عنوان الموضوع : عصر النهضة العربية للثالثة ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب

يعتبر الإصلاح صفة ملازمة لثقافات الأمم ، والفكرة الإصلاحية هي الصيغة النظرية التي عادة ما تلازم مراحل الصعود أو الانعطافات الحادة في تاريخها . ولا تشذ الفكرة الإصلاحية العربية عن هذه القاعدة العامة ، وبما انه لكل مرحلة خصوصيتها في هذا المجال ، فعادة ما تربط دراستها في التاريخ العربي المعاصر بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فهي المرحلة التي تميزت بتراكم البوادر الأولى للانتقال من السيطرة العثمانية إلى الاستقلال الذاتي، وكذلك الانتقال من التقاليد الإقطاعية العثمانية و الجمود الثقافي إلى الاحتكاك المباشر و غير المباشر بالثقافة الأوروبية المعاصرة .
لقد شكل عصر النهضة العربية مرحلة تاريخية مهمة بالنسبة للعرب ، نظرا لدوره الكبير والفاعل في تشكيل الوعي والتاريخ المعاصرين . ففيه تبلورت للمرة الأولى ملامح ما يمكن دعوته بالمشروع الإصلاحي الكلي أو العام للعالم العربي ، فيما يتعلق بتذليل جموده الخاص وآفاق خروجه منه والوسائل العامة والضرورية لمواجهة الغرب أو تحديه أو اللحاق به. وهي مكونات كانت تتشكل في ظل ظروف معقدة ولكنها متراكمة في مجرى تحلل الإمبراطورية العثمانية من جهة، وفي مجرى تبلور الكينونة العربية الحديثة. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى هذا "المشروع العام" على انه محاولة كانت ترمي إلى تحقيق تطور العرب في كافة المجالات السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية ، وفي هذا "المشروع" يمكننا رؤية الملامح العامة والجزئية أيضا لرغبة العرب بإصلاح أحوالهم والنهوض بها. وهي ملامح تكونت في مجرى تنامي الإدراك المتنوع لقيمة الإصلاح بدءا من فترة التنظيمات العثمانية ومرورا بمرحلة السيطرة الأوربية وتجزئته واستكمالا بمرحلة النهوض الوطني والنضال من اجل نيل الاستقلال (1) . ففي هذه المراحل التاريخية الكبرى والحاسمة لحد ما بالنسبة لتاريخ العرب المعاصر كانت تتراكم التحولات الاجتماعية والفكرية والسياسية ، وما ترتب عليها أيضا من إدراك مناسب لقيمة وأهمية الفكرة الإصلاحية .
إن التجربة الذاتية والاحتكاك بالأخر عرّف العرب بأن النهضة هي الآلية التي سيتم عن طريقها تقدمهم. وهي آلية يمكنها أن تهيئ لحالة يستطيع فيها المجتمع التخلص من المعوقات والقيود التي تعرقل تقدمه . وخلال تلك الفترة تم تأسيس خطاب عصر النهضة. وهو خطاب يمكن الاتفاق مع الصيغة التي تصوره على انه "نص أنتجه المثقف العربي الحديث منذ الربع الثاني للقرن التاسع عشر إثر صدمة الاحتكاك بالغرب ، وإدراك طبيعة الفرق بين التأخر والتقدم" (2) . فقد كانت موضوعاته الأساسية تدور حول مطالب التحرر من الاحتلال الأجنبي، و الاستقلال القومي في مواجهة الضم التركي ، وانفلات النزعات الطورانية من كل عقال، والحرية والديمقراطية في مواجهة الاستبداد ،والترقي في مواجهة الانحطاط و التأخر، ثم الوحدة في مواجهة التجزئة (3). ومن الممكن إيجاز أبعاد هذا المشروع كما فكر فيه رواده الأوائل و كما استمر موضوعا للتفكير خلال هذا القرن، بوصفه نزوعا وطموحا وعملا من اجل الوحدة و التقدم بتعبيرنا اليوم ، أو الاتحاد والترقي بتعبير الأمس (4) .
إن تعريف النهضة يتيح لنا معرفة مفهومها ، والقدرة على تمييزها عن بقية المفاهيم التي تقترب منها كالحداثة و التحديث و الإصلاح و التنمية و التقدم . فالنهضة في اللغة هي " من نهض والنهوض البراح من الموضع والقيام عنه ، نهض وينهض نهضا ونهوضا وأنتهض أي قام والنهضة الطاقة والقوة " ( 5) . ورغم صعوبة التحديد الدقيق لتاريخ ظهور مصطلح النهضة بمعناه المعاصر في الخطاب العربي الحديث ، إلا أن الكثيرين يذهبون للقول أنه راج ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. إذ نجد مادة نهض وبعض مشتقاتها كـ (نهوض) (ونهضة ) تتردد على لسان كثيرين من الرواد أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده . والغالب أن هذه الألفاظ كانت تقترن بأضدادها كوسيلة لتحديد معناها ،النهوض في مقابل السقوط ، والنهضة في مقابل الانحطاط ، وذلك هو نفسه المعنى اللغوي لهذه المادة (6) .
أما النهضة بمفهومها الذاتي فقد تباينت من حيث الحد والحقيقة بحسب فهم كل مفكر أو تيار لها. فبينما يذهب البعض إلى تعريفها على أنها "هبة مجتمعية تسعى إلى إكساب الحضارة القومية قدرتها على إنتاج المعارف والمهارات في تعامل متكافئ مع الحضارات الأخرى " (7) ، يذهب آخرون إلى تعريفها بأنها " نظرية الصعود من درجة إلى أعلى ، أو هي إيصال العرب إلى مستوى الحضارة الكونية" (8) . أما النهضة بحسب ما ذهب إليه الجابري فتفيد معنيان: المعنى الأول وهو الولادة الجديدة أي ظهور كينونة جديدة تحل محل الكينونة القديمة ، أما المعنى الثاني فهو انتقال نفس الكينونة من حال القعود أو الجلوس إلى حال القيام(9) .
لم يتم اختيار مصطلح النهضة في الخطاب الثقافي العربي بشكل اعتباطي ، ولم يكن تفضيل رواد النهضة الأوائل لهذه الكلمة على كلمات أخرى مثل انبعاث و تجديد وغيرها تفضيلا عشوائيا، بل انه كان وثيق الارتباط بالظروف والحاجة من وراء استعمالها. إذ لم تتبنى الثقافة العربية مفهوم النهوض بالمعنى الأوروبي للكلمة، أي العودة إلى الجذور من اجل الولادة الجديدة أو الانبعاث الجديد، بل بمعنى النهوض لمقاومة التدخل الأوروبي والأجنبي ، والذي يجب أن يكون في أن واحد قياما. وحركة القيام بمعنى استجماع القوة والاستعداد ، والحركة بمعنى مواجهة التهديد الخارجي ، أي إن النهضة لديهم ستشكل في ثقافتهم صيرورة مستمرة طيلة استمرار احتكاكهم بالغرب و طيلة تأثرهم به .
أما النهضة بمعنى التجديد أو تحقيق ولادة جديدة في مجالات الفكر والفن والاقتصاد، وهو المعنى الأوروبي للكلمة ، فانه لم يتناقض مع المعنى الأول بقدر ما انه مفهوم وجد مرجعيته في ثقافة أخرى. وهو الأمر الذي أفرز لاحقا (بنتيجة اختلاف فهم المصطلح ومعانيه بين الغرب والعرب) نتائج سلبية على صعيد الوعي العربي (10) . ومما يجدر الانتباه إليه هنا هو أمران ، أولهما أن النهضة في قاموس الحداثة الأوروبية تعني الولادة الجديدة وليس النهوض بمعنى القيام والحركة ، ثانيهما أن هذه الكلمة أصبحت منذ أوائل القرن التاسع عشر وهو قرن الحداثة عنوانا لحركة فكرية وقتية عاشتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر ، قوامها العودة إلى أفكار وفنون العهد اليوناني والروماني . بعبارة أخرى، إذا كان مفهوم النهضة في خطاب الحداثة الأوروبية يعني ولادة جديدة لأوروبا حصلت قبل أربعة قرون، فإن معناها في الخطاب العربي كان وما يزال يعني رديفا للطموح والقيام والنهوض فقط .
وفي هذا أيضا يكمن سر السؤال الذي يطرحه بعض الباحثين عن الأسباب القائمة وراء سيادة وانتشار لفظة النهضة "في الخطاب العربي الحديث والمعاصر بدل ألفاظ أخرى كلفظ الانبعاث أو التجديد " (11) ففي حين يرى البعض أن السبب الرئيس في ذلك هو أن هذه التسمية المستعملة هي اصطلاح عرفته أوروبا بعد فترة من التخلف طويلة ، و لعل هذا هو الداعي إلى توخي نفس التسمية لدى العرب باعتبار أن النهضة تعد تجاوزا لعصور الانحطاط العربية المديدة (12) . إضافة لذلك يمثل عصر النهضة من حيث تحديد بدايته و نهايته إشكالية يتعلق بها مسألتان. الأولى وهي مسألة الدافع إلى هذه النهضة، والثانية هي مسألة تأدية هذه النهضة للدور الذي أنيط بها، بمعنى تحقيق الإقلاع بالنسبة للعرب كي يتلافوا الفرق بينهم و بين الغرب المتقدم (13) .
بشكل عام اعتاد المؤرخون التأريخ لبداية النهضة العربية بحملة نابليون على مصر، باعتبارها صدمة نبهت العرب إلى تخلفهم بالمقارنة إلى محتليهم. لكن الكثير من الوقائع التاريخية تؤكد في المقابل أنها كانت قد بدأت في الإمبراطورية العثمانية ، وفي تركيا بالذات منذ عهد السلطان أحمد الثالث (1703-1730) وخليفته محمود الأول (1730-1754) ، واكتسبت زمن سليم الثالث (1789-1807) زخما وقوة كبيرين . ففي عهده تسللت مبادئ الثورة الفرنسية. ومن هنا يأتي اختلاف البعض حول تأثير الحملة الفرنسية على النهضة العربية ، فثمة من يقول أن الحملة كانت السبب الأهم ، بينما يرى آخرون أن السلاطين العثمانيين قد لعبوا أيضا دورا مهما بالإضافة لأفكار الثورة الفرنسية .
فالنهضة بحسب رأيهم كانت نتيجة لمراحل سبقت الحملة الفرنسية. فهذه الأخيرة ومحمد علي قد أثرا في صياغة مجراها. أما نقطة انطلاقها الأساسية فكانت انهيار الإمبراطورية العثمانية. وما ترتب عليه من ظروف جديدة رافقت قيام الثورات العربية المتعاقبة على الإمبراطورية العثمانية من جهة، وعلى الحملة الفرنسية من جهة أخرى (14) . فرغبة العرب آنذاك ( و هم يعدون اكبر قومية عددا و سعة ارض في الدولة العثمانية ) بالتخلص من اضطهاد العثمانيين و الأطماع الاستعمارية (الفرنسية والانجليزية والروسية )، و شعورهم بمسؤوليتهم عن إعادة الازدهار الحضاري الذي عرفوه سابقا شكل بمجموعه الأبعاد الأساسية للتفكير النظري والعلمي النهضوي لتلك المرحلة (15) .
ورغم الاختلاف حول البداية الدقيقة للنهضة ، ومن هو المؤثر الأكثر فعالية في النهضة ، إلا أنه يمكننا القول أن بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين قد حفلت بحركة فكرية و سياسية قوية يجمع الجميع على إطلاق اسم عصر النهضة عليها . وهي مرحلة وثيقة الارتباط، أو لنقل أنها محددة بطبيعة مضمون النهضة بحد ذاتها بوصفها المحصلة المنطقية لعملية التغيير التي تحدث إما من داخل المجتمع ، كحدوث ابتكارات و تجديدات فيه ، أو من خارجه كالاحتكاك بالثقافات الأخرى. ذلك يعني أن النهضة تفترض وجود وتفاعل مؤثرين (الأنا والأخر). وهو تفاعل عادة ما يؤدي توازن قواه إلى تباين أشكال وأساليب النهضة. فهناك ما يمكن دعوته بأسلوب النهضة الذاتية، أي الأسلوب الذي تحدده عوامل داخلية بحتة تجعل المجتمع ينهض بذاته لذاته حسب معايير ومقاييسه ومقولاته وقيمه. وهناك ما يمكن دعوته بأسلوب النهضة المتأثرة بعوامل خارجية، أي النهضة التي يشكل أسلوبها في الأغلب نتاجا لتأثير ثقافات أجنبية تعمل على إثارة الحمية أو الرغبة فيه للنهوض والتقدم. و تأسيسا على ذلك يبرز السؤال الأهم هنا ، وهو "هل حدثت النهضة في العالم العربي بصورة تلقائية أم لا ؟ ،و ما هي مقدماتها و أسبابها؟ .
لا يمكننا القول أن عصر النهضة العربية كان نتاجا لحراك داخلي، بقدر ما كان نتيجة لتأثير العامل الخارجي (الأخر) فيه. فالمحرض الأساسي للعرب كان العامل الأوربي. أما العامل الذاتي فتمثل بشكل أساسي بافتقاد الدولة العربية وتاريخها السياسي وتفكك المجتمع وانهيار الثقافة والابتعاد شبه التام عن حصيلة الثقافة الإسلامية. فمقولة النهضة العربية نفسها تنتمي بشكل عام إلى الفضاء الفكري العالمي ، حيث تجد مرجعيتها الأولى في إيديولوجيا عصر الأنوار ، وفكر الحداثة الأوروبية ( 16 )، لكن ذلك لم يمنع حدوث التقابل والاصطدام (الذي ابتدأ مع حملة نابليون ) بين كل من الوطن العربي الذي كان يعاني من تخلف وانحطاط شبه شامل في القرن التاسع عشر، كما نراه في ركود بنيته الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، و بين أوروبا التي كانت تتسم بديناميكية هائلة في مختلف المجالات والميادين. وفي هذا الاختلاف الجوهري كانت تكمن بوادر الصراع والاختلاف والمواجهة التاريخية الحديثة بين أوربا والعالم العربي ، التي كان من بين أهم نتائجها تبلور الملامح الأولية للوعي العربي النقدي بصدد رؤية الفارق الحضاري بينه وبين الأوربيين( 17 ) .
وانطلاقا من أهمية البعد التاريخي في فهم أي ظاهرة ، نشير إلى أن المشروع النهضوي العربي مرّ في مرحلتان أساسيتان ، تشابكت فيها الأحداث عربيا ودوليا بصورة لا يزاح منها عنصرا الزمان و المكان ( 18) . الأولى : امتدت من أواخر القرن ما قبل الماضي إلى الحرب العالمية الأولى ، ترافقت خلال السيطرة العثمانية على الوطن العربي ، واستكمال هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية على البلدان العربية . إضافة إلى كونها المرحلة التي غرس فيها الاستعمار الأوروبي بنى الحداثة الأوروبية في الوطن العربي . أما الثانية فهي مرحلة ما بين الحربين العالميتين و بعدهما . تزامنت بدايتها عربيا مع موجة الاستقلال وقيام إسرائيل من جهة،و مع انطلاقة المد التحرري في العالم الثالث كله من جهة أخرى ، و ما رافق ذلك من طموحات ثورية عبر عنها بوضوح وقوة شعار ( الاشتراكية والوحدة ). وهو المضمون الجديد الذي أعطي للمشروع النهضوي العربي تحت شعار (القومية العربية) . ولتأتي نهاية الحرب الباردة أو على الأصح انهيار ما كان يسمى بالكتلة الاشتراكية لتتزامن مع انحسار المد التحرري في العالم الثالث وسقوط حامل لواءها (الاتحاد السوفيتي) و ضمور الفكرة القومية .
مشروع النهضة العربية ورغم أنه استقى جل إن لم يكن كل مفاهيمه و طموحاته و شعاراته من أدبيات و شعارات الحداثة الأوروبية (فلم يكن هناك في فضاء الفكر و الثقافة و السياسة في الوطن العربي قبل احتكاكه بالحداثة الأوروبية ما يمكن أن يعتبر خميرة أو جنينا لشعار الاتحاد و الترقي ، الذي جعل منه المشروع النهضوي العربي قضيته الأساسية إن لم تكن الوحيدة ، لاسيما وأن الشعار نفسه هو مجرد ترجمة واقتباس لأحد شعارات الحداثة الأوروبية) إلا أن الاختلاف الجوهري بينه و بين مشروع الحداثة الأوروبية رغم تزامنهما و احتكاكهما المباشر ، هو أنهما لم يكونا ينتميان إلى لحظة تاريخية واحدة ،ولم يعكسان نفس المرحلة من التطور (19) ، ذلك أن مرحلة الحداثة قد قامت في أوروبا (القرن التاسع عشر ) بعد مرحلة الأنوار (القرن الثامن عشر) ،والتي سبقتها نهضة أولى (القرن الثاني عشر ) . و معنى ذلك أن مشروع النهضة العربية كان عليه أن يتعامل مع حداثة تجاوزت الأنوار و النهضة (20) .
بالإضافة إلى أن تزامن هذا المشروع مع مشاريع أخرى منافسة له ، ومضايقة لطموحاته ، ومعرقلة لمسيرته (الحداثة الأوروبية ، والصهيونية ) قد جعله يتعثر ويفشل في تحقيق مطمحه الأساسي المتمثل في الاتحاد و الترقي، لاسيما مع وجود وضعية داخلية شكلت مساعدا مهما لها (21) . فمضامين مقولات النهضة العربية و حدودها ارتبطت بشكل كبير بالعلاقة التي جمعت بين الحداثة الأوروبية والصهيونية (22) ، وهو الأمر الذي انعكس سلبيا على المشروع النهضوي العربي من حيث أن المشروع الصهيوني ليس فقط خصما صريحا ومعلنا له فقط ، بل أيضا من حيث أن نشاط الصهيونية في أوروبا من اجل قضيتها كان في نفس الوقت نشاط ضده (23) .
لقد أفرز تعامل مفكري النهضة مع الواقع السلبي لمجتمعهم توجهات فكرية متعددة ، كانت تعبيرا عن جدلية الفكر و الممارسة لديهم ، وإفراز لواقع اقتصادي واجتماعي وسياسي ما فتئ يتطور (24) . ثلاثة اتجاهات رئيسية حول سؤال النهضة تبلورت في القرن الماضي و ما زالت تتكرر بصورة أو بأخرى حتى اليوم (25) .
- الأول : تتلخص أطروحة هذا التيار ( بصيغته المعتدلة التي نعتمدها هنا ، والتي تعبر عن موقف عام يشترك فيه جميع أولئك الذين ينخرطون في هذا التيار ) بأن تحقيق النهضة والتقدم يكون في تبني الحداثة الغربية بشكل كامل ، والقطيعة مع عصر الانحطاط وما قبله من العصور العربية والإسلامية . أي بضرورة الأخذ بالحداثة الأوروبية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، وصرف النظر تماما عن الموروث الإسلامي الذي ينتمي إلى العصور الوسطى التي مضت و تجاوزها التطور .
- الثاني : يذهب إلى النقيض تماما من الأول ، بحث عن أسباب التخلف ضمن إطار الإسلام نفسه (26) . يرى أن النهضة والتقدم لا يمكن أن تتحقق للعرب والمسلمين إلا بما حقق لهم في الماضي مجدهم ورقيهم ، أي بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح و الاقتداء به ، والقطيعة الكاملة مع ما تحمله الحداثة الأوروبية بوصفه مخالفا للشرع .
- الثالث : اتخذ موقف التوفيق بين كلا التيارين السابقين ، وتتلخص مواقفه في تلك العبارة التي تقول " نأخذ من الفكر الأوروبي ما هو ضروري لنهضتنا وتقدمنا ، ولا يتناقض مع قيمنا وأصالتنا ، ومن تراثنا تلك الجوانب المشرقة التي جعلت من حضارتنا أعظم الحضارات في عصرها ، والتي لا تتعارض مع متطلبات التقدم في عصرنا " . أي أنه يدعو إلى الأخذ من الحداثة الأوروبية ما لا يتناقض مع قيمنا الدينية والحضارية ، ومن التراث العربي الإسلامي ما يساير العصر و متطلبات التقدم .
هذه المواقف الثلاثة تقاسمها بصورة عامة مفكري النهضة والتقدم في العالم العربي ، بغض النظر عن اختلاف اتجاهاتهم وإيديولوجياتهم. وإذا كان موقف التوفيق يأتي عادة في أخر الترتيب عند التصنيف فان ذلك لا يعني بالضرورة انه الأخر زمنيا ، بل يمكن اعتباره الأسبق . فالطهطاوي وخير الدين التونسي مثلا وهما الأسبق زمنيا كانا اقرب إلى الموقف التوفيقي منه إلى الموقفين الآخرين ، اللذين يرتبط أولهما بشبلي الشميل و قاسم أمين ، ويرتبط الأخر بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده .
هذه التيارات الثلاث اشتركت فيما يلي :
1. السعي إلي تغيير الأوضاع التي كان عليها المجتمع العربي الإسلامي، وتحقيق التمدن، وقد شاهدوا معالمه عن كثب بعد الاتصال بالحضارة الأوروبية.
2. مقاومة نظام الحكم المطلق، والمطالبة بدساتير تحول الملك من ملك مطلق إلي ملك مقيد بقانون (الملكية الدستورية).
3. عدم وضع الدين موضع النقيض للدنيا (27) .
و لعل ابرز من مثل هذه النماذج التي نناولها هنا كعينات للبحث والتمثيل هو كل من خير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وشبلي شميل
- خير الدين التونسي :
لم يعتبر التونسي إداريا عظيما ومصلحا فقط ، وإنما مفكرا إصلاحيا دوّن أفكاره في كتابه" أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك "، الذي يلخص تجربته التي تقوم على دعامتين أساسيتين تجمعهما فكرة مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها :
الأولى : ضرورة التجديد و الاجتهاد في الشريعة الإسلامية بما يتلاءم و ظروف العصر و أحوال المسلمين ، و يتفق مع ثوابت الشريعة ، و دعوة العلماء إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية ، وعدم قصرها على ما ورد فيه نص من كتاب الله .
الثانية : ضرورة الأخذ بالمعارف و أسباب العمران الموجودة في أوروبا ، لأنها طريق المجتمع إلى النهوض . و إذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على دعامتي الحرية و العدل ، فان هاتين الدعامتين تعدان أصيلتين في الشريعة الإسلامية .
جمال الدين الأفغاني :
تركزت أفكار الأفغاني الإصلاحية الذي أمضى معظم حياته في الدفاع عن البلدان الإسلامية المهددة بخطر التوسع الأوروبي ، على أن إصلاح أحوال العرب لا يمكن أن يتم إلا بفهمهم الصحيح لدينهم ، و بالعودة إلى تعاليمه فهو السبيل الوحيد لنهضتهم . واعتباره أن الدول المتطورة لا تكون كذلك بالفطرة ، كما أن الدول الإسلامية ليست متخلفة بالفطرة ، وهو ما يعني إمكانية إعادة تطويرها واستعادة أمجادها السابقة (28) . و تأكيده على عدم التعارض بين الرابطة الدينية والرابطة القومية القائمة بين أقوام ينتمون إلى أديان مختلفة ،ودعوته إلى إقامة تضامن طبيعي يتعدى الأمة ، يربط بين جميع شعوب الشرق الذي يتهدده التوسع الأوروبي . واعتباره على أن خلاص الأمة لا يأتي على يد الحكام الصالحين وحدهم ، بل يقترن بعودة العلماء إلى حقيقة الدين ، وقبول الجماعة بأكملها له والعيش وفقا له . فهو يرى أن جوهر الإسلام هو جوهر العقلانية الحديثة ذاتها (29) .كذلك نبه الأفغاني إلى خطورة الاستبداد ، وقابلية تحوله إلى ممارسة عامة في ظل حكومة مستبدة ، و الارتباط الوثيق بينه و بين سيطرة الجهل على الأمة (30) .
شبلي الشميل :
ينطلق الشميل في أفكاره الإصلاحية من العلم كنقطة البداية الأساسية في الإصلاح ، حيث يرى فيه أكثر من مجرد طريقة لاكتشاف النظام في ترابط الأشياء ، فدين العلم هو الأساس . ويعتبر أن الحكم الديني و الحكم الاستبدادي ليسا فاسدين فحسب بل هما غير طبيعيين وغير صحيحين . كذلك يركز على عدم عصمة المؤسسات والقوانين عن التغيير فهي ليست سوى تدابير في حقل الحياة الاجتماعية . ولا يذهب في تفسير سبب تخلف المسلمين إلى طبيعة الإسلام كدين ، بل إلى السلطة الحاكمة (31) . كما يعتبر أن الاستبداد في البلدان الشرقية هو سبب كل مظاهر التأخر فيها ، بما في ذلك تدهور مكانة العلم و العلماء (32) .
لم تسلم الطروحات السابقة من الانتقاد ، فبعضها كان يعاني من نقاط ضعف بارزة . يأتي في مقدمة ما وجّه للتيار الأول بأن القطيعة التي ينشدها في المجال التاريخي لا تعني مجرد قطع الروابط أو إعلان العداء ، بل هي تتويج لعملية امتلاء و إشباع . والقطيعة مع مرحلة تاريخية ما سواء على مستوى تاريخ الفرد أو الجماعة إنما تكون مبررة و مشروعة عندما يتم الامتلاء منها ( أي عندما تستنفذ كل إمكانياتها ) . أي أن نقطة ضعفه الأساسية كانت في كونه إذ ينادي بالأخذ بالحداثة الأوروبية يتجاهل أن ذلك يتطلب القطيعة مع ماضيها نفسه بعد الامتلاء منه ،والحال أن العرب لم يعيشوا ذلك الماضي ،ولا تشبعوا من معطياته و من منجزاته . فلا معنى لقطيعة مع شيء لم يعشه الإنسان و لم يمتلئ منه و يتشبع به . إن قيم الحداثة الأوروبية قيم لها تاريخ ،ولا يمكن أن تتأسس في وعي لم يعشه .
أما نقطة الضعف الأساسية في التيار الثاني " الذي ربط التقدم بالعودة إلى سيرة السلف الصالح والاقتداء به ". لا تتمثل فقط في تجاهله لطبيعة التقدم في عصرنا و لأسسه و مساره و مقتضياته و آلياته ، بل في عدم تمكنه من تحقيق قطيعة تامة مع ما يمكن لنا أن نطلق عليه بالفهم التراثي للتراث . وهو الشيء الذي لابد منه للارتقاء بالوعي التراثي إلى المستوى الذي يمكنه من الارتباط بالحداثة المعاصرة كذات فاعلة و مبدعة


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

بارك الله فيك

وجزاكي الله خيرا

ربي يوفقنا جميعا في شهادة البكالوريا يا رب

=========


>>>> الرد الثاني :


=========


>>>> الرد الثالث :


=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========