما تعطل في حياته كلها، حيث كان على مقربة من الأستاذ حبيب اللمسي صاحب دار الغرب الإسلامي المقيم ببيروت الذي أشرف على نشر كل إنتاجه.. فكان من بين ما أكمل الأستاذ تاريخ الجزائر الثقافي بأجزائه التسع، وأكمله بالجزء العاشر عندما عاد إلى الجزائر، باحتضان مركز دراسات الحركة الوطنية وأول نوفمبر، الذي تناول مرحلة تاريخ الجزائر الثقافي أثناء الثورة، ولم يبق لاكتمال المشروع إلا الفترة من الفتح الإسلامي إلى العهد العثماني، وهذه الفترة من تاريخ الجزائر الثقافي كان موزعا بين المغرب وتونس حسب رأي الأستاذ، التي كان الأستاذ يتألم لعدم إتمامها..، وقد علمت من الناشر الذي يتعامل معه
أنه أتمها قبيل وفاته وربما كانت من آخر ما أنتج رحمه الله، وحسب الناشر سوف تكون هذه المرحلة في أربعة أجزاء.
ودّع علامة الجزائر وعلامتها الدنيا ولم يأسف على شيء أسفه على الجزائر التي خصها الله كل شيء ومع ذلك هي محرومة من كل شيء، وأهم ما حرمت منه بكل أسف استقلاليتها الثقافية وتميزها الذي هي مطالبة به سياسة وثقافة واجتماعا وحضارة، وليس مزية "تتمزى" أو يتمزى بها مسؤولوها بها على أحد. طلبت من الأستاذ في نهاية الثمانينيات إفادتي بمراجع حول التغريب في الجزائر إذ كنت مكلفا بمحاضرة في مناسبة معينة، فقال لي وماذا تفعل بالمراجع؟ ها هي شوارع العاصمة تعج بكل ما تريد عن التغريب وأشكاله ومضامينه.. قال لي هذا الكلام بألم شديد وحسرة على اندثار قيم ثقافية وسياسية كانت تتمتع بها الحركة الوطنية قبل الاستقلال، وليس كما قد يتوهم المرء تهكما واستعلاء.
فرحم الله الفقيد وعوض الجزائر فريقا من أمثاله أو خيرا منه، وما ذلك على الله بعزيز.

https://www.echoroukonline.com/ara/articles/192553.html

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :

الأمينة العامة للجنة الليبية للتربية والثقافة والعلوم:
فوزية بريون


سعد الله حمل معه اللوح إلى أمريكا لتحفيظ ولده القرآن الكريم


هذه كلمة رثاء في أستاذنا الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي منحه رفاقه الجزائريون العارفون بفضله، لقب "شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين"..، رثاء تخونه اللغة وتمكر به التراكيب فيتحول إلى مديح!.. إذ يجد العقل نفسه مبحرا في عوالم تراثه العلمية والأدبية والثقافية التي تفرغ مفردة الموت من معناها السديمي، فتتلاشى أمام آثاره المجسدة لعصارة فكره، وتفتقات ذهنه، ومثابراته الدؤبة على عدم إغماد قلمه، حتى في أحلك الظروف.. ليس من أجل إعمال الفكر وإحكام النظر ونشر المعرفة فحسب، وإنما لتجسيد موقف أخلاقي يفيض بالإلتزام وينضح بالمسؤولية، متنزها عن ذلك الإنفصام النكد الذي أصاب كثيرا من مثقفي جيله.
الدكتور أبو القاسم سعد الله ليس أستاذ التاريخ المبرز، بجامعة الجزائر العريقة فحسب، وليس مجاهد ثورة التحرير التي ألهمته القوافي والأقاصيص فأبلى فيها بسيف الكلمة، وأهداها إبداعا باقيا، بوّأه في تاريخ أدبها مكانا.. فقط، وهو ليس الكاتب المهموم بحال أمته الذي له في كل قضية رأي وفي كل أزمة رؤية، وكفى.
كما أنه ليس الفيلسوف الذي خبر سنن التاريخ وملابسات الوقائع والأحداث، فأحاط بها وتتبع جذورها ومساراتها واستنبط نتائجها وآثارها، وإنما هو أكثر من ذلك وأعظم وأبعد..، إنه عالم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني متجددة. عالم لم تفارقه موهبة التعلم، لأنه آمن بأن العلم ليس له ضفاف، وأن سيد الخلق قد أوصانا بالسعي في طلبه من المهد إلى اللحد.. وعالم لم تفارقه موهبة التعليم، لأنه آمن أن الإنفاق من العلم المحصل لا يزيده إلا نماء وعمقا.. وأن مرافقة طلاب العلم والباحثين عنه وفيه، ومعايشة تكونهم الذهني وترقيهم المعرفي لذة لا تضاهيها لذة، ورسالة لا تفوقها سوى رسالات الأنبياء.. ولذلك فقد تجسدت في الراحل أخلاق العلماء، تلك البؤرة الجامعة للبحث عن الحقيقة في صدق ونزاهة وتجرد وضمير حي. ولذلك كان معصوما عن الميل بمنزلته العلمية نحو تحصيل المال أو الجاه أو المنصب، فلقد كان طلبه العلم من أجل العلم.. بل أقول إنه قد طلبه من أجل الله.. حيث لا يؤدي العلم الحقيقي إلا إلى المعرفة به والخشية منه؛ منتظما في مقام مقولة الغزالي: "طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله". ولذلك فليس غريبا أن يرفض الراحل منصب وزير الثقافة، وهو منصب رفيع في أمة يتكاثر فيها المثقفون والمبدعون، وتتسامق فيها العربية بعد قرن وثلث من سياسات الفرنسة، التي أرّخ لها الراحل في مؤلفاته، وفصّل في جوانبها السياسية والثقافية والسوسيولوجية.. ترفع عن هذا المنصب، أو اعتذر عليه كما قال، لأنه كان يفضّل أوزار العلم والثقافة ولذتهما عن أوزار السياسة والإدارة، التي يلهث وراءها الكثيرون.
بدأ د.سعد الله حياته مبكرا بطلب العلم في قريته بالجنوب الجزائري، حيث حفظ القرآن، ثم رحل إلى الزيتونة ليواصل فيها تعليمه لمدة سبع سنوات، قبل أن يبتعث من "جمعية العلماء المسلمين" للدراسة في "كلية دار العلوم" بالقاهرة، وكانت آنذاك ساحة لتأييد الثورة الجزائرية، واستقبال رجالاتها ومناضليها وشبابها. وكان الراحل قد نشر كتاباته الأولى في صحيفة جمعية العلماء "البصائر"، التي دعم رسالتها وتبنى منهجها. وفي بداية الستينيات حصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، ثم سافر إلى أمريكا ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة منيسوتا عن أطروحته المتميزة "الحركة الوطنية الجزائرية" التي ترجمت إلى العربية في جزأين، ثم توسع فيها حتى صارت أربعة.
كانت تلك أولى الخطوات في جهوده الرامية لإستعادة المرجعية التاريخية، وافتكاكها من قبضة الغربيين والمستشرقين، وتفنيد تفسيراتهم المغرضة. فلقد تيقن بأن الجزائريين أولى وأحق من غيرهم بكتابة تاريخهم وتفسيره وتحليله. وهو ما قاده بعد ذلك إلى الإلتفات إلى تاريخ وطنه الثقافي، الذي هو الثروة الوطنية، والمصدر الإستراتيجي المغذي للوعي والهوية، فانكب على جمعه ووصل أطرافه الموزعة بين دور العلم والعبادة والزوايا والخزانات داخل بلاده الشاسعة، ومكتبات العالم ومتاحفه ومراكزه العلمية، محققا في المخطوطات والوثائق والرسائل، باحثا في مآثر قومه وعظماء أمته حتى وفقه الله إلى إصدار كتابه المرجع "تاريخ الجزائرالثقافي" في تسعة مجلدات زاخرة، أعطت لوطنه وجودا لافتا بين الأمم. كما أصدر سفره الثمين "الحركة الوطنية الجزائرية" في أربعة أجزاء، ومؤلفه القيم "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر" في خمسة أجزاء.. هذا إضافة إلى عدد من التحقيقات والترجمات وأدب الرحلات والكتابات الهادفة الرصينة.
تلقى الراحل عدة أوسمة وجوائز تقديرية منها "وسام المقاوم" عن دوره في الثورة الجزائرية، عام 1984، و"وسام العالم الجزائري" عام 2007، كما فاز عام 1991 بـ"جائزة ابن باديس" عن مؤلفاته القيمة في الثقافة العربية والإسلامية؛ وكانت الجائزة مبلغا مجزيا من المال بالعملة الصعبة، ومعلوم أنه كان في حاجة ماسة إليه، لكنه وفي حفلة تكريمه وتسلّمه الجائزة أعلن عن تبرعه بها لمكتبة جامعة الأمير عبد القادر، وأوصى بأن يطلق على القسم الذي تصفّ فيه الكتب المشتراة من قيمة الجائزة اسم "الإنتفاضة الفلسطينية"، فجسد بسلوكه هذا قيمة هي غاية في الرقي، يتحقق فيها قوله سبحانه "ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة". وهي منزلة عليا لا يقدم عليها إلا أكابر القوم الذين يثقون بما عند الله.
والحقيقة أن الراحل لم يصل إلى تلك المنزلة إلا بعد مكابدة ومجاهدة، ومرابطة يقظة في رباط العلم، وبُعد عن الأضواء وترفع عن السفاسف.. ذلك أنه كان رجلا أمة.. مفكرا موسوعيا.. باحثا ومؤرخا ومثقفا رفيع الطراز؛ قضى في خزائن كنوز المعرفة سواد شبابه وبياض شيخوخته، ولم يفارق القلم يمناه حتى عندما طلب منه الأطباء التوقف عن الكتابة في مرضه الأخير.. فلقد كان ذلك هو فسيلته التي أراد أن يسقي بمدادها تربة الفكر قبل أن يلاقى ربه.
قابلت د. سعد الله أول مرة في أغسطس 1969 عندما حضر إلى طرابلس عضو وفد بلاده إلى "مؤتمر أدباء وكتاب المغرب العربي"، وكنت قد اخترت حينها من قبل الأستاذ علي مصطفى المصراتي، عضواً في الوفد الليبي مع الشاعرة هيام الدردنجي وثلة من الكتاب الليبيين، وكنت قد تخرجت لتوي من "كلية المعلمين العليا"، ولم يكن رصيدى سوى بعض الكتابات الصحفية والمحاولات الشعرية، أما د. سعد الله فكان شاعرا وقاصا وأستاذا جامعيا.
ومرّ زمن قبل أن نلتقي مرة أخرى في الثمانينيات في أمريكا، عندما قابله زوجي في إحدى مرافق "جامعة متشجن" فتعرف عليه ودعاه مع زوجته وابنه الوحيد أحمد إلى بيتنا، فتوثقت الصلة بيننا منذئذ على المستويين الشخصي والعلمي؛ وكنت آنذاك في صدد تجميع المادة العلمية لموضوع أطروحة الدكتوراه عن مالك بن نبي، فوجدت منه كل دعم وتشجيع، إذ زودني بكثير من المصادر والمراجع التي كان يصعب عليّ الوصول إليها لولاه. كما قام لاحقا بقراءة بعض الفصول وإبداء ملاحظاته القيمة حولها، مسجلا إعجابه بالفصل الأول من الأطروحة، الذي بينت فيه ما لحق الجزائر جراء الإستعمار الفرنسي من تحطيم لبنيتها التعليمية والإجتماعية. ولقد كان للدكتور سعد الله الفضل في ربطي ببعض القامات الجزائرية من أمثال الدكتور عبد الرزاق ڤسوم، والدكتور محمد ناصر، الذي أهداني مجلدي الشيخ طفيش عن سليمان الباروني، والدكتور العربي معيريش، الذي قام بالبحث عن حمودة الساعي صديق بن نبي فسجّل لي ذكرياته عن مالك. وبعد أكثر من عقدين، عندما أذن الله بطبع الترجمة العربية تكرم د. سعد الله بكتابة تصدير للكتاب "مالك بن نبي: عصره، حياته ونظريته في الحضارة".
لقد ظل د. سعد الله يتردد على مكتبة جامعة متشجن كلما سنحت له الفرصة، وكلما مكنته ظروفه المادية من توفير ثمن ثلاث تذاكر له ولأسرته، فكنا نسعد به وبأسرته، حيث نقضي الساعات في مناقشة موضوعات الساعة ومنها حتما الأوضاع في الجزائر وليبيا، أيام نكبتها الأخيرة. وكان الراحل يبدأ يومه بالذهاب إلى مكتبة الجامعة فيعتكف كالراهب المتبتل في ردهاتها وبين رفوفها وقاعاتها، باحثا عن تاريخ بلده وجذور أمته، ولا يفارقها حتى تقفل أبوابها في أماسي الصيف الطويلة، فيعود إلى بيته ليراجع "لوح" القرآن الذي جاء به من الجزائر ليكتب فيه أحمد سورة بعينها أو آيات يكون والده قد حددها له، فيسمعه ما حفظ، قبل أن يستعد لغيرها في اليوم التالي. وكانت حفصة، أم أحمد، الزوجة الصبور، والقارئة النهمة، المطلعة على جهود زوجها والمثمنة له ولها، خير داعم له ولكل المشاريع الكبيرة التي صرف فيها جلّ وقته وعصارة عمره.
ماذا عساني أن أكتب عن هذه القامة السامقة، وأنا التي عاصرتها وجالستها وقرأت لها وتراسلت معها فإذا بي عاجزة عن الإلمام ولو بجزء يسير من علمها ومعارفها وهمتها التي قدّت من الصخر مآثر، وفتحت للأفكار معابر.. وتمسكت بالأصالة والانتماء فكانت كالطود في محيط الرياح العاصفة؟ حسبي الآن هذا الإقتراب الوجل من عالمه المهيب، وهذا الإحتفاء الحزين بانتقاله إلى رحاب الرحيم الودود الشكور، ليحبوه ويكرمه.
إن لي معه مراسلات وفي أدراجي ببلاد الإغتراب عددا من الخطابات بخطه المنمنم، تضم أفكاره واقتراحاته، وومضات من وجدانه المرهف في ظروف مختلفة من تاريخ الأمة، لعلني أتفرغ لها يوما لأضيف لتاريخ هذا الرجل العظيم، الذي أصبح الآن صفحة نورانية من تاريخ الجزائر الثقافي الذي كان أول من ارتاد متاهاته ونظم سجلاته.
رحم الله شيخ المؤرخين وقدوة الباحثين، وعوض الله الجزائر والعرب والمسلمين فيه خيرا، ووفق ابناءه وتلاميذه للإقتداء به والسير على طريقه.. وعزاء محبيه أنه وإن انتقل بجسده، فهو باق بآثاره ومؤلفاته وأسفاره، وبما جسده من خلق وتواضع ونزاهة وترفع عن زخرف الحياة الفانية.
جمعنا الله به في جنان الفردوس مع الشهداء والعلماء والأولياء.. وحسن أولئك رفيقا.




https://www.echoroukonline.com/ara/articles/191633.html