عنوان الموضوع : دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية : الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية اخبار
مقدم من طرف منتديات العندليب
الفصل الرابع : الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية، وإحلال ولاء الوطن محل الدين والعقيدة:
لأول مرة في تاريخ المسلمين تظهر كتابات تتكلم عن الوطنية وللمواطن والتغني بالوطن على حساب الدين.
لأول مرة في تاريخ الإسلام تحل رابطة الأرض والعرق والدم والقرابة محل الرابطة الدينية الإيمانية، ولما كانت القضية الوطنية تحتاج إلى سياج يحميها، نبش دعاة التغريب في تاريخ ما قبل الإسلام، من تاريخ الفراعنة والفينيقيين وبابل آشور...إلخ
لقد تكلم الطهطاوي عن تاريخ الفراعنة بفخر واعتزاز بغية تأكيد مفهوم الولاء والبراء على أساس الأرض والدم والقرابة، فتمجيد تاريخ ما قبل الإسلام كان لتأكيد مصطلحات الجاهلية الجديدة (الوطن/المواطن/الوطنية).
كانت هذه تقدمة لما سنتناوله في هذا الفصل الذي خصصناه لمناقشة هذه القضية التي تكلم الطهطاوي عنها في مؤلفاته وتعليقنا على آرائه المطروحة والمبثوثة في كتبه.
أولاً: الطهطاوي ومفهوم الوطن والوطنية:
يعرف الطهطاوي الوطن بأنه: "عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج ومجمع أسرته، ومقطع سرته وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، وربّاه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه"[1]
ويقول عن (حقوق المواطن) ثم إن ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً، ينسب إليه، تارة إلى اسمه فيقال: مصري مثلاً، أو إلى الأهل فيقال: أهلي، أو إلى الوطن فيقال: وطني، ومعنى ذاك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على اجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمزي بالمزايا البلدية، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة. وقد كان أهالي غالب الأمم محرومين من تلك المزية، التي هي من أعظم المناقب"[2]
ويتحدث عن واجبات الوطن: "فالوطني المخلص في حب الوطن يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ببذل جميع ما يملك، ويفديه بروحه، ويدفع عنه كل من تعرض له بضرر كما يدفع الوالد عن ولده الشر، فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائماً متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئاً مما يخل بحقوق أوطانهم وإخوانهم، فيكون ميلهم لما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي عن ابنه جميع ما يضره، لما فيه هذه الصفات، فحب الأوطان وجلب المصالح العامة للإخوان من الصفات الجميلة التي تتمكن من كل واحد منهم محبوباً للآخرين، فما أسعد الإنسان الذي يميل بطبعه لإبعاد الشر عن وطنه ولو بإضرار نفسه، فصفة الوطنية لاتستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه للوطن، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه"[3]
ويتكلم عن الأخوة في الوطن: "الأخوة الوطنية: فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الإخوة الوطنية فضلاً عن الأخوة الدينية، فيجب أدباً لمن يجمعهم وطن واحد: التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن وإعظامه وغناءه وثروته، لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السوية"[4]
نلاحظ تبني الطهطاوي للمفهوم الأوروبي للتعريف بالوطن "للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا، الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر، فكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدهيم هذا المفهوم الجديد للوطن"[5] وهذا سر اهتمام الطهطاوي بتاريخ ماقبل الإسلام وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.
ثانياً: تمجيد الطهطاوي لتاريخ الفراعنة:
تحت عنوان حضارة مصر القديمة يقول الطهطاوي: "فقد أجمع المؤرخون على أن مصر عظم تمدنها، وبلغ أهلها درجة عليا في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وإن آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرناً يشاهدها الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج، مع تنوعها كل التنوع، وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة الملوكية. وفيها بيت فرعون، وهو قطعة واحدة من الحجر وسقفه وفرشه وحيطانه من الحجر الأخضر، وكان لها سبعون باباً، وهي مدينة المملكة المصرية، وكانت منازل الملوك من القبط الأولى والعماليق ومسكن الفراعنة، ومازال الملك بها إلى أن ملك الروم اليونان ديار مصر، فانتقل كرسي المملكة منها إلى الإسكندرية ومع ذلك لم تزل عامرة إلى أن جاء الإسلام، ثم خربت، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سرير الملك وكانت أربعة أنهار"[6]
ويستمر الطهطاوي في مدح الفراعنة:
"والمصريون من قديم الزمان كانوا منقادين للحكم الملوكي، فكانوا مطيعين لملكهم، وكان الملك منقاداً أيضاً لقوانين المملكة وأصولها، وكانت حكماء مصر تذكر الملوك دائماً بالحقوق والواجبات، وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية، وتعلن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والآداب والمواعظ، والتواريخ، وكل مايرشد إلى العدل والإستقامة. وكانت مصر منقسمة إلى عمالات (أي محافظات) وعلى كل عمالة حاكم فهذا التقسيم قوى شوكة أمناء الدين وجعلهم مختصين بممارسة العلوم، وبتقنين القوانين الملكية، وبنفوذ الكلمة في الحكومة[7]
"وأما الديانة عن المصريين فكانت أيضاً مرتبة إذ كان أمناء دينهم يعتقدون ألوهية الذات العليا، وكان لهم أسرار عجيبة، فكانوا لايظهرونها إلا لقليل من الناس، وكان عامة الناس يعبدون الأوثان، ومنشأ عبادتها عندهم أنهم كانوا يؤلهون كل من اخترع أمراً غريباً من قانون أو علم أو فن، فكانوا متقدمين في الهندسة والمساحة والآلات الهندسية كعلم الجغرافيا والنجوم[8]
ويقول في مدح قوانين الفراعنة:
"وكانت قوانينهم تميل إلى الحث على العمل، فقطع عرق البطالة والغش والتدليس، وغير ذلك من الموبقات، فمن هذا يفهم تقدمهم في التمدن، وأن مملكتهم في الأزمان السالفة كانت عادلة محترسة مستنيرة بالمعارف"[9]
وفي تعليقه على قصة نبي الله يوسف عليه السلام يقول مادحاً قانون الفرعون:
"ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة"[10]
ويضيف أيضاً فمنه يعلم أنه كان بمصر إذ ذاك أحكام عادلة وحدود مشروعة خالية من الأغراض والنفسيات وهي نتيجة التمدن التام"[11]
أقول: لكن لماذا سجن نبي الله يوسف عليه السلام إذا كانت أحكامهم عادلة؟!
ألم يقل عزيز مصر وحاكمها لما تأكد من براءة نبي الله يوسف عليه السلام كما يقول القرآن الكريم: (فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم. يوسفُ أعرضْ عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)[12]
فبعد أن تحقق حاكم مصر من صدق يوسف عليه السلام وكذب زوجته يقول لزوجته (إنه من كيدكن).. (إن كيدكن عظيم).. ثم يقول للبرئ آمراً ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع (يوسف أعرض عن هذا).. ثم يقول العزيز لزوجته بكل هدوء ولين شأن أصحاب القصور وأهل الحكم (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين).. ويتمادى القوم في غيهم وظلمهم ليوسف عليه السلام فيضعونه في السجن بعدما رأوا الآيات : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).. يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على هذه الآية: (يقول تعالى ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه وعفته ونزاهته. وذكر السدي أنهم سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها)[13]
ثم يأتي الطهطاوي بعد ذلك ليقول : "ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة".. فأي عدل هذا وأي تمدن هذا الذي يتكلم عنه الطهطاوي والقوم قد سجنوا البرئ؟!!
ويقول مادحاً فرعون مصر رمسيس:
"من المعلوم أن من أسس في مملكة مصر السعادة والسياسة والأمنية وحفظ حقوق الرعية هو الملك رمسيس الذي اشتهر باسم سيزوستريس وهو الذي شيد في مصر القصور الشامخة والهياكل السامية المنافسة للأطواد الراسخة، واتخذ ما يلزم للوطن من الجسور والقناطر والخلجان، ولم يفارق الدنيا حتى ترك مصر على غاية من الثروة والغنى والسعادة والهنا وكل إنسان شاكر لفعله وعلى تداول الأزمان لازال التاريخ يثني على شمائله وجميل خصاله"[14]
ويزيد في مدح فرعون مصر:
"فكان هذا الملك في الحقيقة فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها، اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان، لأنه أول ملك مصري قربهم إلى بلاده، واستمال قلوبهم بتوظيفهم لرئاسة أجناده وخالف عوائد أسلافه، وعامل يونان وآسيا وأوروبا بأخص استعطاف وأقطعهم الإقطاعات من الأراضي المصري، و سوى في الحقوق بينهم وبين الجنود في الوطنية"[15]
من خلال هذا التصور الجديد للوطن والوطنية ضرب الطهطاوي أمثلة للأسوة والقدوة من تاريخ الفراعنة وتعظيمه لفرعون مصر (فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها)!! فأي فخر هذا لملك يفرط في أرضه ويدخل الأجانب ويمنحهم هذه الامتيازات على حساب شعبه وأبناء جلدته!!
فهذه دعوى الجاهلية الأولى، ولسنا نتقول على الرجل بل هذه أقواله شاهدة على آرائه الغريبة على عالمنا الإسلامي!! فالطهطاوي لم يكتف بتحسين التاريخ الفرعوني بل تمادى في إطرائه لدرجة أنه مدح ديانة الفراعنة كما ذكرنا آنفاً.
تأمل! هذا الإحياء الجديد لهذه الرمم التي عفا عليها الزمن. إنها دعوى للفرعونية وبعثها من جديد لتأكيد مفهوم الوطن والوطنية والعودة إلى العصبية للأرض والقرابة أي دعوة إلى عدم اعتبار رابطة الإسلام والإيمان التي دعا إليها القرآن الكريم (إنما المؤمنون أخوة)
وتكمن خطورة الطهطاوي في كونه عالماً أزهرياً يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكثير من أبيات الشعر، مما يسهل مهمة تلبيس الحق بالباطل، وهذا نجده واضحاً في قوله:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، علا مطيته، واستقبل الكعبة، وقال:
(والله لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله تعالى، ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجت"[16]
أقول: هذا الحنين إلى الديار أمر فطري لاجناح عليه، ولايتناقض وعقيدة الولاء والبراء في الإسلام، لكنه في حالة تعارض الولاءات، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم ولاء العقيدة والإسلام على ولاء الأرض رغم أن مكة خير بقاع الأرض، فهنا انتصر ولاء العقيدة على ولاء الوطن، ومن قبل فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما تعارض ولاء الأبوة والرحم مع ولاء العقيدة قال تعالى: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)[17]
وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)[18]
وقد كان هذا منهج الصحابة رضوان الله عليهم؛ ففي غزوة بدر تباينت الولاءات، وتمايزت البراءات، فالمهاجرون يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم من المشركين، وهم بنو وطن واحد، وعشيرة واحدة، بل وعائلة واحدة، فهذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يقتل أباه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقتل خاله، فانتصر ولاء العقيدة على ولاء القرابة والدم والأرض.
وهذا عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي كان حليفاً لليهود يعلن ولاءه لله ورسوله ويتبرأ من حلفائه من يهود بني قينقاع الذين غدروا ونقضوا عهدهم إذ يعلن على الملأ براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ورسوله قائلاً: (يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله).
هكذا عندما تعارضت مصلحة العقيدة مع المصلحة الشخصية قدم عبادة بن الصامت ولاء العقيدة وأسقط تحت قدميه ولاء المصلحة الشخصية.
وقد أفاض القرآن الكريم في هذه القضية وركز على ولاء العقيدة والإيمان فقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)[19]
(ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لايهدي القوم الظالمين)[20]
لكن الطهطاوي يتغافل عن هذه الآيات البينات في عقيدة الولاء والبراءة ويضرب بها عرض الحائط ويضّيق المفهوم الواسع للولاء والبراء في العقيدة الإسلامية وينادى برابطة جديدة تحل محل رابطة الإسلام.
"ولكي يفصل القرآن مبدأ (الولاء) الذي هو مبدأ أساسي في سياسة الأمة الإسلامي، ويبرر أسباب ما يراه فيه فيقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون)[21]
فالآية الأولى تحدد من يكون له الولاء والمودة. وهم الله ورسوله، والمؤمنون الذين يباشرون العبادة والطاعة لله. والآية الثانية تعد بنجاح التماسك في الأمة على أساس مثل هذا الولاء. ثم يستطرد القرآن مبرراً لما حدده هنا فيقول:
(ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعباً ذلك بأنهم قوم لايعقلون)[22]
فقد اعتاد الفريقان أن يسخرا من الصلاة عندما يؤذن لها. وسخريتهم من دين المؤمنين على هذا النحو يعبر عن عدم احترامهم للمؤمنين. وليس من حسن السياسة أن يكونوا هم وأهل الكتاب والمشركون على السواء، موضحاً: أن منع المؤمنين والمؤمنات من أن يكون لهم ولاء لغيرهم: يكون الإنسان موالياً أو صاحب ودّ وصداقة لمن لايحترمه، ولمن يسئ إليه فيما يعتقده.
وكما ينهى القرآن عن أن يتجاوز المؤمنون والمؤمنات بولائهم أو صداقتهم وودهم: إخوانهم في الإيمان، إلى غير المؤمنين من أهل الكتاب والمشركين ممن اعتادوا أو ممن شأنهم أن يسخروا من المؤمنين ومن دينهم على السواء، ينهي أيضاً عن أن يتخذ المؤمنون والمؤمنات (خاصة) و(مستشارين) من غير المؤمنين، فيقول: (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما تعملون محيط)[23] ، وإذا كان القرآن يبرر ما يدعوا إليه المؤمنين والمؤمنات من قبل: من عدم الولاء لغيرهم، بسبب سخرية هؤلاء لدين المؤمنين واستهزائهم بما يؤدونه من عبادة، فإنه يبرر دعوته الثانية إلى المؤمنين والمؤمنات بعدم اتخاذ (بطانة) و(خاصة) و(مستشارين):
أ) بعدم تقصير هؤلاء من أهل الكتاب والوثنيين أو الماديين الملحدين ـ إذا ما أصبحوا بطانة للمؤمنين والمؤمنات ـ فيما يسبب الأزمات والشر والفساد لهم (لايألونكم خبالاً).
ب) وبالرغبة في التفتيش عما يشق على نفوسهم، ويسبب لهم العنت: (ودوا ماعنتم).
ج) وبانطواء نفوسهم على البغض والحقد (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).
د) وبالرغبة في الانتقام منهم: (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ).
هـ) وبأن نجاح المؤمنين يسوؤهم.. بينما يسعدهم اخفاقهم (إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها).
وقد بلور القرآن ما دعا إليه المؤمنين والمؤمنات من مواقف في سياستهم مع غيرهم على الأخص في قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق)[24]، هم في واقع أمرهم أعداء للممؤمنين وأعداء لله جل جلاله لأنهم جميعاً يكفرون بالقرآن كآخر رسالة سماوية. وقد حذر القرآن المؤمنين بعد أن كفر أعداؤهم بما جاء إليهم من الحق، وهو القرآن الكريم: من أن يمدوا إليهم يد الولاء والمودة.. أو أن يتخذوا منهم خاصة وبطانة لهم. لأن نفوسهم تنطوي على البغض والحقد، لأنهم إن صادقوكم وانفردوا بكم يكشفوا لكم عن عدوانهم وتمتد أيديهم إليكم بالسوء، كما تمتد ألسنتهم، ونهاية مطافهم معكم: أن تعودوا كفاراً وتتحولوا إلى أن تكونوا أتباعاً لهم (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)[25]، فهل يعي المؤمنون سياسة القرآن بالنسبة لأمتهم في تماسكهم.. وبالنسبة لأعدائهم في عدم موالاتهم، واتخاذ بعضهم خاصة له؟. ما أصاب المسلمين بالأمس.. وما يصيبهم اليوم أو غداً، هو بسبب عدم اتباعهم لسياسة القرآن.. وبقائهم مع حزب الشيطان فياتباع سياسة الهوى والشهوة"[26]
من منطلق هذا المفهوم الجديد للوطن، أعلن الطهطاوي عداءه للخلافة العثمانية، وتغنى ببطولات محمد علي باشا، وأشاد بانتصاراته على العثمانيين وفي ذلك يقول: "وحروبه مع والي عكا معلومة، وجولان جنوده في الشام، وغير الشام مفهومة، ولم تكن من محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود، إذ جل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، والدليل على حسن النية أن هذه الحسنة التي على صورة الجنية، أنتجت أصل وارثي مصر، التي ترتب عليها رفع الإصر"[27]
"ولولا بقاؤه (يقصد محمد علي باشا ت: 1849) تحت ولاء الدولة العلية، ومراعاة حفظ الحالة الراهنة عليه من الراجحية والمرجوحية، لجال في الفتوحات الخارجة مجال اسكندر الأكبر"[28]
ويشيد محقق الأعمال الكاملة بهذا الفكر التقدمي! لرفاعة الطهطاوي فيقول: "فهو هنا يقدم فكراً محدداً يرى في العمل العسكري الذي مارسه الجيش المصري ضد العثمانيين، وحرر به أغلب أجزاء المشرق العربي، عملاً لا يدخل في إطار (العبث) أو(التعدي) وإنما هو تنبيه الأمة وإيقاظها من نومها ورقودها، فيا للكهف المظلم للأتراك العثمانيين، هو فكر قومي عربي لانطلب من الطهطاوي أكثر منه في ذلك التاريخ وتلك الظروف[29]
وانتشرت عدوى الفكر الطهطاوي في عقول أمتنا؛ فيقول أحدهم في معرض مدحه لحرب محمد علي باشا ضد الخلافة العثمانية: "ونحن في نوفمبر 1831 ها هو محمد علي يرسل ابنه إبراهيم على رأس جيش إلى فلسطين، وهاهو الجيش يتقدم بسرعة من فلسطين إلى باقي أجزاء الشام ـ في تلك الفترة كان لفظ الشام يعني فلسطين ولبنان وسوريا"[30]
ويقول مادحاً الفلاح المصري: "الآن يتحول الفلاح نفسه إلى مقاتل منظم في جيش حديث، يهزم الإمبراطوية التي حكمته من قبل ثلاثة قرون"[31]
من منطلق المفهوم الجديد للوطن نادى الطهطاوي بتقعيد اللهجة العامية والاعتناء بها، وحقق مشروعه بتعريبه لصحيفة (الوقائع المصرية) وتشجيعه للكتابة العامية: "وموقف الطهطاوي من اللهجة العامية جدير بالتأمل والدراسة، فقد كان الرجل يستخدم مصطلحاتها عند الترجمة إذا أعوزه المصطلح الفصيح، ويقدم المصطلح العامي على المصطلح المعرب، كما استخدم الكثير من ألفاظها في تأليفه.. وهو قد تحدث عن أهمية تقعيد قواعدها والإستفادة منها في تعليم الصناعات لأبناء الشعب، فقال: "إن اللغة المتداولة في بلدة من البلاد، المسماة باللغة الدارجة، التي يقع بها في المعاملات السائرة، لامانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها، وأصول على حسب الإمكان تربطها، ليتعارفها أهل الإقليم، حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيه كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية"[32]
وقد كان الطهطاوي عملياً فكتبه زاخرة بهذه الألفاظ العامية.. ونلاحظ ذلك جيداً في مجلة الوقائع التي كان يشرف على تحريرها وتطوير أسلوبها حيث غلبت عليها العامية المصرية.. وهكذا سن الطهطاوي سنة الكتابة بالعامية المصرية في الصحف التي صدرت في وقته وصار الخلف على نفس السنة الطهطاوية إلى وقتنا الحاضر.
أقول: أود أن أشير إلى أن هناك بعض المحاولات قد جرت للكتابة بالعامية بعد الطهطاوي عن طريق نقل أعمال من التراث العالمي أو من الأعمال الأدبية الكلاسيكسة كمسرحيات شكسبير إلى لهجتنا العامية: "مثل تجربة محمد عثمان جلال لتعريب أعمال من التراث الكلاسيكي الفرنسي للقرن السادس عشر. إذ قام في نهاية القرن التاسع عشر بنقل مسرحيات المؤلف الكوميدي موليير إلى العامية المصرية؛ فترجم أربع مسرحيات هي (تاتوف) وقام يتعريبها بما يتلاءم مع البيئة الثقافية والإجتماعية المصرية، واعطائها عنوان (الشيخ متلوف) وكذلك مسرحية (النساء العاملات) ومسرحيات أخرى من هذا التراث الفكاهي الساخر. ولم تقف تجربة محمد عثمان جلال عند تعريب التراث الكلاسيكي الكوميدي، بل أقدم على ترجمة وتعريب مسرحيات (راسين) التراجيدية، وجاءت الترجمة لمسرحية (ايستير) و (ايفيجيني) كذلك في صورة أشعار زجلية. وفي نفس هذه الفترة شرع (وليام ولكوكس) بترجمة مقتطفات من روايتي (هنري الرابع) و (هملت) لشكسبير إلى العامية المصرية ونشرها عام 1893م ولكن في أغلب الظن لم يكن ولكوكس يفكر في نقل ما كان يقدمه إلى خشبة المسرح، بل كان هدفه الأساسي هو تعضيد رأيه أن العامية هي أداة التعبير التي يجب على المصريين تبنيها والكتابة بها لجميع أغراض الإتصال"[33]
وتعتبر جريدة (أبو نضارة) أول صحيفة هزلية تكتب بالعامية تنتقد حكم الخديو إسماعيل المتوفى 1879، وهذه الجريدة أسسها جمال الدين الأفغاني المتوفى 1897م الذي يلقب برائد اليقظة في الشرق! وتجاوب معه يعقوب صنوع والشيخ محمد عبده[34] في تحرير هذه الجريدة.
وانتشرت الكتابة بالعامية على نطاق واسع وهناك محاولات مستميتة لإقصاء اللغة العربية من حياة الناطقين بها. لكن الفصحى لم تزل والحمد لله تشغل وظائف الإتصال الأكثر رسمية كتابية كانت أو شفهية، ولم تزل هناك مجالات عملية لاتستخدم إلا الفصحى كالخطابة وحتى الكتابة الإدارية ونقل المعلومات العلمية ووسائل الإتصال الحديثة التي تنقل هذه المعلومات لا تترجم إلا بالفصحى وطالما كان القرآن حياً لم يرفع من صدور الناس بعد فلن تموت الفصحى مهما حاول أعداؤها الذين يتسترون بالعامية القضاء عليها!!
أما عن العلاقة بين الوطنية وتمجيد ماقبل الإسلام: لقد كان من لوازم مفهوم الوطنية أن نبش الطهطاوي في تاريخ ما قبل الإسلام وإحياءه نعرات الجاهلية كالفرعونية، واعتبارها امتداداً طبيعياً لتاريخ المصريين مع الحض على تعظيمها، مما أدى فيما بعد إلى إحياء طقوس حرمها الإسلام وأبطلتها الشريعة الإسلامية الغراء كالإحتفال بيوم وفاء النيل وتقديس الحجارة والمقابر الفرعونية.
وكان من ثمرة ذلك الفكر من الناحية التطبيقية انشاء مدرسة اللسان المصري القديم (اللغة الهيروغليفية) وكان ذلك عام 1879م وكان مديرها الألماني (بروكش باشا) ومنها تخرج أحمد كمال باشا المولود 1851 والمتوفي 1923م وهو أول مصري حمل لواء علم الآثار الفرعونية القديمة وأول مصري يتقن هذا الفن الحديث فهو العربي المصري الأول الذي تلقى هذا العلم من أثري الغرب وعربه وأقام له فلسفة واضحة. وله موسوعات وأبحاث في قواعد اللغة الهيروغليفية وقاموس بمفرداتها.
وقد استطاع هذا الرجل أن يحمل الحكومة المصرية على تعليم اللسان المصري لبعض الطلبة المصريين وقد تخرج على يديه مجموعة من أزكي تلاميذ مدرسة المعلمين: مثل سليم حسن عالم الآثار المشهور المتوفى سنة 1961م وسليم حسن هو مكتشف أول مقبرة في الدولة الفرعونية القديمة وهي مقبرة (رع ور) الكاهن الأكبر للوجهين البحري والقبلي. وهو مكتشف الهرم الرابع للجيزة وصاحبته هي الملكة (خنت كاوس) أول مصرية تحمل لقب الملوكية كما يقولون!! ومحمود حمزة ورمسيس شافعي وغيرهم من علماء الآثار المصريين.
ومع ظهور كشوف مقبرة الملك (توت عنخ آمون) عام 1922م تفرعنت الصحف المصرية وظهرت الدعوة إلى احياء طابع الفرعونية في المجتمع المصري.
وقد كان الإهتمام بهذه الحفريات والكشوفات بغية خلق تيار التشرذم والتجزئة في المنطقة، والقضاء على وحدة الأمة حيث سيهتم كل قطر بنفسه ويتقوقع داخل حضارته القديمة فيمجد المصريون الفرعونية، واللبنانيون الفينيقية، والعراقيون الآشورية وهكذا تحل ولاءات الجاهلية محل رابطة العقيدة والدين.
هكذا "نشأت فكرة الوطنية وقتذاك، فكرة تحاول أن تجمع الناس حول المطالبة بحقوقهم، ودعوة إلى الحرية وإلى هدم صرح الظلم والإستعباد. ثم تطورت الفكرة على أيدي أصحاب الثقافة الأوروبية، وبدأت تهاجم الرابطة الدينية وتعتبرها مصدر شر وتفرقة بين أبناء الجنس الواحد. فدعا هذا لفهم الجديد للوطنية إلى أن يهاجمها المتمسكون بالرابطة الدينية، ويعتبرونها خطراً يهدد وحدة الأقطار الإسلامية ويفرق كلمتها ويهدم تعاطفها ويضعف تكتلها، بما يعرضها للسقوط تحت أقدام الدول الأوروبية الطامعة، واحدة تلو أخرى"[35]
مما لاشك فيه أن هذه الأفكار (اتخاذ الوطن معبوداً من دون الله ) وإحلاله في الشعر والأناشيد محل الدين، وقد ظهر ذلك جلياً في قصائد زوج ابنته ـ صالح مجدي بك ـ الذي سار على منهج أستاذه الطهطاوي وحامل أفكاره والمدافع عنه.. وكما يقول د. محمد حسين: "وربما كان صالح مجدي من أسبق الشعراء في العصر الحديث إلى ترديد كلمات الوطن والوطنية في شعره بعد أستاذه رفاعة الطهطاوي. وله في آخر ديوانه خمس عشرة مزدوجة سماها (الوطنيات)، امتدح فيها سعيد باشا والي مصر، وعرضت عليه فأمر بتلحينها والتغني بها بمصاحبة الموسيقى العسكرية في المحافل والمواسم. وهو في هذه الوطنيات يشيد بالوطن محاولاً أن يغرس حبه في القلوب، ويتغنى بأمجاد الأجداد، ويفاخر بجيش البلاد، مبرزاً قوته، معتداً بشدة بأسه. ولكنه يربط ذلك شخصياً بشخص سعيد، ويجعله سبباً للتعظيم من شأنه وتحبيبه إلى أبناء جنسه، فمن ذلك قوله في الوطنية:
فامتداح الصدر غنوا ***** فهو للأوطان حصن
وهو للإيمان ركن ***** ولكم في الحتوف أمن
في ميادين الوقائع ***** في الوغى أنتم أسود
يا بني الأوطان سودوا ***** ولها بالروح جودوا
وادخلوا الأحياء وصيدوا ***** يا بني الأوطان هيا
خيموا فوق الثريا ***** واهجروا النوم مليا
واطعنوا الضد الأبيا ***** واجدعوا أنف الممانع"[36]
"من الواضح أن الصياغة ليست هي التي تلفت النظر في شعر صالح مجدي. فهو قليل الحظ من هذه الناحية، لا يقارن بشاعر كالبارودي. لكن الذي يلفت النظر في شعره هو هذا الوضوح المبكر للفكرة الوطنية، التي تعتز بمصر وجيش مصر، وتمتلئ حماساً للحرب والقتال في سبيل مجد الوطن ورفعته"[37]. لقد سار على هذا النهج شاعر النيل حافظ إبراهيم المتوفى 1932 إذ يقول في قصيدته التي نشرت في 15/12/1921م وهذه القصيدة على لسان مصر تتحدث بنفسها:
وقف الخلق ينظرون جميعاً ***** كيف أبني قواعد المجد وحي
وبناةُ الأهرام في سالف الدهـ ***** ر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشر ***** ق ودرَّاته فرائدُ عقدي
قل لمن أنكروا مفاخر قومي ***** مثل ما أنكروا مآثر وُلْدي
هل وقفتُمْ بقمّة الهرم الأكـْ ***** بر يوماً فرَيْتُمُ بعضَ جُهْدي
هل رأيتم تلك النقوشَ اللّواتي ***** أعجزتْ طَوْقَ صنعة التحدي
حال لون النهار قديم العهـ ***** ـد وما مسّ لونَها طولُ عهدي
هل فهمتم أسرار ما كان عندي ***** من علوم ٍ مخبوءة ٍ طَيّ بَرْدي
ذاك فن التحنيط قد غلب الدهـ ***** ـر وأبلى البلى وأعجز ندِّي
قد عقدتُ العهودَ من عهد فرعو ***** ن ففي مصر كان أولُ عقد
إنّ مجدي في الأولياتِ عريقٌ ***** من له مثل أُولياتي ومجدي
أنا أمُّ التشريعٍ قد أخذ الرّو ***** مانُ عنّي الأصولَ في كلِّ حدِ
ورصدتُ النجومَ منذ أضاءتْ ***** في سماءِ الدُّجى فأحكمتُ رَصْدي
وشدا (بنتئور)[38] فوق ربوعي ***** قبل عهد اليونان أو عهد (نجدِ)[39]
هكذا يتغنى شاعر فحل مثل حافظ إبراهيم بذلك المعبود الجديد الذي حل محل رابطة الدين والعقيدة!!
وهذا أحمد لطفي السيد[40] المتوفى سنة 1963 الذي يلقبه أتباعه بأستاذ الجيل يوجه رسالة إلى فتيان مصر بشأن الوطنية:
"يابني عليك مصرك لا ينفعك إلا مجدها، ولا يذلك إلا ضعفها، ولو قلّبت تاريخها حديثاً على قديم، لما وجدتها في الحقيقة مدينة إلى أحد من الناس، تدعوك الذمة إلى أداء الدين عنها. إنها كانت مطمع الطامعين، يأخذون منافعها بقوة السلاح، أو بقوة العقل، فما أنت مسئول إلا عنها، ولو أنفقت من عواطفك ومن نتائج جهادك العقلي والبدني مثقال ذرة على غيرها، في حين أنها أحوج ماتكون إلى ما أنفقت، لو سمتك بالعقوق. وكما أنك بين أقرانك لك شخصية تجب عليك رعايتها، فإن لوطنك بين الأوطان شخصية أيضاً رعايتها واجبة على أهله، وأن فناءك في إرادة الغير، واهتمامك بأن تكون في رق اختياري، شر من الرق الإضطراري، كذلك اهتمامك بتمجيد غير وطنك، والسعي في انجاحه دون بلادك نقص في وطنيتك، واحتقار لنفسك وأهلك وبلادك، وما الأمم الطبيعية إلا آكل أو مأكول. ولو جعلت وطنك شيوعاً بين من لا تتفق منفعته مع منفعتك دون أن تحدده بحدود بلادك، لكنت عديم الوطن، وحاشاك أن تجهل حقوق وطنط عليك"[41]
وكان أحمد عرابي المتوفى 1911 صاحب الثورة العرابية الشهيرة ضد الإنجليز يستعمل لفظ المصريين والأمة المصرية بمعناه الحديث ويعتبر من ليسوا من أهل البلاد سواء كانوا من الأرمن والأتراك، وسواء أكانوا من المسلمين أو غير المسلمين، أجانب لايحق لهم أن يحكموها وهو أمر جديد ـ على حد قول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى ـ لم يوجد له أثر في التفكير المصري منذ أن احتضنته الموجة المسيحية، وقد قال في هذا في جريدة الأستاذ التي أنشأها عبد الله النديم[42] المتوفى 1896 في بداية حكم الخديو عباس الثاني تحت عنوان (المسلمون والأقباط) مايلي: "هم أبناء مصر الذين ينسبون إليها وتنسب إليهم، لايعرفون غير بلدهمم ولايرحلون لغيرها إلا زيارة... ورغم تقلبات الدولية إخوان الوطنية يتزاورون تزاور أهل البيت ويشارك الجار جاره في أفراحه وأتراحه علماً منهم أن البلاد تطالبهم بصرف حياتهم في إحيائها بالمحافظة على وحدة الإجتماع الوطني الذي يشمله اسم مصري من غير النظر إلى الإختلاف الديني (الأستاذ ج1 ص749 وما بعدها"[43]
ويروي أحمد عرابي باشا[44] عن نفسه قائلاً:
"إنني فلاح مصري، وقد اجتهدت قدر طاقتي أن أحقق الإصلاح لوطني الذي أنا من أبنائه ومحبيه. لقد كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي مع نيل الحرية والعدل والمساواة للمساكين الذين أنا خادم لهم. فلسوء البخت لم يتيسر لي الغرض المقصود. وإنني مكتف بشرفي الشخصي الذي سوف يلازمني ماحييت ويبقى بعدي إذا مت. وسوف يرضيني دائماً أن أنادى بـ (أحمد عرابي المصري) فقط، وبغيرألقاب. لقد ولدت في بلاد الفراعنة وستظل أهراماتهم قبري. إن الأمة المصري بأسرها كانت معي، وصحبة لي، كما أني محب لها أبداً، فآمل أنها لاتنساني"[45] وفي مقالة بعنوان (دروس الوطنية التي أخذها مصطفى كامل من النديم) يبين د.عبد المنعم إبراهيم الجميعي أوجه الإختلاف بين مصطفى كامل وأستاذه عبدالله النديم:
"رغم أن مصطفى كامل[46] كان تلميذ عبدالله النديم ــ الذي نادى بأن تكون مصر للمصريين وفضل الوطنية المصرية عما عداها ــ فقد دعا إلى دعم تبعية مصر لتركيا وضرورة التمسك بالرابطة العثمانية بقوله: (يجب على المصريين أن يتمسكوا أشد التمسك بالرابطة الأكيدة التي تربطهم بالدولة العثمانية) بل وصل به الأمر أن طلب من السلطان ارسال جيوشه لاغراج الإنجليز منها واحتلالها باعتبارها ولاية عثمانية. كما أعلن في خطبة له بباريس بمناسبة عيد جلوس السلطان في 31 من مارس أغسطس 1895 (أن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن نجتمع حولها).
لقد كان الفرق شاسعاً بين سياسة النديم وسياسة مصطفى كامل تجاه الدولة العثمانية، فالنديم فضّل الولاء للوطنية عن الإرتباط بجامعة الدين وعندما تعارضت مصلحة مصر مع مصلحة الدولة العثمانية وقف النديم بجانب مصر، وهاجم سياسة الدولة العثمانية تجاه القضية المصرية، ورفض أن تتنازل مصر عن الإمتيازات التي نالتها بالستقلالها في شئونها الداخلية، بينما نجد مصطفى كامل يطلب من السلطان ارسال جيوش عثمانية لاحتلال مصر وإخراج الإنجليز منها"[47]
هكذا وضع الطهطاوي النطفة الأولى لتخريب الهوية الإسلامية ولتمزيق رابط الدين والعقيدة، فصار المسلم المصري يقاتل المسلم السوداني أو الليبي أو العراقي بحجة الدفاع عن الولاء الجديد: الوطن!!
المصدر موقع بوابتي
https://www.myportail.com/actualites-...-0.php?id=1998
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شكرا على الموضوع
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :