عنوان الموضوع : أبناء يعذبون آباءهم
مقدم من طرف منتديات العندليب
بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...
المقدمة
فقد قال الله تعالى: }وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{ [الإسراء: 23، 24].
يطالب كثير من الناس اليوم بحقوق المرأة... من المرأة التي يطالبون بحقوقها؟... إنها المرأة الشابة الصغيرة التي تريد الخروج والعمل بجانب الرجال... يطالبون بحريتها في اللباس والسلوك وسائر شؤونها... ولهم في ذلك مقاصد يعلمها من سبر أغوارهم واطلع على أخلاقهم وطرقهم في الحياة.
ولكن... لا نجد أحدًا من هؤلاء يطالب بحقوق الأمهات... حقوق ربات البيوت اللواتي تفرغن لرعاية أبنائهم... فكان جزاؤهن العقوق ونكران الجميل... فأين حقوق هؤلاء الأمهات؟... أين حقوق الآباء؟... ألا يدافع أحد عن هؤلاء؟ ألا يمسح أحد دموعهم؟ أليس هؤلاء أحق بمناقشة قضاياهم؟ أليست هؤلاء الأمهات نساء يتعرضن للتحقير والجحود من قبل أبنائهن؟ أليس عقوق الوالدين من الإفساد في الأرض؟ أم أن ثقافة العولمة في محاربتها لمفهوم الأسرة المترابطة غضت الطرف عن كثير من الانتهاكات في حق الآباء والأمهات؟ }فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ{ [22، 23].
قال بعض العلماء: «لو لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه حرمة الوالدين، ولم يوص بهما، لكان يعرف من طريق العقل أن حرمتهما واجبة، وكان الواجب على العاقل أن يعرف حقهما... فكيف وقد ذكر الله سبحانه في جميع كتبه حقهما، وأوحى إلى جميع أنبيائه ورسله، وأوصاهم بحرمتهما ومعرفة حقهما، وجعل رضاه في رضاهما، وسخطه في سخطهما، واستجاب دعاءهما في الولد؛ لعظم حرمتهما وحقهما عليه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» [رواه الترمذي وقال: حديث حسن] حتى لو كان الولد طائعًا لله وهو عاصٍ لهما، عوقب بعصيانه لهما.
ولو كان في صلاة تطوع وناداه أحد والديه، وجب عليه قطع صلاته وإجابتهما مسرعًا خشية من سخطهما عليه»([1]).
تحذير السنة النبوية من العقوق
والأحاديث في ذم عقوق الوالدين كثيرة منها:
- حديث أبي بكر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور، وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. [متفق عليه].
- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف» قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة» [رواه مسلم].
- وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين» قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! من أدرك أحد أبويه، فمات، فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين. فقلت: آمين...» الحديث [رواه الطبراني وصححه الألباني لغيره].
- وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات» [رواه البخاري].
- وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان عطاءه» [رواه النسائي وقال الألباني حسن صحيح].
- وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث، الذي يقر الخبث في أهله» [رواه أحمد وحسنه الألباني لغيره].
- وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل منهم صرفًا ولا عدلاً: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر» [رواه ابن أبي عاصم وحسنه الألباني].
- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه» [متفق عليه].
- وعن عمرو بن مرة الجهني -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الخمس وأديت زكاة مالي، وصمت رمضان؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا» - ونصب أصبعيه -. [رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني].
- وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات، قال: «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك» الحديث [رواه أحمد وصححه الألباني].
- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من عق والديه» [رواه الطبراني والحاكم وصححه الألباني لغيره].
- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله من سب والديه» [رواه ابن حبان وصححه الألباني].
- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: ما من مؤمن له أبوان، فيصبح وهو محسن إليهما، إلا فتح الله له بابين إلى الجنة. ولا يسخط عليه واحد منهما، فيرضى الله عنه حتى يرضى. قيل: وإن كان ظالمًا؟ قال: وإن كان ظالمًا.
آثار السلف
وعن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى قال: يا موسى! وقر والديك، فإنه من وقر والديه؛ مددت له في عمره عمرًا، ووهبت له ولدًا يبره. ومن عق والديه؛ قصرت عمره، ووهبت له ولدًا يعقه.
وقال كعب: والذي نفسي بيده! إن الله ليعجل حين العبد([2]) إذا كان عاقًا لوالديه؛ ليعجل له العذاب.
وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان بارًا بوالديه؛ ليزيده برًا وخيرًا.
- وقال أبو بكر بن أبي مريم: قرأت في التوراة: من يضرب أباه يقتل.
- وقال وهب: في التوراة: على من صَكَّ والديه الرجم.
حادثة عجيبة- عن العوام بن حوشب قال: نزلت مرة حيًا، وإلى جانب ذلك الحي مقبرة، فلما كان بعد العصر، انشق فيها قبر، فخرج رجل رأسه رأس الحمار، وجسده جسد إنسان، فنهق ثلاث نهقات، ثم انطبق عليه القبر. فإذا عجوز تغزل شعرًا أو صوفًا. فقالت امرأة: ترى تلك العجوز؟ قلت: ما لها؟ قالت: تلك أم هذا.
قلت: وما كان قصته؟
قال: كان يشرب الخمر، فإذا راح تقول له أمه: يا بني! اتق الله... إلى متى تشرب هذه الخمر؟
فيقول لها: إنما أنت تنهقين كما ينهق الحمار.
قالت: فمات بعد العصر... فهو ينشق عنه القبر بعد العصر... فينهق ثلاث نهقات... ثم ينطبق عليه القبر([3]).
عجيبة أخرىذكر ابن الجوزي في تذكرة أولي البصائر، عن محمد بن عابد قال: بينما أنا أمشي في بعض ضواحي البصرة، إذ مر بي شاب فمضى غير بعيد؛ إذ سمعته يقول: أُخذت والله! فنظرت، فإذا به قد ابتلعته الأرض، وبقي مزود كان معه، فقعدت مستعجبًا، مفكرًا في أمره، وإذا شيخ قد أقبل معصوب العين، فسلم عليَّ وقال: هل مر بك هاهنا شاب ومعه مزود؟
قلت: نعم، وأخبرته بما رأيت من أمره، وأنه ابتلعته الأرض!
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون... ثم قال: ذلك – والله – ولدي! جادلني في شيء، ولطم عيني!
فقلت: لا أخرجك الله من أقطار البصرة، أو يخسف بك، ثم أخذ المزود وانصرف([4]).
قصص في العقوق وعواقبهونظرًا لأهمية القصة في التعليم والتوجيه والتأثير على المشاعر جمعت في هذا الكتاب كثيرًا من القصص التي انتقيتها من بطون الكتب، وقد حملت كثيرًا من الإشارات التي رغبت في تثبيتها في ذهن القارئ منها:
- أن العقوق مرض خطير يدمر الأسر والمجتمعات والأمم.
- أن العاق ليس إنسانًا سويًا؛ بل هو إنسان ذو شخصية عدوانية مذبذبة ميالة إلى الحقد والكراهية وحب الانتقام.
- أن عواقب العقوق وخيمة، وأن ذنبه يعجله الله لصاحبه في الدنيا إلا أن يتوب منه.
- أن باب التوبة مفتوح، فقد ذكرت بعض القصص التي تاب فيها من كانوا عاقين لآبائهم وأمهاتهم، وصلحت أحوالهم.
- إن للعقوق أسبابًا منها: التدليل الزائد، والقسوة الزائدة، والإدمان، والصحبة الفاسدة، والانبهار بالأفكار والمفاهيم والحضارة الغربية وغير ذلك.
- إن العاق ربما وصل به الحال إلى قتل أبيه وأمه والعياذ بالله.
- أن الجزاء من جنس العمل، فمن عق والديه؛ جعل الله له من أبنائه من يعقه ويذيقه ألوان العذاب.
هذه بعض الفوائد التي يمكن للقارئ تلمسها من خلال قراءته وتأمله في هذه القصص، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
قلوب من فولاذ
كان يعيش مع أمه في بيت واحد ليس معهما إلا خادمة ترعى شؤون أمه وتخدمها، إلا أنه كان قاسي الطبع سيئ المعاملة حتى مع أمه التي فقدت البصر وأصيبت بالشلل، فبدل أن يشفق عليها ويعاملها بعطف وحنان كان يسمعها بذيء الكلام يؤلمها ويجرح نفسيتها.
كان هذا الولد العاق يذهب مع أمه إلى (البنك) كي تتسلم راتبها الشهري فكان يجلسها على الكرسي المتحرك ويدفعها، وأثناء ذهابه بها إلى (البنك) كان يتذمر ويتكلم بكلام جارح فكانت تسمعه وهو يقول لها: «أنت عمية ومشلولة وأنا ابتليت فيك» وكانت تتألم ولكنها لا تتفوه بكلمة.
وتبكي من كلامه، وهو يزيد من كلامه المسموم فيقول: «والله لولا هذا المعاش كنت رميتك في دار العجزة» يقول هذا الكلام وهو ينفخ بحسرة وألم، والأم المسكينة يتقطع قلبها ألمًا عند سماعها كلام ولدها العاق، ثم يعود بأمه إلى البيت ويأخذ راتبها الذي قبضته من (البنك) ويتركها مع الخادمة, ثم يذهب يلهو ويلعب مع أصدقائه في الديوانيات والسفر والرحلات ولا يهتم بأمه ولا يسأل عنها ولا يبالي بما يجري لها؛ بل إنه كان يمنع أي أحد من أقرباء أمه أن يزورها أو يسأل عنها وإذا رأى أحدًا منهم طرده وأسمعه الكلام الفاحش وهدده وتوعده، وهكذا كانت هذه الأم البائسة تعاني الويل من هذا الولد العاق، ولكنها لا تستطيع أن تفعل شيئًا.
وفي يوم من الأيام سافر الولد مع مجموعة من أصدقائه إلى إحدى البلدان المجاورة وكان سفرهم بالسيارة، وبعد أن قضوا أجازتهم عادوا إلى البلاد وهم في طريق العودة انقلبت بهم السيارة وكانت إصابتهم طفيفة إلا الولد العاق فقد أدخل غرفة الإنعاش؛ وظل في المستشفى حوالي شهر ثم خرج من المستشفى على كرسي متحرك مشلولاً لا يستطيع الحراك، وتكررت صورة ذهابه إلى (البنك) ولكن بدل أن يذهب مع أمه وهو يدفعها وهي على الكرسي المتحرك لتسلم راتبها كان هو يجلس على الكرسي وتدفعه الخادمة كي يتسلم راتبه.
إن الأم محبة وحنان لا يشعر بهذه النعمة إلا من فقدها، ولكن بعض الأبناء قد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة والله عز وجل عزيز ذو انتقام، وعقوبة عقوق الوالدين معجلة في الدنيا.
وها نحن بعد أن قرأنا هذه القصة قد عرفنا عاقبة العقوق فمن كانت أمه حية؛ فليحمد الله وليقبل رأسها ويديها وقدميها فالله عز وجل يكرم المرء بدعاء والديه، ومن فقد والديه؛ فليدع لهما ويستغفر لهما؛ لعل الله يجمعهم في مستقر رحمته إنه سميع عليم([5]).
بعد فوات الأوانيقول م. ن.: كنت الابن الوحيد بين شقيقات ثلاثة، فأحاطتني والدتي بنصيب الأسد من الرعاية والحنان منذ صغري؛ لتعوضني عن وفاة والدي، التي حدثت بعد ولادتي بسنوات قليلة، وكانت والدتي لم يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين، وقت وفاته، ترفض كل من يتقدم للزواج بها حتى تتفرغ لرعايتي وأخواتي الثلاث، وتعتذر لجميع أقاربها بأنها وهبت حياتها لتربية أطفالها فقط, ولا تريد خوض تجربة زواج ثانية حتى لا تتسبب في شقائنا.
وكانت تعتمد في الإنفاق علينا من معاش والدي المحدود إلى جانب مساعدات صغيرة كانت تتلقاها من أهلها، ورغم ذلك فقد حرصت على حسن تدبير المصروفات بشكل لا يجعلنا محرومين من أي شيء مقارنة بغيرنا من الأطفال.
وتزوجت شقيقاتي الثلاث لأبقى وحدي في المنزل مع والدتي لتحيطني بكل حنانها وعنايتها، وعندما أصبحت شابًا يافعًا طلبت مني والدتي أن أتزوج حتى ترى أبنائي الصغار، ويفرح قلبها بتربيتهم كحال الأم دائمًا، وكنت أرفض في بداية الأمر خشية أن تنشغل حياتي بإنسانة أخرى، قد تأخذ جزءًا من اهتماماتي الموجهة بالكامل لرعايتها، ولكن تحت إلحاحها، وافقت على مضض وطالبتها بأن تبحث لي عن العروس المناسبة، التي ترتاح إليها وتقبل العيش معها حتى لا أفارقها أبدًا وخلال ذلك فوجئت بشقيقتي الكبرى تحضر إلى المنزل لتقيم مع والدتي بصحبة أطفالها الثلاث بعد أن طلقها زوجها؛ وبذلك زادت الأعباء المادية على والدتي، رغم ما كنت أقدمه لها من راتبي المتواضع لتنفق على مصاريف المنزل، فظننت أنها سوف تصرف النظر عن موضوع زواجي حتى تتحسن أحوالنا المادية، لكن رغم ذلك كله، فقد تشبثت والدتي بضرورة زواجي حتى تتحقق لي السعادة، وقالت: إنها ستعرف كيف تدبر أمر تلك المصاريف غير المتوقعة لأولاد أختي الثلاثة كما كانت تفعل معنا سابقًا بمعاش والدي المحدود، وفعلاً قامت باختيار إحدى قريباتي لتكون زوجة لي، وأعجبت باختيارها لأتمم موضوع الزواج مشترطًا على أهلها أن تقيم زوجتي في منزل أمي.
وبعد شهور قليلة من الزواج، حدثت مشاحنات صغيرة بين زوجتي وأختي الكبرى، وكنت بحكم صلتي العاطفية بزوجتي في صفها دائمًا بالطريقة التي لا تجرح مشاعر أختي، ثم فوجئت بأن زوجتي تشاجرت مع والدتي أيضًا بعد مرور حوالي عام من زواجنا وبأسلوب ملتو نجحت في إقناع كلتيهما أنهما مخطئتان، وهكذا مرَّت المشكلة دون أية رواسب في النفوس.
وبعد ثلاث سنوات أنجبت خلالها زوجتي ولدين بدأت المشاكل تتعمق داخل الأسرة بسبب رغبة زوجتي في الحصول على نصيب الأسد من منزل أمي، وهو الأمر الذي أثار حفيظة أمي وأختي الكبرى وأطفالها أيضًا، وكان سببًا لمشاحنات مستمرة بتأجير مسكن مستقل لها. وفعلاً، بعد تردد طويل وافقت على تأجير مسكن خاص لنا مما أثار غضب والدتي الشديد لدرجة أنها لم تكف عن البكاء طوال اليومين السابقين لرحيلي، ولم يجفف دموعها سوى أنني أخبرتها بعزمي على القيام بزيارة أسبوعية لها واستمرار المساعدة المالية التي كنت أسهم بها في مصاريف الأسرة.
وفعلاً وفيت بهذا الوعد طوال الأشهر الأربعة الأولى لرحيلي ثم بدأت زياراتي تقل بسبب مشاغل الحياة، واستكثار زوجتي لهذه الزيارات، فما كان مني سوى جعل زيارتي لأمي شهرية حتى أغلق باب أية خلافات جديدة في محيط الأسرة, ثم حدث نتيجة إلحاح زوجتي المستمر أيضًا أن جددت أثاث منزلي بطريقة التقسيط الشهري مما أدى إلى تقليص مرتبي بشكل بدأ يؤثر على مساعدتي الشهرية التي أعطيها لوالدتي، فكنت أزورها مرة واحدة كل شهرين لأعطيها مبلغًا يقل عن ذلك المبلغ الذي كنت أقدمه لها في السابق بصفة شهرية.
وكانت أمي لا تتكلم في هذا الأمر بل تأخذ ما أعطيه لها مكتفية بالدعاء لي، وخلال فترة بقائي البسيطة معها كنت ألاحظ سوء أحوالها المادية خاصة بعد أن كبر أبناء شقيقتي وزادت متطلباتهم اليومية، وكلما حاولت مناقشة زوجتي في تدبير مصروفات منزلنا لإعادة المساعدة الشهرية لوالدتي تغضب بحدة وتتهمني بالجحود لها ولأولادي، وتبدأ في استحداث وسائل جديدة للإنفاق مثل دراجات أو تجديد ديكورات المنزل.
ولم تمض أشهر قليلة على هذا الحال حتى أصبح راتبي الشهري لا يكفي إلا لتغطية مصاريف منزلي وبصعوبة، فامتنعت عن زيارة والدتي عدة أشهر لعدم وجود أية مبالغ مالية معي يمكنني مساعدتي بها كما كنت أفعل في السابق، ولإحساسي بالحرج نتيجة ذلك، فما كان من والدتي سوى الحضور بنفسها إلى منزلي للاطمئنان على صحتي، وهنا أحسست بمدى الرفاهية التي يعيش فيها أبنائي وزوجتي في الوقت الذي تعجز فيه عن الوفاء بمتطلبات أحفادها من أختي الكبرى، فكانت نتيجة ذلك وقوعها فريسة للمرض بعد عودتها إلى منزلها مباشرة.
ورغم أن أختي الكبرى اتصلت هاتفيًا لكي أزورها، إلا أن زوجتي كانت تشير عليَّ بعدم الذهاب، بحجة أن أمي تتمارض طمعًا في المزيد من الأموال، التي يجب علي أن أنفقها في منزلي فقط، وهكذا مرت عدة أسابيع دون أن أذهب لزيارة والدتي المريضة.
وفي أحد الأيام فوجئت بشقيقتي الكبرى تحدثني في الهاتف وهي مجهشة بالبكاء لتخبرني بأن والدتي وافاها الأجل وكانت آخر أمنياتها أن تراني، ومنذ ذلك الحين، وأنا ألازم منزلي استرجع فيه شريط ذكريات الماضي؛ لأبكي بحرقة على ما فرطت فيه تجاه والدتي الحنونة التي لم تحرمني طوال حياتي من شيء، فكان هذا الجحود والنكران من جانبي، وكلما أتذكر أمنيتها الأخيرة بأن تراني تتساقط الدموع الغزيرة من عيني على ما فرطت في حقها، وذلك العقوق الذي أبديته تجاهها.
ولكن هل يجدي الندم شيئًا بعد فوات الأوان؟!([6]).
([1]) تذكرة أولي البصائر لابن الجوزي ص(84)
([2]) حين العبد: أجله.
([3]) ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» وقال: رواه الأصبهاني وغيره. وقال الأصبهاني: حدث به أبو العباس الأصم إملاء بنيسابور بمشهد من الحفاظ فلم ينكروه. قلت: وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
([4]) تذكرة أولي البصائر ص(85-86).
([5]) كما تدين تدان، سيد الرفاعي ص(276، 277).
([6]) جريدة عكاظ تاريخ 20/2/1412هـ نقلاً عن: عاقبة عقوق الوالدين، إبراهيم الحازمي ص(134-138).
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
من نفس المكانضم أمه إليه، بعدما توفي والده، وكان من الأثرياء، فكان ينفق على والدته ويرعاها... تزوج هذا الابن بزوجة لا تحب إلا نفسها، ولا تبغي إلا مصلحتها، فكانت تضيق ذرعًا بأم زوجها، تسيء عشرتها وتؤذيها بلسانها وأفعالها، وشاءت إرادة الله تعالى أن تصاب الأم بحالة «جنون»، فضاقت الأرض على الزوجة ولم تطق صبرًا على وجودها.
فقالت لزوجها: أنت مخير بين أمرين:
إما أن تختار أمك, وإما أن تختارني؟
حاول الزوج إقناع الزوجة بالصبر والرضا ولكن دون جدوى.
فكر الزوج وقدر... الزوجة أم الأم؟
وأخيرًا هوى بعد أن اتبع الهوى.
سَوَّلَت له نفسه الخبيثة وهداه شيطانه.
وفكر في التخلص من أمه!!
وفي ليلة مظلمة شاتية، أخذ والدته إلى سطح البيت، ومن على سطح البيت ألقى بها، ألقى بأمه... ألقى بأمه... ألقى بأمه، فهوت الأم على الأرض تلفظ أنفاسها الأخيرة.
لتلحق بربها تشكو إليه ظلم ابنها!!
وكالعادة، أقام الابن لها سرادقًا كبيرًا لتلقي العزاء، ولم يدر أن عدالة الله له بالمرصاد.
ومرت الأيام، وظن أنه في مأمن من الله، وبأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
وأصيب الابن العاق «بالجنون» بنفس المرض الذي أصيبت به أمه، وضاقت زوجته به كما ضاقت بأمه من قبل.
وفي ليلة شاتية مظلمة.
صعد الابن على سطح البيت، ولكن هذه المرة لم يقوده أحد، لقد صعد بنفسه ومن المكان نفسه، يهوي على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة ليلقى ربه بما كسبت يداه، والجزاء من جنس العمل.
}وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى{ [طه: 61].
وتطوى صفحة سوداء من حياة بيت أقيم على الظلم والعقوق لتبقى عظته يرن صداها في وجدان كل من }كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ{ [ق: 37]([1]).
عدت ... يا أمي!!أحببتُ الدنيا... نعم أحببتها واستمتعت بها بطريقتي الخاصة، أحببت ألعابي الصغيرة... دفاتري الصغيرة... قصاصات الشعر التي جمعتها من هنا وهناك، وأقلامي الملونة التي قضيت معها أوقاتًا طويلة أميلها على هذه الورقة حينًا، وأجعلها مستقيمة أحيانًا أخرى، كتب الشعر التي تناثرت على وسادتي وسريري، تلك التي علمتني أن أحلق دائمًا في عالم من الخيال، لا يعيدني إلى الواقع غير طرقات يد والدي ووالدتي على باب غرفتي يدعوانني للطعام، أو مرافقتهم في زيارة، أو تذكيرًا لي بالصلاة، وغالبًا ما كان الرفض أو التجاهل لأغلب طرقاتهما على الباب هي الإجابة.
كثيرًا ما حاولت والدتي أن تخترق عزلتي، ولكني كنت أعتبر تلك المحاولات تطفلاً على عالمي، أعبر عن رفضي له بالكلمات والتصرفات، ولا أنسى ذلك اليوم الذي دخلت فيه والدتي غرفتي... ووجدتني أبكي بشدة، كم هالها منظري، فجلست بقربي تحاول تهدئتي، ولما علمت أن سبب هذا البكاء بسبب قصيدة من الشعر، ما كان منها إلا أن خرجت من الغرفة تسبقها كلمات الاعتراض على تصرفي، وقولها بأنها ستترك الأمر لوالدي ليرى ما الذي يمكنه عمله معي، وتلاحقها اتهاماتي التي أتمتم بها حول عدم تقديرها لمشاعري، أو تفهمهما لرغباتي.
وعلى الرغم من أنني كنت الابنة الوحيدة بين عدد من الأولاد، إلا أنني كنت بعيدة جدًا عن والدتي، أما أبي فقد كانت علاقتي به تقتصر على تذكيره الدائم لي بالصلاة، فقد كان كثير التردد على المحاضرات وحضور الندوات... مهتمًا بعمله... وحتى تلك الدعوات المستمرة والملحة من والدتي لي بالصلاة كنت أقابلها بالتجاهل أحيانًا، وبالادعاء بأنني أديت الصلاة أحيانًا أخرى.
واستمر الحال على ما هو عليه حتى جاء اليوم الذي فتح فيه والدي باب غرفتي دون أن يطرقه، وآثار الهلع بادية على وجهه، وصاح قائلاً:
«أسرعي لإعداد حقيبة والدتك فسوف أنقلها للمستشفى لتضع المولود الجديد».
ولكن لم يحن بعد موعد حضور هذا المولود، فقد أتى قبل وقت مولده بشهرين، ولأول مرة أشعر بأنني جزء من هذه العائلة، وعلي أن أتصرف بسرعة، فركضت وأحضرت حقيبة خاصة بي... وبدأت أكتشف أين تضع والدتي ملابسها، وبصعوبة أعددت الحقيبة وأسرعت لأرتدي ثيابي، وفي دقائق معدودة كنت في السيارة مع والدتي، ولأول مرة أدركت أن هذه الإنسانة أحبها جدًا، فمددت يدي للكرسي أمامي، وبحثت عن يدها لأمسك بها وأخفف عنها، وما إن توقفت السيارة أمام المستشفى حتى أخذوا والدتي للداخل، وكأن الساعة توقفت عن الدوران.
بعد مدة طويلة... سأل والدي الممرضة المسؤولة عن حالة أمي، فأخبرته بأن المولود قد تم نقله لجناح الأطفال الخُدَّج، أما والدتي فتم وضعها تحت المراقبة؛ لأنها تعاني من هبوط حاد في الضغط وبعض مضاعفات الولادة؛ أسرع والدي إلى الجناح الخاص بالعناية المركزة للاطمئنان على والدتي... ومنه لجناح الخُدَّج للاطمئنان على أخي الصغير... شعرت في هذه اللحظة برغبة شديدة في مساعدة أمي وأخي الأصغر لاجتياز هذه المحنة، لكني لم أعرف كيف؟
وخلال هذه الأثناء، وفي قمة حيرتي، وقف أبي أمام باب مصلى صغير وأشار لي أن أذهب للباب الآخر... وما إن دخلت حتى وجدتني في غرفة هادئة هدوءًا يشبه ذلك الموجود في غرفتي، وفي إحدى زواياها ورقة صغيرة معلقة كتب عليها بخط جميل: }بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ{ }وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ{ [الطلاق: 2، 3].
أدركت حينها أنني وجدت ضالتي التي غفلت عنها أيامًا... ولكني أعلم أنه لم يغفل عني أبدًا... فبادرت إليه ووقفت للصلاة، وخررت ساجدة، وعلمت علم اليقين أنه ملجئي الوحيد، وملاذي الذي أريد([2]).
بسبب 100 ريال يحرم أمه من فرحة العيدهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات يقول: دخل عليه في المحل رجل وزوجته وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير... يقول: أخذت زوجته تشتري من المحل وتشتري من الذهب... فقال الرجل للبائع: كم حسابك؟ قال البائع: عشرون ألف ومائة... فقال الرجل: ومن أين جاءت المائة... قال: أمك العجوز اشترت خاتمًا بمائة ريال.. فأخذ ابنها الخاتم ورماه للبائع وقال: العجائز ليس لهن ذهب... ثم لما سمعت العجوز هذا الكلام بكت وذهبت إلى السيارة... فقالت زوجته: ماذا فعلت؟ ماذا فعلت لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا؟ عياذًا بالله كأنها خادمة عندهم... فعاتبه بائع المجوهرات... فذهب الرجل إلى السيارة وقال لأمه: خذي الذهب إذا تريدين خذي الخاتم إن أردت.
فقالت أمه: لا والله لا أريده ولا أريد الخاتم ولكني أريد أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس فقتلت سعادتي سامحك الله. }وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا{ [الإسراء: 23]([3]).
توبة شاب عاق لأمهح.ح.م شاب ذهب إلى الخارج... تعلم وحصل على شهادات عالية ثم رجع إلى البلاد... تزوج من فتاة غنية جميلة كانت سببًا في تعاسته لولا عناية الله... يقول ح.ح.م.
مات والدي وأنا صغير فأشرفت أمي على رعايتي... عَمِلَت خادمة في البيوت حتى تستطيع أن تصرف عليَّ، فقد كنت وحيدها... أدخلتني المدرسة وتعلمت حتى أنهيت الدراسة الجامعية... كنت بارًا بها... وجاءت بعثتي إلى الخارج فودعتني أمي والدموع تملأ عينيها وهي تقول لي: انتبه يا ولدي على نفسك ولا تقطعني من أخبارك... أرسل لي رسائل حتى أطمئن على صحتك.
أكملت تعليمي بعد مضي زمن طويل ورجعت شخصًا آخر قد أثرت فيه الحضارة الغربية... رأيت في الدين تخلفًا ورجعية... وأصبحت لا أؤمن إلا بالحياة المادية – والعياذ بالله -.
وتحصلت على وظيفة عالية وبدأت أبحث عن الزوجة حتى حصلت عليها وكانت والدتي قد اختارت لي فتاة متدينة محافظة, ولكني أبيت إلا تلك الفتاة الغنية الجميلة لأني كنت أحلم بالحياة «الأرستقراطية» - كما يقولون – وخلال ستة أشهر من زواجي كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت والدتي... وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي فسألتها عن السبب فقالت لي: إما أنا أو أمك في هذا البيت... لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك.
جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب فخرجت وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي.
وبعد ذلك بساعات خرجت أبحث عنها ولكن بلا فائدة... رجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة.
انقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن أصبت خلالها بمرض خبيث دخلت على إثره المستشفى... وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي وقبل أن تدخل عليَّ طردتها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا... ماذا تريدين منا... اذهبي عنا... رجعت أمي من حيث أتت!
وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل انتكست فيه حالتي النفسية وفقدت الوظيفة والبيت وتراكمت عليَّ الديون وكل ذلك بسبب زوجتي, فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة... وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: ما دمت فقدت وظيفتك ومالك ولم يعد لك مكان في المجتمع؛ فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريدك... طلقني.
كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعت على رأسي... وطلقتها بالفعل... فاستيقظت من السبات الذي كنت فيه.
خرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها... ولكن أين وجدتها؟!! كانت تقبع في أحد الأربطة تأكل من صدقات المحسنين.
دخلت عليها... وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة.
وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاءً مرًا فما كان منها إلا شاركتني البكاء.
بقينا على هذه الحالة حوالي ساعة كاملة... بعدها أخذتها إلى البيت وآليت على نفسي أن أكون طائعًا لها وقبل ذلك أكون متبعًا لأوامر الله ومجتنبًا لنواهيه.
وها أنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر: أمي – حفظها الله – وأسأل الله أن يديم علينا الستر والعافية([4]).
قاده الإدمان إلى القتل والعقوقأنهى «سامي» امتحان السنة الأولى الإعدادية بتفوق... وقبل أن يعرف نتيجة امتحانه سأل والده قائلاً:
ما الهدية التي ستهديني إياها هذا العام؟ قال والده بسعادة: عندما تحضر الشهادة وتكون ناجحًا سأوافق على سفرك مع خالك إلى الحبشة لتقضي أجازة الصيف هناك... صحيح يا أبي ردد ذلك بفرح طفولي؟ صحيح يا سامي يا حبيبي.
كان سامي أكبر الأولاد، وقد أنجبته أمه بعد طول انتظار، فنشأ بين والديه حبيبًا مدللاً، الجميع يسعون لإسعاده وتحقيق مطالبه وإدخال السرور على نفسه، لم ينم سامي تلك الليلة من الفرحة فقد كانت الأحلام الوردية تداعب مخيلته وفكره الطفولي الخام... كيف لا وهو يسافر لأول مرة إلى الحبشة وسيقضي فيها ثلاثة أشهر هي فترة الأجازة المدرسية، سيتمتع خلالها بكل جديد جميل.
في صباح اليوم الثالث لانتهاء أعمال الامتحانات، خرج سعيدًا بصحبة والده إلى المدرسة ليحضر الشهادة... غاب لحظات بينما كان والده ينتظره في سيارته... ثم عاد وهو يحمل الشهادة في يده وعلامات البشر تنطق من وجهه البريء... أبي أبي أبشرك لقد أخذت الترتيب الثاني على زملائي، ابتسامة عريضة سكنت على محيا والده... وبدا الفرح جليًا في عينيه... حضنه بفخر وفرح شديد وهو يقول: ألف ألف مبارك يا سامي بل مليون مبارك يا سندي، الحمد لله على توفيقه لك. أبي هل ما زلت موافقًا على سفري مع خالي؟ أجل ستسافر مع خالك وسأعطيك من المال ما يكفيك لتكون سعيدًا.
ودَّع سامي والديه وهو في غاية الزهو والسعادة... وفي الطائرة التي ركبها سامي لأول مرة رأى عالمًا جديدًا، ومتعة لم يتذوقها من قبل، متعة فيها خليط من الخوف والبهجة معًا خصوصًا عندما سمع هدير الطائرة وهي تقلع عن أرض المطار لتحلق في الفضاء الواسع. كان كل شيء يشاهده ويسمعه جديدًا بالنسبة له وشيئًا غريبًا لم يألفه من قبل، وفي الحبشة رأى سامي بصحبة خاله عالمًا جديدًا آخر.
مرَّ بعدة تجارب... شاهد أشياء لم يشاهدها من قبل... اختلط بأناس عديدين... عاش سعادة غامرة... أحس أنه كبر أكثر من عمره لمعرفته أشياء جديدة، كان يلاحظ بين فترة وأخرى وفي أوقات معينة أن خاله تنتابه حالة غريبة يضعف فيها جسده وتوازنه أحيانًا، يراه سعيدًا ضاحكًا وأحيانًا أخرى يسمعه يتمتم بأغنيات لا يفهمها جيدًا، ويتحدث بكلمات غريبة، أو يضحك بصوت عال، كان تصرف خاله يحيره تارة ويشده تارة أخرى، فكان يراقبه بدافع الفضول... وحين أدرك أن سبب تصرفه الغريب هو شرب الخمر... زادت مراقبته له... ولما أدرك أنه مدمن لكل أنواع الخمر نمت في نفسه غريزة حب التقليد، ثم تحولت إلى رغبة في التجربة الفعلية فكان يحدث نفسه قائلاً:
سأفعل مثله لأرى ما يحدث له؟ وبم يحس؟ وكيف يكون سعيدًا. في بداية الأمر لم تعجبه، ولكن رؤيته لحال خاله دفعته إلى أن يجرب مرة واثنين وثلاث؛ حتى تعود عليها... وأصبح مدمنًا لها وهو لا يتعدى الثالثة عشرة من عمره... لقد وجدها تجربة لذيذة كما صورها له الشيطان... بعد مضي فترة الأجازة عاد سامي بصحبة خاله إلى جدة وكان تفكيره في كيفية الحصول على الشراب والتمكن من تناوله يقلق تفكيره ويكدر عيشه ويحول بينه وبين إحساسه بالسعادة والراحة، ولكنه وجد في النهاية أن الامتناع عنه نهائيًا هو الحل الوحيد للمحافظة على نفسه ومستقبله فهو لا يزال طفلاً، كما أنه فعل مشين حرمه الله وحرمه الشرع ووضع عقابًا لشاربه.
وبعودته لحياته الطبيعية في بلده وبيته نسي سامي كل شيء عن الخمر... ومرت عليه ثلاث سنوات دون أن يفكر في شربه، وكان كل عام ينجح بتفوق، وفي نهاية السنة الرابعة قرر أهله السفر إلى الخارج لقضاء الصيف، وهناك في قلب الدول الأوربية أيقظ الإغراء الرغبة الكاملة في نفسه منذ فترة، وجددت الذكريات القديمة أيام الحبشة فمضى الشيطان يزين له الشرب فكان ينتهز فرصة غياب أهله بخروجهم... أو وقت نومهم ليتناول الخمر خفية حتى أدمنه من جديد وأصبح لديه كالماء والغذاء لا يستغنى عنه أبدًا.
وفي إحدى الليالي... خرج معه «فوزي» ابن خاله لقضاء السهرة في أحد النوادي الليلية... وجلسا معًا يحتسيان الخمر بعد أن أكلا ما طاب لهما من الطعام، وهما ينصتان لموسيقى الجاز الصاخبة وكانت السعادة ظاهرة على سامي بعد شرب الخمر، في تلك اللحظة، أخرج فوزي من جيبه قطعة صغيرة سوداء، ومضى يستنشقها بهدوء ولذة، وكأنه يقبل طفلاً رضيعًا، وكان بين آونة وأخرى يتمايل يمينًا وشمالاً... سأله سامي في فضول ما هذه؟ ولماذا تفعل هكذا؟
ضحك فوزي وقال: ألا تعرف ما هي؟ سامي: لا أعرف... ألم تر مثل هذه الدرة من قبل؟ إنها المرة الأولى التي أرى فيها هذه رغم أن منظرها كئيب ولا تستحق ما وصفتها به، ضحك فوزي باستهزاء... ثم قال اسمها الحشيشة السوداء... إنها قمة اللذة العارمة... سامي باستغراب وتعجب: هل هذه الحشيشة تفعل كل هذا؟ فوزي: إن ما قلته جزءٌ من الحقيقة وعليك أن تجرب حتى تعرف بنفسك. أخذها... ثم بدأ يشمها... انتقل إلى عالم الزيف والضياع... لم يكن يعلم أن هذه السوداء الصغيرة ستكون له بالمرصاد... إنها موت يطرق بابه كل يوم، ويهدد مستقبله وصحته، لم تمض عدة أيام حتى أدمنها، انقلبت حياته وساءت صحته واعتل فكره، كان يصرف كل ما يجده على شراء الحشيش.
عندما أنهى تعليمه وحصل على الوظيفة، بدأ يشعر بكراهية الناس والابتعاد عنهم، كان يشعر في قرارة نفسه أن الجميع يعرفون سره، وأن أحدًا لم يعد يثق فيه، أصبح عصبي المزاج كثير الانطواء على نفسه، فقد ثقته في المحيطين به، كان القلق لا يفارقه، مضت ثمانية عشر عامًا وهو أسير سجانته السوداء رغم تقلبه في عدة وظائف للحصول على راتب أكبر يساعده على الصرف، ذاق المرين من حياته وكثرة مشاكله التي لا تنتهي ومواقفه العصبية مع أهله، ورفض الزواج من قبله وإصرار أهله على زواجه، كان يحس أنه بحار ضائع في بحر لا قرار له، ولا سبيل للنجاة منه، فكر في صديق عزيز عليه، ذهب ذات يوم إليه ليبوح له عن مشاكله لعله يجد له حلاً... استقبله صديقه بفرح كبير وعاتبه على انقطاعه عنه... حدث صديقه بكل ما جرى معه وما يجري، كان صديقه ينصت له وهو في حالة خدر هلامية حتى إذا انتهى سامي من حديثه، بادره قائلاً: عندي لك ما ينسيك كل آلامك، فقط عليك أن تمد يدك وتغمض عينيك وتنتظر لحظات... ماذا تقول؟ أنا في حالة سيئة لا تستدعى المزاح منك! أنا لا أمزح افعل ما قلته لك وسترى! مد يده وأغمض عينيه... وحين فتحهما كان صديقه قد انتهى من حقنه بالهيروين، ومع بداية حقنه الهيروين كانت بداية رحلة ألم وعذاب جديدة بالنسبة له... فقد كان كالسحر... ولم يعد يستغنى عنه، وكان حين يتركه يشعر بآلام تنتخر عظامه لا سبيل له إلى تحملها، صرف كل ما يملك على الهيروين، اضطرته حالته للاستدانة من أهله وأصدقائه، رهن بيته... وعندما ساءت حالته الصحية، دخل المستشفى وخرج ليعود للإدمان من جديد، دخل المستشفى أكثر من مرة ولكن دون جدوى.
ذات ليلة لم يستطع المقاومة ولم يكن لديه مال... كان والده مسافرًا وكانت تصرفاته الأخيرة يغلب عليها الطابع العدواني... الذي أفقده آدميته وإنسانيته...كانت ليلة مقمرة بعض الشيء... خرج من غرفته وتسلل بهدوء إلى غرفة والدته... فتح دولابها... سرق كل مجوهراتها.... صحت أمه على صوت الدولاب... رأت الشبح صرخت بكل قوتها حرامي حرامي... اتجه ناحيتها أغلق فمها الطاهر بيده ثم قذف بها على الأرض... تكومت على الأرض مرتاعة هلعة... فر هاربًا خارج الغرفة... في حين خرج أخوه الأصغر على صوت أمه... لحق به ليمسكه، كانت اللحظات صعبة والموقف مريرًا وعصيبًا طعن أخاه في صدره وطار بفريسته كما يفعل الذئب عندما يصطاد أرنبًا... كانت سيارة الدورية تجوب الشوارع... لاحظه قائد السيارة يخرج مسرعًا يكاد يسقط على الأرض وفي يده علبة كبيرة... التفوا حوله اقتادوه إلى السجن.... وفي السجن وعند التحقيق كانت المفاجأة المرة... المجرم هو الابن والضحية الأم والأخ... والبيت المسروق بيتهم جميعًا... لم تحتمل الأم هذه المفاجأة سقطت مريضة تذرف دموع الحسرة والندم والألم معًا... سامي المدلل ضاع مستقبله... وأصبح في عيون الناس ابنًا عاقًا ومجرمًا وضائعًا. أخوه ذهب ضحية فساده وعدم اهتمام والديه وحرصهما... نقل إلى المستشفى للعلاج... ولكنه مع ذلك... سيظل متذكرًا أنه قتل أخاه الأصغر دون وعي منه، وسيظل يحمل إثم ذلك حتى لو تاب وشفي... لقد أوقع نفسه في بئر ظلماء لا سبيل للخروج منها... وكانت الإغواءات الشيطانية هي السبب الذي دفعه ليقع في تلك البئر العميقة([5]).
عاقبة العقوقعن أبي عبد الرحمن الطائي قال: كان رجل من بني نهد كبر وضعف يكنى أبا منازل، وله ابن يُقال له منازل، وكان له أولاد صغار، فكان إذا أصب شيئًا أعطاهم إياه، وكان منازل يقبض عطاء أبيه وكان شيخًا كبيرًا، فولد للشيخ بنون صغار، فكان منازل يستأثر عليهم فلما خرج العطاء خرج منازل يقود أباه حتى أجلسه يقبض عطاءه، فلما نودي باسمه قام منازل، فقال: أعطوني عطاءه.
فقام الشيخ فقال: أعطوني عطائي في يدي.
ففعلوا، فحمل عطاءه، ثم قام يتوكأ على منازل.
فقال منازل: هلم أحمله عنك.
قال الشيخ: دعه.
فلما خلا له الطريق فك يد أبيه ثم أخذ العطاء فذهب به، فانصرف الشيخ وليس معه في يده شيء.
فقال له أهله وولده: ما صنعت؟!
قال: أخذ منازل عطائي، وأنشأ يقول:
جزت رحم بيني وبين منازلفأصبح منازل ملوية يده([6]).
جزاء كما يستنجز الدين طالبه
وربيته حتى إذا ما هو استوى
كبيرًا وساوى عامل الرمح غاربه
تظلمني مالي كذا ولوى يدي
لوى يده الله الذي هو غالبه
وقيل: إن منازلاً لطم أباه على وجهه، فذهب أبوه يبكي.
وقال: والله لأحجن إلى بيت الله الحرام وأدعو عليك هناك... فحج الأب إلى بيت الله الحرام وتعلق بأستار الكعبة ثم رفع يديه وقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعواما أنزل الوالد يديه إلا وشل الله الابن وأصبح مشلولاً إلى أن مات عياذًا بالله([7]).
أرضًا فلاة من قرب ومن بعد
هذا منازل لا يرتد عن عققي
فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحولٍ منك جارحة
يا ليت ابني لم يولد ولم ألم
كما تدين تداننشأ مدللاً بين والديه، ومات والده وقامت أمه برعايته حتى كبر واشتد ساعده واستوى على سوقه، وأصبح رجلاً وعمل في مجال التجارة حيث إن والده ترك له ثروة لا بأس بها، ودعوات الأم الطيبة ترافقه في كل مكان، ومع كل خطوة يخطوها تدعو بالتوفيق فكثرت أمواله واتسعت تجارته.
وكانت أمه ما زالت ترعاه وتقوم بشؤونه، وتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه وتواسيه وتحبب إليه الحياة وتحثه على العمل، فكانت هي السبب بعد الله – عز وجل – في هذه الثروة العظيمة التي يمتلكها، وهذه الشهرة التي اشتهر بها بين الناس، والأم لا تكمل فرحتها إلا بزواج ولدها لتفرح به وبأولاده، وتسعد معه بتكوين أسرة تكمل المشوار. وبحثت له عن بنت الحلال، ولكنه لم يرض بما أشارت عليه به أمه، بل اختار هو بنفسه وتزوج وفرح بزواجه ولكن فرحة أمه أكبر وأعظم، وأخذت الأم تدعو ربها أن يرزق ولدها الذرية الصالحة لكي تفرح بهم وتسعد معهم، واستجاب الله تعالى لدعائها ورزق بولدين مطيعين له، فأحبهما أكثر من نفسه ورعاهما وسهر على راحتهما حتى كبرا وشبَّا على الطوق، وكبرت الأم وصارت بحاجة إلى من يرعاها ويقوم بشؤونها، ولكنه تأفف من ذلك، فرغم أنه الرجل صاحب الثروة الكبيرة والجاه العظيم، إلا أنه بخل على أمه بأن يجعل لها خادمة تقوم برعايتها، وتضايق من أمه، وفكر في وسيلة تريحه منها، فهو لا يطيق حتى أن ينظر إليها، ودفعه تفكيره إلى أن يودعها في دار العجزة.
فتبًا له من ولد عاق كيف هانت عليه أن يودعها دار العجزة أين السهر؟ أين المعاناة؟ أين الصبر؟ أين الحنان؟... لقد ذهب كل هذا أدراج الرياح، أمك التي بذلت كل ما في وسعها من أجلك يكون هذا جزاءها من ولدها الوحيد؟! فتبًا لك ألف مرة.
وذهب مرة لزيارة أحد أصدقائه ليبث له شكواه، وقال لصديقه وهو يندب حظه العاثر: تصور يا أخي ما أن أودعت والدتي دار العجزة، ورعاية المسنين حتى لامني الكثير من الأهل والأقارب والبعيد والقريب ممن أعرفهم، فأجابه صديقه مندهشًا: ماذا تقصد بوالدتك التي أودعتها دار العجزة؟! هل هي أمك التي حملتك؟ أمك فلانة التي ربتك صغيرًا، ورعتك كبيرًا أم لديك أُمٌّ غيرها؟!
قال: بل هي أمي فلانة!! فما العجب في ذلك؟ وقد افتتحت الحكومة هذه الدار لأمثالها.
فقال صديقه: يا سبحان الله... اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا... هل ضقت بوالدتك ذرعًا وأنت صاحب المال والجاه والثروة الواسعة والتي آلت إليك بسبب دعواتها لك بالتوفيق، عد إلى رشدك يا رجل، واستغفر الله واذهب لأمك وَقَبِّل قدميها، واسأل الله التوبة والمغفرة، واطلب الصفح منها، وعُد بها إلى البيت وهيئ لها من يقوم بخدمتها، واعمل على سعادتها وراحتها، أما إن كان الذي فعلته رغبة حرمكم المصون، فلم أعلم أنك مطية بين الرجال؛ بل عرفتك رجلاً.
ولما سمع من صديقه هذا الكلام الصادق ضاق وهاج وماج وقال: يا أخي إن كنت ستزيد من آلامي؛ فأنا في غنى عن معرفتك.
فقال له صديقه: هذا لا يشرفني من ابن عاق مثلك, فصداقة أمثالك عار.
ومرت الأيام وأمه ملقاة في دار العجزة لا أحد يزورها، وهي تعاني من آلام الكبر والمرض والقهر، واشتد عليها المرض، ولم يزرها مرة واحدة، ونقلت إلى المستشفى، ولم يرق قلبه لها، وحثه أقرباؤه وأبناؤه لزيارتها وهي في المستشفى فأبى واستكبر وأخذته العزة بالإثم، واشتد عليها المرض، واقترب الوعد الحق، وعلم العاق أن أمه تعاني سكرات الموت، فهل فاق وتاب وأناب... أبدًا، بل شد رحاله وغادر البلاد فجأة دون علم أحد، وبعد أن تأكد أنها ودعت الدنيا بما فيها من مآسٍ ودفنت في قبرها، عاد راجعًا، ولكنه رجع ليجني ثمار ما زرع، ويا شر ما زرع، لقد زرع العقوق والعصيان، فماذا سيجني؟ وماذا ستكون النتيجة؟.. لا شك أنه سيجني البؤس والشقاء.
لم تمر إلا أيام معدودة قبل أن يجف قبر أمه، تعرض فلذة كبده وأحب أبنائه إلى قلبه إلى حادث مروري مروع راح ضحيته الابن، وكان هذا الحادث عبارة عن خنجر غرس في قلب الأب، ولم يمر عام على هذا الحادث الأليم، إلا ويتعرض ولده الثاني وساعده الأيمن في تجارته وأعماله لمرض عُضال جعله ملازمًا للسرير، وأخذه والده وجال في أرجاء العالم، يبحث له عن شفاء ولكن دون جدوى، ولحق الابن الثاني بأخيه، وبقي الأب وحيدًا، فقد كُسِرَ جناحاه، وساءت حالته النفسية، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وبارت تجارته، وأخذ موظفوه يسرقونه، وأخذ يجني ثمار زرعه، وها هو يرى حياته تتصدع أمام عينيه، وها هو يرى ما بناه يسقط أمامه دون أن يستطيع عمل أي شيء، وها هي العقوبة تطل عليه في كل يوم وكل ساعة وكل لحظة، والله أعلم بمصيره في الآخرة([8]).
.
.
.
يتبع
([1]) وبالوالدين إحسانًا – سعد يوسف – (ص57، 58) بتصرف وزيادات. نقلاً عن: أنين القلوب لمصطفى كامل ص(42، 43)].
([2]) أسيرة الأحلام؛ تيسير أحمد الزايد ص(131-134).
([3]) قصص مؤثرة للشباب ص(92، 93).
([4]) جريدة البلاد العدد (9021) نقلاً عن: التائبون إلى الله (1/213-215).
([5]) مأساة نورة وآخرين ص(97-105).
([6]) «مجابو الدعوة»، لابن أبي الدنيا، ص(77، 78) ط. مؤسسة الرسالة.
([7]) قصص مؤثرة للشباب ص(93، 94).
([8]) عاقبة عقوق الوالدين ص(114-117).
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
ضرب والدته ... فشلّت يمينه
كان وحيد والديه إلا أنه كان سليط اللسان بذيء الكلام، فكان يوجه سبابه وشتائمه إلى والديه دون مراعاة لما حث عليه الدين الحنيف من طاعة الوالدين واحترامهما والسمع والطاعة لهما وعدم إيذائهما حتى ولو بأقل الكلام، ولكن هذا العاق كان شديدًا على والديه، وبعد وفاة والده ازدادت قسوته على أمه، وكانت أمه المسكينة من حبها له وخوفها عليه دائمة النصح له بأن يبتعد عن رفاق السوء الذين كانوا السبب في ابتعاده عن الدين والأخلاق الحميدة، وسببًا في تخلفه الدراسي وانحرافه، إلا أن هذا الشقي لم يكن ليسمع كلامها؛ بل يرد عليها بأرذل الألفاظ وكان يقسو عليها حتى نفد صبرها فهددته بأن تخبر أحد أخواله كي يؤدبه، ولكن هذا العاق الشقي سب خاله وتحدى أن يفعل له شيئًا فلقد بلغ الرابعة والعشرين من عمره فلا يستطيع أي من كان أن يفعل له أي شيء فهو يستطيع أن يدافع عن نفسه، وأخذ يتطاول على أمه بالكلام القبيح والألفاظ البذيئة.
وزادت ثورته وسيطر عليه الغضب وأخذ إبليس بناصيته ففقد أعصابه والتقط الحذاء وقذف به أمه فأصابها في ظهرها وخرج غير نادم على فعلته الخسيسة، وأخذت الأم المسكينة تبكي وتندب حظها، ومن شدة حزنها وحرقة قلبها دعت عليه وهي تبكي وتنتحب، وفي الليل عاد الشقي بعد أن قضى معظم الوقت مع أصدقاء السوء وألقى بجسده على الفراش وغط في النوم.
وفي الصباح استيقظ وكانت المفاجأة أنه لا يستطيع أن يحرك يده اليمنى... يده التي قذف بها الحذاء تجاه أمه... لا تتحرك! لقد شلت يده، أغلق عليه الباب وأخذ يبكي من هو ما أصابه وجُرم ما ارتكبه في حق والدته، ورق قلب الأم المسكينة لما أصاب فلذة كبدها ولكن لا تستطيع أن تفعل له شيئًا؛ فأخذت تدعو الله عز وجل أن يشفيه وهي تبكي وتنتحب.
كيف طاوعت له نفسه أن يقذف أمه بالحذاء!! إن الإنسان السوي لا يجرؤ أن يقذف حيوانًا أليفًا خوفًا من الله ورحمة بهذا الحيوان.
إن الله عز وجل حذرنا من أن نقول «أُف» أمام الوالدين وأن لا نتفوه أمامهما إلا بالكريم من القول، فكيف بمن يتطاول على أمه التي لها المنزلة الأولى بأن يقذفها بالحذاء! ماذا بقي بعد من ديننا وأخلاقنا([1])!
إن ربك بالمرصادلم يدر بخلده في يوم من الأيام، أن يرى نفسه حبيسًا بين فراشه وكرسيه المتحرك، وألفاظ ابنه القاسية تسد مسامعه ليل نهار، فقد كان في كل لحظة من لحظات حياته القاسية، يتذكر والده الذي مات في يوم من الأيام من جراء قسوته عليه، وعاش قبلها سنوات طويلة يعاني من عقوقه، يكاد لسانه لا يفتر عن الدعاء بالرحمة لوالده، والدعاء بالهداية لابنه، وبين ذا وذاك كان يتفكر في حكمة رب العالمين، ويمعن التفكير أكثر في ما فعله في السابق بوالده، وفي ما يفعله به ابنه الآن.
في بداية شبابه، كانت الغشاوة كثيفة أمام عينيه، ونسي واجباته أمام الله تعالى، ومن ثم تجاه والده، نسي أن رضا الله سبحانه وتعالى يستلزم رضا والده عنه.
عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد». [حديث صحيح].
حرص في تلك الفترة السوداء من حياته على رفقة سيئة، وعاقر الخمر، وكان يبحث عن المال بشتى الطرق والأساليب، وعندما يعجز عن الحصول عليه كان يطلبه من والده، ووالده يرفض إعطاءه المال ليس بخلاً، وإنما للحد من فعل المحرمات؛ لأنه كان يعرف أن ابنه يستخدم هذا المال للحرام فقط، وفي لحظة جنونية، تطاول الكلام بينه وبين والده، وتعالت الأصوات، أوعز إليه الشيطان بضرب والده، نعم ضرب والده، ومن هول المفاجأة لم يصد الوالد اعتداء ابنه عليه، ففرح ظنًا منه بضعف والده، فمد يده بكل قسوة إلى محفظته، وأخذ المال الذي يحتاجه لشراء الخمر.
كان متزوجًا ولديه ابن وابنة، وكانت زوجته تتجرع المر من تصرفاته، فقد كانت تعيش في بيت والده، وفي ذلك اليوم الذي اعتدى فيه على والده بالضرب، خرج مسرعًا ليتمتع بهذه الغنيمة التي حصل عليها عنوةً، وكان نصيب والده أزمة صحية مفاجئة نُقل على إثرها للمستشفى، ذهب تلك الليلة إلى رفاق السوء، وقد أماتت الخمر ما تبقى لديه من مشاعر إنسانية، شرب حتى ثقل رأسه، فلم يعد يميز ولا يعي ما حوله، استأذن من رفاقه، وسار متثاقلاً نحو سيارته، وسار بها دون تركيز، وفي تلك اللحظة كان والده يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى، وتمايلت به سيارته واصطدمت بأحد أعمدة النور، نُقل بعدها إلى المستشفى، ولم يَعِ إلا بعد أيام، وقد خمدت أطرافه السفلية إلى الأبد، وصار مقعدًا يتنقل من هنا وهناك بحسرة وصعوبة، وملامحه المنكسرة توحي بمرارة الندم من الماضي الأليم.
ضاقت زوجته ذرعًا من حالته، وهجرته بعد شهور، اصطحبت معها ولديها في البداية، ولكنها عندما تزوجت أعادتهم للعيش معه في بيت والده، وكانت والدته تقوم برعاية الجميع، ومرت الأيام سريعة، لتنتقل والدته إلى رحمة الله، وتتزوج ابنته، ويبقى ابنه أمام ناظريه، يسلب منه المال عنوة، ويذهب ليسهر مع رفاقه إلى الفجر، ومن ثم يعود مترنحًا مع بداية يوم جديد، كان ينصحه نصائح متذبذبة، ويرى فيه صورته السابقة، ويرى في عقوقه له عقوقه السابق لوالده.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة» [رواه النسائي والحاكم]([2]).
الجزاء من جنس العملحدث أحد الشباب برواية هي أعجب من العجب لكل ابن لا يفي بحق والده ولكل والدين لا يجدون من أبنائهم إلا عقوقًا... قال: «لا أعرف من أين أبدأ رواية مأساتي التي أعانيها الآن... وعمري يقارب السبعين عامًا؟! هل يعيد الزمان نفسه معي فتدور الدائرة عليَّ لأشرب من نفس الكأس التي أذقتها لوالدتي من قبل خلال فترة شبابي؟! وحتى تفهموا قصة ما أعانيه أعود بكم خمسين عامًا إلى الوراء... وقتها كنت شابًا في حوالي العشرين من عمري حيث فجعت بموت والدي التاجر الكبير... ولما كنت ابنه الوحيد فقد وضعت يدي على كل ما يمتلكه من نقود ذهبية وثلاثة محلات تجارية مليئة بأفخر أنواع الأثاث.
ووافقتني والدتي – رحمها الله – على ذلك لأنها كانت غير راغبة في شيء من حطام الدنيا سوى ما يقيم صلبها من طعام وشراب... وعشت مع والدتي ردحًا من الزمان حتى اختارت لي زوجة من قريباتي لمست فيها الطيبة وحسن الخلق. لكن يبدو أن والدتي – رحمها الله – لم تكن تدري لطيبتها المفرطة بذلك المكر والدهاء المتمثلين في قلب تلك الزوجة... فما أن وضعت ابني الأول حتى طالبتني بشراء منزل خاص لنا بعيدًا عن والدتي بحجة أنها تريد الاستقلال بحياتها لتحس بأنها سيدة المنزل!
حاولت الاعتراض في البداية... لكن تحت إلحاحها بادعاء أن والدتي تتدخل في شؤونها الخاصة وافقت على بناء دار جديدة لنا تبعد عدة أميال عن منزل والدتي... ولم أستجب وقتها لتوسلات والدتي العجوز التي كانت في حاجة لمن يرعاها, أو يتولى شؤونها بالاستمرار معها في المنزل وانسقت وراء رغبة زوجتي في الاستقلال بمنزلها!
وكنت أتوجه لزيارة والدتي في بداية انفصالي بالمنزل الجديد بشكل أسبوعي لشراء احتياجاتها من الطعام والشراب... لكن تحت ضغط زوجتي وإلحاحها بدأت أقلل من زياراتي لوالدتي لتصبح بشكل شهري نظرًا لبعد المسافة بين منزلينا في ظل عدم وجود وسائل سريعة للمواصلات حيث كنا نستعمل الجمال والدواب.
أصاب والدتي المرض... وعندما عرضت على زوجتي ضرورة عودتنا للحياة معها مرة أخرى لإعداد طعامها والإشراف على تطبيبها رفضت بحجة أنها ليست خادمة لوالدتي أو لغيرها, وهكذا لم أستجب لتوسلات أمي بالبقاء إلى جوارها... مكتفيًا بتوصية جيرانها على الاهتمام بحالها... وفي أحد الأيام بلغني خبر وفاتها من أحد هؤلاء الجيران.
ومضت الأيام والسنون فنسيت واقعة أمي وواصلت الحياة السعيدة مع زوجتي وولدي... وبعد وفاة أم أولادي منذ عامين أحسست بأنني مفرد وحيد.
فاتحت ولدي الاثنين في أمر الزواج من امرأة أخرى فلم يوافقا وعندما رفضت رأيهما عازمًا على الزواج فوجئت بمعاملتهما تتغير تجاهي بشكل لم أتخيله. نسيت أن أذكر أنني وكلت أولادي في مسؤولية كل شيء أمتلكه لاقتناعي بأن الموت لا مفر منه وسوف يرثون ما أملك يومًا ما... فلا مانع من تكليفهما بإدارة المؤسسة التي أمتلكها في حياتي وعندما لاحظت هذا التغيير في المعاملة منهما هددتهما بإلغاء الوكالة المقدمة، ففوجئت بأن معاملتهما ازدادت سوءًا لدرجة أنهما أصبحا يقاطعاني ولا يرسلون لي مبالغ مالية تكفي لإعالتي كما كان يفعلان من قبل.
وكلما أتذكر ما كنتُ أفعله مع والدتي من قبل تتساقط الدموع من عيني على تكرار نفس المأساة في حياتي التي فعلتها من قبل مع والدتي – رحمها الله – وأخشى أن أموت مثل أمي – دون أن يكون أحد أولادي إلى جواري... وما أرجوه الآن أن تتسع رحمة الله -عز وجل- لتشملني وتغفر خطيئتي فلا أموت وحيدًا منعزلاً كما حدث مع والدتي...»([3]).
قاتل أبيهنشأ يتيمًا، فقد مات أبوه وهو في الثانية عشرة من عمره، فكفلته أمه التي كانت تعمل في بيوت الجيران، لتأتي له بفضلات الطعام مساء يسد بها رمقه، وبالثياب القديمة ليواري بها عورته، وبالدراهم القليلة لتؤدي منها أمه أجرة غرفتها التي استأجرتها في دار قديمة، أكل عليها الدهر وشرب.
وأنهك أمه العمل في بيوت الجيران، فسقطت مريضة بالتدرن الرئوي، ولما لم تجد من يطعمها ويرعاها، لجأت إلى المستشفى الحكومي، حيث وجدت ما تأكله ومن يرعاها من الممرضات، ولكنها لم تتحمل وطأة المرض الذي هد بدنها، ووطأة الحزن الممض على ولدها الصغير الذي بقي وحيدًا في غرفتها، فأصبحت الأم تعاني مرضين: مرضًا يحطم جسدها الضعيف، ومرضًا يحطم نفسيتها المعذبة.
وذهبت الأم إلى جوار ربها، وبقي الولد إنسانًا بلا غد.
وترك الولد مدرسته؛ لأنه اضطر إلى العمل في البناء عاملاً بسيطًا بأجر زهيد، وبالتدريج تدرب على البناء، فأصبح بعد مضي السنين من الذين يتقنون حرفة البناء، فتحسنت حالته الاقتصادية، وأصبح يعيش عيشًا رضيًا.
وقرر في يوم من الأيام أن يكمل نصف دينه بالزواج، فتقدم إلى أستاذه في حرفة البناء طالبًا يد ابنته، فوافق الأب، وزفت العروس إلى بعلها.
وتعاقبت السنون، فأصبح صاحب دار مستأجرة, وزوجة أولاد، ومعروفًا بإتقانه حرفته، وأمانته في عمله، وإخلاصه بأداء واجبه.
وتكاثرت عليه الزبائن، فكان يعمل في الأسبوع سبعة أيام، لا يكاد يرتاح يومًا من الأيام، أو ساعة من الساعات، وكان عليه أن يعمل يوميًا لينفق أجره اليومي على عائلته التي أصبحت تزداد كل عامين تقريبًا بمولود جديد.
وحرص على تعليم أولاده، وكان يقول لزوجه وأولاده: تعبت في حياتي كثيرًا، وأتمنى أن ترتاحوا في حياتي وبعد رحيلي بإذن الله.
وتخرج ولده البكر في الجامعة، فأصبح موظفًا في الدولة، وكان الأب قد قارب الخمسين من عمره، وكان لا يزال يعمل في حرفته، وكانت شهرته قد ازدادت بقدر ازدياد ضعف بدنه وازدياد علله وأمراضه.
وتزوج ولده من زميلته الجامعية، التي اشترطت عليه أن يغادر بيت أبيه وأمه، وأن يستأجر دارًا مناسبة ويشتري سيارة جديدة، وأن يجهز داره بالأثاث الفاخر، والفراش الوثير، والثلاجة المبردة، والغسالة الكهربائية.
وانصاع الولد لأوامر زوجه، فهي جامعية من عائلة غنية معروفة، فلا بد من أن ينفذ أوامرها بدون مناقشة ولا اعتراض.
وأصبح الولد ينوء بأعباء ديون ضخمة، وعليه أن يدفع أجرة الدار وتكاليف الماء والكهرباء والهاتف وأجرة الفلاح، فارتبكت أموره المالية، فكان لا بد من إجراء يخفف عنه ما ينوء به من أعباء.
وكان والده يتمنى أن يعينه في سدَّ بعض أقساط ديونه المستحقة عليه ولكنه كان مسؤولاً عن إدارة بيته وأولاده الذين لا يزالون في المدارس والجامعات، فعجز عن معاونة ولده بالمال، ولكنه كان يحمل هموم ولده مرتين: مرة لشعوره الأبوي، ومرة لعجزه عن المعاونة.
أما زوجته الجامعية، فكان مرتبها لا يكاد يسد نفقاتها الشخصية: ملابس، وأدوات للتجميل، وقبولات، وزيارات، وحفلات ترفيهية، فكانت تستعين بزوجها في سد نفقاتها الكبيرة، بحجة الظهور بمظهر لائق بزوجة جامعية مثقفة.
وكان الولد قد استملك قطعة من الأرض بثمن رمزي من جمعية بناء المساكن في الوزارة التي يعمل فيها موظفًا.
وتبرع له والده ببناء دار له، وتكفل بدفع ثمن مواد البناء ونفقات العمل، وبدأ بالبناء، وارتفع البنيان شيئًا فشيئًا، حتى فرغ من بناء الدار خلال عامين.
وكان شرط الوالد على ابنه، أن يشاركه في سكنى الدار الجديدة، خاصة أن أولاده وبناته أكملوا دراستهم، فتوظف البنون وتزوجت البنات، ولم يبق في الدار المستأجرة غيره وغير زوجه.
وفجأة توفيت أم الأولاد، فأصبح والده وحيدًا.
وانتقل الولد إلى داره الجديدة، وانتقل معه والده الذي كان قد بلغ الستين من عمره، وانتابته العلل والأسقام، وأصبح لا يقوى على مزاولة حرفته في البناء.
وبدأت مشاكل الولد مع أبيه العجوز العاطل عن العمل، وأخذت تلك المشاكل تتفاقم يومًا بعد يوم، حتى أصبحت الحياة البيتية لا تطاق.
فقد كانت زوجة الولد تتبرم بوجود أبيه معهما في الدار، فتزعم تارة بأنه يتدخل في شؤونها الخاصة، وتزعم تارة أنها لا تقوى على خدمته، وتتهمه مرة بأنه يشيع الفوضى في الدار، وينقل الأمراض إلى أولادها، وتتهمه مرة أخرى بأنه لا يعرف متطلبات الذوق السليم ولا يلتزم بالعرف السائد في المجتمعات الراقية.
وأخيرًا انفجرت كالبركان الثائر وهي تقول لزوجها: إما أن يبقى والدك في الدار، وإما أن أبقى أنا، فاختر بقائي أو بقاءه.
أنجز الوالد بناء دار ولده خلال سنتين، وكان بإمكانه إنجازها خلال شهرين.
لقد كان يعمل في دور الزبائن يوميًا، فإذا انتهى موعد عمله، استراح قليلاً ثم باشر عمله ثانية في عمل إضافي جديد هو ومن يتطوع للعمل الإضافي من العمال الآخرين الذين يعملون معه، وكان هدفه من هذا العمل الدائب اليومي هو جمع المال لبناء دار ولده، فقد تعهد أن يبني دار ولده على نفقته الخاصة.
فإذا جاء يوم الجمعة من كل أسبوع، بكر في الذهاب إلى عمله في بناء دار ولده، ومعه عماله الذين يعملون معه في البناء.
وكان عمله يوم الجمعة يبدأ مبكرًا وينتهي في الهزيع الأول من الليل، وكان أكثر عماله يتنازلون عن أجورهم اليومية إكرامًا له؛ لأنه رئيسهم في العلم، وأستاذهم في المهنة، ووالدهم في التدريب على مهنتهم في البناء.
وقد كان الوالد يصاب بالزكام أو الصداع في الشتاء، فلا يعفي نفسه من عمله اليومي ليستريح.
وكان الوالد خلال عمله في دار ولده يقتر على أهله في الدار، لينفق على شراء مواد البناء من حصيلة أجوره الأسبوعية، وكان يستفيد من فضلات مواد البناء التي تتبقي في أبنية زبائنه التي يقدمونها له بدون عوض إكرامًا له وتقديرًا.
على كل حال، استطاع الوالد أن يبني دار ولده بعرق جبينه وعلى حساب صحته وعافيته ومأكله وملبسه هو ومن يعول.
ولكنه ما كاد يستقر في الدار الجديدة مريضًا، حتى بدأت مشاكله مع زوجة ولده، التي تصر على أن يصفو لها الجو وحدها في الدار، لتأخذ حريتها كاملة وتتصرف في الدار وخارجها كما تشاء.
كان طعامه في دار ولده من فضلات الطعام، وكان يتناول تلك الفضلات وحده على انفراد، بعد أن يتناول ولده وزوجه وأولادهما الطعام.
ومنذ دخل الدار، لم تغسل ثيابه في الدار، بل تغسل في خارجها بيد امرأة عجوز تتكسب من غسيل ثياب وألبسة الجيران.
أما فراشه، فبقي على وضعه منذ دخل الدار، لم يبدل منه شيء، ولم يسوَّ أو يعدل أبدًا، ولم ينظف ولم تنظف الغرفة التي يعيش فيها الوالد المريض.
وكان ولده لا يراه إلا في وقت حمل فضلات الطعام إليه، فتبقى فضلة تلك الفضلات إلى أن يعود إليه بفضلات جديدة صباحًا أو ظهرًا أو مساءً. وإذا حدث أن اشتهى الوالد نوعًا من أنواع الأطعمة، أجابه ولده زاجرًا: هذا هو الطعام المتيسر، وهنا ليس مطعمًا لتشتهي ما تريد!
وإذا اجتاحه المرض واشتدت آلامه، وسأل ولده أن يحمله إلى طبيب أو يستدعي طبيبًا، أجابه ناهرًا: وماذا عسى أن يصنع لك الطبيب؟!
أما زوجة ولده، فلا تدخل غرفته ولا تزوره مريضًا، ولا تكلمه أبدًا، وتمنع أطفالها من زيارته أو عيادته وحتى من دخول غرفته.
ودخل الولد غرفة والده ليطرده من الدار، إرضاء لزوجه وحرصًا على عدم تنفيذ وعيدها بمغادرة الدار.
كان ذلك في الساعة الرابعة عصرًا في يوم مطير شديد البرد من أيام الشتاء.
وكان الوالد الشيخ المريض، قد اشتد عليه المرض، ينتابه السعال القاسي، ويكتم أنفاسه مرض الربو، وهو مصاب بالسكر وارتفاع الضغط والزكام.
ولم يكلم الولد أباه، بل انحنى على فراشه القذر الممزق ولف والده به، ثم سحب الفراش المهلل سحبًا، فلما بكى والده، وهو يسحب من غرفته إلى الشارع، انهال عليه ولده ضربًا ورفسًا.
واستقر الفراش وعليه الوالد الشيخ المريض في الشارع، والبرد شديد والمطر ينهمر.
وعاد الولد إلى الدار، وأغلق بابه، ولجأ إلى المدفأة كأنه أحرز انتصارًا في معركة حاسمة، وزوجه تبتسم له مشجعة معجبة ببطولة زوجها، فقدمت له الشاي هدية على إيثاره لها على والده.
وتجمع المارة حول الفراش المبلل بالمطر الغزير، فلما فتحوه وجدوا الرجل قد فارق الحياة.
وجاءت مفرزة من مفارز الشرطة، فوجدوا الدم المتدفق من فم المتوفى ورأسه قد لطخ الأسمال البالية التي تسمى مجازًا: الفراش.
وأحيل الولد إلى المحاكم بتهمة قتل أبيه، فحكم عليه بالسجن المؤبد وعادت الزوجة الجامعية إلى أهلها ومعها أولادها، وبقيت الدار خالية من السكان.
وعرضت الدار للإيجار دون جدوى.
وقضى الولد في السجن خمس عشرة سنة، تزوره زوجته مرة أو مرتين كل عام.
وصدر العفو عن المسجونين في مناسبة من المناسبات السياسية، فأخبر مدير السجن الزوجة بأن زوجها المحكوم عليه بالسجن المؤبد، سيغادر السجن صباح اليوم التالي.
وقدمت زوجه برفقة ولدها الذي أصبح موظفًا إلى السجن، وكان ولدها يقود سيارته.
وجاءت الزوج مع ابنها الموظف بسيارته، فلمح الولد أباه يغادر باب السجن، ولمح الوالد زوجه وابنه.
وأسرع الوالد للقاء زوجه وولده، وأسرع الولد بسيارته نحو والده.
وبحركة لا إرادية، اصطدمت سيارة الولد بالوالد صدمة عنيفة، فسقط الوالد أرضًا.
وارتبك الولد، فضغط على مكبس الوقود بدلاً من الضغط على كابحة السيارة لإيقافها؛ فهاجت السيارة وعبرت على جسد الوالد.
وترجل الولد من سيارته، فوجد والده يلفظ أنفاسه الأخيرة، والدم يتدفق من فم والده ورأسه.
قتل والده فتدفق الدم من فمه ورأسه، وقتله ولده فتدفق الدم من فمه ورأسه.
وأطلق سراحه من سجنه المؤبد سلطان الأرض، فأعاده إلى السجن المؤبد في القبر سلطان السماء والأرض.
أما زوجه الجامعية فأصبحت أرملة إلى حين وهو سجين وأصبحت أرملة من بعده إلى الأبد.
وأما داره فخلت من سكانها انتظارًا لإطلاق سراحه، وهي إلى اليوم خالية لم يقدم أحد على سكناها من أهلها أو من المستأجرين.
لا يقدم على إشغالها غير أصحابها، لأنهم يقولون: هي شؤم على من يسكنها، ومضى عليها عشرون سنة، وهي خاوية على عروشها، لا تباع ولا تؤجر! وقد أصبحت خرابًا لا يدخلها أحد ولا يعمرها إنسان.
لقد أصبحت تلك الدار مقرًا للبوم، ينعق بها، كأنه يذكر الجيران بأنين الوالد القتيل.
فويل لمن يقابل والديه بالعقوق([4]).
([1]) كما تدين تدان ص (166، 167).
([2]) أبناؤنا بين البر والعقوق: هيا الرشيد ص(24-27).
([3]) شباب ومواقف. عادل العبد العالي ص(17-20).
([4]) تدابير القدر: محمود شيت خطاب ص(39-45).
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
بارك الله فيك
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
القصاص العادلنجح وائل في اختبار الشهادة الثانوية، وكانت فرحة أبويه أكبر من فرحته، كيف لا وهو ابنهما ووحيدهما وأملهما في هذه الحياة. وكانت أمنية وائل دراسة الطب البشري في باريس، ووافق الوالد على اقتراح ولده وعمل على تحقيق أمنيته خاصة وأنه وحيده.
وسافر وائل إلى جامعة (السوربون) في باريس ليدرس الطب وكان أبوه تاجرًا فكان يرسل لولده المال الذي يحتاجه فاستأجر الولد شقة صغيرة قرب الجامعة من عائلة فرنسية.
ونشأت صداقة بين وائل وابنة هذه العائلة وكانت جميلة فاتنة، وتوثقت العلاقة بين وائل وهذه الفتاة على مر الأيام، وصارا زميلين كل منهما يحب الآخر، واعتادت الفتاة أن تدخل شقة وائل في أي وقت تشاء، وكان الشيطان ثالثهما فزين لهما الغي والعصيان فَهَمَّ كل منهما بالآخر، وأخذ وائل يغدق على فتاته من عطاياه وهداياه، وكان والده يواصل الليل بالنهار كي يوفر لولده المال الذي يحتاجه، وهذا الولد يلهو ويلعب.
واشتغل فكر وائل بصاحبته فأثر ذلك على دراسته فتخلف فيها، ومرت الأعوام والأب لم يتخلف في إرسال ما يحتاجه ولده من مال، وكانت الأم تحثه وتذكره كي لا ينسى، فهذا ولدهما الوحيد وهما في غفلة لا يدريان ما يفعل هذا الولد.
وفي أحد الأيام جاءت الفتاة تبكي وتنتحب فشق ذلك على قلب وائل فأخذ يهدئ من روعها ويربت على كتفيها، فلما هدأت سألها عن سبب بكائها فقال له: إن والدي طردني من المنزل حيث إني بلغت السن التي يجب فيها أن أعتمد على نفسي وأن أصرف على نفسي, فهو غير ملزم بالإنفاق عليَّ.
وهنا لم يتردد وائل أن عرض عليها الزواج الشرعي، فلبت دون أن تتريث لحظة خوفًا من ضياع الفرصة، وتزوجا وأصبح وائل مكلفًا بالإنفاق على زوجته وبيته، وطلب من أبيه مضاعفة المبلغ وبين لأهله أنه بحاجة إلى نقود كثيرة حيث إن الأسعار مرتفعة جدًا، ولم يتوان الأب عن إرسال المال لابنه، والأم تحثه أن لا يبخل على ابنهما حتى صرف الأب آخر مبلغ لديه ونفد ماله، واحتار من أين يأتي بالمال اللازم لابنه، وسارعت الأم إلى بيع ما لديها من حُلِي من أجل ولدها ومن أجل مستقبله، ووائل مستمر في المطالبة بمزيد من المال ولم يكن يفكر بوالديه وما يعانيانه من أجل توفير المال له، المهم عنده أن يصله المال لينفق بسخاء على المحبوبة الغالية!!
وساءت حالة الوالد الاقتصادية وتدهورت موارده المالية، وطالت مدة دراسة وائل، والوالدان ينتظران تخرجه بفارغ الصبر كي يعوضهما عن كل ما عانياه من تعب وكد ويوفر لهما العيش الرغيد، وكانت الأم تُصبر زوجها وتمنيه بالأيام السعيدة القادمة عندما يأتي وائل!! ليرد لهما الجميل وأكثر، والولد يطلب منهما المزيد من المال، فلم يجد الوالدان سبيلاً لتوفير المال اللازم سوى بيع الدار، ويتركان دارهما ويسكنان في دار صغيرة بالأجرة ويرسلان المال لولدهما فلم يبق على تخرجه إلا القليل وسوف يشتري لهما قصرًا يسعدان به معه! والولد المسرف يبذر المال دون تفكير أو اهتمام، وضاق الحال بالوالدين فليس لديهما ما يرسلانه، فبعث الوالد رسالة يشرح فيها لابنه أن المال قد نفد, وأن الدار قد بيعت حتى حُلِي والدتك قد بيعت أيضًا؛ وليس لدينا ما نبعثه إليك فدبر أمر نفسك.
ولكن وائل غضب ولم يصدق كلام أبيه وظن بأبيه ظن السوء, ووسوس له الشيطان أن والديه قد ضيعا مستقبله، فقسا قلبه وقاطعهما وأخذ يعمل لمتابعة دراسته. ولما أكمل دراسته ظل مستمرًا في عمله كي يجمع مبلغًا من المال وشد الرحال للعودة إلى بلده، وعاد هو وزوجه إلى وطنه ولم يعلم به أحد حتى والده!!
عاش وائل مع زوجته الفرنسية وكثر ماله ولم يحاول أن يتصل بأبويه، فلقد كان يحمل بين أضلاعه حجرًا قاسيًا مليئًا بالحقد والضغينة على ما كانا سببًا في ما هو فيه من رغد العيش، ولكن الله عز وجل يمهل ولا يُهمل فلا يغفل سبحانه وتعالى عن أمر العباد، وشاء الله عز وجل أن يأتي إلى عيادة وائل رجل من أصدقاء والده وعرف وائل ولكن وائل لم يعرفه، وما أن خرج الرجل من العيادة حتى أسرع إلى والد وائل ليخبره بأن ولده قد عاد وفتح عيادة، ففوجئ الوالد عند سماعه هذا الخبر ولم يصدق ما سمعه من صديقه فأقسم له الصديق أنه صادق وقال له: هيا بنا لأدلك على عيادته هيا.
وسار الوالد وهو في دهشة من أمره، وما أن وقعت عيناه على لافتة العيادة وقرأ اسم ولده عليها واشتم رائحة ولده فلذة كبده، حتى ذرفت عيناه بالدموع، إنها دموع الفرح والسعادة، وصعد الاثنان درج العيادة والأب لا يكاد يصدق عينيه، ورأى الأب ابنه بعد هذه الغيبة الطويلة وأراد أن يضمه إلى صدره كي يطفئ لهيب أشواقه، وما أن اقترب الوالد من ابنه حتى صاح فيه الولد العاق بكل وقاحة: قف مكانك ولا تقترب مني كي لا تراك زوجتي الأجنبية فتحتقرني وأسقط من عينها!! وتسمر الأب مكانه، وأردف الولد العاق قائلاً: اسمع سأقدم لك مساعدة مالية ولكن المهم أن تبتعد عن العيادة ولا أراك أبدًا!!
وهنا شعر الأب أنه أصيب بخيبة أمل مريرة وتبددت جميع توقعاته فتماسك وشد من عزمه, وأجاب ولده العاق على الفور قائلاً له كلامًا لو سمعه جبل لتهدم من مكانه وتطايرت حجارته.
قال الأب لولده العاق: «عليك لعنة الله والناس أجمعين, وعليك غضب الله إلى يوم الدين وعليك الشقاء أبد الآبدين».
ثم بصق في وجهه بصقة أطفأت النار التي أشعلها هذا الولد العاق في قلب أبيه، ثم أردف الأب قائلاً: أغنانا عنك رب العالمين.
وعاد الأب إلى زوجه مخيب الآمال والحزن والقهر يفتان كبده ولما وصل إليها أخبرها الخبر المشؤوم فحزنت حزنًا شديدًا وبكت بكاءً طويلاً, وكان لا بد من نهاية لما حدث خاصة بعد هذا الدعاء الشديد الصادر من قلب مكلوم قلب أب مجروح.
لم يؤثر كلام الأب بنفس هذا الابن العاق ولا بقلبه فهو كالحجارة بل أشد قسوة, وأسود من دياجير الليل البهيم.
وفي يوم أجازة خرج وائل مع زوجه؛ للنزهة والراحة والاستجمام وقضاء يوم جميل بعد عناء العمل، وعند أحد المنعطفات انزلقت السيارة فجأة وهوت في الوادي السحيق ومات وائل وزوجه في الحال، ووصل الخبر إلى الوالدين فأيقنا بالله العليم الحكيم الذي لا يرد دعوة المظلوم فما بالك بالوالدين، فقد ورثا كل ثورة الابن حتى العيادة.
إن ربك لبالمرصاد والله – عز وجل – يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته... وفي هذه القصة عبرة وعظة للأبناء والآباء، فيجب على الأبناء أن يرعوا آباءهم وأمهاتهم. ويجب على الآباء أن يحرصوا على أن يربوا أولادهم التربية الدينية الصحيحة، وأن يحافظوا عليهم من آفات الدنيا ومصائد الشيطان خاصة في زماننا هذا.
قال الله تعالى: }وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا{ [العنكبوت: 8]([1]).
طفل ينقذ والده من العقوقيقول أحد الفضلاء: كان بجوارنا رجل متوسط الحال، وعنده والده يعيش معه في المسكن وهو كبير السن وفاقد لبعض حواسه، ومع الأيام تحسنت أمور هذا الرجل، حيث جاءه تثمين لبيته بنزع ملكيته وجاءه مبلغ لم يتوقعه حتى ولا في حلم الليل.
فعمر له مسكنًا على الطراز الحديث «فيلا»، وكان لهذا الرجل زوج غير موفقة مع عمها «والد زوجها» حيث ترى أنه عبء ثقيل عليهم في المنزل، كيف لا وهم الآن صاروا في فيلا، كل شيء يدار بالكهرباء وعندما فرشوا البيت الجديد وأثثوه بكل جديد وفاخر، قالت الزوجة لزوجها: لو تضع والدك في غرفة السطح ونحضر له طعامه وشرابه في غرفته، فهو كبير ولا يحس بأي مكان جلس فيه، فقال الزوج: افعلي ما ترين، فحملوه ووضعوه في غرفة السطح، وجعلت له الزوجة أواني خاصة به يأكل ويشرب بها حتى لا يوسخ أوانيهم، ولكن مع الأيام والأسابيع تعبت المرأة في الصعود والنزول بسبب والد زوجها.
فقالت المرأة لزوجها: يا أبا فلان، تعبت أنا وأولادي من والدك في الصعود والنزول بطعامه وشرابه، فأرى أن تنزله وتضعه في حجرة الملحق بالقرب من باب الشارع، فقال لها زوجها: ضعيه كما تودين.
فأنزلت المرأة الأب الكبير ووضعته في ملحق البيت ووضعت عنده ملابسه وما يخصه ويتبعه، وكان للوالد الكبير صحن طعام خاص لغدائه وعشائه، ولحسن حظ الزوج وبينما العائلة مجتمعة بكاملها على طعام الغداء نطق ابنهم الصغير قائلاً: بابا، بابا، حميت صحن جدي (حجزت إناء جدي) إذا مات، فقال والده وهو يضع اللقمة في فيه: وماذا تريد به؟
فقال الولد: إذا صرت يا أبي مثل جدي أصنع لك به طعامك.
فاعترضت اللقمة في حلق الأب، وجحظت عيناه وكاد يختنق من هول ما سمع من ابنه الصغير، وبعد أن شرب الماء وعادت روحه إليه رد نفسه وكأن هذه الكلمة صاعقة نزلت عليه، فالتفت الأب إلى زوجه، وقال: اسمعي، من هذه اللحظة لا آكل طعامًا ولا أشرب قهوة إلا مع والدي، هيا انهضوا ولنتناول طعامنا سويًا معه، فكان الأب يضع لقمة في فم والده واللقمة الثانية في فمه.
وبعدما تناولوا الطعام حمل الأب والده ووضعه في غرفة خاصة ملاصقة لغرفته، فكان لا يدخل الأب ولا يخرج إلا ويصبح والده ويمسيه (يسلم عليه)، وبعد أشهر قليلة توفي الأب الكبير.
فكانت خاتمة طيبة لهذا الابن بأبيه، حيث أدرك خطأه واستدرك ما بقي من أيام أبيه ليبره بها([2]).
سيارة ومصحفكان هذا الشاب يعيش مع والده بعد وفاة والدته منذ كان صغير السن، وكان يعيش بمفرده مع والده. كان والده من أغنى الرجال في تلك المدينة, ولكنه كان صارمًا مع ابنه ولا ينفق عليه إلا للضرورة, وكان الشاب يحب بل يعشق أحد أنواع السيارات غالي الثمن والتي طالما حلم بها، وفي أحد الأيام تقدم بطلبها من والده فقال له والده... بعد انتهائك من الاختبار إذا أتيت بالشهادة ذات الدرجات العالية فسوف أهديك هدية قيمة وقيمتها أغلى من قيمة تلك السيارة!
وبعد النجاح بتفوق... تقدم الشاب إلى والده وقال له بعد النجاح بتلك الدرجات العالية... جاء الوقت الذي طالما تمناه الشاب أخرج والده علبة مغلفة من المكتب وقدمها لابنه, أخذها الشاب والابتسامة ترتسم على وجهه وعندما فتحها وجد بها. المصحف الكريم؟ تفاجأ الشاب ثم رماه على والده وقال: ما هذا؟ كل هذا السهر والتعب لماذا يا...؟
خرج الشاب من المنزل ولم يعد إطلاقًا... وبعد حوالي العشرين عامًا وبعد وفاة الوالد عاد الشاب إلى المنزل الذي أصبح ملكًا له وبدأ ينظر في حاجيات والده وإذا به يجد ذلك المصحف نظر إليه متحسرًا ثم أخذه بين يديه وفتحه، وإذا به يجد مفاتيح تلك السيارة التي طلبها من والداه... بدأ بالبكاء وأصيب بصدمة!!
ومنذ ذلك الحين لم ينطق الشاب ولا حتى بكلمة واحدة([3]).
العصيانكان يعيش عيشة طيبة بين والديه اللذين كانا يحبانه، وكان يعمل حدادًا وكان عمله يدر عليه الكثير من المال فعاش في سعادة غامرة، واستمرت حياته هكذا عمل وكسب وسعادة، وكانت أيامه تمر عليه رتيبة؛ شعر من خلالها أنه بحاجة إلى أن يتزوج وكان معجبًا بفتاة كانت بنظره جميلة فتعلق بها، وحادث أمه بموضوع زواجه من هذه الفتاة، ولكن أمه رفضت أن يتزوج من هذه الفتاة وكذلك كان والده رأيه من رأي الأم، ولما سألهما عن السبب قالا له: هذه البنت لا تناسبك ولا تناسبنا، لكنه لم يسمع نصيحة أمه؛ بل أخذ يلح عليها وأصر على رأيه ومع شدة إلحاحه وعناده خضعت الأم لرغبته وقالت له: اسمع يا بُني كلمة أخيرة أقولها لك: إن جمال الشكل لم يكن يومًا مقياسًا للسعادة, فالحذر يا بُني مما أنت قادم عليه. ولكنه كان أصم أعمى فلم يسمع ما قالته له أمه، فعقله كان هائمًا لاهثًا وراء الجمال الزائف الذي كانت تتمتع به تلك الفتاة.
وتم له ما أراد وتزوج فتاة أحلامه وفاز بمن كان قلبه يهفو إليها، ولكن بالمقابل كسب غضب أمه وأبيه اللذين عارضا هذا الزواج.
أقام مع زوجه في منزل والده، وما هي إلا فترة قصيرة وإذا بالخلافات تدب بين الأم والزوجة مما جعل الأب يتخذ قرارًا بإخراج الابن وزوجه من منزله بعد أن أعطاه مهلة لترتيب أموره.
وبدأت رحلة البحث عن سكن يؤويه هو زوجه التي كانت تفتعل المشاكل مع الأم المسكينة الطيبة والتي كانت تحرض زوجها على والده، وكان الزوج المخدوع يقف بصف زوجه دائمًا، وبعد بحث طويل وجد شقة مناسبة وأثثها بأثاث باهظ الثمن اختارته الزوجة كي تفاخر به صديقاتها، وعاش مع زوجه حياة كانت بها منعطفات كثيرة وذلك مع كثرة مشاكل الزوجة وإرهاق زوجها بطلباتها التافهة التي لا تنتهي ولعدم اهتمامها بشؤون زوجها مما جعل الزوج يعيش حياة كئيبة تعيسة، وزاد الطين بلة أن قل الطلب على عمل الحدادة وضعف دخله وبدأ يمر بضائقة مالية, واحتار ماذا يفعل مع هذه الزوجة التي لا تنتهي طلباتها؟
ولما رأت الزوجة حال زوجها أشارت عليه أن يذهب إلى والده كي يأخذ منه مبلغًا من المال، ولكن الزوج أبى فقد منعه كبرياؤه وغروره.
وخرج يبحث عن وظيفة حكومية, لكن الأبواب كلها أغلقت في وجهه، ولم يجد سبيلاً لتوفير المال سوى أن يبيع أثاث المنزل، والزوجة لا تبالي وأخذت تنفق دون حساب حتى لم يتبق في جيب الزوج فلس واحد؛ بسبب هذه الزوجة اللعوب التي أخذ أهل الحي يتحدثون عن سلوكها المشين.
ونشب خلاف حاد بين الزوجين وأخذت الزوجة تعير زوجها بجلوسه في البيت مثل النساء وعدم تمكنه من توفير حاجيات المنزل، وهكذا عاش هذا الزوج البائس أيامًا مليئة بالآلام، وفكر في أن يطلق زوجه, ولكن خوفه من تشمت أهله به منعه. وداس على كرامته وسمعته إرضاء لغروره وكبريائه، وأخذ يفكر كيف يوفر المال اللازم له ولزوجه؟ وقاده تفكيره في إصدار شيكات بدون رصيد، وأصدر الشيك الأول واستطاع أن ينجح في عملية النصب؛ لأنهم لم يستدلوا على عنوانه مما جعله يستمر في هذا الطريق، وزين له الشيطان سوء عمله وهونه عليه فأصدر شيكًا آخر، ولكن لكل شيء نهاية، وما هي إلا أيام قلائل وإذ برجال الشرطة يطرقون الباب ويقتادونه إلى حيث المصير المظلم، وكانت نهايته العيش خلف القضبان أسير الذل والعار يذرف الدمع الغزير بين جدران السجن؛ أملاً في عفو الله عز وجل ورضا والديه([4]).
هذه نهاية طبيعية لكل من يعصي والديه ويخالف رغبتهما.
قال الله تعالى: }وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ{ [لقمان: 14].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الرب في رضا الوالدين، وسخط الرب في سخط الوالدين».
أبناء يدفعون آباءهم إلى الإدماناستقرت أسرة «حمد» في مدينة جدة بعد أن كان والده كثير التنقل من منطقة إلى أخرى بسبب عمله، وكان عمه تاجرًا معروفًا في نفس المدينة فعرض عليه رغبته في العمل معه... رحب به العمل كثيرًا فقد كان بحاجة إلى شريك يساعده في إدارة تجارته لا سيما وأنها أخذت تنمو تدريجيًا، كان حمد شابًا طموحًا عاقلاً ينظر للمستقبل بعين متفائلة وآمال كبيرة، وأحلام بعيدة، وما إن تسلم عمله مع عمه حتى مضى يعمل بإخلاص وتفان وجد... فلم تمض سنوات قلائل حتى كبرت تجارته مع عمه بعد أن أدخله شريكًا معه، وعلى إثر ذلك النجاح الكبير فضل أن يستقل بتجارته وحده، ففتح محلاً تجاريًا ولم تمض عليه عدة شهور حتى ألحقه بآخر، تزوج حمد، وكون أسرة، وكانت تجارته تزداد مع مرور السنوات... وقد رزقه الله ببنين وبنات، عمل على تربيتهم وتعليمهم ثم زوج الكبار منهم، كانت حياته الأسرية تسير هادئة مطمئنة حتى بدأت المشاكل تزحف إلى حياته شيئًا فشيئًا بسبب طلبات بناته وبنينه التي لا تنتهي مما زاد الضغوط عليه، فكلما خرج من مشكلة وقع في أخرى، ولم يكن أولاده يفكرون في صحته؛ بل كان همُّ كل واحد منهم أن تحل مشاكله المادية ويبلغ مراده، كان التفكير يرهقه طوال يومه، والتوتر لا يكاد يفارقه حتى يعود إليه، زوجه كانت الوحيدة التي تخاف عليه وتفكر في صحته، فقد كانت المشاكل التي تحل به أكبر من أن يمتصها وحده...حتى دفعته حالته إلى الهروب من مشاكله وقلقه وكآبته إلى تعاطي حبوب مهدئة([5])... وهو على أبواب الستين حتى تعود عليها وأصبح مدمنًا لها، كانت زوجته تسأله بإلحاح عن حقيقة هذه الحبوب فيقول لها عندما يضيق بأسئلتها لا تخافي يا أم أحمد إن هذه الحبوب فيتامينات تساعدني على الراحة وتمدني بالنشاط والقوة.
وذات ليلة دعي في حفل خاص عند أحد الأصدقاء من زملاء المهنة، وفي الحفل قال له صديقه: أراك منذ فترة على غير طبيعتك...قال: إنها المشاكل التي لا ترحم يا صاحبي، ومن أين لك المشاكل؟ إنها مشاكل الأولاد وأولاد الأولاد التي لا تنتهي، لقد أصبحوا عبئًا ثقيلاً على كاهلي دون أن يدركوا معنى المسؤولية؟ لا عليك سأعطيك شيئًا سوف يريحك عندما تحاصرك هذه المشاكل... غاب ثوان ثم عاد وهو يحمل قطعة من الحشيش وناوله إياها وهو يقول لفها على السيجارة ودخنها، وجد حمد في هذه السيجارة الملفوفة باللذة المؤقتة راحة من عناء التعب، وسعادة زائفة يعيش في كنفها هربًا من جحيم العذاب الذي يتلبسه، سبع سنوات مضت في عمره وهو في كل يوم يزداد تمسكًا وحبًا لتلك السيجارة التي صار أسيرًا لها، كانت أمواله تتلاشى في سرعة مخيفة وصحته تزداد سوءًا، دون أن يدرك ذلك بوعي وكان أحيانًا يدخنها بعد أن يستنشقها عن طريق الشيشة، وكان أولاده يراقبون تدهور صحته وتغير طباعه دون أن يُبدوا أدنى اهتمام به وكأنهم كانوا يترقبون موته ليستولوا على البقية الباقية من ثروته.
حينما وجدوه منعزلاً، وبعيدًا عنهم بعض الشيء قرروا بينهم وبين أنفسهم وقد ماتت العاطفة في قلوبهم، وتلاشت الإنسانية من أنفسهم وتجمدت عقولهم عن التفكير، وتعفن ضميرهم، وضعف إيمانهم، قرروا أن يتقاسموا أمواله، ويفضوا تجارته؛ لأنه لم يعد قادرًا على تنمية هذه التجارة، كانت صدمة والدهم أقوى من أن يحتملها إنسان حي، حين علم بذلك أولاده الذي شقي من أجلهم يرثونه حيًا، ويحكمون عليه بالموت البطيء.
تخلى عن كل شيء، ترك تدخين الحشيش وشمه، كانت صدمته في أولاده بمثابة القوة الدافعة التي جعلته يتحدى الجميع، ويثبت لهم أنه لم يصل إلى السن التي يتحكمون فيه ويصبح عالة عليهم تدفعهم إلى التخلي عنه لعجزه بعد. اشترى سيارة بالتقسيط بعد أن أخذ ثمنها من صديق له، وبدأ يعمل على نقل بضائع عليها، فلم تمض فترة حتى تيسرت أموره من جديد وعاد إلى بيته بعد شهور من العمل الجاد، وفي تلك الفترة أصيبت زوجته بشلل فلم تجد أولادها بجانبها وكأنها لم تنجب وتربي وتشقى.
كانت أنانيتهم ومصلحتهم أكبر من عاطفتهم وحبهم لوالديهم، نقلت من قبل الجيران إلى المستشفى، كانت صدمة والدهم فيهم هذه المرة لا تقل عن صدمته الأولى.
فترة قصيرة مرت على دخولها المستشفى لم تلبث أن فارقت بعدها الحياة متأثرة من عقوق أبنائها، اسودت الدنيا في وجه حمد ووجد نفسه وكأنه عاش عمره دون زوجة أو ولد، الوحدة مرة والذكريات الحزينة نار ليس لها رماد، أصدقاء السوء عرضوا عليه الهيروين لينسى، كانت حالته سيئة فلم يعد يميز معها ما يعمل. شاب صغيرٌ كان يعمل سائق سيارة عرض عليه الهيروين ظانًا أنه مفيد لحالته حتى اعتاد عليه، حاول تركه في ما بعد، ولكنه لم يستطع، وقع في حفرة لا قرار لها بعد أن ضعفت ذاكرته وساءت حالته الصحية، حتى اضطر إلى عزل نفسه، أحس بالموت يزحف إليه متخفيًا نقله الجيران إلى المستشفى، وعندما فكر أولاده في زيارته بعد أن تذكروا أخيرًا أن لهم أبًا، كان يمر بحالة شديدة من المرض والإحباط والقهر وظلم الأبناء... وقد نسوا أن لهم أولادًا، وأن الله يمهل ولا يهمل وما قدموه حاضرًا لوالديهم سيجدونه عند أبنائهم مستقبلاً، ولكن بعد فوات الأوان([6]).
الابن العاق!!لم يبق على طلوع الفجر إلا القليل... كنتُ نائمًا في الفراش... وإذ بالباب يطرق!!
ترى من يكون هذا الطارق؟!! تساءلت مع نفسي...
لعله سائل اضطرته الأعاصير والبرد القارس في هذه الليالي الشتوية... إلى طرق بابنا في هذا الهزيع المتأخر من الليل.
وقبل أن أدير المفتاح لأفتح الباب... تسمرت يداي ولم أعد أستطيع لها حراكًا... ما هذا؟!! إنني أسمع لهاث إنسان يكاد يهلك من وراء الباب... فتحت الباب بسرعة... وإذا أنا بإنسان متهدم قد هده الألم... وقعد به الإعياء والإرهاق... فأقعى على وركه وهو يلهث ويتنفس بصعوبة...
تأملت فيه إذا هو «العم خضر»... ذلك الشيخ المسن الوقور.
قلت على الفور: ما الذي جاء بك يا عم خضر في هذه الليلة المطيرة العاصفة؟!
غير أن «عم خضر» لم يستطع الجواب... وإنما أشار إلى المدفأة بحاجبيه الكثين الأبيضين.
فأدخلته المنزل وأجلسته بقرب المدفأة حتى استعاد توازنه وهدوءه.
ثم قال لي: اسمع يا بني!!...وَعِ كلمات عمك الشيخ «خضر» كلمة كلمة... فلعلي ألاقي ربي بعد أيام...
وانطلق صوت ابنتي «غرناطة» من الغرفة الثانية ممتزجًا بالبكاء...
فتمتم عم خضر قائلاً: هذا بكاء غرناطة... أليس كذلك؟!
ليرحمها الله وليرحم معها بنات حواء... فمن أجل غرناطة هذه... تجشمت وعثاء السفر المضني في هذه الليلة التي تراها...
سكت «عم خضر» لحظة يحتسي قليلاً من الشاي ثم تابع حديثه قائلاً: أنت تعرف يا بني أنني لم أصغ إلى كلام والدك – مد الله في عمره على طاعته – عندما جاءني مغضبًا إلى قريتي... بعدما أخبرته ابنتي «عائشة» بما عزمت على فعله... من نقله جميع أملاكي إلى ابني «سليمان» وكتابتها باسمه وحده، دون سائر بناتي الأربع اللائي زوجتهن في القرى البعيدة.
وإنما فعلتُ ذلك، كي لا يغنمن بعض المال الذي أجتنيه لابني المدلل «سليمان»... أجل يا ولدي لم أستمع إلى نصائح والدك آنئذ.
لأنني كنت في ذروة حمقي، فتصاممت عن صوت الحق، وتجافيت عن دعوة العدالة، ونقلت جميع ما أملك من أموال وعقارات إلى حوزة ابني الغالي «سليمان» وأنا على قيد الحياة، مخافة أن تقاسمه أخواته الأربع في الميراث إذا ما مِتُّ.
وتنهد الشيخ خضر تنهيدة ظننت أن قلبه يخرج معها قطعة قطعة!!
ومسح دموعه التي تقاطرت من عينيه، ثم تابع حديثه قائلاً: لم يمض عام يا ولدي على عملي ذاك، الذي قادني إليه هواي وحبي وإيثاري لابني دون بناتي، والذي صرت بموجبه لا أملك من حطام الدنيا شيئًا، حتى رأيت ابني «سليمان» وزوجته يقلبان لي ظهر المجن، وتتغير معاملتهما الحسنة معي، وأخذا يتضايقان من كل قول أقوله... أو عمل أعمله... وبدأ الجفاف والغلظة يظهران في تصرفاتهما معي...
وعندما اعترضت على هذه المعاملة السيئة... كان نصيبي تلك الكلمات القاسية من ابني سليمان.
لقد قال لي ابني المدلل «سليمان» الذي ضحيت من أجله بكل شيء: اسمع يا عجوز... إن صبرت عليك أنا فإن بنت الناس لن تصبر!!
لقد نفد صبرنا من تصرفاتك الشاذة!! وإذا بقيت على هذه الحال فستفارقني زوجتي تاركة لي أولادي الثلاثة، فأرجوك أن تكون عاقلاً متزنًا في أقوالك وأفعالك، ولا تنكد علينا عيشنا.
وأجهش «عم خضر» بالبكاء!! فهدأته فتابع حديثه قائلاً:
أجل يا ولدي!!... هكذا خاطبني ابني الغالي «سليمان». سليمان الذي ضحيت بمالي وحصيلة تعبي وكدي سنين طويلة من أجله.
وأخذت أفكر طويلاً في عمل حاسم... أستطيع به رد كرامتي واعتباري، الذي أهدره ولوثه ولدي المدلل.
فكرت في الحصول على بعض المال لإصلاح بعض شأني، فذهبت إلى بعض مستأجري معاصر الزيتون من ابني أطلب منه بعض المال على الحساب، فاستمهلني دقائق، جاءني بعدها بصحبة ابني «سليمان» وهو يرعد ويزبد ويتوعد بالويل والثبور.
فرددت على «سليمان» بقسوة، فما كان منه إلا أن رفع يده عليَّ وصفعني صفعة ما أزال أحس وقعها المخزي الأليم حتى الآن!!
ثم أخذ بتلابيبي وجرني كما يجر حماره إلى خارج قريتي!! وهددني بالقتل إن لم أغادرها من فوري!!
غير أني لم أستجب لتهديده... متحديًا له... وراجيًا أن يقتلني فيبوء بإثمي... فيذهب بخزي الدنيا والآخرة!!
وسكت عم خضر قليلاً يلتقط أنفاسه... ثم تابع حديثه بصوت حزين:
غير أن «سلميان»!! «أرسل إلى أخته "عائشة" المتزوجة في إحدى القرى القريبة، يطلب منها أن تحضر لتأخذني معها قبل أن يقتلني!!
وبالفعل جاءتني ابنتي "عائشة" ومعها زوجها "سعيد"... وأخذا يرجواني أن أذهب معهما إلى منزلهما لأكون لهما الأب والسيد وكل شيء في وجودهما.
لقد ألحا عليَّ في ذلك، حتى أن "سعيد" زوج ابنتي، أكب على قدمي
يقبلها كي أوافق على الذهاب معهم إلى بيتهم.
ونزلت على رأيهما مكرهًا لا مختارًا، وغادرت قريتي التي طالما قضيت فيها عمري، وتركتها لابني العاق ولزوجته اللذين لا يطيقان تصرفاتي الشاذة كما يزعمان!!
بقيت أسابيع في بيت ابنتي "عائشة"... لقيت خلالها أكرم ضيافة وخير معاملة، لقد عاملني صهري "سعيد" معاملة كنت أرجو لو أن ابني "سليمان" الذي أعطيته تعب خمسين سنة، وظلمت في سبيله نفسي وبناتي، كم رجوت أن يعاملني ابني بمثلها!!
كنت أنا في بيت صهري كالمتقلب على الجمر، فعزمت على الرحيل عنهما وفي هذه الليلة الشاتية تركتهما نائمين في جنح الظلام، وتوجهت إلى قريتي التي أخرجت منها مظلومًا مقهورًا.
غير أني ما كدت أصل إلى قريتي وأتوجه إلى بيتي، إلى داري التي بنيتها بجهدي ومالي وتعبي.
حتى شعرت بي زوجة ابني فأخذت تصيح بصوت مرتفع... حرامي... حرامي... فقام «سليمان» ابني إلى عصا كانت بجواره... وأخذ يضربني ضربًا موجعًا بها، وأنا أصرخ: أبا أبوك يا سليمان!!
ولكن «سليمان» تجاهل كل ذلك، واستمر في الضرب حتى سقطت مغشيًا عليَّ وقد فقدت الوعي والشعور.
وعندها أيقظ «سليمان» أحد عماله، وأمره أن يصطحبني معه إلى بيت ابنتي «عائشة» في القرية المجاورة. وأكد عليه ألا يتركني حتى يوصلني إلى بيت صهري سعيد!!
وألا يتركني إلا بعد أن يستوثق من سعيد أنه لن يتركني أعود إلى قريتي الحبيبة مرة أخرى. وسرت مع العامل. الذي كان يومًا ما عاملي وأجيري، فرجوته أن يوصلني إلى بيتكم هذا. لأقص عليكم قصتي التي خرجت منها بلعنة الله والناس!! ولأقول لك يا ولدي العزيز: إياك يا بني أن تؤثر وتفضل ولدك «أسامة» على ابنتك «غرناطة». فأنت بذلك تضر نفسك وأبناءك من بعدك، وستبوء بلعنة الله والناس. وما كاد «العم خضر» يصل إلى هذا المقدار من الكلام، حتى كان الإعياء قد نال منه، فاستأذنني أن ينام عندي هذه الليلة.
وأسلم جفونه للنوم... وأنينه المكبوت الذبيح يتناهى إلى مسامعي مصحوبًا بهذه الكلمات:
سعيد... سعيد... أنت ابني يا سعيد([7])
([1]) قصص واقعية مؤثرة: محمد بن صالح القحطاني ص(23-27).
([2]) سواليف المجالس ص14، نقلاً: عن عاقبة عقوق الوالدين للحازمي ص(101-103).
([3]) قصص مؤثرة للشباب ص(95-96).
([4]) كما تدين تدان ص(273-275).
([5]) كان عليه أن يلجأ إلى الله تعالى وإلى طاعته لا إلى الحبوب والمخدرات!
([6]) مأساة نور وآخرين (89-94)
([7]) قصص واقعية مؤثرة، ص(36-40).
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
هذا جزاؤك يا فاجر!يعاملها بقسوة... يصرخ في وجهها... بل يسبها ويشتمها... أعطاه الله قوة الجسم لكنه صرفها في الظلم والاستبداد بالرأي وإن كان على خطأ... كانت أمه العجوز كثيرًا ما تتوسل إليه أن يخفف من حدته وجفوته وطغيانه... الكل من حوله نفر منه... حتى زوجه تركته بلا عودة بسبب قسوته وشدته.
كان يجعل أمه العجوز تخدمه وتقوم على شؤونه وهي من تحتاج إلى الرعاية والخدمة... ما أكثر ما سال دمعها على خديها تدعو الله أن يصلح لها فلذة كبدها ويهدي قلبه... كيف لا وهو وحيدها...كانت تبرر عقوقه لها بسبب تحمله المسؤولية منذ الصغر ويسبب وفاة أبيه... ولعل الله يهديه، لكن الطغيان معه تجاوز حده وبلغ ذروته...دخل عليها ذات يوم والشر يتطاير من عينيه... صرخ في وجهها... ألم تعدي بعد الغداء؟!
قامت العجوز بيدين ترتعشان وجسد واهن أثقلته السنون والأمراض والهموم... لتعد الغداء لقرة عينها... رأى الطعام لم يعجبه... ألقاه على الأرض... أخذ يتبرم ويتسخط... أعلم أنك لا تصلحين لشيء... لقد بليت بعجوز شمطاء... لا أدري متى أتخلص منها... تبكي الأم... يا ولدي... اتق الله... ألا تخاف النار؟ ألا تخاف سخط الله وغضبه؟ ألا تعلم أن الله حرم العقوق؟ ألا تخشى أن أدعو الله عليك؟
استشاط غيظًا من كلماتها... زاد جنونه... أمسكها بتلابيب ثيابها... رفعها إليه... أخذ يهزها بقوة... اسمعي أنا لا أريد نصائح لست أنا من يقال له اتق الله... يلقي بها بعيدًا؛ تسقط الأم على وجهها... يختلط بكاؤها بضحكاته الاستهتارية... وهو يقول: ستدعو عليَّ! تظن أن الله سيستجيب لها... يخرج من عندها وهو يستهزئ بها ويسخر من كلامها... لقد تحجر قلبه.
الأم تذرف الدموع الحارة... تبكي ليالي وأيامًا كابدت فيها المشقة والعناء... بكت شبابها الذي أفنته في تربية ابن عاق مكابر.
أما هو فقد ركب سيارته... كان مبتهجًا سعيدًا وهو يسمع تلك الأغنية ويرفع صوت المسجل عاليًا... لقد نسي ما فعله بأمه المسكينة التي خلفها حزينة... وحيدة يعتصر الألم قلبها ويحترق فؤادها كمدًا وحزنًا على تصرفاته الطائشة... تتمنى لو لم تكن أنجبته لم تدع عليه بل اكتفت بقولها: حسبي الله ونعم الوكيل.
كان لديه رحلة إلى منطقة مجاورة... وأثناء سيره في الطريق بسرعة جنونية... إذ بجمل يظهر له في وسط الطريق... يضطرب سيره... يفقد توازنه... يحاول تدارك الموقف... ولكن لا مفر من القدر... دخلت قطعة حديد من السيارة في أحشائه... لم يمت بل أمهله الله وأصبح يتنقل من عملية إلى أخرى... أصبح بعدها طريح الفراش لم يستطع الحراك... ولا حتى الكلام... بقي هكذا ليكون عظة وعبرة لكل من يعتبر([1]).
لا تموتي يا أماه!مسكينة هي الأم... إنها الحنان... إنها البحر المتدفق عطاء وخيرًا.
ولكن يبدو على وجهها وثغرها الباسم... تجاعيد الزمن... وآهات القهر...كم حملت على ظهرها هموم السنين.
هل جزاؤها إلا الإحسان والبر والأمان... أم أننا نعيش في زمان تغيرت فيه القيم والمبادئ... بل... وتغير فيه الإنسان؟... والسبب الابتعاد عن منهج الرب الحكيم...
يقول أحد الإخوة عن توبته... ورجوعه إلى الحق...
لقد كنت عاقًا لوالدي لفترات طويلة من حياتي حتى بعد زواجي استمررت على تلك الحال من رفع صوت وكلام عنيف.
أرى أمي تسحب رجليها وتتعثر بخطاها دموع عينيها تتساقط على ثوب العقوق تخرج من قلبها زفرات ومن صدرها آهات لسانها يتحرك إنه شاب طائش لعله عندما يرزقه الله بأولاد يدرك ما قدمناه له...
ولكن... آه... يقول هذا التائب...
لقد ابتليت بزوجة مغرورة متعجرفة... لا تقدر أبي ولا أمي... تغاضيت عنها كثيرًا وأنا أراها تحتقر أمي وأبي... بل وتحبسهما في إحدى غرف المنزل بعيدًا عن أعين صديقاتها... ومع ذلك لم يبديا أي اعتراض.
ويعترف التائب بقوله... نعم لقد كنت أخاف غضب زوجتي! مما شجعها على التمادي في إذلال أبي وأمي.
وفي ليلة من الليالي خرجت أنا وزوجتي وطفلي الوحيد للنزهة والراحة وتغيير الجو.
وعندما عدت إلى المنزل لم أجد أمي... سألت أبي أين هي؟...
فقال: إنها في المستشفى... لقد حملها ابن الجيران... إلى أقرب مستشفى.
وقرر الطبيب أن حالتها خطيرة جدًا... وهي في غرفة الإنعاش...
وجذبتني زوجتي من ثوبي... وأغلقت باب غرفتنا في وجه أبي.
وقالت: لنستريح الآن وفي الصباح نذهب, قمت مذعورًا في الصباح الباكر.
صرخت أماه... حبيبتاه... لا تموتي... اغفري لي... سامحيني... أمهليني يا حنونة... لا تموتي... وانظري ماذا سأفعل؟ سأقبل رأسك الجميل... ما أفظع ذنبي!!... لن تلاقي اليوم ضربًا أو عذابًا.
لن تلاقي اليوم شتمًا أو سبابًا.
لن أقول اليوم... أف!
لا تموتي... لا تموتي...
ولكن... كانت الصدمة قوية...
لقد فارقت أمي الحياة... استدرت إلى زوجتي طلقتها...
والآن، أكرس ما بقي من عمري لخدمة أبي وولدي الصغير.
والله أسأل من كل قلبي أن يرحم أمي، ويغفر لي زلتي([2])
قتلت أمها وأباهاقد يعبد الناس شجرًا وحجرًا، وقد يعبدون فأرًا أو عجلاً وأخطر ما يعبده البشر أهواءهم قال تعالى: }أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ{ [الفرقان: 43].
بسبب الهوى كذبت الرسل، وانتهكت الحرمات، وضيعت الفرائض، وسفكت الدماء، وسلبت الأموال.
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية 13/6) أنه جرت في سنة (589هـ) كائنة غريبة، وهي أن ابنة تاجر من تجار الطحين عشقت غلام أبيها، فلما علم أبوها بأمرها طرد الغلام من داره، فواعدت البنت ذلك الغلام ليلة، فجاء إليها، متخفيًا، فتركته في بعض الدار.
إلى هنا القصة ليس فيها غرابة، والأمر الغريب هو ما حدث بعد ذلك فبعد أن هدأت الدار، ونام أهلها، أمرت البنت ذلك الغلام أن ينزل إلى أبيها فيقتله، ثم أمرته بأن يثني بأمها الحبلى، ثم أعطت تلك المجرمة ذلك المجرم الذي فتنت به حليًا بقيمة ألفي دينار، وقد نالت يد العدالة ذلك المجرم، فقتل، وكذلك جزاء من قتل.
ويذكر ابن كثير أن ذلك الرجل والد البنت كان رجلاً صالحًا من خيار الناس، كثير الصدقة والبر، وكان شابًا وضيء الوجه.
وقد جرت حادثة قريبة من هذه الواقعة في هذا القرن في أكتوبر 1933م في فرنسا، وقد هزت الجريمة فرنسا بأسرها في ذلك الوقت.
وتتلخص تلك الحادثة في أن رجلاً له بنت وحيدة في مقتبل العمر، مستهترة في إرضاء شبابها، تأوي إلى حي الطلبة، كثيرة الأخلاء، وجدت أحد خلانها يشتهي أن يقتني سيارة، فصممت على قتل أبيها وأمها وأن تستولي على ما عندهما من نقود؛ ليقتني خليلها سيارة ولتتمتع هي وهو بما بقي من السرف والبذخ، فعمدت إلى والديها فدست لهما السم، فأما والدها فقضى نحبه، وابتزت منه بضعة عشر ألف فرنك، وأما والدتها فصابرت الموت وتشبثت بأذيال الحياة، فأثخنتها بالجراح حتى وثقت من أن ذلك كان لإزهاق روحها، وابتزت منها ألفًا وخمسمائة فرنك، وأسرعت إلى حي الطلبة حيث ينتظرها خليلها.
وظلت في رقص ومعاقرة وما يتبع ذلك ثلاثة أيام.
أما أبوها فقد علم به البوليس وأمرت الحكومة بدفنه، وأما أمها فقد عثر عليها فاقدة الصواب فعولجت من السم وضمدت جراحها ونجحت من الموت. إن الإنسان عندما يبتعد عن رقابة ربه وخالقه، يصبح عبدًا لهواه وشهواته فيصير حيوانًا؛ بل الحيوان أرقى وأسمى قال تعالى: }أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ{ [الأعراف: 179]([3]).
([1]) من الحياة، نوال بنت عبد الله ص (54-56).
([2]) التائبون إلى الله (2/90، 91).
([3]) أبناؤنا بين البر والعقوق: هيا الرشيد ص(31-36).