عنوان الموضوع : آباء يعذبون أبنائهم مجتمع
مقدم من طرف منتديات العندليب

بسم الله الرحمن الرحيم



المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...




يحسب كثيرٌ من الآباء أن حقوق أبنائه عليه لا تتجاوز توفير الطعام، والشراب، والكسوة، وتسجيلهم في المدارس، والذهاب بهم إلى الطبيب عندما يشتكون! وما إلى ذلك من الحقوق المعروفة.


ويغفل هؤلاء عن أمور هي أعظم من تسمين البدن بالطعام والشراب... إنها تربية الوجدان والضمائر، وتزكية الأنفس والأرواح، وإصلاح القلوب والخواطر.


كيف ننشئ جيلاً صالحًا يتحمل مسؤولية نفسه، ومجتمعه، وأمته...


كيف ننشئ جيلاً يطرب للفضيلة والعفة، ويشمئز من الرذيلة والفساد.


كيف ننشئ جيلاً يتحرق ألمًا عندما يرى أمته في منظومة الدول المتخلفة، ويتحرق شوقًا على مجد قد أضعناه!


إن تقصير الآباء في تربية أبنائهم يولد جيلاً مشوهًا مقطوع الصلة بماضيه، لا يعرف أن له تاريخًا مجيدًا صنع البطولات، وأقام الحضارة، وبرز في كافة علوم الكون والحياة.


ومع هذه الصفة المقطوعة بالماضي نجده يصدم بحاضر أسود متخلف، ليس فيه ما يدعو إلى الأمل في التقدم والارتقاء ومواكبة العصر، فأي جيل هذا الذي يراد له أن ينشأ بين جهلين؟!


إن فساد الأبناء نابع من فساد الآباء، أو من فساد أساليبهم في التربية. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: «فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، قال تعالى: }وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ{ [الإسراء: 31]


فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة.


وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا؛ كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت! أنت عققتني صغيرًا، فعققتك كبيرًا، وأضعتني صغيرًا، فأضعتك شيخًا».


وقال أيضًا: «وكم من والد أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة، بإهماله، وترك تأديبه وإعانته على شهوته، ويزعم أنه يكرمه، وقد أهانه، وأنه يرحمه، وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء».


إن هذا الفساد الذي تحدث عنه ابن القيم ناشئ عن سوء التربية، وإهمال طرقها المفيدة، فكيف إذا تسبب الآباء في تدمير أبنائهم؟!


كيف يكون الحال إذا كان الوالد فاسدًا يتعاطى المسكرات أو المخدرات في البيت أمام أبنائه!


كيف إذا كان محتالاً أو خائنًا أو مرتشيًا؟


كيف إذا كان تاركًا لدينه لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا؟


كيف إذا كانت الأم فاسدة الأخلاق، لئيمة الطباع، بعيدة عن الحياء والعفاف والحشمة؟


إننا كما نطالب الأبناء ببر آبائهم، نطالب الآباء أيضًا ببر أبنائهم، وتحمل مسؤولياتهم في تربيتهم وتنشئتهم، وأن يكونوا قدوة لهم في الصلاح، ومثالاً أعلى في الصبر، والجدية، والنجاح، فبذلك تُصنع الأجيال المؤمنة القادرة على حمل راية الإصلاح، وقيادة الأمة نحو غدٍ مشرق، ومستقبل باهر.


ولبيان أثر الآباء في فساد الأبناء وانحرافهم انتقينا هذه المجموعة من القصص الواقية في ظلم الآباء لأبنائهم، وإهمالهم لهم، وعاقبة ذلك على الأبناء والآباء والأمة بأسرها. والله المستعان وهو حسبنا الله ونعم الوكيل.


من المسؤول؟

قالت إحدى الفتيات كانت ترسلني أسرتي أحيانًا ببعض المأكولات إلى السائق وأحيانًا لأناديه، وكان هذا السائق وهو من إحدى الدول الأجنبية يتعمد ترك المجلات الخليعة على سرير نومه في غرفته في طرف البيت، فكنت تارة أناديه فلا يرد النداء، فأذهب إلى غرفته وإذا به يخرج من دورة المياه وهو بملابسه الداخلية، وتارة أجده مسترخيًا على سرير نومه والمجلات المتنوعة مبعثرة يمنة ويسرة، فوجدت نفسي مندمجة في مطالعة تلك المجلات الخليعة رغم أنها باللغة الإنجليزية، وفي يوم من الأيام أفقدني هذا السائق أثمن ما تملكه أية فتاة... فهل من معتبر... قصة مبكية، ونتيجة مفجعة في غاية الحزن، يتحمل مسؤوليتها ذلك الرجل اللامبالي بشؤون بيته.


نحن الذين غرسنا في أضالعنا




سيوفنا وعبثنا في روابينا


رماحنا لم تنل إلا أحبتنا




ونارنا لم تنل إلا أهالينا





أخي المسلم... أختي المسلمة... عليكم أن تصونوا أعراضكم من الرذائل، ومنكرات الأخلاق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» [رواه البخاري]. فأي غش أعظم من إهمال المرء لأهله والبحث عما يصلح أحوالهم، إن في ذلك عبرة لمن اعتبر... فهل من معتبر؟ وهل من متأمل؟... واللبيب تكفيه الإشارة، والسعيد من وعظ بغيره([1])؟!!



صفحة من مذكرات فتاة

لم أكن لأكتب هذه الأسطر على مرحلة من مراحل حياتي لولا إدراكي لأهميتها، وضرورة عرضها لما فيها من العبرة والعظة...


فأنا فتاة شابة أنعم الله علي بالهداية، ونوّر لي بصيرتي بعد العمى والضلال... فقد كنت تائهة حائرة، شربت من الموارد المختلفة حلوها ومرها، فلم أجد ألذ من طعم الهداية والتقى في رحاب كتاب الله تعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم.


بلغ عمري الآن الثامنة والعشرين... عشت في أسرة ثرية... كان والدي دائم الأسفار ليوفر لنا كل ما نتمنى ونريد... ولكثرة أسفار والدي تغيرت علي ملامحه.


كانت والدتي تصنع كل شيء في البيت... وهي التي تدير شؤوننا في غياب والدي المتكرر... وكنا نسافر في الإجازة كثيرًا، واعتقد أنني جبت معظم أقطار العالم... كنا نسافر مع بعض المعارف، وغالبًا ما كانت تذاكر السفر على حسابنا... كانت والدتي – في ظل غياب والدي – متحررة تارة، ومحتشمة تارة أخرى... ولم يكن يجرؤ أحد من أخوالي على مفاتحها في الأمر، أو نهيها عن سفورها؛ لأنها كانت تجود عليهم بالمال، وتمنحهم ما يحتاجون إليه من النقود..


عشت في هذه الأجواء أنا وأخواتي حتى كبرنا وصرنا نرتدي الحجاب... لكننا كنا نشعر بعدم الحاجة إليه، ولم نكن على قناعة في ارتدائه... لذلك كنا إذا ركبنا الطائرة لسفر خارج وطننا نسرع في خلع الحجاب؛ لنتخلص منه... ولم نكن وحدنا الذين نفعل هذا، فقد شاهدنا فتيات كثيرات يفعلن مثلنا في الطائرة... وهذا جعلنا نشرع بأن الكل يشاركنا نفس الشعور مما ولد لدينا شعورًا بالراحة والرضي... وما أن تصل الطائرة ونهبط من سلمها حتى يجتاحني شعور ببداية برنامجي المليء بالتسلية واللعب.مسارح.... فنادق.فسباحة. سباحة.ملاهي.... وغير ذلك.


كثيرًا ما كنت أتعرف على كثير من أبناء وطني، أو من خارجه، ونقضي معًا أوقاتًا في اللهو والعبث و...


كان والدي قد اشترى لنا هناك شقة... وكنت أعرف أننا على خطأ جسيم... ولكنني كنت أعرف عددًا من الفتيات من بنات وطني يفعلن مثلي، فكثيرات هن اللاتي يأتين لممارسة العري والفحش... كنت أشعر بالذل لكثير من المشاهد والمواقف المؤسفة... كنت أرى الكثير من الفتيات يبحثن عن صديق يشاركهن السهر والرقص... وكنت من بين هؤلاء... وكنت أشعر أن الكثيرين ينظرون إلينا نظرة احتقار لما نحن فيه من إقبال على الشهوات... كنت أبحث عن والدتي؛ لأبث لها همومي ورغبتي الأكيدة في العودة... كنت لا أراها في البيت... وكانت تأتي متأخرة حيث تقضي الليل خارج البيت وتأتي في الصباح... وكانت تأتي متعبة لا ترغب في الحديث مع أحد... شعرت بأنني أواجه همومًا كالجبال... وضاقت علي نفسي بسبب إهمال والدتي لي، وعدم سماعها لما يخالج نفسي... عدت مرة أخرى للهو والعبث... عدت لأنتقم مما أنا فيه... ذهبت لأحد الملاهي الشعبية في ملابس شبه عارية... جعلت أرقص وأتلوى يمينًا وشمالاً لمدة طويلة... ثم أمسكت (بالميكروفون) وجعلت أغني، وطلبت من الجمهور أن يختاروا أي أغنية لأغنيها لهم... رأيت أحد الشباب يخرج من بين الجمهور ويتجه نحوي... أقبل علي بغضب، ولطمني بقوة... سحبني من خشبة المسرح، وعاتبني لما صنعت... شعرت بأن الدنيا تدور بي، وجعلت الذكريات تطوف بي وتشدني إلى الوراء... شعرت بأن أخطائي تراكمت حتى أصبحت كالجبال... كنت نكسة لأمتي، ووطني، وديني...لامني الشاب، وسترني ببعض ما لديه من ملابس، وغادرت معه حيث أوصلني إلى المنزل... كثيرًا ما لامني، وأنا في السيارة... وشعرت بكلماته تنهال علي كالصواعق المحرقة... كانت صدمة اهتزت لها نفسي، واستيقظت معها جوارحي وعاد دفء الحياة لقلبي... شعرت بالندم يجتاح كياني، ودخلت منزلي منكسرة ذليلة... جلست في غرفتي أتأمل هذا الضياع الذي وصلنا إليه... بكيت كثيرًا حرقة، وألمًا على الذنوب، والآثام... عزمت على التوبة فاغتسلت، وتوضأت، وصليت... شعرت ببرد اليقين يتسلل إلى صدري... علمت أمي بذلك ورأتني في البيت محتشمة، فذهلت وسألتني عن الخبر... جلست أناقشتها، وأبث لها همومي، وجعلت أستعرض معها ما نحن فيه... بينت لها أننا نسير في الطريق الخطأ... مَرَضت أيامًا، وفكرت كثيرًا فيما نحن فيه، فهداها الله للقرار الصائب... عدنا للوطن، ووصلنا البيت وقد عزمنا على التغيير... رأى والدي ما نحن فيه فندم على تفرطيه... فكر كثيرًا في حقنا الذي ضيعه في التربية والبناء... ندم على ذلك أشد الندم... رجع إلى بيته ليصلحه من جديد... وشاء الله تعالى أن يتقدم لخطبتي شاب صالح زادني الله على يديه هدى وتقى.


كانت فاتحة زواجنا أداء عمرة في رحاب بيت الله... وشعرت هناك بأني إنسانة جديدة... وأدركت كم كنت تائهة بعيدة عن الحق... بكيت كثيرًا قرب الكعبة، ودعوت الله أن يغفر لنا سالف عملنا، وأن لا يضلنا بعد إذ هدانا إليه.


كانت تجربة مريرة مررنا بها... ولكن رحمة الله تداركتنا جميعًا حيث أصبحت عائلتنا بأكملها تغدُّ الخطى نحو الهدى، وتنهل من كتاب الله تعالى، وتسير على هدي سنة نبينا صلى الله عليه وسلم... فحمدًا لله على هذا... وحذار يا فتيات وطني أن تقعن فيما وقعت فيه ([2])!!



الكنز المخبوء

قالت مديرة المدرسة: تأخرت إحدى التلميذات ذات يوم في المدرسة حيث لم يحضر – السائق والخادمة – لاستلامها، فكلفت المشرفة بالبقاء معها حتى قدومهما لاستلامها، ثم انتظرت المشرفة حتى صلاة العصر... ولم يحضر أحد... فاتصلت بي في البيت مخبرة إياي بالأمر، فأشرت عليها بأن تأخذ التلميذة معها إلى بيتها، وتترك للحارس رقم هاتفها... فلعله حصل لأهلها أمر طارئ اضطروا بسببه لهذا التأخير... وغادرت المعلمة المدرسة مصطحبة معها تلك المسكينة إلى بيتها، فأطعمتها وآوتها، وجلست تنتظر أن يتصل بها أحد... ولكن دون جدوى... فسلمت أمرها لله... وتركت الطفلة تبيت مع أطفالها... ثم أخذتها معها في اليوم التالي إلى المدرسة... وجاءت بها مباشرة إلى المديرة، وأخبرتها بخبرها.


قالت المديرة: رفعت سماعة الهاتف واتصلت فورًا بأم التلميذة لأرى ما الأمر.


فردت علي إحدى الخادمات، وأخبرتني أنها نائمة...!!


قلت: الحمد لله لم يحصل لها مكروه... ثم كررت الاتصال الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، ثم ردت علي الخادمة وأخبرتني أنها لن تصحو من نومها قبل الواحدة بعد الظهر، فسلمت أمري لله... واتصلت بها بعد الواحدة بقليل... ولم أخبرها بشيء... إنما طلبت منها الحضور إلى المدرسة فورًا لأمر مهم يخص ابنتها.


فأجابت الأم قائلة: لدي موعد مع الخياطة بعد قليل... إنه مهم جدًا لا بد أن أقضيه، لأنني الليلة مدعوة إلى حفلة عرس... وقد أتأخر عند الخياطة... لهذا فأنا أعتذر اليوم عن الحضور إلى المدرسة، وسآتيكم غدًا.


قالت لها المديرة: سأنتظر في المدرسة اليوم مهما كلف الأمر حتى لو بقيت للعشاء.


فذهبت الأم للخياطة أولاً... ثم عرجت بفضلة وقتها إلى المدرسة لترى ماذا حلَّ بابنتها!! وجدت المديرة بانتظارها فبادرتها قائلة: أين كانت ابنتك البارحة؟ قالت الأم: كانت في البيت... أين ستكون؟!!


المديرة: هل تناولت معها طعام الغداء، ثم أشرفت على دروسها ومذاكرتها... وهل لاحظت ساعة نومها؟
قالت الأم: لا.
قالت المديرة: ولمَ لا؟
قالت الأم: لأن الأولاد لهم جناح خاص بهم، تشرف عليهم إحدى الخادمات... , تحضر لهم الطعام... ,الشراب... وهي التي تقوم بالإشراف على دروسهم... ألا يكفي أننا تعبنا في حملهم وإنجابهم...!!


قالت لها المديرة: أتعرفين أيتها السيدة المحترمة... أن ابنتك لم تبت البارحة في جنتها الحالمة!! وبرجها العاجي...!! إنما باتت في بيت إحدى المعلمات جزاها الله خيرًا.


قالت الأم وقد فوجئت واندهشت مما تسمع: ماذا؟! أنا لا أسمح بمثل هذا الكلام... وهذا التطاول... نحن من عائلة معروفة – كما تعلمين – وقد يؤثر هذا الكلام على سمعتنا...!!


قالت المديرة: أيتها السيدة... إنه ليس كلامًا كما تتصورين إنه أمر واقع مرّ... أنت أداتُه الفاعلة... ونحن نتجرع غصته، أنت أم والأمومة لفظة تلقي بظلالها على أركان النفس الإنسانية السوية، فتدفعها دفعًا لا شعوريًا إلى التضحية والعطاء.. وإسباغ الحنان، والشعور بالرحمة، أين أنت من كل هذا؟! ألست أمها؟ ما هو شعورك نحو ابنتك؟ أين أنت منها؟! إنها كنزك المخبوء عند كبرك... وبعد موتك... إنك إن لم ترحميها في صغرها... حرمت من رحمتها عند كبرك ... وبعد موتك ... أنت لو كانت معك كنوز قارون فإنها ستفنى ، ولكن الرحمة...والحنان... والتضحية... والصبر.... كلها نودعها في خزائن الله الذي لا تضيع عنده صغيرة... ولا كبيرة إلا أحصاها لنا، ثم يبارك لنا فيها... في أي عالم أيتها الأم تعيشين؟!


طأطأت الأم رأسها، ثم التفت إلى البريئة ابنتها، وقالت لها: أين كنت البارحة..؟ فأجابت الطفلة بكل براءة... وكأنها تعبر عن مشكلتها بكل صدق.


قالت الطفلة: ماما... لقد تناولت طعام العشاء البارحة مع المعلمة وأولادها... ثم نمت معهم... ورأيت المعلمة في الليل تمر علينا واحدًا واحدًا وتغطينا... إنها يا ماما تخاف على أولادها من البرد، ثم تناولنا وجبة الفطور أيضًا كلنا مع بعضنا... الفطور جميل يا ماما ولذيذ، وقد عملت لي المعلمة شطيرة من الجبن أكلتها في الفسحة المدرسية... كم سعدت يا أمي في بيت المعلمة... افطري معي يا أمي كل يوم... وتعشي معي... أرجوك يا أمي.


نهضت الأم من مكانها وهي ممتعضة وغادرت تجر ابنتها وهي تتمتم قائلة: ويل لكما اليوم مني أيها السائق، وأنت أيتها الخادمة... هذا كل ما قدرت عليه هذه الأم ([3])...!!


قلت: القصة لا تحتاج إلى تعليق، وهي مهداة إلى كل الأسر من الأمهات والآباء الذين يزيفون الأمومة والأبوة بالخدم والسائقين، ويظنون أن الأمومة والأبوة معاشرة وحمل وإنجاب فقط، ولا يعرفون أنها مسؤولية وأمانة وتربية.
.
.
.
يتبع



([1]) حكايتي مع شغالتي، بثنية العراقي. نقلاً عن: قصص واقعية مؤثرة ص(133).

([2]) مذكرات فتاة، محمد بن عبد العزيز الحميدي ص(39-43).

([3]) المرجع: الإصلاح، العدد (219). نقلاً عن كشكول الأسرة ص(58-61).


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

ضياع أسرة

نشأ نشأة عادية، كان يقضي معظم وقته في الشارع يلعب، ويلهو مع أصدقائه الذين يقاربونه بالسن، وهو بينهم عنيف جدًا، وعصبي جدًا، ولا يتحمل زملاءه، وكان دائمًا يحب أن يكون هو الرئيس، وكان أصدقاء السوء يرحبون به، ويعتبرونه عضوًا فعالاً في جمعية الفاشلين، والمنحلين أخلاقيًا. أما على المستوى الدراسي فكان فاشلاً دائم الرسوب، وأين دور الأسرة من هذا العضو المريض التائه؟!


ولقد كان وضعه الأسري تعيسًا، فالأسرة ضائعة، راعي الأسرة هو الأب لا يدري ماذا يفعل؟ فقد ترك زمام رعاية الأسرة لزوجته التي كانت ضعيفة الشخصية، لا تدري ما يدور حولها، وكانت الأسرة مثل السفينة في وسط بحر هائج، لا أمل لها في النجاة أو الوصول إلى بر الأمان.


لما رأى صاحبنا أنه فاشل دراسيًا، خرج من المدرسة يبحث عن وظيفة، فلم يجد إلا وظيفة في السلك العسكري، وانخرط فيه، ولكن بما أنه كان إنسانًا غير سوي، وغير مستقر نفسيًا، لم يدم في السلك العسكري، وترك الوظيفة وأراد أن يعمل بالقطاع الخاص، ولكن الفاشل نجاحه صعب، وأشار عليه رفقاء السوء أن أسهل كسب للربح المادي هو الاتجار بالمخدرات، وبما أنه ليس لديه أي رادع ديني، أو أخلاقي، أو اجتماعي يقيه من الوقوع في مثل هذه البؤر الفاسدة، فإنه لم يتردد لحظة واحدة، بل رحب بالفكرة وبدأ العمل.


وكانت النتيجة بالنسبة له ناجحة، وجمع رأسمال لا بأس به، وبدا عليه الثراء، فزاد في فحشه وفجوره. وكما هو معروف، فإن المال الحرام لا يذهب إلا في الحرام، ولا يؤدي بصاحبه إلا إلى المهالك، حتى جلوسه في البيت كان يقضيه في الفساد، فكان يشاهد الأفلام الخليعة الساقطة، حتى صار أسفل سافلين، واندحر خلقيًا إلى أدنى درجة، فصار إنسانًا بلا دين، ولا خلق، ولا غيرة، حتى الحيوان يشمئز منه ويخرجه من فصيلته، وصار يرتاد شقق الدعارة، ومواخير الفسق والفجور، فصار القرد والخنزير أرقى منه خلقيًا.


وفي إحدى الليالي الحمراء، دعي إلى شقة نتنة، ولما دلف إليها وجد فيها أحد المطربين يتلاعب بالعود، وعبدة الشيطان يرقصون، ويصفقون، ويضحكون، وكأنهم باقون خالدون!!


والدخان يتصاعد في كل مكان، والكؤوس تلمع بما فيها مع أضواء المصابيح، والأنخاب تتبادل بين النساء والرجال، بل قل بين الإناث والذكور، فالرجال لا يتواجدون في مثل هذه البؤر الفاسدة، والمستنقعات الآسنة. واعتاد على هذا الجو الفاسد، وفي كل ليلة يجد في هذه الشقة وجوهًا جديدة من النساء الحسناوات الفاتنات يرقصن، ويتمايلن، ويشربن.


وهكذا كل ليلة يسهر مع رفقاء السوء، ورفيقات الشيطان إلى ساعات الفجر الأولى، ولا يهدأ إلا مع صوت الأذان ينادي حي على الصلاة، حي على الفلاح.


ولكن من يسمع... إنها أجساد قد خلت من الشعور، وخويت من الحياة، وكما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً




ولكن لا حياة لمن تنادي





وذات ليلة قرر هذا الماجن أن يستريح ولا يذهب إلى شقة الفساد، ولكن من له أصدقاء مثل أصدقائه قد غلبوا الشيطان بمكرهم وخبثهم، لا يمكن أن يهدأ أو يستقر لحظة، فأصروا عليه وهو يتمنع، وأخذوا يغرونه ويصفون له الجو هذه الليلة بأنه جو ساخن، فسوف يأتي مطرب مشهور لإحياء هذه الليلة – بل لدفننا وليس لإحيائها – وسوف تكون معه بنت جميلة باهرة الجمال رشيقة القوام، فاتنة، وسوف تصاحب هذا المطرب بالرقص والغناء، فتاق قلبه، وزاد شوقه، وسبقهم إلى شقة الفجور، وجلس ينتظر وكله شوق، وإذا بالفتاة تدخل وهي ترقص مع أنغام الموسيقى، وصوت المطرب الفاسد يزيد الجو سخونة، وأخذت تتمايل، والقلوب معها تتمايل، وتعلقت العيون بها، وأخذ هو يتفحصها من أخمص قدميها إلى أعلاها، حتى وقفت عيناه عند وجهها فتسمرت، ولم يرتد إليه طرفه، وفغر فاه من هول المفاجأة، وأراد أن يصرخ بأعلى صوته، ولكنه لم يستطع. وأخذ شريط حياته الفاسدة يُعرض أمامه، وأخذ يحدث نفسه قائلاً: أنا الذي كل ليلة مع بنت من بنات الهوى، ألعب بهن كيف أشاء، وأدنس شرفهن وشرف أسرهن يحدث لي مثل هذا الموقف؟!.أنا..أنا.أنا.. أي حيوان خسيس يحدث له هذا؟!


أتدرون ما الذي حدث؟ إن هذه الراقصة الفاتنة التي تتمايل بجسمها بين هؤلاء الذكور الفسقة والتي تاق قلب هذا الفاسق لها إنها أخته!! شقيقته من دمه ولحمه... ولم تكن تدري أن أخاها مدعو للتفرج على جمالها، والتمتع برقصاتها، ولا هو يعلم وأصدقاء السوء أيضًا لا يعلمون، ولكن لا بد لأي شيء من نهاية إما سعيدة، أو تعيسة حسب العمل ونوعه، إن كان عملاً طيبًا فالنهاية سعيدة، وإن كان عملاً خبيثًا فالنهاية تعيسة ولو بعد حين.


لقد كان منظر أخته وهي ترقص في هذا الجو القذر صدمة كبيرة له، ولكنه تمالك نفسه رغم أنفه، وجلس صامتًا، يحترق من الداخل، ولكنه لم يقم بأي حركة، ولمحته أخته، فعرفته فارتبكت، وخافت، وتظاهرت بالتعب والإرهاق، وخرجت مسرعة إلى المنزل، وأتم هو سهرته مع رفقاء السوء، وأخذ يفكر كيف يتصرف مع أخته، ودفعه تفكيره الشيطاني إلى أمر.


وفي الصباح ذهب إلى البيت، وكأنه لم ير أخته في ذلك المكان النتن، حتى اطمأنت أخته، وتيقنت أنه لم يعرفها، ولم يدر عن عملها شيئًا، ومرت فترة تقارب الشهر، وخرج مع أخته لقضاء بعض الحاجات في السوق، وأثناء عودتهما عرج إلى طريق البر، وتوغل في الصحراء، فاستغربت أخته وقالت له: إلى أين أنت ذاهب؟!


فتذرع لها بقضاء حاجة.


وفي وسط الصحراء القاحلة الخالية من النبات والطير والإنسان أنزلها من السيارة، وأخرج سلاحه أفرغ في رأسها طلقات، وتركها تنزف وحيدة في هذا المكان الخالي، ثم ذهب إلى أقرب مخفر للشرطة وسلم نفسه، وبسرعة توجه رجال الشطة إلى مكان الحادث، فوجدوها قد زحفت لمسافة 20 مترًا تجاه الشارع العام، ولكنها ماتت، وقد تبين عند الفحص عليها أنها لم تمس ولا يثبت عليها أنها باشرت الزنا.


وحكمت عليه المحكمة بالسجن عشر سنوات فقط ([1])!!


مجرم فاسد مروج للمخدرات قاتل يحكم عليه عشر سنوات، ولكن ما النتيجة؟ هل اتعظ هذا المجرم بهذا الحكم؟... لا... بل تمادى في غيه، وواصل فسقه، وفجوره في السجن، ففي أثناء سجنه، راود شابًا وهتك عرضه، وهذه هي نتيجة التهاون بشرع الله وعدم العمل بالقوانين الشرعية التي شرعها الله عز وجل.


إن هذه القصة تبين أن لكل شيء نهاية، فمهما تمادى الإنسان واغتر بما لديه من مال وقوة، فإن الله له بالمرصاد، وإن الجزاء من جنس العمل، فهذا الفاسق قد تعرض لبنات الناس، فطعن بعرضه أمام عينيه، فاعتبروا واعلموا أنه كما تدين تدان.

يتامى الطلاق

منذ أن بدأ جيبه يثقل بالنقود بعد فتح مكتبه العقاري، بدأ دينه يخف، وأصبح يتطلع إلى تقليد أصحابه الذين يعبدون الله على حرف.


وصار يطمع في زوجة عصرية تتماشى مع رقة دينه، وتسايره في سهراته المختلطة مع عائلات أصدقائه.


لمَّح لزوجته بذلك وهو يعلم تمسكها بدينها، ولكنها رفضت أن تكون من أولياء الشيطان، هددها بطلاقها، وضخم لها ما ستلاقيه من طفلتها وطفلها اللذان لم يتجاوزا الخامسة من العمر، والجنين الذي سيأتي بعد شهرين، لكنها ضحت بكل الصعاب إلا التساهل بدينها، ولكنها كانت بينها وبين نفسها لا تصدق ما يقول، وهي تعرف حبه لطفليه ومودته لها، ولا سيما أنها رفيقة طفولته، وجاءها يومًا يخبرها أنه سيتزوج من امرأة في الخامسة والثلاثين، تكبرها بعشر سنوات ولكنها ستكون نعم المعين له في طريق الشيطان، وقد وافقت على مرافقته إلى سهراته المختلطة، ونبذت الحجاب إرضاء له. خرجت زوجته من حياته مع أولاده، وخاصة أن من تزوجها ابنةُ مستخدمه التي كانت تحسن إليها، ولكنها تنفر منها لأفكارها البعيدة عن الدين.


وبعد شهرين وضعت طفلة فصارت طفلتان لأخ واحد فعكفت على تربية أولادها عند أهلها، ورفضت كل من تقدم إليها، وهذا ما أقض مضجع ضرتها، فكانت ترسل لها الخطاب تارة، وتارة تكيل لها الشتائم لأنها لم تتزوج، وأنها ما زالت تأمل أن يردها زوجها وهذا لن يتحقق، وترسل لها من يأمرها بالزواج؛ لأن زوجها لن يعيدها إليه مرة أخرى، وكلما وقف الجرح عاد إلى النزف مرة أخرى، وخاصة عندما رفضت ضرتها استقبال أولادها في بيتها، فكان والدهم يراهم نصف ساعة عند عمتهم، وكثيرًا ما كانوا يشتاقون إليه فيهربون دون أن تعلم أمهم أو أهلها بذلك، فيتيهون في الشوارع ليأتي بهم رجل الشرطة، أو كثير من فاعلي الخير بين بكاء وصياح، لأنهم يريدون رؤية والدهم وإحضاره إلى البيت مثل بقية أولاد الجيران والأقرباء، وكثيرًا ما يصلون إلى البيت فترجعهم زوجة أبيهم بعد أن تضربهم، وتخفي ذلك عن أبيهم، مضت خمس سنوات، وانتهت فترة الحضانة وبدأت زوجة أبيهم تعدّ غرفة مستقلة لأولاد زوجها، لا حبًا لهم ولكن لتحرق قلب أمهم عليهم من جهة، ولتدفعها إلى الزواج من جهة أخرى، فينقطع الأمل بعودتها لزوجها، فأرسلت تخبرها أن عليها أن تودع أطفالها؛ لأنها لن تسمح لها برؤيتهم بعد ذلك. فكرت الأم المسكينة مرارًا في هذا الموقف الصعب، واسترجعت عروض زوجها ليعيدها إليه. لكنها كانت ترفض خوفًا على دينها وأن يجبرها على ترك حجابها، وتوجهت إلى الله بالدعاء فاستجاب لها. إذ حضر والد أطفالها يعرض على أهلها أن تعود إليه ليعيش الأطفال معها وهي آمنة على دينها، فعادت لتكون درعًا يحمي أطفالها من التشرد والضياع، ورد الله كيد الضرة في نحرها، وكانت فرحة الأطفال لا تقدر: لقد صار لهم أبًا وأمًا كغيرهم من الأطفال، ونزلت دمعة فرح تحجرت في العين خمس سنوات، واختفت كلمة مطلقة وحل محلها زوجة، وأم، وزال اسم يتامى الطلاق ([2]).

زهرة في مهب الريح

ما أجمل الحياة حينما تكتسي ثوب السعادة، فيكون لها مذاقها الحلو وطعمها اللذيذ! وما أشد ظلمة الكون حينما تكون الحياة بحارًا هائجة يسودها السبُّ، والشتم، والضرب! غفلت تلك الأم عن جمال الدنيا، وحسبت أن الحياة عناد!


لقد عاشت أسرة هذه الزوجة في بداية حياتها الحب، والطمأنينة، والترابط، ولكن حينما دبت المشكلات، وأصبح لا هم لربة البيت سوى عناد الأب واستفزازه بكل الطرق بقصد أحيانًا، وأحيانًا كثيرة بدون قصد، بدأت بذرة المتاعب، كما أن الأب اتسم بالسلبية؛ فأهمل كل واجباته التربوية، وأغلق عقله وتفكيره عن سماع احتياجات أبنائه، وحصر تصرفاته في انتقاد كل ما تقع عليه عينه في البيت.


كانت تلك هي بداية ضياع الأبناء، فقد افتقدوا الجو العائلي الذي يشيع الدفء في أركان البيت. افتقدوا الحنان والعطف، فكانت ضحية المأساة زهرة في المرحلة المتوسطة، عانت وطأة المشكلات ليل نهار؛ افتقدت أبسط مقومات الحياة النفسية السليمة. صحيح أنها كانت صغيرة في عمرها، ولكنها كانت كبيرة في تفكيرها. أحسَّت حب الأم وحنان الأب، وعاشت دفء الأسرة المترابطة فترة من فترات طفولتها، لكن هبوب العواصف جعل لها مع المشكلات موعدًا.


كانت ليلة دامسة غاب فيها القمر، وغابت معه كل لحظة أمل في العيش الهادئ، كان السبب تافهًا ككل مرة، لكنه أحدث أثرًا عميقًا هذه المرة، فقد ضاع بعده كل شيء. انفرط العقد، وانقطعت الشعرة التي كانت تجمع الشمل، وفقدت الزهرة آخر فرصة للعيش في هدوء وسعادة. وقع الخلاف الفعلي، وبعدها قرر الأب ترك البيت، وتكوين أسرة أخرى، أبقى أسرته الأولى ليعيش أفرادها عيشة كريمة مع الأم فقط، واكتفى هو بالمرور والسلام من حين إلى آخر. وهكذا بدأت أولى خطوات غياب الرقيب الراعي.


كانت الزهرة كأي فتاة في عمرها ذات عاطفة جياشة، وحب يسع الدنيا بأكملها، رقيقة المشاعر، مقبلة على الحياة، بريئة ومندفعة لقلة خبرتها وضعف تجربتها، أرادت أن تعوض الحب الذي طمره خلاف الأبوين؛ فجاء التعويض فادح الثمن.


لم يكن هناك من يوجهها التوجيه الصحيح، وغاب الاهتمام الأسري بأم منغمسة في أخبار زوجها وافتعال المشكلات مع زوجته الجديدة ولو من بعيد؛ فنسيت بيتها ومن فيه.


كانت هذه الطالبة في المدرسة قلقة، ومضطربة، وتنتظر الخروج، وبالفعل خرجت، ولكن إلى أين؟ إلى سيارة أحد المنحرفين. لقد وجد فيها فرصته لكي يعبث بها كيف يشاء، ثم يعيدها إلى المنزل بعد أن يروي ظمأه الحيواني منها.


وكانت الزهرة تتوهم أنها تعوض ما فقدته من عاطفة، وكأن عقلها الباطن أوحى لها بذلك كي تنتقم بطريقة غير مباشرة ممن كان السبب في افتقادها لدفئها الأسري. كانت الزهرة تعود للمنزل فلا تجد من يسألها أو يحاسبها، واستمر الحال فترة طويلة، وسط ضياع أخلاقي وغياب من الرقيب.


ولأن لكل بداية نهاية؛ جاءت لحظة «الصحوة» لتوقظ الفتاة من غفوتها، ولكنها كانت لحظة مفعمة بالألم والحسرة. استيقظت الزهرة ولكن على ماذا؟ على ضياع الشرف وتهدم دمار المستقبل! وبعدما استيقظت الأم الغافلة، وجاء الأب المهمل يلطم وجهه، ويندب حظه وآماله، لكن الزهرة كانت الضحية الأولى والأخيرة. إنها الآن تصرخ بين قضبان الحياة وتستنجد، فقد حكمت على نفسها بالسجن المؤبد، وكان حصادها ضياع كل شيء في غفلة من الجهل، وضعف الإيمان، وغياب الرقيب والأسرة.


وقفة:

وبعد أن انفرط العقد، واستغنى كل واحد عن الآخر، من الذي دفع الثمن وبحث عن العاطفة المحرمة؟ من المسؤول عن هذا الضياع؟ أيها الأب أيتها الأم! هذه هي نتيجة الغفلة، والإهمال في التربية: الألم والحسرة والندم حيث لا ينفع الندم.


أبناؤكم أمانة في أعناقكم، حافظوا عليهم، ارعوهم، أشبعوا عاطفتهم، راقبوهم قبل فوت الأوان.


الأمانة عظيمة أيتها الأم سوف توقفين وتحاسبين، قال تعالى: }وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ{ [الصافات: 24]، أيها الأب حذار من أن تضيع رعيتك ([3]).

أبي عُد إلينا

ها أنذا أضع قدمي على عتبات السلم لأدخل قاعة المحاضرات في الجامعة، ذلك المكان الرائع بكل المقاييس... بصديقاته الجديدات... وقاعته الكبيرة... التي حاولت أن أنسى على عتباتها كراسي المدرسة الصغيرة، وطاولتها المستطيلة.


جلست على أول مكان صادفته أمامي... أخرجت أقلامي التي اخترتها بعناية، وكراستي الخاصة بالمحاضرات، ورغم امتلاء القاعة عن آخرها إلا أنني لم أجد أيا من صديقاتي اللاتي اعتدت أن أراهن في المدرسة.


ظلت عيني تحدق في باب القاعة انتظارًا لمن سيحاضرنا في هذه الساعة، فهي أولى محاضرة أحضرها، ورأيته وهو يدخل القاعة... يحمل في يده حقيبته السوداء، أنيق المظهر يختلط الشعر الأبيض في رأسه مع الأسود فيزيده وقارًا... رأيته يشبه كثيرًا الممثلين الذين طالما أُعجبت بهم على شاشة التلفزيون، واليوم ها هو أمام عيني يعرفنا بنفسه، يخرج الأوراق... يوزعها... يكتب على اللوحة... يبتسم يسأل يذكر مصطلحات، لم استطع استيعابها في البداية، وانتهت المحاضرة، وخرج الأستاذ، وخرجنا نحن للمحاضرة الثانية, وكانت في اللغة الإنجليزية، حاضرت فيها سيدة أجنبية... لكنها أبدًا لم تكن في جمال المحاضرة الأولى.


وانتهى يومي الجامعي الأول... وعدت للمنزل ورويت لإخوتي الصغار مني كل شيء رأيت... إلا أنني احتفظت بأمر أستاذ المحاضرة الأولى سرًا لنفسي فقط.


وتوالت المحاضرات... وازداد معها إعجابي بأستاذي إلى حد بدأت أخاف منه، فقد بدأ يملأ عقلي، ويمتد إلى أوتار قلبي يحركها، وإن كنت سريعًا ما أسيطر عليها.


وجاء اليوم الذي أخبرنا فيه الأستاذ أنه على استعداد للإجابة على أي استفسار حول المنهج خلال ساعاته المكتبية... وكانت هذه هي فرصتي التي أنتظرها، فقد أصبحت قادرة على رؤيته كل يوم، وليس في أوقات المحاضرة فقط كما كان يحدث، وبدأت أعلل نفسي بأي سؤال للذهاب إليه... كان يقابل الأمر في البداية برحابة صدر، ثم بدأت ألحظ عليه بعض الضيق، وبدأ يجعلني انتظر ليجاوب على أسئلة باقي الطلبة أولاً.


وفي إحدى المرات أخذت أوراقي وذهبت إليه، وقد أعددت أكثر من عشرة أسئلة؛ لأستفسر عنها، وما إن دخلت المكتب ورآني وكان معه عدد من الزميلات حتى قال لي: ما أسئلتك اليوم يا ترى؟ فقدمت إليه ورقتي وأنا على يقين من أن ساعة كاملة لن تكفي ليجيبني على أسئلتي، فنظر إلى الورقة ورفع رأسه قائلاً: «إيه الحكاية يا بنتي؟ أنت كل يوم تسألين... ألا تفهمين شيئًا من المحاضرة؟».


فضحكت الفتيات، ووضع الأستاذ الورقة جانبًا، وأشاح بوجهه عني، وأصدقكم القول... لم يهمني كل ما حدث، فقد شغلتني كلمة واحدة قالها لي... وهي كلمة «يا بنتي» نعم إنني ابنة، ولكن أين أبي؟ وجدتني أحدق في الأستاذ جيدًا، وأتذكر ملامح أبي التي نسيت معظمها، فوجدته يحمل الكثير منها، فيا ترى هل كنت حقًا أبحث فيه عن أبي الغائب؟!


هذه اللحظة قررت أن أجد أبي لا أن أبحث عنه خارج المنزل.


ظللت انتظر أبي الذي لا يعود إلا متأخرًا... ولا يستيقظ إلا بعد خروجنا، لأصرخ في وجهه قائلة «أرجوك يا أبي عد إلينا»، ولكن النعاس غالبني، فعاودت الكرة ثانية في اليوم التالي... وها أنا أسمع صوت مفاتيحه في الباب، أخذ قلبي يدق بسرعة، دعوت الله أن يساعدني، ورددت في نفسي... لا لن أتخاذل اليوم... وإذا فشلت فلن أيأس، وسأعيد الكرة... وسأصرخ بأعلى صوتي: أبي عد إلينا، فأنا أبحث عنك خارج منزلنا([4]).

يساعد ابنه على الغش في الاختبار

الأب هو المثل والقدوة الذي يتأسى به الأبناء، ويتشبهون به في كل أقواله وتصرفاته ليصبح نموذجًا طبيعيًا يُقتدى به لأبنائه ولغيرهم، ولكن أن ينحرف الأب في سلوكه وتصرفاته، ويحرض أبناءه على السلوك السيئ فتلك كارثة، وإنذار خطر يهدد كيان الأسر.


وفي المجتمع الأمريكي تم طرد الطالب (شوك تريمونت) من كليته الجامعية وفصله منها، بعد أن ضبط رجال الأمن والده يملي عليه إجابات الاختبارات مستخدمًا في ذلك راديو بموجة قصيرة.


الغريب في الأمر أن والد الطالب أعلن بكل جرأة وأمام الصحافة دون خجل بأنهم لم يخسروا شيئًا؛ لأن ابنه كان سوف يسقط في كل الأحوال فمستواه الدراسي ضعيف.


وبرر الوالد ذلك بأنه يعلم مقدار ما اقترفه من جُرم وخطأ، لكنه كان مضطرًا إلى ذلك فابنه في هذه الكلية كلفهم ثروة لا يستهان بها، ولم يكن هناك سبيل آخر لتحقيق النجاح.


اكتشفت القضية عندما لاحظ رجال الأمن سيارة من نوع (فان) سوداء، وعليها هوائي ضخم بلغ طوله 32 قدمًا تقف خارج شعبة الرياضيات بجامعة سان فرنسيس، وقاموا بفتح أبوابها الخلفية بهدوء، فسمعوا الأب يهمس في ميكروفون أمامه قائلاً الإجابة هي «78999» هنا فاجأه رجال الأمن فرفض الإفصاح عن فعلته، ولمن كان يتكلم... ضغط عليه رجال الأمن وأمطروه بالأسئلة، وقاموا بالمرور على اللجان، فتوصلوا إلى وجود نجله داخل اللجان، وهو يهمس «أبي أبي» في ميكرفون خاص به، فتم القبض عليه بعد افتضاح أمره لتصدر الجامعة قرارها الشهير بفصل شوك نهائيًا.
- تعليق: الغش ظاهرة سيئة، ومرض اجتماعي يحاصر صاحبه، ويصمه بالعار؛ ولذلك نهى عنه الإسلام وحذر منه رسولنا الكريم بقوله: «من غشنا فليس منا» [رواه أبو داود، وصححه الألباني].


والأب مثل وقدوة لأبنائه ولذا يجب أن يتمسك بالسنة الصالحة، والعمل الطيب؛ لتكون البذرة صالحة، وتضرب بجذورها الرائدة في كيان المجتمع ([5]).
.
.
.
يتبع



([1]) جريدة الرأي العام العدد (19788) بتصرف. نقلاً عن: كما تدين تدان ص(87-90).

([2]) قطار الزواج والطلاق، رجاء أبو صالح ص(35-37).

([3]) مأساة طالبة ص(8-11).

([4]) أسيرة الأحلام، تيسير الزايد ص(97-100).

([5]) قصص وسط الزحام (1/5، 54).


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :

رحلة الضياع

لا شيء أقسى في الدنيا من أن تجد نفسك أمام سؤال كبير قد تعرف إجابته، ولكن الشك يقف حاجزًا بين التصديق والتكذيب... هل والدي يحبني حبًا حقيقيًا؟ أم تراه لا يحبني؟ ولكن كرمه معي، وتدليله لي يؤيد هذا الحب؟! كيف أعرف ذلك؟ كيف أستطيع أن أفرق بين الحقيقة والوهم إن كان وهمًا؟ هل يعقل أن يعرف الأب أن ابنه مدمن مخدرات ويتركه دون نصيحة، أو جدال، أو عقاب؟ هل يعقل أن يتجاهل فعله المشين تاركًا له الحبل على الغارب رغم حبه الكبير له؟


تململ «عبد العزيز» في سريه وهو ممدد تحت قسوة تلك الأسئلة التي تحرق فؤاده، وتحرمه لذيذ النوم، وراحة الفكر، كلما خلا إلى نفسه وأفاق من وهم السعادة التي يحلق في عالمها.


كانت فرحة والده به كبيرة عندما جاء على عدد من الأخوات، كانت سعادته به لا توصف... أنشأه، ورباه، وعلمه وعوده على التدليل، وتحقيق الطلبات وترك له حرية اختيار كل شيء يخصه تعليمه... أصدقاؤه، تلبية طلباته... كان كرم عبد العزيز المتدفق نتيجة لكرم والده دافعًا؛ لتعرفه على عدد من أصدقاء السوء... الذين وجدوا فيه صديقًا نافعًا.


في إحدى ليالي الجمع، اقترح أحد الأصدقاء أن يخرجوا إلى رحلة بحرية...وافقوا جميعًا، واستعد كل منهم وعلى ضوء القمر الهادئ، وسكون الليل، وأصوات الموسيقى الصاخبة؛ أخرج أحدهم كيسًا كبيرًا من الحشيش، وبدؤوا يتناولونه بالترتيب، وحينما وصل دور عبد العزيز... سألهم ما هذا؟ ألا تعرفه؟ لا... وضج الجمع بالضحك... قال أحدهم: يظهر أنه لم يتذوق السعادة التي نتذوقها نحن... رد ثان قائلاً: يبدو أنك تعيش في عالم آخر غير عالمنا؟ قال ثالث: إنه لا يعرف غير سعادة المال! ما هذا الكلام الذي ترجمونني به من أجل هذه القطعة... فرد أحدهم: اسمها حشيشة السعادة يا جاهل، وعلت الأصوات بالضحك، خذ... مد يده وتناولها... شعر براحة وإحساس غريب ينتابه، ومضى الليل، وهم يعيشون في عالم من الأحلام والسعادة الوهمية.


في عطلة الصيف قال لوالده: أبي أريد أن أقضي إجازة الصيف في أمريكا، ولماذا أمريكا؟ الجميع يتحدثون عن جمالها وروعة مدنها. ودون أن يفكر قال له مبتسمًا... سيكون لك ما تريد يا عبد العزيز، ومتى تريد أن تسافر؟ بعد أسبوع إذا وافقت... وهل يكفيك شهرٌ؟ ربما وربما أكثر.


كان والده يشعر بالفخر؛ لأن ابنه أصبح رجلاً يعتمد عليه، ويستطيع أن يسافر وحده، ولكن محبته الزائدة أنسته أن يسأل ابنه عن رفقاء سفره... وعن أخلاقهم، وأهلهم.


في أمريكا المدينة الكبيرة الصاخبة... رأى الحرية المطلقة، ومظاهر اللهو الصارخة، والسهرات الحمراء المختلفة... كان الشيطان يصور له كأنه ولد من جديد، وأن عيشته السابقة لم تحسب من عمره، وأنه لم يعش كما يريد... على الرغم من أنه كان يتذوق أنواعًا من الحياة المترفة الرغيدة.



المترفة الرغيدة

في إحدى البارات تناول الهيروين... والمراجوانا والأفيون... كان يدفع مبالغ كبيرة ثمنًا لعذابه وضياعه... دون أن يعلم أنه يشتري الموت لنفسه، أصدقاء السوء علموه كيف يحب اللهو، وقادوه إلى طريق الشر.


عندما نفدت نقوده... أرسل يطلب مبلغًا كبيرًا من المال...كانت طلباته أوامر... في نفس الوقت الذي وصلته فيه البرقية... رفع والده سماعة الهاتف، وقال لمدير صندوقه المالي: عليك يا محمود أن تصرف لابني أي مبلغ يطلبه... وكان المبلغ الذي صرفه له في بداية الأمر مائة ألف ريال، صعق المدير لأمر صاحب المال... وحينما علم والده أنه يدمن المخدرات، لم يحدثه في الأمر أو يحذره، بل تركه على حريته، وكأن ما يفعله ليس فعلاً يجلب الدمار والضياع له – ولله في خلقه شؤون – مما شجعه على المضي في غيه ولهوه.


كان كل شهر يصرف مائة ألف ريال... حينما عاد من سفره بدأت صحته تتدهور لعدم حصوله على المخدرات... فقد كان رجال الأمن يلاحقون مروجي المخدرات بشكل مستمر... ويضيقون عليهم الخناق...حتى وقعوا في أيدي الشرطة... ظل عبد العزيز في حالة شديدة من الاكتئاب والضيق حتى حمل له أحد المروجين بعض الهيروين خفية... وكانت فرحة عبد العزيز به لا توصف، وكأنه نجا من حالة غرق... ولكنه لم يشعر بالراحة التي اعتادها عند أخذه، وحينما شكا تلك المشكلة للمروج. قال له: ما نوع الهيروين الذي تأخذه؟ وحين عرف نوعه، قال له: إنه هيروين مغشوش، وكل ما يُباع هنا مغشوش، زادت حالته سوءًا، نصحه بإعطائه عقار الهلوسة وهو ما يسمى عند فئة المدمنين أسيد السعادة... كان يؤخذ بدلاً من الهيروين الخام.


تعود عليه... كان هذا النوع خطيرًا يجعل صاحبه يفقد عقله أو يقدم على الانتحار... كان يضحك بهسترية، وبدون سبب، وأحيانًا كان يبكي... ذات يوم خرج إلى الشارع عاريًا... كان منظرًا بشعًا يبعث على التقزز والخوف معًا... اجتمع عليه الجيران والتف حوله المارة بعضهم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وآخرون راحوا يرشقونه بالحجارة لعله يفيق... آخرون قالوا: لا بد من إبلاغ الشرطة لأخذه... قال أحدهم: اتصلوا بالإسعاف... آخر لا سآخذه بسيارتي إلى المستشفى... يبدو أنه غير طبيعي، في المستشفى خضع عبد العزيز للتحاليل والأشعة وفي حالة يقظته سأله الطبيب: ما الذي كنت تأخذه حتى حدث لك ما حدث؟ قال بأسى لقد أدمنت الهيروين الخام... ولكني لم أجد مثله هنا، فوصف لي أحدهم «الأسيد» لم تطل فترة وجوده في المستشفى.


ذات ليلة غافل الممرضة وهرب تحت ستر الظلام، وعاد من جديد إلى إدمان الهيروين المغشوش بعد أن عجز عن إيجاد هيروين خام... كان يتناول كل يوم كيٍسا كاملاً حتى إنه سبب له هبوطًا في القلب، وأصيب باكتئاب وضيق تنفس... نقله أصدقاؤه إلى المستشفى، ومكث فترة وبعد خروجه عاد من جديد إلى تناول الأسيد، فتدهورت صحته وأصيب بنكسة، وأدخل على إثرها المستشفى للمرة الثالثة، وعانى من العذاب ما لا يوصف... ولكنه هذه المرة لم يفكر في الهرب بقدر ما فكر في العلاج، ووجد أنه الطريق الوحيد الذي سيوصله إلى طريق الشفاء... ويخلصه من عذابه الذي لا يحتمل... بعد أن قضى أيامًا وليالي طويلة باكيًا نادمًا مستغفرًا ربه لما بدر منه آسفًا على ضعفه وانسياقه وراء ملذاته، معاتبًا والده الذي ترك له الحبل على الغارب ([1]).



اليتيمان

أحس «ماجد» أنه لم يفهم شيئًا مما يقرأ وإن عينيه لتبصران الحروف وتريان الكلمات ولكن عقله لا يُدرك معناها.


إنه لا يفكر في الدرس وفيما يقرأ، إنما يفكر في هذه القاسية القلب زوجة أبيه، وما جرت عليه من نكد وحزن وآلام، وما سببت له من مصائب ونكبات.


وكيف نغصت عليه وعلى أخته المسكينة حياتهما وجعلتها جحيمًا مستعرًا.


لقد ماتت أمه الحنون منذ فترة فقرر أبوه الزواج بتلك المرأة؛ لتقوم على رعاية «ماجد»... وأخته الصغيرة والعناية بشؤونهما، والسهر على راحتهما.


نظر «ماجد» في التقويم فإذا بينه وبين الامتحان أسبوع واحد فقط ولا بد له من القراءة والاستعداد للامتحان جيدًا.


ولكن كيف يقرأ؟ وكيف يستعد؟
وأنى له الهدوء والاستقرار النفسي في هذا البيت، وهذه المرأة قاسية القلب تطارده، وتؤذيه، ولا تدعه يستريح لحظة قط.


وعندما تكف عن أذيته وتشفي غيظها منه، تلتفت إلى المسكينة الصغيرة وتصب عليها ويلاتها، وتصفها بأقبح الأوصاف، وتسمعها أبشع الكلمات.


وهنا يخاطب «ماجد» نفسه:
هل يمكن أن أرسب في أول سنة من سنين المراحل الثانوية، وقد كنت في المرحلة الابتدائية والمتوسطة المتفوق على سائر طلاب الفصل والأول عليهم.


وبينما هو يفكر إذ به يسمع صوت العاصفة، وإن العاصفة لتمر بالحقل مرة في الشهر فتكسر الأغصان، وتقصف الفروع، ثم تجيء الأمطار فتروي الأرض، ثم تطلع الشمس.


وإن عاصفة هذه البيت تهب كل ساعة فتكسر قلبه وقلب أخته الصغيرة ذات السنوات الست.


لقد سمع «ماجد» سبَّها وشتمها لأخته الصغيرة، وقرع أذنه صوت يدها – شلت يدها – وهي تقع على وجه أخته الطفلة البريئة صاحبة القلب الذي يئن، ولكن من يسمع أنين القلوب.



فلم يستطع «ماجد» القعود في غرفته، ولم يكن يستطيع أن يقوم لحمايتها ودفع الظلم عنها خوفًا من أبيه. هذا الرجل الذي حالف امرأته الجديدة وعاونها – دون شعور منه – على حرب هذه الطفلة المسكينة وتجريعها غصص الحياة وآلامها قبل أن تدري ما الحياة، ووقف «ماجد» ينظر من شباك غرفته، فرأى أخته مستندة إلى الجدار تبكي منكسرة حزينة. وكانت مصفرة الوجه بالية الثوب، وإلى جانبها أختها الصغرى من أبيها طافحة الوجه صحة، بارقة العينين، مزهوة بثيابها الغالية. وشعر «ماجد» بقلبه يثب إلى عينيه، ويسيل دموعًا.


أخذ «ماجد» يخاطب نفسه ما ذنب هذه الطفلة حتى تُسام هذا العذاب؟ أما كانت ذات يوم فرحة أبيها وزينة حياته؟


أما كانت عزيزة عليه؟
فمالها الآن صارت ذليلة بغيضة لا تسمع في هذا البيت إلا السب والانتهار، أما التدليل فلأختها من أبيها. كأنما هي البنت المتفردة.


أفاق «ماجد» من شروده مع الأيام وتقبلها على صوت خالته – زوجة أبيه – وهي تنادي أخته الحزينة، ويلك تعالي يا خنزيرة.


لقد كان هذا هو اسمها عندها «الخنزيرة» لم تكن تناديها إلا به.
فإذا جاء أبوها فهي البنت، تعالي يا بنت، روحي يا بنت.
أما أختها الصغيرة فهي الحبيبة فهي تناديها أين أنت يا حبيبتي.
تعالي يا عيوني.
وعاد صوت تلك الزوجة القاسية يزمجر في الدار.
وهي تخاطب أخت ماجد الحزينة قائلة:
ألا تسمعين أختك تبكي؟
انظري الذي تريده فهاتيه لها؟
ألا تجاوبين؟ هل أنت خرساء؟ قولي: تكلمي ماذا تريدين.
فأجابت المسكينة بصوت خائف: إنها تريد الشوكولاته!
فصاحت فيها زوجة الأب، ولماذا بقيت واقفة مثل الدبة؟
اذهبي فأعطيها ما تريد... اذهبي!


فوقفت المسكينة حائرة، ولم تدر كيف تبين لها أن القطعة الباقية هي لها.


لقد اشترى أبوها البارحة قطعة من الشوكولاتة، وأعطاه لابنته الصغيرة بنت الزوجة الثانية فأكلته، والمسكينة تنظر إلهيا فرمت إليها بقطعة منها، كما يرمي الإنسان باللقمة للهرة التي تحدق فيها وهو يأكل.


وأخذت المسكينة القطعة فرحةً بها ولم تجرؤ أن تأكلها على الرغم من اشتهائها إياها، فخبأتها، وجعلت تذهب إليها كل ساعة فتراها وتطمئن عليها، وغلبتها شهوتها مرة فقضمت منها قضمة بطرف أسنانها، فرأتها أختها المدللة فبكت طالبة الشوكولاتة.


صاحت زوجة الأب في الطفلة المسكينة الويل لك يا ملعونة، أين الشوكولاتة؟ فسكتت أخت ماجد ولم تتكلم.


ولكن الصغيرة المدللة قالت: هناك يا ماما عندها، لقد أخذتها مني.


واستاقت المرأة ابنتها وابنة زوجها كما يساق المتهم إلى التحقيق، فلما ضبطت المسكينة متلبسة بالجرم المشهود، ورأت زوجة أبيها الشوكولاتة معها حل بها البلاء العظيم!


أخذت زوجة أبيها تصيح في وجه المسكينة قائلة: يا سارقة... يا سارقة هكذا علمتك أمك تسرقين ما ليس لك؟


وكان ماجد يحتمل كل شيء، إلا الإساءة إلى ذكرى أمه، فلما سمعها تذكرها لم يتمالك نفسه أن صاح بها قائلاً: أنا لا أسمح لك أن تتكلمي عن أمي هكذا.


فتشمرت له واستعدت، وكانت تتعمد إذلاله وإيذاءه دائمًا، فكان يتحمل صامتًا صامدًا لا يبدو عليه أنه يحفلها أو يأبه لها، فكان ذلك يغيظها وتتمنى أن تجد سبيلاً إلى شفاء غيظها منه، وها هي ذي قد وجدت الفرصة.


فصاحت فيه قائلة: لا تسمح لي! أرجوك يا سعادة «البك» اسمح لي، ألا يكفي أن أتعب وأنصب؛ لأقدم لك طعامك وأقوم على خدمتك، وأنت لا تنفع لشيء إلا الكتابة في هذا الدفتر الأسود.


ولكن ليس بعجيب أنت ابن أمك.
فقال لها ماجد: قلت لك: كفي عن ذكر أمي، وإلا أسكتك واقترب منها، فصرخت زوجة الأب القاسية وولولت وأسمعت الجيران، وأخذت تردد تريد أن تضربني يا ماجد؟... آه يا خائن، يا منكر الجميل، يا ناس يا عالم، ألحقوني، أدركوني، أنقذوني، وجمعت الجيران، وتسلل ماجد إلى غرفته أو الزاوية الصغيرة التي سموها غرفة وخصصوها له، لتتخلص سيدة الدار زوجة أبيه من رؤيته دائمًا في وجهها.


وفي المساء عاد الأب إلى البيت وكان على عادته عابسًا لا يبتسم في وجوه أولاده، لئلا يتجرؤوا عليه فتسوء تربيتهم، وتفسد أخلاقهم، ولم يكن كذلك قبل زواجه من هذه القاسية، ولكنه استنَّ لنفسه هذه السنة من يوم حضرت هذه الأفعى إلى الدار، وصبت سمها في جسمه، ووضعت في ذهنه أن «ماجدًا وأخته المسكينة مدللان فاسدان، لا يصلحهما إلا الشدة والقسوة».


دخل الأب المنزل فاستقبلته استقبال المحبة الجميلة، والمشوقة المخلصة.


ولكنها وضعت في وجهها لونًا من الألم البريء، فبدت معه كأنها المظلومة المسكينة، لم لحقته إلى غرفة النوم تساعده على إبدال ثيابه.
وهناك روت له قصة مكذوبة، فملأت صدره غضبًا على أولاده، فخرج وهو لا يبصر ما أمامه.


ودعا بالبنت المسكينة فجاءت تمشي مشية من يساق إلى الموت، ووقفت أمامه كأنها الحمل المهزول بين يدي النمر.


فقعد الأب على كرسي عال، كأنه كرسي المحكمة، وأوقفها أمامه، كالمتهم الذي قدمت كل الأدلة على إجرامه، وأفهمها قبح السرقة، وعنفها، وزجرها.


وهو ينظر إلى ولده ماجد نظرة الافتراس متوعده منذرًا بالشر، ولم يسع ماجد السكوت وهو يسمع اتهام أخته بالسرقة، وهي بريئة منها.


فأقبل على أبيه يريد أن يشرح له الأمر ويوضح له الموقف، فتعجل بذلك الشر على نفسه؟


وهنا انفجر البركان وزُلزلت الدار زلزالها، وأرعد فيها صوت الأب الغاضب الهائج قائلاً:


أتريد أن تضرب خالتك يا قليل الحياء، يا معدوم التربية، لقد حسبتك رجلاً إنني سأكسر يدك التي تريد أن تضرب بها خالتك.
فقال ماجد: والله يا والدي هذا الكلام غير صحيح.
فقال الأب: يا وقح أما بقي عندك أدب؟ أتُكذَّبُ خالتك؟
فقال ماجد: أنا لا أكذبها، ولكنها تقول أشياء ليست صحيحة...
عند ذلك وثب الوحش من كرسيه، وانحط بكل قوته وقسوته على ابنه، وأخذ يكيل له الضربات، ويركله ويصفعه، كالمجنون، ولم يكتف بذلك، بل أخذ دفتره الأسود الذي كتب فيه كل دروسه ومزقه تمزيقًا، ثم تركه هو وأخته المسكينة بلا عشاء عقوبة لهما.
جثم ماجد مكانه ينظر إلى قطع الدفتر الذي أفنى فيه لياليه وعاف لأجله طعامه ومنامه، والذي وضع فيه نور عينيه، وربيع عمره، وبنى عليه أمله ومستقبله، ثم قام المسكين يجمع قطعه كما تجمع الأم أشلاء ولدها الذي طوَّحت به قنبلة هائلة، فإذا هي تالفة لا سبيل إلى جمعها، ولن تعود دفترًا يقرأ فيه إلا إذا عادت هذه الأشياء بشرًا سويًا يتكلم ويمشي.
فأيقن أنه قد رسب في الامتحان، وقد أضاع سنته الدراسية.
وكَبُر عليه الأمر، ولم تعد أعاصبه تحتمل هذا الظلم.


ويكرُّ الفيلم ويرى أمه مريضة فلا يهتم بمرضها، ويحسبه مرضًا عارضًا، ثم يرى مشهدًا آخر، الدار والاضطراب ظاهر فيه، والحزن باد على وجوه أهله ويسمع البكاء والنحيب، ويجدهم يبتعدون به، ويخفون النبأ عنه، ولكنه يفهم أن أمه قد ماتت... ماتت.


انتبه ماجد من ذكرياته على صوت قهقهة تلك المرأة القاسية مع ضحكات أبيه.
وأنصت ماجد فإذا هو يسمع بكاء خافتًا حزينًا مستمرًا إنه بكاء أخته المسكينة قد باتت بلا عشاء، ولعلها بلا غداء أيضًا.


فهذه المجرمة تشغلها طول النهار في خدمتها وخدمة بنتها، وتحجب عنها الطعام ولا تعطيها إلا كسرة من الخبز، وإلى الجانب الآخر تطعم ابنتها أشهى الأطعمة.


فإذا جاء الأب في المساء، ارتدت أمامه قناع الرحمة والحنان.
وشكت إليه مرض ابنته وضعفها.
وتقول له: مسكينة هذه البنت، إنها لا تتغذى انظر إلى جسمها اذهب بها إلى طبيب؟ ولكن ماذا سيفعل معها الطبيب، إن ابنتك عنيدة، أقدم لها الطعام فلا تأكل، وعنادها سيقضي على صحتها، فيناديها أبوها ويقول لها: لماذا يا بنت هذا العناد؟ كلي وإلا كسرت رأسك؟


فتقدم لتأكل، فترى المرأة الخبيثة تنظر إليها من وراء ظهر أبيها نظرة الوعيد، وترى وجهها قد انقلب حتى صار كوجه الضبع فتخاف، وتتراجع، وترتد، ولا تأكل.


فتقول المرأة لزوجها: ألم أقل لك، إنها عنيدة تحتاج إلى تربية.


فيهز الأب رأسه، ويكتفي من تربيتها بضربها على وجهها، وشد أذنها وطردها من الغرفة، ويكون ذلك عشاها كل يوم.
تذكر ماجد أخته فقام إليها فرفعها وضمها إلى صدره.
وقال لها: مالك يا حبيبتي؟ لماذا تبكين؟ اسكتي يا حبيبتي؟
فتقول له: إني جائعة يا أخي.
جوعانة يا أختي، ولكن من أين آتيك بالطعام؟
وقام ماجد يفتش في البيت، وكانت دائمًا زوجة أبيه تحكم غلقها على الطعام، ولكنه وجد بقايا العشاء على المائدة، فحمله ماجد إلى أخته المسكينة فأكلتها، وفرحت بها.


وهنا عادت ذكريات الماضي تتدفق عليه، وعادت صورة أمه الحبيبة أمام عينيه، وسمعها تناديه وتهتف به؟
ونسي ماجد دفتره الممزق ومستقبله الضائع وحياته المرة، وطفق يُصغي إلى نداء الماضي في أذنيه إلى صوت أمه الحبيبة.
فقال لأخته الصغيرة: قومي يا حبيبتي: ألا تسمعين صوت أمك تعالي نروح عند ماما.


ارتجفت البنت المسكينة؛ لأنها لم تكن تعرف لها أمًا إلا هذه المرأة المجرمة.


وخافت منها وأبت أن تذهب إليها، لقد كان من جناية هذه المرأة أنها شوهت في نفس الطفلة الصغيرة أجمل صورة عرفها الإنسان صورة الأم.
فأخذ ماجد يقول لأخته ويكرر: تعالي نروح عند ماما الحلوة أمك الجميلة، إنها في الجنة ألا تسمعين صوتها.


وحمل ماجد أخته بين يديه، وفتح الباب ومضى بها في اتجاه الصوت الذي يرن في أذنيه.


وفي اليوم التالي، قرأ الناس في الجرائد أن رجال المقابر وجدوا في المقبرة طفلة هزيلة في السادسة من عمرها، وولدًا في الرابعة عشرة قد حملا إلى المستشفى؛ لأن البنت مشرفة على الموت، قد نال منها الجوع والبرد والفزع، ولا يمكن أن تنجو إلا بأعجوبة من أعاجيب القدر. أما الغلام فهو يهذي في حُمَّاه يذكر الامتحان، والدفتر الأسود، وأمه التي تناديه، والمرأة التي تشبه الأفعى؟([2]).

صدقوني إنني أموت

نشأ في أسرة متصدعة لا تربطها أي علاقة حب أو عاطفة أو رحمة، فالأب قاسي القلب، سريع الغضب، بخيل على زوجته وأولاده. ثم تخلى هذا الأب عن أسرته، وتركهم دون رعاية، وتحملت الأم مسؤولية البيت، وأخذت تشتري وتبيع؛ كي توفر المال الذي تنفقه على عيالها، ونتج عن تخلي الأب عن مسؤوليته، وانشغال الأم بطلب الرزق أن انحرف الولد، وانخرط مع رفاق السوء الذين لا هم لهم إلا مغازلة الفتيات، والبحث عن الرذيلة في الشقق المفروشة، وانغمس في الحرام، وزين له رفقاء السوء والفساد السفر إلى بانكوك، فإنه هناك سيجد كل ما يريده بين يديه بثمن بخس.


وأخذ هذا الولد الفاسد بالضغط على أمه المسكينة الضعيفة، وأقنعها أنه يريد السفر إلى هناك كي يهرب من التجنيد الإلزامي، فحن قلب الأم ورقت له، وهل هناك أرق من قلب الأم؟!


كذب على أمه فصدقته، وسافر إلى هناك مع قرناء السوء، ووجد كل ما يحلم به من المتعة المحرمة، وطالت إقامته وتزوج واحدة من المومسات، وأنجب منها بنتًا، ولكن لكل شيء نهاية، فقد نفدت أمواله، وكانت الأم المسكينة ترسل له الأموال بين فترة وأخرى، حتى اضطرت للاستدانة كي ترسل له ما يريد، ولكن انقطعت الأم عن إرسال المال، فلم تستطع تدبير أي مبلغ ترسله لولدها.


ولما ضاقت به السبل اضطر للرجوع لأرض الوطن. وهنا أقنعته أمه بأن يتزوج من بنات بلده، وهي لا تعلم أنه متزوج من إحدى المومسات الساقطات.


ولكنه أطاعها وتزوج ممن اختارتها له أمه، تزوجها مكرًا وخديعة وغدرًا بهذه المسكينة، وتركها وهي في شهر العسل كما يقولون، وعاد إلى حياة العفن والرذيلة التي قدم منها، فأمثاله لا يستطيعون العيش في الهواء النقي والشمس المشرقة، بل لا يحلو لهم العيش إلا في البؤر الفاسدة ضاربًا عرض الحائط بتوسلات أمه وهي ترجوه بعدم العودة والبقاء هنا، وتأكد للأم أنه متزوج هناك، وأنه منغمس بالرذيلة، فقررت مقاطعته، وأصمت أذنها عنه كلما اتصل بها يريد مالاً، ولم تعد تصدق أعذاره الواهية وحججه الكاذبة.


ولم تمض سنة على سفره حتى أصيب بمرض «الإيدز» ووقع طريح فراش المرض يعاني الآلام المبرحة التي تكاد تقطعه وهو حيّ، وأخذ يتصل بأمه وكلمها بصوت ضعيف متهدج: «أمي إنني أموت صدقوني... تعالوا إلي حتى أراكم قبل أن أموت»، ولكن من يصدق الكذاب، فكانت الأم تقول: أنت كذاب كعادتك، ولن أصدقك.


وبعد أيام من هذه المكالمة اتصلت الخارجية بالأم المسكينة لتخبرها بتسلم جثة ولدها القادمة من بانكوك ([3]).

أخطار تهدد أبناءنا

تقول ربة بيت وأم لعدد من الأبناء: «منذ فترة وأنا ألاحظ ابنتي 14 سنة شاردة الذهن، كما أنها تكثر من الجلوس مع الشغالة في المطبخ، أو في غرفتها وتتحدث معها طويلاً، مما جعلني أشك في الموضوع. وبمراقبتها اتضح أن الخادمة تريد أن تدفع بابنتي إلى الرذيلة، حيث إنها سهلت تعارفها مع ابن الجيران، وتحولت إلى ساعي بريد الغرام، حتى إنه دفعها الشر إلى تحديد موعد مع هذا الشاب للقاء ابنتي في غيابي. وقد تداركت الموضوع في الوقت المناسب، وأفهمت ابنتي مدى فداحة ما كانت سوف ترتكبه وتتمادى فيه، وأن هذه المفاهيم الخاطئة التي غرستها فيها الخادمة بعيدة عن ديننا وعادات مجتمعنا، وأنه أكثر ما يحزنني ويؤثر في نفسي أنني أشعر بالذنب نحو ابنتي، لأنني ابتعدت عنها، وسمحت للخادمة بأن تسيطر على تفكيرها. وغادرت الخادمة إلى بلدها غير مأسوف عليها رغم حاجتي لها».


قصة أخرى

وتحكي مديرة مشغل مأساتها مع الخادمة وهي حزينة: «دائمًا هناك ضريبة تدفعها المرأة مقابل وجود الشغالة في منزلها، حتى وإن تجاهلت ذلك. وقد عانيت من الشغالة ما تركته في حياة أصغر أبنائي 4 سنوات، فقد تعلق بالخادمة بدرجة كبيرة، حتى إنه منذ أن يستيقظ إلى أن ينام وهو بجانبها. فهي تحمله دائمًا حتى أثناء عملها، وتهتم بأموره الخاصة من أكل وشرب ونظافة وخلافها... وعندما انتهت مدة إقامتها، اندهشت الأسرة وأصابها الذهول، وتبادرت إلى أذهانهم الكثير من التساؤلات حول حالة ابنهم "خالد" الذي يبلغ الثالثة من العمر، نتيجة مشاهدتهم له وهو يقوم بأداء بعض السلوكيات الجنسية أمامهم.


حاول الأب والأم معاقبته أكثر من مرة، ولكن كانت تلك المحاولة غير مجدية، حيث أصبح يمارس تلك السلوكيات في مكان آخر بعيدًا عن ناظريهم خوفًا من العقاب... وبعد محاولات عديدة قرر الأبوان عرضه على أحد متخصصي الأطفال، الذي بدوره بعد فحصه نصحهم بعرضه على متخصص في العلاج النفسي للأطفال؛ للبحث عن حلول لهذه المشكلة السلوكية التي يعاني منها ابنهما.


المعالج النفسي شاهد الطفل "خالد" ثم أخضعه للملاحظة السلوكية المنظمة في البيت وأثناء زيارته للعيادة، اتضح له أنه يردد عبارات لغوية غير مفهومة. وبعد محاولة فهمها اتضح له أنها قريبة من لغة "العاملة المنزلية" التي تخدم داخل البيت.


وبعد أن استخدم بعض التقنيات الشخصية النفسية، كان هناك مؤشر واضح بأن الطفل "خالد" تعلم من خلال ما يسمى "بالأنموذج" من خلال مشاهدته لتلك العاملة، وهي تقوم بمثل ذلك السلوك أمام نظر الطفل ظنًا منها أنه لا يفهم.


ثم اجتمع المعالج بالأبوين وحاول منهما أن يخبراه عن الفترة التي يمضيها الطفل "خالد" وحده مع الشغالة، فقالا: إنه يمضي وقتًا طويلاً بسبب انشغالهما ببعض الأعمال، وإنهما كثيرًا ما يعتمدان على تلك المستخدمة للعناية به وتلبية طلباته... وقد طمأن المعالج الأبوين بأن ذلك السلوك المكتسب عن طريق التعليم بالتقليد، سلوك نمطي يفتقد للعوامل المعرفية، أو ما يمكن أن نطلق عليه الإدراك العقلي لأهميته، كما يحدث للأشخاص البالغين».
.
.
.
يتبع


([1]) مأساة نورة وآخرين ص(123-129).

([2]) قصص من الحياة: الشيخ علي الطنطاوي ص(9-20) باختصار.

([3]) جريدة الأنباء تاريخ (13/5/1996م)، بتصرف. نقلاً عن: كما تدين تدان ص(93، 94).


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :

قصة أخرى

وخادمة استغلت الشباب المراهقين داخل الأسرة. فلما علم الأب بهذا الوضع المخزي أراد تسفيرها. فوقف أبناؤه معارضين قائلين: أنت تقضي شهوتك من زوجتك، فدعنا نحن أيضًا نقضي شهوتنا!!



قصة أخرى

وهذه خادمة سعت وراء شاب من شباب الأسرة حتى وقع بها وفعل معها الفاحشة فحملت منه، فأخذت عندئذ تهدد الأسرة بأن تفضحهم بما جرى، إن لم يدفعوا لها المال الذي تريده ([1]).



دعت الابنة على أبيها

فقال: آمين... آمين!!

كان ممن تأثرت أخلاقهم وأفكارهم بالنظرة المادية... فأصبح المال محبوبه الأول... وأعمت المادة بصيرته، فلم يعد يبصر إلا من خلال ثقوبها الضيقة... وأصبح المال ميزانه الذي يزن به الأمور... وكانت له ابنة بلغت مبلغ الزواج... وأخذ الخطاب على اختلاف مراتبهم يدقون أبوابه راغبين في الزواج من ابنته.


ولكنه كان يردهم بحجج واهية، ظاهرها المصلحة وباطنها المادة... مع أن من هؤلاء الخطاب أصحابُ دين وخلق... ممن أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بهم... ولكن كان لسان حاله يقول: أين الذي يدفع أكثر... والمنافع والمصالح من ورائه أكبر؟


ومرت الأيام... وظل على أحلامه المادية... ومرت الأعوام... وترك قطار الزمن ابنته في محطة العنوسة... وغادر الخطاب بابه... واتجهوا لغيره ممن لديهم بقية دين وخلق... ممن يرفضون بيع بناتهم كالنعاج في الحراج.


وذبُل شباب ابنته.... وانطفأت نضارتها... وجف عودها ومع الأيام دب السقم في جوانحها... وأصيبت بداء عضال أضنى الأطباء شفاؤه.... ونقلت إلى المستشفى... وحانت لحظاتها الأخيرة... وأُخبر والدها بالأمر... فأفاق من عالمه المادي، وأتى مسرعًا ليرى ابنته في ثوب المرض بعد أن حرمها منذ زمن من ثوب الزفاف،نظر إليها مشفقًا عليها... نظرت إليه بعينين قد اغرورقت بالدمع، وأخذت تتمتم وتحرك شفتيها... دنا منها ليسمع ما تريد البوح به في لحظتها الأخيرة... فوجدها تطلب منه أن يقول آمين... فقال: آمين... ثم تمتمت مرة أخرى، وطلبت منه أن يقول آمين... فقال: آمين... ثم فعلت ذلك مرة ثالثة، وطلبت منه أن يقول آمين... فقالها.


وبعد فترة من الصمت المشحون بالأسى... سألها برفق عن الدعاء الذي طلبت منه أن يؤمن عليه... فانحدرت دموعها الأخيرة... وأجابت بعد صمت بصوت واهن مليء بالأسى... لقد دعوت الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج.


وطوى القبر في باطنه مأساة دامية... وبقي المجرم الذي أعمى الجشع بصيرته... بقي يندب نفسه وابنته... ويعض أصابع الندم... ولات ساعة مندم... هذه مأساة سمعنا بها وعرفناها، فيا ترى كم من المآسي من هذا النوع تمت في صمت، ولم نسمع بها... ما دام الناس في إعراض عن الحياة وفقه الشريعة وآدابها... فلا شك أن هناك الكثير من هذا النوع... وما خفي كان أعظم ([2]).


عودة ... ولكن

الدموع لغة الكل يفهمها، وهي أصدق تعبير عن المشاعر، ولكن الذي يلفت النظر حينما تمتزج دموع الفرحة بالنجاة بدموع الحزن والحسرة على أيام لن تعود، ووقت ضاع في لهو بعيد عن الله، فالدين الإسلامي هو قوام الحياة، وهو الذي خلص البشرية من عنائها الطويل، وهمها الأبدي، حررها من قيود العبودية والذل في عبادة غير الله إلى عبادة رب العالمين، فأصبحنا مسلمين بالفطرة منذ ولادتنا.


ولكن هذه الحكاية تتسم بالغرابة في طريقتها ومضمونها، فهل فكرنا أنه سوف يجيء من أولادنا من يكفر بملتنا، ويخرج من ديننا؟ هل دار بخلدك أيها الأب أنك قد تمسي أو تصبح فتجد أحد أبنائك أصبح كافرًا مرتدًا عن الدين؟ إنه أمر شديد الخطورة شديد الألم. رأيتها وهي تدخل مصلى المدرسة دخول الخائفين، ظهر عليها التوتر، وكأني بها لأول مرة تستمع للقرآن الكريم، تكلمت المحاضرة في المصلى فأجهشت بالبكاء، واستغربت المعلمة هذا الوضع، فأرادت أن تعرف أصل الحكاية؛ فكان السؤال: ما لي أراك قلقة ومتوترة، وتبدو عليك علامات الحزن الشديد؟ فأجابت: أتعرفين بأنني الآن يا معلمتي والآن فقط أسلمت ودخلت الدين الإسلامي!


سادت الدهشة المكان، وبان عدم التصديق على مُحَيَّا المعلمة، فخرجت ابتسامة باهتة باردة كبرودة الجو الذي تقفان فيه، ثم قالت المعلمة: قولي الآن اهتديت وقررت ترك المعصية والعودة إلى الله، ولا تقولي أسلمت، فكلنا مسلمون يا صغيرتي، وأنت ابنة عائلة معروفة، ولا ينبغي لك أن تتفوهي بهذا الكلام. فقالت: أعرف أنك قد لا تصدقينني لعظم ما أقوله، ولكنها الحقيقة. قالت: كيف؟ فردت: حينما تُرك أمر تربيتنا للخدم والمربيات والسائقين، وعندما كانت فطرتنا سليمة لم تزرع فينا الأم بذور الإيمان، وعندما كان للثراء دور وللإهمال أثر في حياتنا؛ انحرفت عقيدتنا، فالأم مشغولة بكل شيء إلا بنا. اعتقدت أن الخادمة والمربية والسائق والمدرسة يغنون عن وجودها؛ فتربيت دون أن أسمع كلمة حق، ولم أوجَّه أي توجيه! وكما تعرفين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه...»([3]) الحديث.


وقد تحقق هذا الحديث، فأنا ولدت على الفطرة، ولكن أخذت المربية تعلمني دينها، وتبعدني عن الدين الإسلامي، وأخذت المدرسة الأجنبية تغرس في نفسي الولاء والحب للغرب، وتثير فيّ الأحقاد على الإسلام، وأنه دين التخلف، وتشوه الدين في نظري باستمرار.


سألتها المعلمة: ولماذا لم تستفسري، أو تشُكَّي في صحة ما تقول؟ فأجابت: لقد كنت صغيرة، وليس لدى أمي استعداد للإجابة عن أسئلتي! وكنت أتساءل فلم أجد من يجيبني فصدقتها ووثقت بها.


وتواصل المسكينة: لقد كبرت وأنا أعيش في غفلة من الأم وإهمال من الأب، وعدم رقابة من الأهل، سنوات طويلة مرت لم تأمرني أمي فيها بالصلاة، ولم توقظني لصلاة الفجر، هل تصدقين أنها لا تعرف هل أصوم رمضان أم لا؛ للفجوة الكبيرة التي بيننا؟ لقد كانت غفلة استمرت طويلاً خسرت سنوات عمر عظيمة، وفي المدرسة الثانوية أخذت الطالبات يلاحظن علي بعض التصرفات، وتشككت الزميلات في أمري، فأنا لا أؤدي الصلاة معهن، ولا استمع للمحاضرات، ولا أقرأ النشرات، ولا أذهب للمصلى!!


فما كان من زميلاتي إلا أن قمن بنقل هذا الأمر لإحدى المعلمات الداعيات التي أحست بأمانة التعليم وعظم شأن الدعوة إلى الله، فتحرت عني حتى عرفت مشكلتي وأبعادها وبُعدي العظيم عن الله، وعتمة الضلالة التي أعيش بها، فأخذتني باللين وتوضيح الأمور، وظلت تسير معي خطوة بخطوة حتى وصلت إلى بر الأمان، أخذتني للمحاضرات داخل المدرسة وخارجها، فيسّر الله أمري، وشرح صدري، وأعلنتها توبة صادقة، وعودة إلى الله تعالى على يد هذه المربية الفاضلة. وبقيت الآن يا معلمتي أذرف دموع الندم والحسرة على ما مضى من عمري في الضياع.


وتقول: لم أسجد لله طوال هذه السنوات الماضية، وأنا الآن عمري 17 سنة، ضاع عمري، وذهب شبابي، وأنا بعيدة عن الله، انجرفت وراء اعتقادات واهمة وأفكار منحلة، ولم تعلم أمي عن إسلامي؛ لأنها لا تعرف أصلاً بأني خرجت منه حتى أعود إليه!!


وقفة:

يظل بعض التائبين أسيرًا تحت وطأة الحسرة والندم، ويقضي ما بقي من عمره في البكاء المفرط، وتقطع قلبه الحسرة، ونسوا قوله تعالى: }قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ{ [الزمر: 53].


وفي الصحيح ([4]) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها»([5]).


لقد ضيعتني يا أبي!!

سعادة ترفرف حولي... كل شيء أراه جميلاً... على الرغم أن حالتنا المادية كانت متوسطة، بل أشياء كثيرة كنت أفتقدها، ولا أستطيع الحصول عليها، ولكن القناعة تبدد كل الآمال الواسعة والأماني العريضة، كنت أهنأ بكل شيء عندي... وأحمد الله على نعمه العظيمة... ويكفي سعادة وهناء أن يعيش الإنسان في كنف أبوين وأنعم بها من نعمة... أبوين يغدقان عليه من فيض حنانهما وعطفهما... ويزداد الإنسان سعادة وراحة إذا كان متمسكًا بشرع الله، يرفل في الخير، وينعم بالإيمان، إنها الحياة الطيبة... هكذا كنت بفضل الله ومنته... ولكن والدي لم يكن تعجبه هذه الحياة؛ فقد كنت ألمس منه الكآبة الدائمة... والحزن المستمر... والتفكير الطويل... دائمًا يتأفف من حياتنا... كان يتمنى أن يكون من رجالات الأعمال المرموقين... يريد أن يكون كفلان صاحب الشركة... أو علان رئيس المؤسسة، وعلى الرغم من قناعة أمي، فكم نصحته ووجهته. لقد كانت كثيرًا ما تردد يا أبا فلان نحن في نعمة وخير والحمد لله، يكفي الستر والعافية، فكان يتضجر من كلامها... كانت تذكره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم»([6]) فيتأفف من قناعتها... ويقول لها دائمًا: ستعيشين طوال حياتك هكذا تحبين الفقر... لم يقف أبي عند هذا الحد، فقد أخذ يجمع الأموال من هنا وهناك إلى أن تجمعت في يديه ثروة هائلة... وفي الوقت الذي كان يبخل فيه على أسرته بملبس أو طعام من باب الاقتصاد، كان يبعثر الأموال الطائلة على زملاء العمل، وأصحاب رؤوس الأموال، وذلك للمصالح المتبادلة كما يزعم، وكان لا يتم ذلك إلا في الفنادق، أو المطاعم الفاخرة، لأن منزلنا المتواضع ليس أهلاً لمثل هذه الشخصيات البارزة... لقد تغير أبي تمامًا، أصبحت الدنيا، والمؤسسات، والشركات، والعقارات أكبر همه... أصبح التفاخر والتعالي سمته... أصبحت المظاهر البراقة الزائفة جل اهتمامه... غفل أن هذه الحياة زائلة، وأن متاعها فانٍ... كم ذكرته بذلك... كم خوفته من الموت... ولكنه كان يعرض ولا يتعظ، تزوج بأخرى وبالطبع كانت قريبة لأحد الأثرياء... أسكنها في قصر فخم، وأثاث وثير، ولديها الخدم والحشم... بينما نحن لا نجد أحيانًا لقمة العيش فقد تركنا ورحل... ونسي أو تناسى أنه خلف وراءه زوجة مريضة... وأبناء يتضورون جوعًا... لقد ترك أمي التي صبرت عليه، وتحملته، وعاشت معه على القناعة والرضا والكفاف... تركها وهي تقاسي الآلام والأمراض، قائلاً لها: سأتركك مع الفقر الذي تحبين... تقطع قلب أمي أسى وحزنًا على هذا الإنسان الذي أعطته كل شيء، وبذلت من أجله الكثير... لم يكلف نفسه أن ينفق على أهل بيته أو أبنائه، بل أصبحنا نستقبل الصدقات والإعانات من الناس... والناس يتهامسون هذه عائلة فلان الثري، ويشيرون إلينا: انظروا كيف حالهم!!


استمر هذا الحال إلى أن تخرجت من المرحلة الثانوية... وذات يوم إذ بطارق على بابنا وكانت المفاجأة... عندما تصارخ إخوتي الصغار أبي... أبي، لم أصدق عيني وأنا أراه... إنه فعلاً هو... إنه أبي... ما الذي جاء به كان يحمل بين يديه الهدايا، واللعب، والحلوى، والملابس... قلت في نفسي لعل الله هداه، عمت السعادة قلبي، واستبشرت خيرًا... جلس معي ومع أمي، وأخذ يعتذر عن كل ما بدر منه، وأنه أحس بغلطته في حقنا... وأنه سيعوض تلك الأيام السالفة... إلخ ما قاله...


ثم بعد ذلك لمحني وابتسم، وهو يقول: يا بنيتي ما شاء الله عليك كبرت وأصبحت عروسة جميلة متى أفرح بك... فهمت أمي مغزاه... فقامت من المجلس... استغل هو الفرصة فقال لي: اسمعي يا بنيتي ستودعين حياة الفقر والعوز والحاجة... هناك شاب ذو خلق ودين، ومن عائلة ثرية جدًا... بل إنه يملك العقارات، والشركات، سيلبي لك كل طلباتك... سترفلين في الخير والنعيم... لا أريد إلا موافقتك... دب في نفسي الحزن والغم على حال والدي... إنه لم يتبدل... لم يتغير فيه شيء... إنه هو كما تركنا، ما زال حب الدنيا يجري في عروقه.


قلت له: ألهذا الأمر جئتنا؟!!
قال: لا... لقد اشتقت إليكم وأنا يا ابنتي لا أريد إلا مصلحتك... صدقيني... إنها فرصة ثمينة لن تتكرر... لا تضيعيها عليك.


قلت له بلهجة حازمة: مصلحتي هي أمي وإخوتي الصغار... كيف سيعيشون وأنت متخلي عنهم... حتى المصروف، والنفقة لا تعطيهم كيف سيكون حالهم؟ أخشى عليهم من الضياع هذا ما يشغل بالي ويملأ تفكيري... أما الزواج فإنني لا أفكر فيه الآن.


قال: لا عليك أعدك بأن أمك وإخوتك سيعيشون معي، وسأغدق عليهم بكل ما تشتهيه أنفسهم... ولكن فكري الآن في نفسك، سيحضر العريس غدًا، وسيأتي مأذون الأنكحة والشهود، وسيتم كل شيء... لم يمهلني لأتكلم... لأرفض... ليكون لي رأي... سلمت أمري إلى خالقي قلت: لعل زواجي هذا يخفف عن أمي وإخوتي. لعل الله يفرج عنهم... وفعلاً جاء غدًا بما يحمله من مخاوف ورهبة... لم أر العريس فقد خرج مسرعًا بعد أن تم عقد النكاح... بحجة أنه مشغول ولكثرة ارتباطاته... وحدد أبي موعد الزفاف... لم أوافق على هذا الزواج حتى نفذ أبي وعده لي في ضم أمي وإخوتي إليه... وفعلاً أسكنهم في بيت لا بأس به بالقرب من قصره الفخم... وأصبح ينفق عليهم... جاء يوم الزفاف... وعندما أراد العريس الدخول علي؛ ليأخذني إلى عش الزوجية... كانت الصاعقة التي جعلتني أجهش بالبكاء... بل أنهار... فذلك الشاب الممتلئ فتوة وحيوية ونشاطًا، لم يكن إلا رجلاً مسنًا يتوكأ على عصاه... رجلاً في السبعين من العمر... ولكم أن تتصوروا كيف يتم التوافق بين فتاة غضة تبلغ من العمر تسعة عشرة سنة مع إنسان في سن أجدادها.


رفضت أن أذهب معه... أو أن أسير خطوة واحدة... أخذت أصرخ لقد خدعتني يا أبي لن أسامحك... كيف هُنت عليك إلى هذا الحد تبيعني بهذه السهولة ولأجل حفنة من دنيا... تقتل فيّ الحيوية والنشاط لأجل مطامع نفسك. هل تريد أن تقضي على زهرة عمري... وأن تذبل ريحانة شبابي مع رجل كهذا... هل تريد أن تدفنني حية مع إنسان بلغ من العمر عتيًا..؟!! ألا تتقي الله في... ألا تخاف عقابه... لم أشعر إلا وأبي ينهال علي ضربًا وسبًا وشتمًا... يقول: فضحتيني... أتريدين أن تجعليني في موقف حرج يا حمقاء، هذا رجلٌ ثري جدًا لن تجدي مثله، سترثين من ورائه الأموال الطائلة، ستعيشين معه في سعادة أنت لا تعرفين مصلحة نفسك... ثم إن بيني وبينه مصالح مشتركة... إنك بتصرفك هذا تفسدين علي كل شيء... وعندما رأى والدي رفضي الشديد لهذا الزواج... هددني بلهجة حادة وصارمة قائلاً: إذا لم تذهبي مع زوجك سأطرد أمك وإخوتك إلى قارعة الطريق... ولن يجدوا لهم مسكنًا، أو مأوى لأنني قد تصرفت في البيت القديم، وستكونين أنت السبب في ذلك... حينها أسقط في يدي... عرفت أنه لا فائدة من احتجاجاتي، ولن يلتفت أحد إلى اعتراضاتي... رمقت أبي بعينين حزينتين وقلت له: لقد ضيعتني يا أبي، لقد ذبحتني بغير سكين... كيف تلقى الله؟!! ما موقفك يوم القصاص عندما أقف أنا وأنت بين يدي الجبار... لقد ظلمتني يا أبي، وظلمت عائلتك معي.


واسَتْنِي أمي قائلة: بنيتي لا تقبلي بهذا العرض الرخيص... ولا تدفني نفسك مع هذا الإنسان لا عليك من تهديدات أبيك... سنتحمل العناء فقد اعتدنا عليه... ولنا الله؛ لن يتخلى عنا... وأهل الخير والأيادي البيضاء كثيرون، ولن يقصروا معنا.


قلت لها: أمي يكفيك ما عانيته أنت وإخوتي، أما أنا فليس أمامي سوى الصبر واللجوء إلى الله، ولن يضيعني... فقط أريدك أن تدعي الله لي... بكت أمي، وهي تفوض أمرها إلى الله احتضنتني بكل شفقة ورحمة وهي تقول: كان الله في عونك يا بنيتي، كوني مع الله يكن معك، ولعله يُحدث لك بعد ذلك فرجًا ومخرجًا.


عشت مع هذا الإنسان ولا مجال للتوافق بيني وبينه في أي شيء... إذا أراد الاقتراب مني اشمأززت... أرمقه بعيني أتساءل... هل هذا هو الزواج الذي كنت أحلم به؟!!


كنت أتمنى شخصًا يفهمني وأفهمه، إنسانًا يعينني على الخير... يرشدني إلى الصلاح... فلم أجد من ذلك شيئًا... هذا نصيبي والحمد لله على كل حال.
كان دائمًا يشتمني ويسبني... وأنا صامتة... بل ويضربني بعصاه، ويحقرني، بل وصل به الأمر إلى أن يشك بي حتى أصبح يحبسني، وإذا أراد الخروج من منزله أغلق علي الباب بالمفاتيح والأقفال... ولا أدري هل يظن أنني سأهرب وليت الأمر اقتصر على هذا الحد، بل كان إنسانًا شحيحًا بخيلاً مثله مثل والدي تمامًا... كان سيء الخلق... يتهاون في طاعته لربه...لا يبحث إلا عن شهوات نفسه. أقول: سبحان الله! إنسان في هذا العمر، وأقرانه، وأصحابه قد واراهم التراب، وغيبهم الموت... ومع هذا لا يتعظ...
حاولت أن أتعايش مع هذه الحياة المريرة الكئيبة، ولكنني لم أستطع... من يراني من شدة الغموم والأحزان يظنني عجوزًا في الستين، ولا يصدق أنني فتاة العشرين ربيعًا.


أصبحت حياتي كلها خريفًا جحيمًا لا يطاق... لقد ضاقت علي الأرض بما رحبت، النوم فارق جفوني، وشهيتي انعدمت من كل شيء... تكالبت علي الأمراض من كل حدب وصوب... كنت أرفع أكفَّ الضراعة إلى الواحد الديان أن يكشف عني هذا البلاء... ويزيل عني هذا العناء... تجرعت المأساة والألم... والغصص والأحزان... طالما رددت: لقد ضيعتني يا أبي... هذا ما جنته يداك... لقد ملكت ما أردت من الدنيا، ولكن كان ذلك على حساب فلذة كبدك وأبنائك... أبي لقد ضيعت الأمانة... ألا تتقي الله فينا، إن الله سائلك عنا وعن رعيتك، فماذا سيكون جوابك غدًا، وأنت لم تتحمل المسؤولية، ولم ترعَ الأمانة؟!! ([7]).


يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه»([8]).




تطعن طفليها بسكين وتحرقهما بماء النار

«دارلي» امرأة في العقد الرابع من عمرها... تعيش حياة زوجية سعيدة وتحيا حياة آمنة ومستقرة. رزقت بطفلين في حسن القمر، أحدهما «ديفون» البالغ من العمر 6 سنوات، والآخر «داهون» 5 سنوات.


وفجأة دبت الخلافات بين الزوجين، وازدادت حدة المشاكل ليقاطع كل منهما الآخر.


شعرت الزوجة بالتقارب الشديد بين طفليها وزوجها وترحيبهما بالإقامة معه، ففكرت في إيذائهما على طريقتها الغربية الخالية من أية عقيدة، فقررت قتلهما بطريقة منظمة، بحيث تبعد الشك عنها، وذات يوم اقتربت من فراشهما وهما نائمان بعد أن قبلاها... اقتربت منهما، وسحبت سكينًا طويلة نصلحها حاد، اقتربت من الأول وطعنته، ثم عجلت بالثاني ليصرخ الطفلان صرخة الوداع بصوت عالٍ... ارتعشت الأم وفقدت أمومتها، فسكبت عليهما الأسيد (ماء النار) لتشوه وجهيهما، ويلقيان حتفهما في الحال.


بعد ذلك ذهبت إلى المطبخ لتغسل أداة الجريمة وتدفن ملابسها. وبعد ذلك تبلغ الشرطة وتدعي أن عصابة اقتحمت منزلها، وقتلت طفليها.


لكن حبال الكذب بالية، ولا يصح إلا الصحيح... كذبت الشرطة أقوالها وفندت إدعاءاتها، فشرحُ الجريمة مختلف تمامًا عن تلك التي روتها الأم، ساورت الشكوك رجال الشرطة بعد اكتشافهم لجرح طفيف على رقبتها، كما عجزت عن تفسير سبب وجود بصماتها على السكين، وكذلك وجود كميات كبيرة من الدماء أمام حوض المطبخ.


حاصرها المحققون، وأمطروها بالأسئلة، وأغرقوها بالألغاز والطلاسم حول مسرح الجريمة، رفضت في البداية التعاون معهم، لكنها سرعان ما انهارت، وكشفت الحقيقة، واعترفت بجريمتها النكراء، وإقدامها عليها متعمدة انتقامًا من زوجها.


هنا حمدت الله على أننا نعيش في مجتمع مسلم محافظ يحفظ للأمومة وللأسرة كيانها، ويجعل من البنين زينة الحياة الدنيا، فالأسرة بذرة في وحدة الأمة واستقرارها، والترابط الأسري خطوة طيبة في تشكيل المجتمع المسلم المتماسك ([9]).



ضيعني زوجي فضاع أولادي

في أحيان كثيرة تكون الحقيقة مرة مرارة العلقم... قاسية قسوة الصخر... سوداء حالكة كسواد الليل البهيم... ورغم حقيقتها تكون أحيانًا أقرب إلى الخيال منها إلى الواقعية، وفي هذا العصر المتطور الذي تحولت فيه كثيرٌ من الأحلام إلى حقائق مرئية وملموسة... لم يقتصر التطور في المفيد، بل تسرب إلى السيئ، واستطاع الشيطان أن يعمل على تدمير أسر بكاملها والعياذ بالله. وأنا من هذه الأسر وإليكم قصتي بل مأساتي...


كنت ككل فتاة في الدنيا لها أحلامها الخضراء المورقة وأمانيها البيضاء الكثيرة، وآمالها العراض... أحلم بالشهادة، ثم بالزوج الحبيب، والحياة الهانئة الكريمة، والأولاد والبيت الجميل... لم تكن أحلامي كغيري من الفتيات اللاتي يطمحن إلى الزواج من زوج غني، أو ذي منصب كبير... يسافرن في كل عام مرة على الأقل أو مرتين للسياحة...كانت أقصى أماني حصولي على الشهادة الثانوية العامة لأعمل بها، واتخذ من العمل سلاحًا، وزوج يعرف كيف يحبني ويسعدني، وأولاد يملؤون حياتي بالبهجة والسعادة، ويكونون لي سندًا عند المشيب.


حصلت على الكفاءة المتوسطة، وكانت فرحتي بها لا توصف فهي تعني لي منتصف الطريق... وبينما أنا أعانق باقي أحلامي، وأحلق في سماء خيالي بعد حصولي على الثانوية العامة، إذا بفارس الأحلام يطرق بابي... ووجدت نفسي أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الموافقة على الزواج من هذا الطارق، أو البقاء في بيت فقد مصدر الحنان والحبّ والعطف المتدفق... وانتظار قادمة جديدة زرع التفكير فيها الرعب في نفسي والقلق الدائم من مستقبل أسود ينتظرني... فحكايات زوجة الأب بأنواعها المختلفة القاسية لم تترك مجالاً في فكري لطرق القلق، وكأن زوجة الأب عدو لدود، أو جرثومة معدية تسبب الفتك والدمار... رغم طيبة بعضهن...


كان عبد الله وهذا اسمه يحمل الصفات التي كنت أتمناها في زوج المستقبل... وشاءت إرادة الله تعالى أن يتم زواجي منه... ويشل نصف حلمي الأول.


سارت حياتي مع عبد الله في البداية كأسعد ما تكون الحياة الزوجية، كان يحبني كثيرًا، ويدللني أكثر يحاول إرضائي بكل الوسائل، وحين يغضب علي ويشتمني رغمًا عنه أجده بعد ساعات قلائل قد جاء معتذرًا عما بدر منه... وفي وسط هذا كله نسيت فكرة إكمال تعليمي. ولم يمض عام على زواجنا حتى رزقت منه بابني البكر خالد... كانت فرحتنا به فوق الوصف خصوصًا في السنة الأولى من عمره، وما إن بلغ عامه الثاني حتى بدأت السُّحب القاتمة تحط رحالها في بيتنا، كان عبد الله يقول لي: إن طريقة تربيتك لابنك خطأ!


وأنا أقول له: إن تربيتي لابني ليست خطأ، ورأيك ليس في محله. ويدور النقاش الحاد بيننا فيخرج غاضبًا تاركًا لي البيت. ومرت الأيام بنا تارة حلوة مشرقة، وتارة مرة كئيبة. ورزقت بولدين ومع دخولهما حياتي دخلت مشاكل كثيرة، وكثرت مسؤولياتي تجاههم وتجاه والدهم الذي أصبح كثير الغضب، عصبي المزاج، يضيق لأتفه الأسباب، حاولت بكل ما أستطيع أن أجعله يعود لطبيعته الأولى، ولكن عبثًا كنت أحاول... وفي غمضة عين من المعاناة التي كنت أرضخ تحت وطأتها، وجدت نفسي وأطفالي الثلاثة في حكم المشردين، عندما أرسل لي بالسكين التي فصلتني عنه وفصلته عن أولاده، وحالت بينهم وبين الحياة السعيدة المستقرة وبين المستقبل المضيء، وحكمت عليهم بأن يعيشوا أيتامًا ووالدهم حي يرزق، تلقيت هذه الطعنة بأسى وحسرة شديدتين، وقد شعرت بالضياع مع أولادي وأنا أرى نفسي في غابة الحياة الموحشة. كانت دموعي هي المنشفة الوحيدة التي تخفف آلامي وتطفئ لوعة قلبي، وحرقة نفسي... بعد تفكير طويل مضن أدركت أنني بحاجة إلى الوظيفة التي أرجو أن يجعلها الله سببًا في تأمين مستقبل أطفالي... لحظة ذاك احترقت أسفًا وندمًا؛ لأني لم أكمل تعليمي... وضيعت حلمين بدلاً من حلم واحد.


اتكلت على الله سبحانه وتعالى، وسلمت أمري وأمر أولادي إليه... وأكرمني الله بوجود وظيفة ساعدتني على توفير متطلبات الحياة لهم... ورغبة في تأمين حياة كريمة لهم، ومستوى معقول من المعيشة... عاد لي حلمي الأول في إكمال دراستي... وساعدني الله ووفقني فدرست حتى حصلت على الثانوية، ثم الشهادة الجامعية فتحسن مركزي الوظيفي والمالي... ابني البكر بعد فترة من الزمن حصل على الشهادة الجامعية، ثم الوظيفة فالزواج... كانت سعادتي لا توصف وأنا أرى أن حصادي أثمر... ومضت الحياة بي وأنا أكافح كي أقدم لولدي الصغيرين ما قدمت للكبير... فأكون بذلك قد أكملت رسالتي ودوري كأم وأب ومسؤولة... وأنا في قمة الشعور بالأمان والاستقرار النفسي... أحسست ببوادر عاصفة مدمرة توشك على المرور من بيتي... شعرت بالخوف يعصرني، وتحولت الراحة إلى قلق وتفكير دائم...حينما سمعت عن غول المخدرات الذي بدأ يغزو أجساد الشباب، ويحيل ربيعهم إلى خريف دائم... سعيد ابني المتوسط أدمن المخدرات... هالني هذا الأمر وأنا أتلقاه، وكأنني أتلقى خبر وفاته... واشتد خوفي على الابن الأصغر الذي ذهب ليعيش مع جده منذ شهور قليلة. الدموع كانت سلوتي الوحيدة، والأمل في الله كان النور الذي يضيء حياتي رغم سوادها... تفككت أسرتي، وتفرق أولادي... الكبير انشغل بحياته الجديدة، ولم أعد أراه إلا كل فترة طويلة، عدم سؤاله عليّ وعلى إخوته كان يزيدني خوفًا، ويعذبني، ويشعرني بالضياع التام... الأوسط أصبح من رائدي السجون لا يكاد يخرج أو يفيق حتى يعود وهو محطم... الأصغر لم يجد الاهتمام والرعاية الكافية في بيت جده، فأصبح يجد في الشوارع ما يفقده في البيت... أصدقاء السوء استغلوا طفولته البريئة... وصغر سنه... وأعطوه ذات يوم سيجارة ليدخنها ويستمتع... كان عُمَر آنذاك في الثالثة عشرة من عمره... كان يدخن في غفلة من جده ومني حين يأتي لزيارتي... لم تمض سنوات ثلاث حتى جره أصدقاء السوء إلى تناول الحشيش، ثم الهيروين... حتى أدمنه... بكيت كثيرًا وأنا أرى أحلامي، لولا أن تداركتهم رحمة الله... عالجت الصغير في مستشفى الأمل وشُفي... وعولج الأوسط وخرج من السجن بعد معاناة مريرة من الآلام. حمدت الله كثيرًا وسجدت له وأنا مدركة أن ما يصيب الإنسان منا ما هو إلا قدر مكتوب... وما علينا إلا الصبر والشكر والحمد له في كل الحالات.


هذه قصتي أسوقها لكم لتأخذوا العبرة منها، وتحافظوا على أولادكم، وتعرفوا أي نوع من الأصدقاء يصادقون ([10]).


وفي هذه القصة أيضًا تبكيت وذم لهذا الوالد الذي ترك مسؤوليته تجاه أبنائه، وتخلى عنهم في وقت هم أمس الحاجة إليه، فكان سببًا مباشرًا في ضياعهم وانحرافهم.
.
.
.
يتبع



([1]) في بيوتنا قنابل موقوتة، محي الدين عبد الحميد، نقلاً عن: قصص واقعية مؤثرة ص(129-131).

([2]) المرجع: النور، العدد (99)، نقلاً عن: كشكول الأسرة ص(34، 35).

([3]) رواه البخاري ومسلم.

([4]) رواه مسلم.

([5]) مأساة طالبة ص(58-61).

([6]) رواه البخاري ومسلم.

([7]) لقد ضيعتني يا أبي، ص(58-66).

([8]) رواه البخاري ومسلم.

([9]) قصص وسط الزحام (1/24-26).

([10]) مأساة نورة ص(31-37).

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

هديتي لك ... ابنتي

عندما سمع «أبو وضحى» أن صديقه الذي لم يتجاوز الخامسة والستين من عمره يخطب، أسرع إليه قائلاً: ابنتي جاءتك هدية ما من وراءها جزية، وكانت هذه الكلمة عقد مبرم، فالرجل كلمة ولا يمكنه الرجوع بها حتى يرجع اللبن إلى الضرع.


حتى بعد أن علم أن صديقه لديه ثلاث زوجات، وعشرون ولدًا ونيفًا!!


وتمت الصفقة بين الأب والعريس على أن يقدم للأب مزرعة صغيرة، وللأم مائة ألف ريال، وللأخ سيارة صغيرة تصلح للتفحيط والإزعاج، ولن يكون هذا شيئًا إلى جانب العروس التي لم تكمل الرابعة عشرة... وعندما زفَّ «أبو وضحى» النبأ لزوجته أم العروس جن جنونها، وأثارت في قلبه عواصف الشفقة والرحمة أمام ما يقوم به من صفقة، لكن المائة ألف التي سمعت بها جعلتها تصاب بالتأتاة، ثم تعجز عن الكلام، وفاتح ابنه في الموضوع فاستلم الولد راية العصيان، ولكن جذبة واحدة من والده، وخبر السيارة أنساه أخته والمجهول الذي تسير إليه. أما «أم وضحى» فلم تفعل أكثر من الصراخ والعويل والاعتكاف في غرفتها، لا يملأ عينيها ذهب، ولا حرير، ولا وعود براقة كالسراب.


وتزوجت الصغيرة وحاولت أن تتأقلم مع الحياة الجديدة وبين الزوجات والأولاد، لكنها لم تستطع حتى أن تعيش مع زوجها التي صارت له ممرضة ماهرة في خلال شهر أمضته بين تمريض، وبكاء، وندم، وحسرة، وزاد الطين بلة أنها تزوجت لبلد ولوطن غير وطنها، فزادت غربة الوطن، والغربة مع الزوج، والغربة مع معسكر الزوجات والأولاد، وقررت أمرًا.


فتحت «أم وضحى» الباب لتجد نفسها وجهًا لوجه أمام ابنتها التي رثى لحالها الجيران، فساعدوها في الوصول إلى وطنها، هوت الأم إلى الأرض من الصدمة، وأسرع الأب فجمد في مكانه، ثم صحا من جموده، واستلم العقال يؤدب ابنته على تركها زوجها، وضياع المزرعة، والسيارة، والمائة ألف ريال.


وكانت هدية فصارت بلية، إلى أن يحصل على صفقة أخرى، ومسحت دمعة وابتلعت غصة ([1]).

للحياة وجه آخر

عاشت رضا وسط قريناتها من بنات قريتها الصغيرة وهي تمرح وتلعب، دون أن تعبأ بشيء في الحياة... وما أن وصلت للرابعة عشرة من عمرها حتى أخذ والداها يمنعانها من الخروج للشارع، وهي لا تدري سبب تلك القيود الجديدة التي فرضتها عليها الأسرة... إلى أن جاء يوم كانت فيه الحركة بالمنزل غير عادية، وتعددت علامات الغموض التي لاحت أمام رضا، فقد علمت أن أحد السائقين من أبناء البلدة طلب الزواج منها، وأجاب الأب طلبه على الفور.


لم تكن رضا تعرف تبعات ذلك الأمر وفرحت، كما فرح أفراد الأسرة، لأن كل ما دار بخلدها أنها سترتدي فستان العرس، وتجلس بجوار عريسها، بينما سيقف أهل القرية حولها فرحين... لم تكن رضا تعلم أن الحفل سينتهي، وتنتقل مع عريسها إلى منزل غير منزل أسرتها، وتكون مسؤولة عن كيان ذلك المنزل، وبعد أشهر تنجب لتصير أمًا مسؤولة عن وليد يلزمه من الرعاية الشيء الكثير.


استسلمت رضا لرغبة أسرتها، وانتقلت إلى المنزل الجديد. عاشت هذه التغيرات وهي في ذهول، ثم حملت مولودها الأول الذي أنجبته وسط مشاحنات عائلية لا قبل لها بها... حيث كانت تصرفاتها التي تتناسب مع سنها مصدر إزعاج خصوصًا بعد أن أنجبت، حيث زادت مشكلاتها مع زوجها... ومع مرور الأيام تزداد المشاكل إلى أن أوصلت العلاقة الزوجية إلى الانفجار، وانتهت بالطلاق.


وعادت رضا لمنزل أسرتها.


مرت الأيام وكانت رضا تتردد على شقيقاتها اللاتي تزوجن في منطقة أخرى، وبعد عامين من الطلاق كانت قد تعرفت على رجل يسكن على مقربة من منزل شقيقتها... تجاذبا معًا أطراف الحديث، وكانت ظروفهما متقاربة لأنه قد سبق له الزواج، وأنجبت زوجته طفلة ثم طلقها، ثم أتى إلى هذه المنطقة للعمل.


تقدم هذا الرجل ويدعى سيد للزواج من رضا، فرحبت على الفور وتم الزفاف، وبعد سنة ونصف أنجبت طفلاً أسمته إسلام...


وكان سيد دائم الشجار مع صاحبة السكن الذي يقيم فيه، ووصل هذا الشجار إلى حد أن طردته صاحبة السكن هو وزوجته وابنه... فباع المنقولات الخاصة به، ورحل من حيث أتى عائدًا إلى والده ومعه زوجته وابنها الصغير، وأقام الثلاثة شهرًا كاملاً إلا أن الأب ضاق بتبلد مشاعر ابنه سيد، حيث كان يعيش معه من دون عمل، فقام بطرده وأسرته الصغيرة، فاضطر للعودة إلى منطقة عمله القديمة.


وفي طريق العودة دار حوار ساخن بين سيد ورضا عندما اعترضت رضا على ذلك التشرد الذي تعيشه، وأبدت رغبتها في مسكن يأويها وطفلها، وانتهى الأمر على اتفاق أن ترحل رضا إلى بلدتها تاركة الطفل لوالده يرعاه، ولم يكن ذلك القرار غريبًا عليها، فقد سبق لها أن تركت طفلها الأول من زوجها السابق.


لكن وقبل أن ترحل رضا عن زوجها، وضع لهما الشيطان خطة للتخلص من ابنهما... وذهبا إلى ضفاف نهر النيل وهناك تجردا من آدميتهما، وتحجر قلباهما، وألقيا طفلهما في نهر النيل للتخلص منه إلى الأبد.


ألقيا بالرضيع في نهر النيل، وكم من سباح ماهر ابتلعه النهر، وكم من سفينة غرقت.


ولكن ما زال القلب الصغير يئن داخل صدر الرضيع.
فمن لهذا المسكين؟؟
فهذا أبوه وهذه أمه ألقيا به في النهر الواسع، وأخذا يراقبان جسده الضئيل حتى غاب بين أحضان النيل.
فمن لهذا المسكين؟؟
هل تظنان أيها المجرمان أنكما بفعلتكما الشنيعة ستهربان من رب العالمين... وهل تظنان أن سبل العيش ستتسع أمامكما بعد الخلاص من هذا الطفل الرضيع... ألم تسمعا أيها المجرمان قول الرحمن الرحيم: }وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا{ [هود: 6]، وعلى صفحة النيل تتجلى قدرة الله تعالى التي أرادت للرضيع شيئًا آخر، أرادت له أن يحيا ويبقى، وحملته صفحة النيل على أكف الرحمة، حتى التقطه أحد الصيادين، وذهب به إلى قسم الشرطة، وأبلغ بعثوره على الرضيع، لتكشف ملابسات أغرب جريمة لأب وأم أرادا التخلص من طفلهما الرضيع.


وكانت هذه هي تفاصيل قصة رضا كما روتها عندما ألقي القبض عليها، بعد ما تلقت المباحث بلاغًا من الصياد بعثوره على طفل يطفو فوق مياه النيل وسط نباتات ورد النيل، وتم وضع خطة استهدفت بلاغات الغياب في محاولة للوصول لأسرة الطفل، ومعرفة ملابسات إلقائه في النيل، وجاءت النتيجة أن الطفل خاص برجل وامرأة، وتم التوصل إلى منزل والد الطفل... وبعرضه عليه قال: إنه ابن زوجته، وإنها حملته سفاحًا قبل زواجه منها، وعندما أنجبته نسبته إليه في شهادة الميلاد، وتوسلت إليه ألا يفضح أمرها، مما اضطره لالتزام الصمت... وأضاف الأب أنه ضاق بالطفل الذي لا يمت له بصلة، وطرده هو وأمه، وأرشد الشرطة عن مكان إقامتها حيث تم إلقاء القبض عليها، وجاءت أقوالها مخالفة حيث قالت: إنها تركت المنزل لزوجها، وكان معه طفلها، ولا تعلم شيئًا عما حدث.


وبتضييق الخناق على المجرمين اعترافًا بجريمتهما، وأنهما قررا التخلص من ابنها بعد أن ضاقت بهما سبل العيش ([2]).

السائق الوقح

تقول الابنة «فاتن»: «منذ مدة قصيرة لاحظت أن سائق والدي الذي نعتمد على الله ثم عليه في كل شيء، يتعمد إطالة الكلام معي، لكنني أتجاهله، ولا أعطيه مجالاً للتمادي».


وفي الطريق إلى المدرسة يتعمد الإبطاء في القيادة، وكذلك في طريق العودة، نهرته مرارًا، وطلبت منه الإسراع أكثر لكن حجته كانت أنه لا يحب السرعة التي تفضي إلى الحوادث المرورية. وفي إحدى المرات أمسك بيدي، كان رد فعلي أن شتمته وهددته بإبلاغ والدي، لكنه ضحك هازئًا وقال بتهكم: «إنه» يثق به كثيرًا!!


لا، بل كلفه بأن يراقبني ويراقب تصرفاتي، وانتقل هو إلى التهديد، فحذرني إن لم أسايره فيبلغ والدي أنه شاهدني أركب في سيارة أحد الشباب، لا، بل قال: إنه سيبلغه أشياء كثيرة عني تؤكد سوء سلوكي، وأبلغت أبي تصرفات السائق غير اللائقة معي، لكن رد فعله كان عاديًا، ولم يفعل أي شيء لردعه، توقعت أن يطرده ويستبدله بسائق آخر، لكنه تجاهل الأمر، ولم يكفه عن مضايقتي... فكرت أن أبلغ شقيقي الأكبر، لكنني أتخوف أن أتسبب بما لا تحمد عقباه، حيث إنني أعرف كيف يتصرف أخي عندما يغضب، فهو سيحطم عظامه بالتأكيد... سوف يقتله، ثم فكرت أن أترك الدراسة، لكنني تساءلت هل يستحق الأمر أن أدمر حياتي ومستقبلي من أجل هذا السائق القذر؟ حاولت أن أذهب إلى المدرسة مع صديقتي في السيارة التي تنقلها، لكن أبي رفض ووعدني باستبدال السائق في أقرب فرصة.


وإلى هنا وقصة «فاتن» تصل إلى بدايتها وليس إلى نهايتها...
فـ«فاتن» على حافة الهاوية، قد تزل قدمها فتذهب إلى القاع ويكون في ذلك نهاية أسرة بأكملها، أب مستهتر، ولا أدل على ذلك من أن يترك ابنته تذهب وحدها مع السائق، وهذا ليس من الدين في شيء. أين الغيرة على ابنته؟ أين المبادئ والأخلاق؟... بل أين النخوة الإسلامية؟
والحقيقة أنه لا يتنازل إنسان عن مبادئه، وعن مقومات دينه إلا إذا كان به نقص وعيب أخلاقي... لا يهتم بابنته رغم معاملة السائق لها... ومتى يهتم؟ أبعد أن تصبح الفتاة ضحية لذلك السائق؟ وما أظنه سيكترث، فقديمًا قال الشاعر:
إذا كان رب البيت بالدف ضاربًا




فشيمة أهل البيت كلهم الرقص





سكوتٌ، وخضوع للسائق، واستسلام لأوامره، وضعف أمامه كل هذه علامات تشير إلى استهتار الأب، بل لا بد أن يكون في الأمر زلة لذلك الأب، ولعل السائق استطاع أن يتصيده في مواقف تخدش الحياء، وتضعه موضع الضعف أمام أسرته.


لقد استطاع أن يضع نفسه موضع القوة، وجعل الأب في موضع الضعيف، وأخذ يملي عليه وعلى ما يملكه ما يحقق هواه ويشبع رغبته، فصار الأب ضعيفًا عن أن يحمي أقرب الناس إليه وهي ابنته. إنها الكارثة المؤلمة، بل الطامة المحطمة.


إن ذلك الأب، إن لم يتدارك الأمر – مهما كانت عواقبه – اليوم فلن يخرج من المعركة الشيطانية إلا صفر اليدين... خسر الدنيا بما حوت من أبناء، وزوجة، وأهل، وخسر الآخرة بعصيانه ربه.


ولماذا كل هذا الخسران؟ إنه من أجل سائق وقح، تصيد الأب في وقت ضعفه وأمام الشيطان لعين.


أيتها الفتاة... حطمي المعبد على رأس «شمشون» قبل أن تكوني تحت أنقاضه، ولا يستطيع أحد أن يأخذ بيديك، كل يد ستلقمك حجرًا مسمومًا لضربه.


سارعي إلى أخيك حتى يكون لك الساعد الأقوى لإنقاذك، واتركي أباك، فقد نخر الضعف عظامه، فصارت سواعده واهية، تحكم السائق في حركتها حتى صارت عن الحق مشلولة، وعن إبعاد الانهيار الأسري قاصرة غير قادرة.


حتى إذا لم يفعل أخوك شيئًا، فأنت على حق... وصاحب الحق قوي... مهما كانت الأقاويل، ومهما كانت الأباطيل فعليك وحدك عبء حماية نفسك من هذا الشيطان الرجيم المسمى السائق حتى لو أدى إلى التضحية بالمدرسة في سبيل المحافظة على دينك وآخرتك ([3]).




تتسول بابن كفيلها

أ.ج: معلم يبعد عمله عن مقر إقامته 200كم، وزوجته المعلمة تبعد 250كم... ظروف الحياة تضطرهما للعمل معًا سعيًا وراء مستقبل يضمن لهما العيش بأمان.


تحملا مشقة الطريق، ومآسي السفر الطويل وأهواله وخطورته فكل شيء يهون من أجل الوردة الصغيرة (فاطمة) التي ملأت عليهما حياتهما ([4]).


ولكنها في حاجة للرعاية والعناية والاهتمام... ماذا يفعلان لها فلا يصلح تركها في حضانة طوال اليوم خصوصًا وأن وقتها محدد – و لا أهل لهما بالمكان حتى يتركاها عندهم.


إذا الحل في الشغالة لعلها تكون بداية لحل مشكلتها المتعثرة، وبالفعل استقدم الخادمة «ميوري»... سعدوا بها وعاملوها معاملة حسنة، وأغدقوا عليها بالهدايا، واستجابوا لطلباتها المتكررة من ملبس، واتصالات، وأموال وغيرها على أمل أن تهتم بطفلتهما وترعاها.



يقول «أ»: في أحد الأيام عدت من عملي مبكرًا لجلب بعض الأوراق الخاصة بالعمل... وعند مسجد قريب قررت أداء الصلاة في المسجد – وبعد الانتهاء منها وخروجي من الباب – كانت المفاجأة التي حلت على رأسي كالصاعقة... وجدت خادمتي تتسول بابنتي من خلال ملابس بالية ومتهالكة، وهي في حالة يرثى لها بسبب الحر الشديد فأصيبت بالإعياء التام.


أخذت الصغيرة إلى الطبيب لينقذها بأعجوبة، وتظل بالمستشفى تحت الملاحظة لمدة أسبوع.


وعندما حضرت الزوجة وهالها شدة ما حدث، قررت الاستقالة والتفرغ لتربية طفلتها لتذهب الخادمة إلى بلدها غير مأسوف عليها ([5]).



إن ربك لبالمرصاد

نشأة في أسرة متوسطة الحال بين أب لاهٍ بسهراته العابثة وبمشاغله الخاصة، وأعماله التجارية، وأم أنانية لا همَّ لها إلا البحث عن الأزياء وغيرها من الأمور التافهة، وكان يعيش هذا الشاب في ضياع أسري، وإهمال دون رقيب، أو حسيب، وأدى ذلك الإهمال إلى فشل هذا الشاب في الدراسة، وانطلق يسهر، ويعربد وهو في سن الخامسة عشرة، يسهر حتى الصباح، ثم يعود إلى المنزل فلا أحد يسأل عنه، وقد يتغيب عن البيت عدة أيام دون أن يفتقده أحد. وكان مثل هذا الشاب، وهو يعيش مثل هذه الظروف السيئة، لا بد وأن يكون فريسة سهلة للشيطان، لذلك ما أن دعاه الشيطان لسلوك طريق الشر، لم يجد منه أي مقاومة فشرب الخمر، وسرق، وارتكب من الجرائم ما هو أفظع في ذلك، لقد أصبح خبيرًا في أنواع الجرائم، بل صار عقله لا يخطط ولا يفكر إلا في ارتكاب الجرائم، لذلك كان يرتكب الجريمة دون أن يترك وراءه أي دليل يدينه، لقد كان حذرًا يدرس ويخطط ويستغل ذكاءه في ارتكاب جرائمه، مما جعله يتمادى في غيَّه ويستمر في ضلاله، ولكن إذا كان ذكاؤه وتخطيطه استطاعا أن يبعدا عنه عيون الشرطة، فإن عين الله تعالى لا تنام، ولا بد للشر من نهاية مهما طال الزمن، ومهما كان المجرم ذكيًا وحذرًا، فإنه لا بد أن يقع، وهذا ما حدث.


في يوم كان هذا المجرم الشرير جالسًا في إحدى المقاهي يشرب الشاي مع بعض أصدقائه، فجأة دخل رجال الشرطة، وانتشروا في المكان، وبدأوا في تفتيش جميع الموجودين، لم يهتم هذا المجرم، لأنه يعلم أنه غير مطلوب للشرطة، ولا يعرفه أحد منهم، وليس معه شيء يخاف أن يعلم به رجال الشرطة، لذلك كان يجلس هادئًا، ولم يبد عليه أي ارتباك أو خوف، واقترب منه أحد رجال الشرطة وبدأ في تفتيشه، ولم يجد عنده شيئًا، ولما هم بالانصراف، نظر الشرطي تحت قدمي المجرم، وكانت المفاجأة، لقد رأى الشرطي قطعة كبيرة من المخدرات تحت قدمه، إذن هو المطلوب، وهو المبلغ عنه، ولكن كيف وصلت هذه القطعة إلى هذا المجرم، لقد كان لدى رجال الشرطة معلومات عن وجود أحد المجرمين الذين يبيعون المخدرات، ولما تفاجأ بدخول الشرطة، قام هذا المجرم بالتخلص مما لديه من مخدرات، فقذف بها فاستقرت بجوار هذا المجرم الشرير، دون كل الموجودين اختارته هو ([6]).


مطلقة على أبواب الثامنة عشرة

كنتُ صبية في السادسة من عمري، لم تفارقني آثار الطفولة بعد... فلم أكن أتردد عن اللعب بالماء في حديقة منزلنا... أما دميتي فلم تزل رفيقتي حتى اليوم منذ أن كان لي من العمر ست سنوات... لا أهنأ بنوم إلا بجانبها... ويغمرني الفرح حينما أبتكر لها تسريحة أو ألبسها فستانًا جديدًا.


ولما كنت وحيدة والدي، فقد حظيت باهتمامهما الفائق، ودلالهما الزائد لا سيما ونحن أسرة ميسورة... كان دلالهما يؤخر نضوجي ويؤجل انتهاء مرحلة طفولتي إلى حين... وهكذا مرت الأيام، ملؤها اللهو والفرح والسرور، حتى جاء اليوم الذي أخبرتني فيه أمي بالمفاجأة: لقد خطبك جارنا لابنه، وهو كما تعلمين... صاحب أكبر شركة سيارات... ستسافران إلى الخارج لقضاء شهر العسل، وستسعدين بإذن الله، وفي الغد سنذهب إلى السوق لنشتري ما تريدين، وبكل عطف وحنان قالت: وفقك الله يا بنيتي!


لم أكن في الحقيقة أعرف معنى للزواج سوى ما شرحته لي أمي... سفر، ومغامرة، وسعادة، وخروج إلى السوق في كل يوم...! رأيت أنه شيء لا بأس به، وما هي إلا أيام معدودة حتى أصبحت زوجة... نعم زوجة... بعد احتفالات مهيبة، وفساتين رائعة، ومجوهرات ثمينة، وفرقة غناء تناسب مقام أسرتي وأسرة زوجي ([7]).


ثم سافرت إلى أوروبا لشهر كامل، ومرت الأيام سعيدة هنية، حتى عدنا لأرض الوطن، وهنا بدأت الحقائق تتساقط على رأسي واحدة تلو الأخرى... اكتشفت أن زوجي لم يكمل تعليمه كما أخبرنا... وهو لا يعمل بل يعتمد في مصروفه على عطايا والده، كما أنه لا يصلي، ولا يعرف طريق المسجد ([8])... ورحت في ربيع عمري أتعرض للفحات حارقة من قسوة زوجي وفظاظته، حتى ذهبت نضارتي ونحل جسمي، وازددت بؤسًا، وتعاسة حين اكتشفت أنني حامل... لم يكن يهمني أن زوجي لم يكمل تعليمه أو أنه لا يعمل... ولكن ما لم أعد احتمله: قسوته المفرطة، وعدم تورعه عن ضربي وإهانتي لأتفه الأسباب! بالإضافة إلى سهره الدائم خارج المنزل، وعدم إحساسي بالأمان إلى جانبه كما ينبغي لكل زوجة... فكرهت حياتي برمتها، ولم يعد أمامي سوى طلب الطلاق، والدعاء بالمغفرة لوالدي الذي زوجني دون سؤال عن أخلاق الزوج ودينه، ولوالدتي التي لم تسأل عن المجتمع الذي سأعيش فيه بقدر ما سألت عن قيمة صداقي والهدايا والعطايا... وهكذا أدركت لماذا ينبغي على الناس أن يسألوا عن صلاح الزوج، وتقواه، وورعه، وليس عن منصبه وجاهه، وماله... إذ إن من يخشى الله فسوف يتقيه، ويخافه في أقرب الناس إليه وهي زوجته.


وها أنا اليوم أعيش بعد طلاقي منه بين جدران شهدت عهد طفولتي كما شهدت عهد شقائي... وأحمل وسامًا يحرق فؤادي... وسامًا تشقى به كل مطلقة، إنه الطلاق، أنا الطفلة البريئة المدللة، ليس فيه ذنب ولا خطيئة، هذا الوسام الذي وسمني به والداي عندما زوجاني وأنا لست أهلاً للزواج، من رجل يحمل المال... فقط...! مطلقة كلمة ترميني في دهاليز الآلام والحزن.


ولكن برغم ذلك كله لن أيأس، وسأبدأ حياتي من جديد، وأكمل دراستي... وسألتحق بحلقات تحفيظ القرآن ومجالس الذكر، ولن أقبل إلا بمن يحفظ القرآن...كاملاً ([9]).

قتلت ولدي

ولد «س» في أسرة مفككة، الأب لا هم له إلا كسب المال، وزيادة ثروته المالية بأي وسيلة كانت، والأم لا هم لها إلا الخروج، والسفر، والرحلات، لذلك كان الوفاق بين الزوجين شبه مستحيل مما أدى إلى الطلاق. ومن قسوة الأم خرجت من البيت دون أن تلقي ولو نظرة عطف، أو حنان على وليدها الصغير، بل خرجت وكأنها مسجونة فتحت لها أبواب السجن، ففرت هاربة تاركة وراءها أعز شيء على قلب الأم... ولكن هل مثل هذه تسمى أمًا؟!


عاش «س» مع والده مرفهًا مدللاً، ولكن دون عناية، أو رعاية، أو تربية صالحة. التربية عند هذا الأب فقط ماذا تريد، وكم تريد؟ التربية عنده خذ... خذ دون حساب، ودون رقابة، ونما، وترعرع الولد على هذه التربية الخاطئة.


ولكي يظهر الوالد بمظهر الأب الغني الذي لا يبخل على ولده بشيء، أدخل ولده مدرسة أجنبية، ودرس (س) جميع المراحل التعليمية في هذه المدرسة، ولكن ماذا تعلم من هذه المدرسة؟ لقد عرف شرب الخمر، والمخدرات، والعلاقات المشبوهة مع فتيات ساقطات، وغاص في بؤرة الفساد إلى أذنيه، ولكن أين الأب؟ الأب مشغول بتجارته، وأعماله، وأمور أخرى، إنه يظن بتوفيره لولده المال، والخدم، والفيلا الفخمة، وإدخاله أحسن المدارس الأجنبية، يظن أن قد أدى ما عليه من مسؤولية تجاه ولده، ولكن أين الحب الأبوي أين الحنان؟ أين التوجيه والنصح والإرشاد؟


إن الولد لا يشعر بأي شيء من هذا، لذلك لما فقد حنان الأم، وعطف الأب، أخذ يبحث عنه في أماكن أخرى، فوجده ولكن أين وجده؟ لقد وجده عند معلمته الأجنبية، فألقى بنفسه بين أحضانها فوهبته جسدها، هذا الطفل الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة الباحث عن الحب والحنان، وجده عند هذه الساقطة، وللأسف إنها معلمة!!


فبئست المعلمة وبئس التعليم، وعاش معها، ولا أحد يسأل، أو يحاسب، أو يراقب، وفي الإجازة الصيفية قررت المعلمة الرحيل إلى موطنها بعد انتهاء عقدها مع المدرسة التي تعمل فيها، ولما علم (س) بذلك جن جنونه، إنه كان يبحث عن قلب حانٍ يحتويه، وروح محبة وصدر دافئ يضمه إليه كي يبثه همومه، فلم يجد هذا إلا عند هذه المعلمة الخبيثة التي استغلت حبه لها في إشباع رغباتها الحيوانية والمادية، فلقد كان يغدق عليها من الأموال، والهدايا الشيء الكثير، كان بالنسبة لها مصدرًا ماليًا كبيرًا.


وسافرت المعلمة وأحس أنه يعيش في عالم خالٍ من الحب والحنان، أحس بفراغ قاتل يطوق حياته من كل جانب، فقرر اللحاق بالمعلمة، فليس هناك ما يمنعه أو من يمنعه، أعطاه الأب ما يشاء من المال، وسافر إليها.


عاش معها في بلدها في بيتها الريفي مع أسرتها التي لا تعترض على هذه العلاقة الشائنة المحرمة، عاش معها وهي تغدق عليه من سحرها وجسدها، فزاد حبه لها وهو ابن السابعة عشرة، وهي في الثامنة والعشرين.


وبعد انقضاء الإجازة عاد (س) بجسد محطم تاركًا قلبه ومشاعره عندها.


وبعد تخرجه من الثانوية طلب منه والده أن يختار أي جامعة يريد أن يدرس فيها؟ فاختار الولد جامعة في نفس البلد التي تسكن فيها المعلمة، فوافق الأب دون تردد أو اعتراض، وهكذا استمرت رحلة الضياع لهذا الشاب التائه المحطم ولكن من السبب؟ ([10]).


إن كثيرًا من الآباء والأمهات في هذه السنوات يحرصون على توفير جميع لوازم العيش لأبنائهم إلا إنهم ينسون أو يهملون أهم شيء، يهملون أن يربوا أبناءهم التربية السليمة القائمة على الأخلاق الإسلامية الحميدة، التي تكون لهم حصنًا قويًا يعينهم على العيش في هذه الحياة دون أن ينحرفوا، إن توفير الملبس، والمأكل، وغيرها من الكماليات ليس كل شيء، بل أهم شيء هو الحب والدفء والحنان الأبوي الذي يلف الأسرة، ويقوي أركانها، ويشد من ترابطها، وينمي علاقاتها.


وهناك بعض الآباء الذين يحرصون أن يتعلم أبناؤهم في مدارس أجنبية، وهذا خطأ وقع فيه كثير من الناس، ففي هذه المدارس أخلاق، وعادات غريبة عن مجتمعنا، ويحرمها ديننا الإسلامي، فيكون الآباء بذلك قد وضعوا أبناءهم على طريق زلقة شائكة لا ينجو مما فيها إلا من تولاه الله برحمته ([11]).


([1]) قطار الزواج والطلاق، رجاء أبو صالح ص(81، 82).

([2]) جريدة الهدف الكويتية – بتصرف وزيادات كثيرة. نقلاً عن: أنين القلوب ص(166-170).

([3]) قصص واقعية مؤثرة ص(125-127).

([4]) وها هي الوردة الصغيرة كادت تضيع بسبب رغبتهما في جمع المال، فكيف يقال إن ذلك كان من أجل ابنتهما الصغيرة! وأين الضرورة التي يتحدثان عنها؟!

([5]) قصص وسط الزحام (2/155، 156).

([6]) من غريب ما سألوني الجزء الأول. نقلاً عن: كما تدين تدان ص(83-84).

([7]) كيف ينجح زواج بدأ بمعصية الله وانتهاك حدوده؟

([8]) وهذا من أعظم الظلم والجرم؛ أن يزوج الرجل ابنته ممن لا يصلي ولا يعرف طريق المسجد، لقد ذبحها بغير سكين، وانتقم منها وقد يحسب أنه يحسن إليها.

([9]) المرجع: المجتمع، العدد (1082). نقلاً عن كشكول الأسرة ص(62-64).

([10]) جريدة الأنباء بتصرف.

([11]) كما تدين تدان ص(265-267)


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :

السلام عليكم اخي هاد وقت شكون لي يضرب ولدو او بنتو ايام زمان وقت اجداد كان يعاقب ولدو وآن لي خرج طبيب مهندس مقاول اذن
تحيااااااااااااااااااااااااتي