عنوان الموضوع : سلسلة أبطال البربر ( سانت أوغيستان ) ج 2
مقدم من طرف منتديات العندليب
تهت... ورحت مع كل ريح» هكذا اعترف أغسطينوس. رياح عاتية تهب عليه من كل صوب، وتتلاعب به لجب البحر الهائج المضطرب الذي لا يسلم منه إلا من جاءه العون من الأعالي لإيصاله إلى شاطئ السلام والطمأنينة.
في التاسعة عشرة من عمره عكف على دراسة «شيشرون»، إذ بطريق الصدفة وقعت بين يديه محاورة «هورطانسيوس» «Hortansius»أو «De Pholosophi» «عن الفلسفة» لشيشرون الروماني (ولد 106 ق.م) الخطيب والفيلسوف الشهير. والحوار هذا عو عبارة عن تمجيد الفلسفة التي حاول أن يقلل من قيمتها «هورطانسيوس»، فحاول شيشرون أن يحببها لقلوب الرومان وحثهم على دراستها لأنها السبيل للوصول إلى الحق كما يقول شيشرون. فاتجهت نفس الإفريقي هذا نحو طلب الحكمة والسعي وراء الحق والبحث عن اليقين الذي ما بعده يقين، معتمداً في ذلك على قدرة عقله وإدراكه البشري. وتأثر بكتاب آخر لشيشرون هو «De Finibous Bonorum et Malorum» حدود الأعمال الخيرية والشريرة.
ويقع هذا الكتاب في خمسة أجزاء، ويعتبر من أهم كتابات شيشرون الفلسفية. إنه عبارة عن مقاومة بين المدارس الفكرية المختلفة (الأبيقورية والرواقية والمشائية) بخصوص موقفها من قضية الخير والشر. فاتجهت بهذا نفس الفتى أغسطينوس المتعطش لطلب الحكمة, فصار يروي ظمأه منها بدل الاقتصار على طلب اللذة والشهوة الصارخة في أعماقه، فاشتد الصراع في داخله بين حب اللذة وحب الحكمة، إلى أن وقع تحت تأثير شيعة المانويين. ويحدثنا بنفسه في كتابه «الاعترافات» عن إنزلاقه ووقوعه في فخ هذه البدعة، قائلاً: «طول تلك السنوات التسع الممتدة بين سن التاسعة عشرة والثامنة والعشرين من عمري كنا فريسة لشهوات مختلفة. كنا نغري الناس ويغروننا ونخدعهم ويخدعوننا، تارة علناً بواسطة العلوم وطوراً سراً تحت شعائر الدين الكاذبة».
هكذا قضى أغسطينوس تسع سنوات يتجرع فيها أفكارهم المسمومة وفلسفتهم الكاذبة مترنماً معهم الأنشودة التي ينشدونها كشعار وإقرار لإيمانهم التي تقول: «ربي هبني عفة الحياة، ولكن ليس الآن».
وشيعة المانوية تنتسب إلى ماني بن فاتك الذي ظهر زمان سابور بن أردسير (215-276) في بلاد الفرس. وقد قال ماني بأنّ العالم هو تحت سيطرة قوتين هما الخير والشر. وزعم أنّ العالم مصنوع من أصلين أحدهما النور والآخر الظلمة، وأنهما أزليان حتى ذهب أصحاب هذه البدعة إلى القول أن ليس في وسع المرء أن يخلص من هاتين القوتين، وبهذا وجد أغسطينوس ما يبرر سلوكه الشهواني الفاجر فكان هذا المذهب كفيلاً بإشباع حاجته المزدوجة: السعي وراء بلوغ اليقين والركض من إشباع نفسه باللذة والشهوة الجسدية. إلى أن فطن لهذا المذهب بسبب الإشكالات التي يطرحها دون أن يقدم أي جواب لها. فبدأ الشك يراوده بالنسبة لصحة العديد من تعاليم شيعة المانوبة، إلى أن اهتدى إلى كتب الشكاك (الاحتمالية) من رجال الأكاديمية الجديدة التي يقول أصحابها أنه من العسير على المرء أن يتوصل إلى معرفة يقينية ثابتة غير قابلة للجدل والشك، فكانت هذه النطرية موآتية لحالة أغسطينوس النفسية. فعكف على قراءة كتبهم والتنقيب فيها ومناقشة آرائهم، حتى ظن أنه اقتنع بفلسفتهم في استحالة الوصول إلى اليقين وضرورة الإقلاع عن كل بحث يستهدف المعرفة.
ابن الدموع :
كانت مونيكا كأي أم مؤمنة، تطمع في أن ترى ابنها يتخلى بأخلاق حميدة وحياة طاهرة سامية وتواقع في أن يصبح فلذة كبدها مؤمناً سالكاً طريق الإيمان الصالح في الخير والهداية. فلقنته وهو بعد صغير كل ما كانت قادرة عليه من مبادئ الإيمان بالمسيح التي كانت تعرفها. إلا أن كل تلك التعاليم لم تلج قلبه ولم يكترث لها على الإطلاق. فتاه الفتى وانجرف مع كل تيار وراح يسبح في ماء عكر ولم يقم وزناً لنصائح أمه ولا لتوجيهاتها الحكيمة وإرشاداتها القويمة الصادرة من قلب ينبض بالمحبة الفياضة والعاطفة الجياشة، إلا أنه اعتبر جميع نصائحها حسب قوله: خزعبلات نساء، وأنّ الديانة المسيحية لا تصلح لأمثاله بل للبسطاء أمثال أمه. فكان يسخر من تعاليمها وإيمانها المسيحي.
أما الأم المسكينة مونيكا فلم تستسلم لليأس والقنوط، بل تسلحت بتقوى الله والاتكال عليه بالصلاة والدعاء والتضرع له حتى تنتصر على ابنها في محبته. فكانت ترفع عينيها للسماء ودموع الأسى تنهمر على خديها وهي غير فاقدة الرجاء من رحمة السماء كي تشمل ابنها ليعي حالته المزرية التعيسة. كانت دموعها دموع صلاة ورجاء لا دموع حسرة وفقدان الأمل.
في أحد الأيام ذهبت الأم المسكنية تطلب الإرشاد والنصيحة من أحد رجال الله الأتقياء، وهو القديس أمبروز. فقصت عليه حكايتها وابنها الضال عن الحق، والذي بهرته التعاليم الكاذبة الفاسدة من حكمة هذا الدهر الفاني. فسألها رجل الله القديس أمبروز: «هل تصلين بدموع من أجل ابنك هذا؟» فأجابته: «نعم». فرد عليها قائلاً: «كوني مطمأنة ولا تقلقي عليه، لأنّ ابن الدموع لا يمكن أن يضيع». وبكلمات معزية شدد القديس أمبروز عزيمتها، وطلب منها أن لا تكف عن الصلاة في طلب الهداية واللطف الإلهي من أجل ولدها، وأن لا تستسلم لليأس والضجر والقنوط. وهكذا استمرت تصلي من أجله إلى أن قادته العناية الإلهية إلى حظيرة الإيمان والسبيل المستقيم الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية.
صلاة أغسطينوس:
أواه... ترأف عليّ أيها الرب، أنا الفقير... انظر إلى قروحي فها هي مكشوفة لديك. أنت الطبيب وأنا المريض.
ترك أغسطينوس قرطاجة بعد وفاة باتركس والده وعاد إلى مدينته بعد أن أنهى تعليمه العالي. وكان عليه في هذه الأثناء أن يكسب لقمة عيشه بنفسه. فعمل كمعلم لمدة ثلاث عشرة سنة وبدأ أولاً في مدينته «تاغسطا». وقد كانت أمه متخوفة جداً بسبب اعتناقه المانوية وانحرافه عن الحق والصواب ثم بعدها عاد إلى قرطاجة واشتغل هناك لفترة وجيزة يدّرس فيها علم البلاغة وفن الخطابة. لكن العمل في قرطاجة لم يرقه، فصمم على الرحيل إلى مدينة المجد روما، المدينة التي بوسعه أن يصل فيها إلى قمة المجد بسرعة ويحقق أحلامه فيها، كما اعتقد.
هناك بدأ يراوده الشك في تعاليم المانوية وصحتها. كما تغلب على آراء رجال الأكاديمية الجديدة (الشكاك). وقد كانت تعاليم الأفلاطونية المحدثة مساعداً كبيراً في حل الكثير من مشكلاته العقلية. فوجد فيها ما يشبع نزعته العقلية التي تنشد اليقين وتبغي المعرفة. كما أنها اقتربت به من عتبة الكنيسة المسيحية. فمهّدت أمامه السبيل للاقنتاع بالإيمان المسيحي، مع العلم بأنّ الأفلاطونية المحدثة وحدها لم تشبع جوعه ولم تهدئ من الصراع القائم في داخله. فالصراع القوي بين المادة والروح كان يهزه هزاً في أعماقه، فلم تعرف روحه المضطربة طعم الراحة والسكينة آنذاك .
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :