عنوان الموضوع : الكتابة البربريّة: اللوبيّة ـ التّيفيناغ ما حقيقتها؟2 اللهجة الجزائرية
مقدم من طرف منتديات العندليب

خطّ التّيفيناغ

وهو الخّط الذي كتب به "الطوارق" بربر الصحراء المنتشرون فيما بين موريتانيا والجزائر وليبيا والتشاد والنيجر ومالي. ويقال لهم أيضاً "التوارق" بالتاء بدل الطاء مع نطق القاف بالصورة التي ينطق بها في الأرياف والبوادي المشابه لنطق الجيم المصرية.

والتسمية بالطوارق أو التوارق هي تسمية خارجة لا يطلقها بربر الصحراء على أنفسهم, فهم يتسمّون بأسماء القبائل والعشائر التي ينتمون إليها. والخطّ الذي كتبوا به منذ العهود القديمة يسمّونه "تيفيناغ" وسيأتي تحليل هذه الكلمة عند البحث في أصل هذا الخطّ.

وإذا كان الخطّ اللوبي قد توقّف عن الاستعمال في وقت مبكر, فإنّ خطّ "التيفيناغ" لم يكن كذلك, فقد احتفظ به إلى عصرنا في ظلّ التبنّي الكامل للعربية. وهذا الاحتفاظ, بالطبع لم يكن بذي بال, إذ ليس للطوارق تراث ثقافيّ بهذا الخطّ, فأدبهم من شعر وحكايات وأساطير وأمثال وغير ذلك, كله شفويّ "ينتقل من جيل إلى جيل بالمشافهة"(7).

والمعروف في زماننا أن نساء الطوارق هنّ مَن يحسنّ الكتابة بخطّ "التيفيناغ", وهنّ مَن يعلّمنَ حروفه. ويقول القشاط في هذا الصدد: "وحروف التوارق, لا يتقنها كل التوارق بل تتقنها النساء والخدم وبعض الذين تعلموها من النساء"(8).

وانفراد المرأة الطارقية بهذا النوع من المعرفة, قد يكون راجعاً إلى مكانتها الاجتماعية. فهي, من دون سائر نساء المجموعات البربرية الأخرى, تحظى باحترام فائق في المجتمع الطارقي, تعيش سافرة الوجه, وتتسوّق, وتبيع, وتشتري, وترعى الماشية وغير ذلك من الأعمال. والمعلومات المتوفّرة, تشير إلى أن الطوارق قد يكونون منحدرين مما كان يسمّى "بنظام الأمومة", فهم ما يزالون إلى اليوم ينتسبون إلى قبائل أمهاتهم, والولد عنهم أكثر اندماجاً مع أهل أمّه. والخال صاحب الخطوة الأساسية بينهم. قد تكون هذه المنزلة الاجتماعية الرفيعة التي تحظى بها المرأة الطارقية, هي التي جعلتها تختصّ بمعرفة خطّ "التيفيناغ" أكثر من الرجل وتواصل المحافظة عليه.

أبجدية التيفيناغ:

من الواضح أن استعمال هذا الخط كان محدوداً منذ البداية, وهذا راجع إلى ظروف مجتمعات الصحراء من حيث جمود الحياة فيها, والعزلة عن العالم الخارجي, والحاجيات المحدودة. ومثل هذه الظروف, لا تسمح عادة باستعمال الكتابة على نطاق واسع.

وهذا ما نستخلصه من عدد الحرف التي وقع التعامل بها في أول الأمر. فبعض الدارسين(9) يذكر أن خطّ "التيفيناغ" كان يتكون من عشرة أحرف هي:



وجميع هذه الحروف (14 حرفاً) صامتة, أضيفت إليها أشكال أخرى على هيئة نقاط, لها وظيفة الحركات, والضوابط, صارت فيما بعد حروفاً هجائية يسميّها أصحابها "تِيْدبَاكِين" معناها "الدليل على العمل والتوسع"(11).

وأصبحت أبجدية هذا الخط المشاعة بين "الطوارق" تبلغ 22 حرفاً, مع الملاحظة أن هناك اختلافاً بين قبائل الطوارق في نطق بعض الأصوات ـ فقد يكون الصوت لدى فريق أقرب إلى السين, وقد يكون لدى فريق آخر أقرب إلى الشين أو الزاي, وقد يكون مفخّماً لدى هذا وغير مفخّم لدى ذلك, شأنهم في هذا شأن الجماعات العربية قديماً وحديثاً.

واللهجة الطارقية لا يوجد فيها حرفا الحاء والعين (ح. ع) وكذلك حروف ث, ذ, ظ, التي لا توجد في سائر اللهجات البربرية. وإذا ما وجدت في بعض المناطق, فهي من قبيل النطق المحلي, بدليل أنها تنطق في مناطق أخرى ت, د. ض.

فالنعجة مثلاً يقال في الأطلس وفي الريف المغربي "ثخسي" بالتاء, ويقال لها في القبائل "تسا", وفي الشاوية "هيخسي".

ويقال للركبة "أفوذ", وأصلها بالدال "أفود", بدليل وجودها في صيغ أخرى من الجذر نفسه (أ, د, ل), ففي جمع هذا المفرد يقال: "إفادّن" بالدال.

أمّا الظاء فلا وجود له. وإذا ما افترضنا أنه نطق به في كلمة من الكلمات, فأصله بكل تأكيد ضاد, كما هو في سائر النطق بهذه الكلمة لدى الجمهور العامّ, كما أنه عند التضعيف ينطق بهذا الظاء طاء. وهذا من خاصيّات الضاد. فـ"يوضن" بمعنى "مرض" بالضاد, عند التضعيف تتحول إلى طاء فيقال: "أطّان" (المرض).

ويذكر محمد شفيق أن هذه الكلمة قد ينطق بها "يوضن"(12) بالظاء إلا أنه عند التضعيف تتحول إلى طاء فيقال "أطّان" وهذا دليل على أنها في الأصل ضاد.

وعدم وجود الحاء والعين في اللهجة الطارقية, وكذلك عدم وجود الثاء والذال والظاء في سائر اللهجات البربرية, يدلّ بكل تأكيد على الانتماء الشرقي لهذه اللهجات. فهذه الحروف (ث, د. ظاء) لا توجد أيضاً لدى بعض الجماعات العربية القديمة كالفينيقيين والآراميين والنبطيين وغيرها.

وخطّ "التيفيناغ" مثل الخطّ "اللوبي" كتب هو الآخر من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين ومن الأعلى إلى تحت ومن تحت إلى الأعلى ثمّ غلبت عليه الكتابة من اليمين إلى اليسار اقتداء بالعربية, إلاّ في الحالات النادرة عندما يتوقّع الطارقي أن رسالته ستقع "في يد الأعداء, فإنه يضطر إلى الكتابة في كل الاتّجاهات... وهنا يستغرق فكّ رموز الرسالة الواحدة عدة أيام"(13).

وتصرّف الطوارق في بعض حروف "التيفيناغ", فكتبوا الحرف الواحد بعدة أشكال, كالباء والجيم وغير ذلك.

والأبجدية التالية وقع ضبطها, بالاعتماد على مصادر عديدة, خاصّة المصادر التي عاش أصحابها بين قبائل الطوارق واستمدّوا معلوماتهم من أصحابها مباشرة. أخصّ بالذكر منها المصدرين التاليين:

ـ القاموس الوجيز: طارقي ـ فرنسي, للسيد شارل فكولد([5]).

ـ التوارق عرب الصحراء الكبرى, للدكتور محمد سعيد القشاط. وفي ما يلي أبجدية "التيفيناغ":

أبجدية التيفيناغ موضّحة بالحروف العربية



متى استعمل هذا الخطّ؟

إذا كانت لدينا بعض المعلومات عن الفترة الأولى التي استعمل فيها "الخطّ اللوبي", فإننا بالنسبة لخطّ التيفيناغ, لا نملك شيئاً واضحاً ومحدّداً حول بداية استعماله. ولكن هذا لا يمنعنا من الاستناد إلى بعض المعطيات المساعدة على ضبط بداية عامّة لظهوره. فكلمة "تيفيناغ" التي هي بمعنى "فينيقي"تؤكّد عراقة هذا الخطّ, وتربطه بالدور الفينيقي, وتأثيراته في المنطقة الغربية لحوض البحر الأبيض المتوسط. هذا الدور كان قريباً من عمق الصحراء, لوجوده في الساحل الليبي, وللأعمال التجارية لقرطاج تجاه الداخل الإفريقي. والصحراء كما هو معروف كانت مصدراً مهمّا لثروة قرطاج. فمن الطبيعي والحالة هذه, أن ينتشر مع هذا المدّ الحضاري الواسع النطاق الخطّ الفينيقي, وأن يبلغ الصحراء, خاصّة في النصف الثاني من الألف الأولى قبل الميلاد, عندما انهزم جيش قرطاج في معركة "هيميرا" سنة 480 ق.م. ممّا جعلها تهتمّ بالعمل الفلاحيّ وتتجّه بشكل أقوى إلى التجارة عبر البراري.

هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فإنّ أشكال حروف "خطّ التيفيناغ" من حيث طابعها الهندسي العامّ, ومن خلال مقارنتها بالخطوط القديمة المشابهة لها, يمكن أن نعود بها إلى ما بعد الميلاد أو قبله بقليل, حيث ظهرت في هذه الفترة عدّة خطوط, من الجائز أنّ بعضها تجاوز منطقته عن طريق الهجرة أو غيرها. وهذا الكلام ليس من قبيل التخمين, فهناك ما يرجّحه ويدعمه بالاعتماد على ما تقولـه قبائل الطوارق عن نفسها, من كونها قبائل مهاجرة ذات أصول شرقية(14), إذ هي فروع, منحدرة ـ بالأساس ـ من "صنهاجة" و"لمطة" و"هوارة". وهذه القبائل كانت موجودة ـ كما يذكر ابن خلدون([6]) ـ منذ ما قبل الفتح بزمن طويل, وانتقلت داخل الصحراء على مراحل. والراجح أن "صنهاجة" و"لمطة" قدمتا من الجنوب عبر تشاد, بدليل وجود كثير من الأسماء والكلمات ذات الأصل الحميري على خط السير هذا. كما تحدث الدكتور عبد الغني سعود عن انتشار عدّة ممالك "حول بحيرة تشاد إلى الغرب من السودان, ينسب رجالها إلى سيف بن ذي يزن"(15) وقد أكّد على هذا في قوله: "ومن الصعب أن نجد سيفاً يدعو إلى الحكم ببطلان هذا الزعم, أو أن هجرة يمينه لم تؤثّر على الأقلّ في الطبقات الحاكمة في تلك الأقطار قبل الإسلام بقرون"(16).

أمّا هوارة فالواضح في شأنها, أنها قدمت من الشرق عبر مصر, بدليل أنها كانت نازلة بها من غرب الإسكندرية حتّى برقة([7]), ثمّ توغّلت غرباً, واتّجه فريق منها صوب الصحراء بجنوب الجزائر بمنطقة الهقار المسمّاة باسمها, مع حصول تغيير في نطق الواو الذي صار يشبه الجيم المصرية(17).

وهجرة هذه القبائل الثلاث يمكن أن نربطها بالتحرّك البشري الذي حدث في الجزيرة العربية, ودفع ببعض الجماعات فيها إلى الهجرة. وحسب بعض الدراسات(18) فإن هذه الهجرة كانت فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد وبعد الميلاد بعدة قرون.

وقدوم هذه القبائل من الجنوب ومن الشرق, يمكن أن يكون مصحوباً ببعض الخطوط, كالمسند والصفوي والثمودي واللحياني التي يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد وإلى ما بعده. وبالطبع فإن المقارنة بين هذه الخطوط وبين خط التيفيناغ ستؤكّد هذا أو تنفيه.

وخلاصة كل ما تقدّم أنّ أقدم فترة ترجّح لاستعمال خطّ التيفيناغ, تعود إلى ما قبل الميلاد بقليل. ومن الصعب أن نوغل به إلى الوراء وإلى ما هو أبعد من هذا التاريخ, تمشيا مع المعطيات المذكورة. أمّا ما يقوله المتمزّغون من أن خطّ التيفيناغ يعود إلى 3000 سنة أو ما قبلها, فهو من قبيل الهوس الذي لا يعبأ به.

تسلّط النزعة البربريّة على "خطّ التيفيناغ".

إنّ سعي المتمزّغين الدائم, في كل أنشطتهم السياسية والثقافية والإعلامية إلى فصل البربر عن العرب, واعتبارهما من جنسين مختلفين لا يمتّان إلى بعضهما بأيّ صلة, دفع بهم إلى التسلّط على كلمة "تيفيناغ" وكذلك كلمة "أمازيغ" جاعلين منهما ـ في هوس منقطع النظير ـ مظهرين لهويّة مزعومة, هي الهويّة البربرية أو الأمازيغية (الشعار الجديد) معارضين بها في عداء صريح الهويّة العربية للمنطقة.

والنزعة البربرية, من عهد فرنسا, هي نزعة موجّهة أساساً ضدّ الانتماء العربي. ولذا لم تسلم الكلمتان من التفسيرات المكذوبة والتلبيسات المغرضة. وسبق لي أن تناولت كلمة "أمازيغ" بالدراسة, وأثبت أنها عربية من كل الوجوه([8]). أمّا كلمة "تيفيناغ" فقد صنع حولها المتمزّغون ضجّة غير معتادة, ولاكوها في كل اتّجاه, وأسالوا, في شأنها, حبراً غزيراً. ونشط ذوو المعرفة اللسانية منهم لتقديم ما عنّ لهم من الأطروحات والنظرات, نورد بعضها فيما يلي:

1 . تفسير كلمة "تيفيناغ" بأنها تعني "الخطّ والعلامة أي الأبجدية"(19), بدون أن يقدّموا ما يبرّر هذا التفسير بأيّ وجه من الوجوه مؤسّسين عليه ادّعاءهم بأن البربر توصّلوا في غابر العهود إلى ابتكار الكتابة "في وقت لم تكن الكتابة فيه قائمة"(20). وتحدّثت الأكاديمية البربرية بباريس في إحدى وثائقها عن هذا الموضوع في شيء من النخوة والاعتزاز, قائلة: "وإذا كان العرب يدينون بالفضل للآراميين, والأوروبيون يدينون للفينيقيين.. فإن البربر لا يدينون لأحد في وضع الحروف الهجائية للغتهم.. أي أنهم قد اخترعوا ـ إذن ـ هذه الحروف التي ترجع إلى عهد ضارب في القدم (3000 سنة), والتي حافظ لنا عليها اخوتنا في التوارق في الصحراء"(21). ومن الواضح أن هذا لا أساس لـه من الصحّة, إذ هو افتراء محض على التاريخ, هدفه بلبلة الفكر وخلق أديولوجيا مفتعلة لدعم هويّة مفتعلة.

وهناك تفسيرات أخرى, أعطيت أيضاً لهذه الكلمة, منها أنها تعني: الكتابة(22) ومنها أنها مركّبة من كلمتين هنا: تيفين, بمعنى اكتشاف. وأناغ بمعنى: ملكنا(23), أي أن أبجدية التيفيناغ من اكتشافنا وإبداعنا وملكيتنا. وهذا التحليل اللفظي التعسّفي الخاطئ من ابتكار الفكر الطائفي لمتمزّغي القبائل. فكلمة "تيفيناغ" هي كلمة "فينيقي" مبربرة ولا شيء غير ذلك. وهو ما سنراه في تحليلنا لها في الفقرة القادمة (ما هو أصل الكتابة البربرية؟).

2. الادّعاء بأن لخطّ التيفيناغ من العمر ما يزيد عن خمسة آلاف سنة, وزعموا "أن أقدم نقش وصل إلينا يعود تاريخه إلى أكثر من 3000 سنة ق.م كتب بالتيفيناغ"(24). ومثل هذا الكلام الملقى على عواهنه, ليس بالغريب عن منظّري النزعة البربرية الذين عوّدونا على التهويش والاستهانة بالحقائق العلمية. فالصحراء في هذا التاريخ (3000 سنة ق.م) ما تزال في مرحلة ما قبل التاريخ, في فترة العصر الحجري الحديث, وهو عصر فقير جدّاً, امتدّ إلى الألف الثانية قبل الميلاد, غير مؤهّل تماماً لأن تظهر فيه الكتابة التي هي ثمرة لتطوّر واسع, ولنشوء حاجيات جديدة تفضي على المستوى الثقافي والمعرفي عموماً إلى ابتكار ما يناسب تلك الحاجيات. وهو أمر لم تتوفّر عليه منطقتنا لضعف في تحوّلاتها العامّة, وتطوّراتها الداخلية.

3. هناك وجهة نظر أخرى, في المساق نفسه, تزعم "أن الأمازيغية المندثرة كانت تكتب بالهيروغليفية, ثمّ كتبت بها المصرية, وهي من جنس الكتابة الأبجدية قبل أن تكتب بالتيفيناغ الأصلية"(25). والجديد في هذه الوجهة أن "الهيروغليفية" من ابتكار الأمازيغيين القدماء, وعنهم أخذها المصريون. وهذا يعني أن الصحراء عرفت الكتابة قبل مصر. ونظرا لتهافت هذه الفكرة المتهوّرة. فقد وقع تعديلها وتحويرها بهذه الصيغة "إنّ أول أبجدية في التاريخ عرفتها الكتابة, هي الكتابة "الهيروغليفية". وقد تكون الأمازيغية قد استخدمت هذه الحروف, ثمّ طورتها" (26), والأمر لا يقف عند هذا الحدّ, بل يذهب أصحاب هذه الوجهة في شطحاتهم الفكرية إلى حدّ ضمّ مصر, وجعلها ضمن أرض "تامازغا" (الأمازيغية).

4. محاولة إحياء "خطّ التيفيناغ", وبعثه للوجود من جديد, سعياً لتأصيل الهويّة البربريّة (الأمازيغية), فطرحت آراء كثيرة في هذا الشان, وانعقدت من أجل ذلك الملتقيات الثقافية واللغوية, لدراسة هذا الموضوع, ووضع الخطط العملية لتجسيده على صعيد الواقع.

وبما أن أبجدية التيفيناغ قديمة, ومتخلّفة, وغير مستوعبة لأصوات كثيرة. فبذلت الجهود لتكييفها والزيادة في عدد حروفها. فقد أوصلها Blanguerno إلى 26 صوتاً(27) وأوصلها سالم شاكر إلى 29 صوتا مع ثلاثة مصوّتات(28), وأوصلتها الأكاديمية البربرية بباريس إلى 37 صوتاً ثمّ إلى 44 صوتاً(29). وما تزال عملية الاختراع متواصلة لم يوضع لها حدّ بعد.

ويبدو أن البعض سئم من هذا الاختراع المتواصل, والتعديل التعسّفي الذي لا نهاية له. وخشي أن الأمر إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه, وأن الأمازيغية, ستتحوّل من جراء ذلك إلى لغة مخبرية مصطنعة.

فخط التيفيناغ خط قديم, شأنه شأن الخطوط العربية القديمة, حروفه منفصلة عن بعضها, لا تواصل بينها, والكتابة بها بطيئة, وتكتب في كل الاتجاهات. وبيّنت إحدى الدراسات القائمة على المقارنة في كتابة نص بخطوط ثلاثة "أن المكتوب بالخط العربي أقلّ كلفة في الجهد, وأكثر اقتصاداً في الورق من المكتوب بالتيفيناغ واللاتينية"(30).

وكل هذا يشير إلى أن مشروع إحياء "خطّ التيفيناغ" محكوم عليه بالفشل, وأنّ عملية إنعاشه في مخابر الأكاديمية البربرية بباريس لا جدوى منها. وقد رأى البعض في هذه العملية المصطنعة مجرد تغطية لأغراض مبيّتة بدليل وجود توجّه يدعو صراحة إلى تبنّي الخط اللاتيني على غرار تركيا, لكونه أكثر ملاءمة لروح العصر. والمعروف أن غلاة المتمزّغين يتعاملون بالفرنسية لا بالأمازيغية, يكتبون بها مختلف أبحاثهم وأعمالهم الثقافية. وهذا يعني كما قال أحدهم: "أن اللغة الأمازيغية تكون عطاء لا غير, في انتظار إثبات عجزها, وعند ذلك يلتجأ إلى الفرنسية, على اعتبار أن مشاكلها المادية محلولة, وخطها جيّد ومنمّط, وأن لها باعاً كبيراً في الوسط الجزائري, فإذن لا بدليل عنها"(31), بل إن الكثيرين من المهتمّين بالأمازيغية يرون أن كتابة الأمازيغية بالحروف اللاتيتية لا يراد منه خدمة "الأمازيغية", بل من ورائها أهداف استعمارية أخرى, وهي بقاء الحرف اللاتيني الذي تمثّله اللغة الفرنسية في الجزائر. ومن ذلك فنكون قد ساهمنا بهذا الحرف في خدمة اللغة الفرنسية"(32).

وأصحاب هذا التوجّه, مهما اختلفت مشاربهم, وتلوّنت مواقفهم, معروفون بعدائهم الشديد للعربية والإسلام. ومنذ أن استحكمت سياسة التطبيع في المنطقة, صاروا يردّدون جهرة(33):

ـ اللغة العربية لغة القرآن, لغة فرضت علينا, وليست لغتنا, والإسلام دين غريب عنّا.

ـ اللغة الفرنسية والفرنسيون أقرب إلينا من اللغة العربية والعرب.

هذه هي حقيقة المتمزّغين ومنظّري النزعة البربرية, فهم في الأعماق لا يؤمنون بأن هناك هويّة أمازيغية أو بربرية حقيقية. بدليل ما قاله أحد أقطاب التمزّغ "معطوب الوناس" في أحد تصريحاته الهوجاء "لو عُمّمت اللغة الفرنسية منذ سنة 1962 في الجزائر لما كانت اليوم قضية اسمها (تمازيغت)". فأين الإيمان بالهويّة الأمازيغية, وأين الانتماء إليها والتعلّق بها, أليست مجرّد شعار ملّفق ومفتعل لخدمة فرنسا وثقافتها وأهدافها الخبيثة في المنطقة.

ما هو أصل الكتابة البربريّة؟

كان اكتشاف الكتابة البربرية حدثاً مهمّاً في حدّ ذاته. استغلّته المدرسة التاريخية الاستعمارية, وسعت منذ البداية إلى ربط هذه الكتابة بما عرف من كتابات أروبية قديمة, فأجرت مقارنات مع كتابات إسبانية وأتروسكية (بإيطاليا) ويونانية وإيجيه (أهل بحر إيجه), وكانت النتائج مخيّبة للآمال, فلم يكن للكتابة البربرية أي شبه مع واحدة من تلك الكتابات العديدة, وتوقّفت المقارنة عند هذا الحدّ, فلم تخرج كما هو حال الكثير من قضايا شمال إفريقيا عن إطار العلاقة مع أروبا. وأثّر هذا على مجرى البحث طيلة العقود الماضية, وذلك بسبب تلك القناعات التي خلقتها المدرسة التاريخية الاستعمارية النافية بشكل مسبق لأيّ إمكانية أخرى للبحث والمقارنة خارج ذلك الإطار, ولذا أصيب الدارسون من أبناء المنطقة بالعجز عن تقديم الجديد في هذا الموضوع, وفي غيره من الموضوعات المهمّة. فمال بعضهم بحكم التوجّهات الطائفية إلى التهويش, كما هو الحال بالنسبة للزمرة المتفرنسة من القبائل, ومال بعضهم الآخر, تحت وطأة الاستسلام إلى الإرجاء, كما هو الحال في تونس, حيث نجد على سبيل المثال لدى السيد منصور غاقي شعوراً خفياً بالإحباط, من جراء خيبة الأمل في ما آلت إليه نتائج البحث في الكتابة البربرية, ولذا نجده, يقول: "لقد حاول العديد من البحّاث الخوض في هذا الموضوع, غير أن نتائج هذه المحاولات, بقيت إلى يومنا هذا هزيلة".

ويردف: "يبقى الملفّ مفتوحاً, ما لم نعثر على نوع آخر من النقائش...(34) وهذا الإرجاء يكشف عن روح الاستسلام, وعلى أن صاحبه ما يزال حبيساً لتلك القناعات المغرضة, وكان عليه وعلى غيره أن يحرّروا أنفسهم من ذلك القمقم, ويوسّعوا من دائرة البحث, وأن يجولوا بأبصارهم في كلّ الاتجاهات لا في جهة واحدة.

وكل هذا يدعونا إلى الخوض في موضوع الكتابة البربرية لمعالجته, في إطار جديد من العلاقات والبحث الموضوعي, بعيداً عن ترّهات المدرسة التاريخية الاستعمارية, وقناعاتهم الوهمية والمزيّفية, وبعيداً أيضاً عن حمّى البربرة المتمزّغة, وما تسبّبه من تهويش وتشويه للحقائق.

والبداية تكون بطرح سؤال مهمّ في مسار هذا البحث, يتعلّق بالكتابة البربرية نفسها (اللوبية ـ التيفيناغ), هل هي كتابة مستحدثة أم هي كتابة مشتقّة من كتابات أخرى؟ وإذا كانت مشتقّة فما هي هذه الكتابات التي اشتقّت منها؟

ما نملكه من معلومات متنوّعة عن المنطقة وتاريخها القديم, وما قمت به من مقارنات واسعة في عالم الأبجديات يجعلني أجزم بأنّ الكتابة البربرية ليست مستحدثة. وأنّ البربر لم يستنبطوها, حتّى أننا نجد لديهم عزوفاً واضحاً عن التعامل بها, وهو عكس ما نعرفه عن بعض الشعوب الأخرى التي استنبطت فعلاً نوعاً من الكتابة, استعملته في التدوين وفي المسائل الرسمية وفي كل ما أنشأته من علم وأدب وفن.


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :