أثر الإيمان في بناء الشخصية
الأستاذ الدكتور التهامي نقرة
هذا المقال منقول من أعمال الملتقى الإسلامي المسيحي الرابع –تونس 21-26 أفريل 1986
والملتقى تحت عنوان "الحياة الروحية – مطلب يقتضي العصر تحقيقه-
وسوف أنقله لكم على حلقات متتالية
منهج العقيدة الإسلامية :
العقيدة هي اللبنة الأساسية في بناء الشخصية و عنها ينبثق الشعور و التطور و نمط السلوك و ليست مجرد معرفة ثقافية لما لها من وثيق الارتباط بالجوانب الفكرية و العاطفية و الخلقية التي تكيف نشاط الإنسان في شتى ميادين الحياة فرديا كان أم اجتماعيا حيث يعيش صاحب العقيدة معتقداته و يترجم عليها بأعماله في تصرفاته و في علاقته بربه و بالناس و بالكون الذي يعيش فيه.
و منشأ الاختلاف بين الناس في أنماط حياتهم و عقلياتهم و تصوراتهم هو اختلافهم في العقيدة التي شبوا و نشأوا عليها و تأثروا و عملوا بها .
و للعقيدة الإسلامية منهج متميز يقوم على التوحيد الخالص الذي دعا إليه كل المرسلين و يحترم طبائع الأشياء لأنه دين الفطرة التي فطر الناس عليها و لا يفصل بين العمل للدنيا و العمل للآخرة ولا بين العبادة و الأخلاق و لا بين الإيمان و صالح الأعمال .
فهي متصلة بنظام الإسلام الشامل الذي تنبني عليه النظرة الأخلاقية و الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و التشريعية و هي الأساس الفكري لعقلية المسلم و الأساس النفسي لسلوكه وهي منطلق السير و منبع المبادئ و مصدر القيم و مبعث الطاقات البشرية .
و لتأثير العقيدة في الحياة الإسلامية نراها تتخلل جميع القرآن و تحيط بجميع أحكام الإسلام أخلاقية كانت أم تشريعية لأنها إذا تجردت منها تعطل الجهاز المحرك عن حركته و أفقدته روحه و حيويته و قطعت شرايينه و أعصابه.
أما هذه الأحكام الإسلامية فتشمل العبادة التي تذكي شعلة العقيدة و تشعر المؤمن بموقعه من خالقه وتشمل الأخلاق التي تهذب النفس و قواعد السلوك التي تضبط خط السير و تحدد العلاقات و السمو الروحي الذي جعله الإسلام هدفا يسعى المسلم لبلوغه
كما تشمل النظام الاجتماعي الذي يتضمن أحكام الأسرة ووظيفة أفرادها و علاقات بعضهم ببعض و أسس التكافل و التضامن بين أفراد المجتمع و النظام الاقتصادي الذي يحدد طرق الكسب والإنفاق و مفهوم الملكية و قيودها و حقوق الناس وواجباتهم في شؤون المال و التصرف .
و النظام السياسي الذي يحدد العلاقة بين الراعي و الرعية و حقوق المواطنين في الدولة سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين و قواعد السلم والحرب و علاقة الدولة بغيرها من الدول .
فقد ارتبطت كل هذه الأحكام بالعقيدة ارتباط الروح بالجسد لتكون لها حياة عند التطبيق ولا تبقى أعمالا آلية أو طقوسا جامدة لا تثير المشاعر ولا توقظ الضمائر ذلك أن علوم الكون و الحياة و بالبحث المتواصل في ملكوت السماوات و الأرض لا تقل خطرا عن علوم الدين فالحاجز بينهما رقيق جدا بحسب سلامة القصد و نبل الغاية و علوم الحياة مساوية لعلوم الآخرة في خدمة هذا الدين و تجلية حقائقه و لكن مع الإيمان . قال الله تعالى :"قل انظروا ماذا في السماوات و الأرض وما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون" (يونس 1.1 ) .
فالحقيقة التي يستعرضها الإنسان لا تتحول من فكرة إلى شعور ولا يترجم عنها الشعور بالسلوك ولا تستقبلها الأجهزة التي تحولها إلى قوة و حرارة و نماء إلا بالإيمان. و الآيات الدالة على وحدانية الله و قدرته كثيرة مبثوثة في الكون معروضة للأبصار و البصائر في السماوات وفي الأرض و لكن يمر عليها التائهون الضالون صباح مساء فلا يرونها و لا يسمعون نداءها و لا يحسون إيقاعها العميق ولا ينتبهون إليها ولا يدركون مدلولها لان الإيمان الخالص يحتاج على يقظة دائمة تنفي عن القلب كل خالجة شيطانية و تذكر بكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في حركتها و سكونها لتكون كلها لله خالصة دون سواه
"وكأين من آية في السماوات و الأرض يمرون عليها وهم عتها معرضون" (يوسف 105).
إن لحظة تأمل في مطلع الشمس و مغيبها, لحظة تأمل في الظل الممدود ينقص بلطف أو يزيد, لحظة تأمل في الخضم الزاخر و النبع الروي و العين الفوارة, لحظة تأمل في النبقة النامية و البرعم الناعم و الزهرة المتفتحة و الحصيد الهشيم, لحظة تأمل في الطائر السابح في الفضاء و السمك السابح في الماء و الدود السارب والنمل الدائب و سائر الحشود و الأمم من الحيوانات و الحشرات و الهوام, لحظة تأمل قي هدأة الليل يتسمع فيها القلب البشري إلى إيقاعات هذا الوجود العجيب لكافية لارتعاشه بقشعريرة الإدراك الرهيب و التأثر المستجيب...
و قد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان قومه رغبة في إيصال الخير الذي جاء به إليهم و رحمة مما ينتظر المشركين.و الشرك أخفى من دبيب النمل و لكن الله العليم بقلوب البشر الخبير بطبائعهم و أحوالهم ينهي إليه أن حرصه على إيمانهم لن يسوق الكثرة إلى الإيمان ولا يجعلهم ينتفعون بدلائله المبثوثة في الآفاق و أن شأنهم في الإعراض عنها لعجيب وهي تبذل لهم بدون أجر و لا مقابل(سيد قطب :في ظلال القرآن) .
و ما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ( يوسف 103 )
و ما تغني الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون ( يونس 101 )
فالتفكر في خلق السماوات والأرض و في أنفسنا كما طالبنا بذلك القرآن الكريم لا ينفع غير المؤمنين لأنه عبادة و عبادة الله منزلة لا يرقى أليها المفسدون و المجرمون و أحلاس الشهوات وعشاق العلو في الأرض والكبر على الخلق والمغرمون بحظوظ النفس ورغبات العاجلة والذاهلون وراء مطالب العيش الذين يعرفون المادة وحدها ويجهلون ما وراءها. ومنهم أولئك الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون.......