المصدر جريدة...alarabonline.
الذكرى الـ76 لرحيل الشاعر التونسي الخالد أبو القاسم الشابي
أبو القاسم الشابي.. عاشق متألم في محراب الوجود
العرب أونلاين- شادي زريبي
لم يدُم تغريده سوى بضعة سنين لم يشدُ فيها سوى تقاسيم الكلام وعبير القصائد.. لم يمهله الموت طويلا حتى خطفه من على ربوته العالية التي احتوته وحضنته من لفح الهجير وبرد الشتاء.. صاحب القلب العليل والنبرة الحزينة الخالدة أبدا.. من قلب النخيل أتى وبين ربوع الجنوب التونسي نشأ وترعرع ليكون صوتا غير عاديّ وشاعرا استثنائيا.
أبو القاسم الشابي الذي فتح في القصيد طريقا ليعبر منه إلى دنيا الآفاق الرحبة والوجود القاسي..صوت المضطهدين وباعث الثورة في نفوس المحرومين.. من هناك عند الرُبى الفسيحة والتلال المرتفعة والبساتين الخُصر إرتفعت هامته لتعلو وتعلو إلى أن غطت سنابل الحقول المترامية.
* مولده ونشأته
و لد أبو القاسم الشابي يوم الأربعاء في الرابع والعشرين من فبراير/شباط عام 1909 في بلدة توزر التونسية . والده، الشيخ محمد الشابي، كان رجلاً صالحا، تولى القضاء في أنحاء البلاد التونسية خارج العاصمة لفترة امتدت بين عامي 1910 ، تاريخ توليه القضاء، و حتى وفاته في العام 1929 .
و كان من نتيجة ذلك أن الشاعر لم ينشأ في مسقط رأسه، بل خرج منه في السنة الأولى من عمره مع الأسرة، حين بدأ والده بالطواف في البلدان التي كان يعين فيها للقضاء و كان لهذا الطواف الذي دام تسع عشرة سنة أثره على الشاعر من جميع النواحي . فقد تعرض الطفل الناشئ ، النحيف الجسم، المديد القامة، السريع الإنفعال لجميع أنواع المناخ في البلاد التونسية، من حرّ المدن الساحلية إلى برد الجبال المرتفعة.
كما تعرض إلى الاحتكاك بمختلف العادات و اللهجات بين أهل الشمال و أهل الجنوب،
و بين تلك البيئات والمدن التي تنقل بها الشاعر، ما يقدر بمئات الأميال أحيانا.
نشأ أبو القاسم الشابي في أسرة دينية فقد تربى على يدي أبوه وتلقن روح الصوفية الصحيحة التي كانت سائدة في المغرب العربي، وسددتها دراسته الدينية، وساعده مكوثه في مدينة تونس لدراسة الحقوق أن ينضم للنادي الأدبي وأخذت مواهبه الأدبية تبرز وتعبّر عن نفسها في قصائد ومقالات ومحاضرات، أعلن فيها عن نفسه وهو دون العشرين. ونلمح في عجالة لتجربته الكبرى التي باءت بالفشل لأن طائر الموت اختطف حبيبته وأعقبه بفترة أن أختطف أبوه مثله الأعلى ومربيه ومثقفه.
* نغم في ذاكرة الوجع
كم طالت الليالي المظلمة وكم عانى هذا الجسد الضعيف الحامل لقلب ينبض بعشق الوطن... احترقت مشاعره وانصهرت مع الواقع الأليم في ظلّ استعمار غاشم وظلم أبى ضبابه أن ينقشع.. من هنا كانت الكلمات الرافضة والعبارات المدويّة التي خرجت من أعماق صدر منهك تعب ونفس ملّت الخنوع والاستسلام.. من هنا كان لابدّ لليل أن ينجلي ومن هنا كان لابد للقيد أن ينكسر.يقول الشابي في رائعته"إراة الحياة" التي تُعدّ من أشهر القصائد في الشعر العربي الحديث:
"إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ
فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَــدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي
وَلا بُدَّ للقَيْـدِ أَنْ يَـنْكَسِـر."
هي الإرادة والتمرّد والثورة على أصنام الجمود... هو العشق للرفض والمناداة بالتحرّك حتى تتزلزل الأرض تحت أقدام الجبروت والطغيان.
* عذبة أنت كالطفولة...
إذا كان تعريف الفراهيدي للشعراء بأنهم" أمراء الكلام"، فإن الشابي يُعدّ من أمراء الشعور والأحاسيس، إن لم نقل أوحدهم ... فهذا القلب الذي خفق للحبّ والعشق قد دارى هيامه ولم يفضحه الهوى فظلّ صامتا متعبّدا في محراب الحسن والجمال حتى فاضت المشاعر فكانت قصيدته الخالدة "صلوات في هيكل الحبّ":
"عذْبة ٌ أنتِ كــالطّفولة ِ، كالأحلامِ
كاللّحنِ، كالصبـاحِ الجديدِ
كالسَّماء الضَّحُوكِ كالليلة ِالقمراءِ
كالورد، كابتســـام الوليدِ
يـا لها من وَداعة ٍ وجمــالٍ
وشبـــابٍ مُنَعَّــم أمْلُــودِ."
كلمات صادقة نابعة من قلب ذاق الهوى، فكان الإبداع الصافي والجمال الخالد.. إنه الشابي عندما يتجسّد له الكون الفسيح فيتعطّر برحيق الكلمة ويرتدي ثوب الراهب في محراب الحبّ.. إنه التماهي في أبهى تجليّاته والفناء في الملكوت الراقي النقيّ.
* نور في قلب العتمة
لقد هرب الشابي من مجتمعه الخانع المستسلم إلى الطبيعة حيث النقاء والحقيقة المطلقة.. حيث الهدوء والسكينة. لقد شكّل شعر الشابي امتدادا للتيار الرومانسي الذي شقّ مسلكه في الشعر العربي بداية من القرن الماضي عندما وجد الأرض الراعية له والتربة الخصبة المستقبلة فنشأ مع جماعة الرابطة القلمية المصرية ونما مع جماعة أبوللو واشتدّ عوده مع نفحات الشابي الذي أثرى الشعر العربي وأحدث فيه ثورة عُدّت من الفتوحات الأدبية عندما راح يبثّ في شعبه المشاعر القوية المعبّرة عن الرفض والحثّ على التحرّك .. إنه النور في قلب العتمة.. إنه الأمل في صدر اليأس.
من قلب الجنوب التونسي صدح عاليا متنقلا في أرجاء الأرض يشحذ الهمم ويحثّ الضمائر الشريفة حتى ضاق به المكان وتحوّل الاندفاع إلى برود ومجرّد أماني قد تتحقق وقد تغدو سرابا أو هباء منثورا في قسوة والواقع المتردّي وظلمته، وهو الذي كرّس حياته خدمة للآخرين.. ناضل طويلا بالكلمة رافعا سلاح التحدّي فاحترق كالشمعة التي تفنى في سبيل إنارة السبيل للآخرين.. صرخ وصرخ وكرّر الصراخ حتى يأس وكلّ وسئم الحياة وما فيها من نعيم ومتعة وهو الذي ما يزال شابا يافعا تفور فيه روح الإرادة والتحدّي وحبّ الفعل والبناء:
" سَئِمْتُ الحيـاة َ، وما في الحياة
ومـــا أن تجــاوزتُ فجرَ الشَّبـابْ
سَئِمتُ اللَّيــــالي، وَأَوجَـــاعَها
ومــــا شَعْشَعتْ مَنْ رَحيقِ بصــــابْ
فَحَطـــّمتُ كَـــأسي، وَأَلقَيتُـها
بــِوَادي الأَسـى وَجَحِيمِ العَذاب."
* رصاصة في قلب الطغاة
إلى متى هذا النداء؟... إلى متى هذا الاستجداء؟.. إلى متى يظلّ الشعب قانعا ومسلّما بالظلم والجبروت.. أما آن للهمّ أن ينزاح من على الصدور؟.. أما آن للطغيان أن يزول؟.. أين أنت يا صاحبي ويا رفيقي؟ ألا تفهم كلامي؟.. كلها أسئلة وخواطر جالت ببال الشابي وهو يعاني من التجاهل من قبل بني وطنه وأمته المرتعدة والخائفة، فأعلنها صراحة أنه لا يخشى العدوّ ولا الطاغية الذي شوّه الجمال وقتل الجمال فزرع الحزن والأسى والشوك وتخضّبت كفّاه بالدماء:
"ألا أيّها الظــالم المستبدّ
حبيب الفنـــاء عدوّ الحيـاه
سخرت بأنّـــــات شعب ضعيف
و كــفك مخضوبة من دمــاه
و سرت تشــوّه سحر الوجــود
وتبذر شوك الأسى في ربـاه."
* ثورة على المسكوت عنه
نادى أبو القاسم الشابي في كتابه "الخيال الشعري عند العرب" بأن يكون الشعر ابن الحياة، وهو الذي صرّح بأنّ " لكلّ عصر حياته التي يحياها ولكلّ حياة أدبها الذي تنفخ فيه من روحها القشيب".
وهو يفصل بين" شعر الحياة الخالد وبين شعر السخافات والتقاليد"، وهو بذلك قد أمعن في تأسيس رؤية للشعر تقترب من إدراك جوهر العملية الشعرية. أليس تهجّمه على الخيال العربي رغم حداثته ويفاعته معيار وعيه وتمكّنه من الأطر النظرية الشعرية؟،أليس كتابه هذا ثورة على السائد والمسلمات؟
لذلك واجه "الشاب" الشابي عديد الانتقادات في تونس وفي المشرق أثارت مواقف ضديّة أساسها مغالاة الشابي وإفراطه في الاندفاع والحماسة والانتصار لرأيه. وفي غير هذا الكتاب يصرّح أبو القاسم علنا في مذكراته " إنني شاعر. وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلا أو كثيرا مذاهب الناس فيها. وفي نفسي شيء من الشذوذ والغرابة أحسّ أنا بها حين أكون بين الناس."
* رحيل العاشق المتالم
في غفلة من الزمن وفي رعشة الفؤاد العليل صعدت روح الشاعر الكبير لتنطفئ الشمعة المضيئة وليعمّ الكون الظلام الدامس... لم يحتمل القلب الرقيق المرهف الحساس المرض ولا الواقع القاتم المتردّي المزيّف، فاختار التوقّف عن النبض ليترك هذه الحياة التي أنهكته...رحل الطائر الشادي والعاشق المتألم يوم 09 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1934.
سنوات قليلة هي التي دقّ فيها هذا القلب الكبير ولحظات فقط هي التي عاشها هذا الشاعر العظيم ولكنها كانت لحظات بحجم البحر واتساع الكون وامتداد الأفق الفسيح.. رحل الشاعر الاستثائي وترك لنا "أغاني الحياة""ديوان شعر"، و"الخيال الشعري عند العرب""محاضرة ألقاها بالخلدونية"، و"مذكراته""رسائل بينه وبين الحليوي".
يقول أبو القاسم محمد كرّو: "كيف يمكن أن يموت من علّمنا أغاني الحياة وأنار طريق الشباب بالحب والايمان والنضال لا وألف مرة لا إن الشابي لم يمت يوم 9 اكتوبر 1934 وإنما ولد من جديد..".