عنوان الموضوع : الحلقة العاشرة من: ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
مقدم من طرف منتديات العندليب

بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة العاشرة


قال الأخ محمد مبارك ، صاحب (فك الشفرة):"و من ثمَّ تَمَّت سرقة المخطط برًمَّته ـ انجليزيا ـ من الحقيبة الفرنسية .ليتم بعد ذلك تطبيقه بحذافيره على يد الجنرال البريطاني الشهير "اللنبي" لتنصيب دمية أخرى هي "الشريف فيصل بن الحسين".انتهى
تحدّث الأخ محمد مبارك في (فك الشفرة) عن المخططات الفرنسية وإخفاقها والمخططات الإنكليزية التي حلّت محلّها ، وأتى بكلام غريب . وليس الآن مجال بيان تاريخ تلك الحقبة.
ووصَفَ الكاتب الملك فيصل بن الحسين بالدمية الأخرى موحيًا أن الأمير هو الدمية الأولى!!
ثم جعل سيرة الملك فيصل كأنها تتمة أو مشابهة لسيرة الأمير عبد القادر ، وشتان ما بين السيرتين، فالأمير عبد القادر لم يتحالف مع فرنسا في حياته ولم يأمنها قط! بل جاهدها وقاتلها ، ولم يستعن في حياته كلها بالأجنبي الصليبي!!
وهذا الكلام شَهِد به أعداء الأمير وخصومه ؛ فقد ذكر الأستاذ المهدي البوعبدلي : ((أنه في الملتقى الذي أقامه "الكوليج دو فرانس" بباريز سنة 1977م ، والذي كان موضوعه ((حياة الأمير عبد القادر في المشرق)) ، ألقى أحد الباحثين الفرنسيين وهو الأستاذ "شوفالي فاجرون" محاضرةً هامة ، وكانت لدراسته أهمية عظمى حيث أثبت الجانب السياسي من حياة الأمير في المشرق ، وهي أنّه لمّا وقف موقفه المشرّف إزاء مذابح المسيحيين الذين دافع عنهم دفاعَ من لا تأخذه في الله لومة لائم ، انقلب الرأي العام الفرنسي وتبيّن لهم قيمة الرجل ، فرأى نابليون أنّ الفرصة سانحة لعرض مملكة المشرق على الأمير ، إلاّ أن الأمير لم يسعه إلاّ الاعتذار عن قَبولها رغم المغريات ، وقال لرسول نابليون :"إنّ هدفي لم يكن في يوم من الأيّام تولية المملكة ، وإنما ظروف بلادي جعلتني أتولى الدفاع عنها ، فقُدْتُ جيوشَها ، وشاء الله أن تطوى صفحة الجهاد فانتقلت للجهاد الأكبر وهو خدمة العلم والدين" [طبعًا الكلام مترجم عن الفرنسية]، وهنا علّق المحاضر على هذه الصفحة والظروف التي اجتازتها بلاد المشرق ، فقال : ((لم تكن أمنية رجال الحكم الفرنسي العثور على رجل عربي قوي يتولى حكم بلاد المشرق بإعانتهم ؛ بل كان يشارك الفرنسيين في البلوغ إلى هذا الهدف الإنكليز أيضًا ،وقد بلَغَت إنكلترا هدفها إذا وجدت الملك فيصل ، إلاّ أنّ فرنسا من سوء حظّها وجدت في طريقها الأمير عبد القادر ، وشتّان ما بين الشخصيّتين)).انتهى[من مقال للأستاذ المهدي البوعبدلي بعنوان (وثائق أصيلة تلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر) منشور في مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة في الجزائر العدد 75 رجب 1403هـ ،أيار 1983م ؛ ص134]

ويتابع صاحب (فك الشفرة) فيقول :" لقد كان المخطط الفرنسي لوراثة التركة العثمانية يقضي بالسعي للقضاء على الخلافة العثمانية من خلال تأجيج ثورة عربية يترأسها بعض المنتسبين للبيت النبوي ،و يقوم بجر جميع تلك البلدان الى حظيرة الهيمنة الفرنسية".انتهى
ولا بأس هنا من كلمات لكشف بعض المغالطات التاريخية التي أوردها الكاتب.
أولاً ، إنّ الدولة العثمانية التي يتحدث عنها الكاتب ويسميها الخلافة العثمانية ، لم تعد في حقيقتها تمثّل الخلافة الإسلاميّة في ذلك الوقت ، فقد صعد رجال حزب الاتحاد والترقي إلى سدّة الحكم وكانوا هم المتصرفين في البلاد ، وليس للخليفة أي ثقل حقيقي ، ورجال الاتحاد والترقي كانوا يسيرون على النهج الأوربي ويرفضون الحكم الإسلامي (وسيأتي معنا قريبًا كيف يصفهم الكاتب بالماسونيين) وأنا وإن كنت لا أقبل وصفه ذلك لأنه بلا دليل ؛ فإنني أعلم أنهم ((كانوا أصحاب طموحات واسعة وخبرة قليلة وتعصب للقومية التركية وابتعاد عن الدين ، فاستطاعت المخابرات البريطانية واليهود أن يستغلوهم ويضعوا لهم الخطط سِرًّا وهم لا يدرون إلى أين يسيرون، منهم المخلص لبلده ونفسه ، ومنهم ما هو دون ذلك ، ولكن لا يدري ماذا يُفعل به!))[كما يقول الأستاذ محمود شاكر ،انظر التاريخ الإسلامي 8/208]
وكانت البلاد العربية تعيش في حالة من الضياع والبؤس ، والناس قد ضاقوا ذراعًا بسياسات رجال الاتحاد والترقي الذين ينقلون البلاد من حرب إلى حرب ، ومن بؤس إلى بؤس ، وفوق ذلك ضاعت عندهم الرابطة الإسلاميّة! (اقرؤوا عن وحشية جمال باشا السفاح في بلاد الشام)
فهل إذا أراد بعض المصلحين العرب المسلمين أن يفصلوا بلادهم عن هؤلاء صاروا خونة ومدمرين للخلافة الإسلامية المزعومة؟ وماذا سيقول الكاتب عن دولة آل سعود التي حاربت العثمانيين وانفصلت عنهم؟
ومع ذلك فإنّ المرحلة التي يتحدث عنها الكاتب هي مرحلة ما بعد وفاة الأمير عبد القادر، وكل تلك الأحداث التي ساقها إنما جرت بعد وفاة الأمير بعقود ،بـ (36سنة) تحديدًا ، فما شأن الأمير بها؟ ولماذا يحمّله تبعاتها؟ وأغرب من ذلك أنّ الكاتب صنَّف الأمير موظفًا لفرنسا ، ثم قال :"واستلم الدور بعده الملك فيصل الموظف لبريطانيا" ، ومعلوم أنّ فرنسا وبريطانيا كانتا متنافستين ومتخالفتين، وكل واحدة منهما تساند العرب والمسلمين لأجل الحد من توسّع الأخرى .وقد نبّهتُ آنفًا إلى فساد المقارنة بين الأمير والملك فيصل!
ويقول صاحب (فك الشفرة) :"و من الغرابة بمكان أن يقوم الطابور الخامس الماسوني السوري وقبل يومين من وصول الأمير فيصل بإعلان استقلال البلاد باسم الشريف حسين، ورفع العلم العربي على سارية دار الحكومة، و من ثمَّ تبدأ عملية تنظيم وإكمال تشكيلات الدولة العربية و الجيش العربي ، و إزالة كل ما يمت للعهد العثماني و اللغة التركية بِصلة ، كل ذلك بسرعة غريبة و سطوة عجيبة ، بينما لم يكن من أعلن استقلال البلاد ، و حَكَم البلاد خلال ذَين اليومين الطويلين في تاريخ الأمة الاسلامية إلا الأمير محمد سعيد الجزائري القطب لأعظم للمحفل الأكبر السوري العربي الماسوني ، وحفيد الأمير عبدالقادر الجزائري".انتهى
لقد تحدّث الكاتب في مقاله عن دخول جيش الملك فيصل إلى الشام ، ثمّ تعجّب من كون الأمير سعيد حفيد الأمير عبد القادر هو الذي أعلن استقلال سورية ورفع العلم العربي على السراي قبل وصول الملك فيصل بيومين ، وبدأ الكاتب كلامه فوصف الأمير سعيد ومن معه بالطابور الخامس الماسوني!!!
المطّلعون على تاريخ الأمير سعيد يعلمون أنه انتسب إلى الجمعية الماسونية ، وقد صرّح هو بذلك في مذكراته ولم يستره ، وذلك لأنّه ـ مثل كثيرٍ من وجهاء وعلماء الشام ومصر في ذلك الوقت ـ انخدع بما تروّجه تلك الجمعية عن نشاطاتها وأهدافها ، فقد كانت تزعم أنها جمعية عالمية تدعوا إلى التضامن ومساعدة المنكوبين في العالم أجمع ، وغير ذلك من الأعمال الخيرية ، فالمنتسب إليها كان يفتخر بذلك ، ولكنّ الأمير سعيد بعد مدّة ارتاب في أمرها وصار يتهرّب من أعضائها ثم تركها وانفصل عنها ، تمامًا مثلما فعل كثيرٌ من الذين انتسبوا إليها في تلك الحقبة!(وكتبَ مقالاً يهاجم فيه الماسونية سنأتي على بيانه في حلقة الماسونية)
ونحن اليوم بعد أن انكشفت حقيقة الماسونية عمومًا ، وإن كنّا لا نقرّ هؤلاء على انتسابهم إليها ، ونعدُّ ذلك من الغفلة الشديدة ، وضعف النظر ، فإننا لا نتّهمهم في نيّاتهم ، وخصوصًا بعد أن انفصلوا عن تلك الجمعيّة وتبرّؤا منها، وكذلك عندما نجد في سِيَرِهم ما يتعارض مع أغراض الماسونية وتوجهاتها.
وأنا لا أريد في هذا المقام أن أنتقل عن موضوعنا الأصلي إلى موضوع الأمير سعيد ، ولكن لضرورة المقام سأعرض موجزًا سريعًا يبيّن كيف أعلن الأمير سعيد استقلال سورية وحقيقة علاقته بشريف مكّة الحسين وابنه فيصل .
وسأعتمد على بعض المراجع المستقلة والمحايدة والمعتمدة ومنها كتاب (جهاد نصف قرن) للأستاذ الجامعي أنور الرفاعي ، ومزيّة هذا الكتاب أن كاتبه شخص أكاديمي محايد ، ومعاصر لتلك الحقبة وينقل الأحداث من وثائق مشهورة وثابتة مع ذكر المصدر وتاريخه ، وأحيانًا يرفق صورة الوثيقة التي ينقل عنها ،ولكن سأبدأ بذكر ترجمة الأمير سعيد في كتب التراجم الكبيرة والشهيرة :
أولاً ـ قال المؤرّخ الشهير محمد أديب آل تقي الدين الحصني ؛ وهو معاصر للأمير سعيد؛ في كتابه (منتخبات التواريخ لدمشق) في ترجمة الأمير محمد سعيد :
((منهم الأمير سعيد بن الأمير علي باشا ، وقد أحيا ذكر أبيه وجدّه الأمير عبد القادر بالكرم والأخلاق الحسنة وقد قلّدته الأتراك وكالة الحكم المباشر لهذه البلاد بعد تركهم لها بأن يدافع أهلها عنها وتكون مستقلة تحكم نفسها بنفسها ولها الحق بأن تختار أي دولة تسعفها على نهضتها وذلك قبل دخول الجيش الإنكليزي لها! ولما دخل الأمير فيصل على رأس ذلك الجيش كما أسلفنا لك ذلك مفصلاً ، أَخَذَ الحكم المؤقت من يد الأمير سعيد وبهذه البرهة اغتالت يدٌ أثيمة أخاه الأمير عبد القادر ، وأبعدته السلطة الإنكليزية إلى خارج سورية، إلى أن دخلت الجيوش الإفرنسية عندئذ رجع إلى دمشق وهو خير خلَف لذلك السلف ولولا ضيق المقام لسردنا جميع الوقائع المبرورة التي جاهد بها)).انتهى [منتخبات التواريخ 2/742]

ثانياً ـ قال خير الدين الزركلي ؛ وهو مؤرخ وسياسي كبير معاصر للأمير سعيد ؛ في كتابه الشهير (الأعلام) :
((الجزائري (1300 -1390هـ = 1883 - 1970م) محمد سعيد بن علي بن عبد القادر بن محيي الدين الحسني الجزائري: حفيد الأمير عبد القادر صاحب الثورة الأولى على الفرنسيين في الجزائر. ولد وعاش في دمشق وتعلم بها، وبالأستانة. وقام برحلة إلى المدينة المنورة (سنة 1332هـ) صنف بها نور الدين بن عبد الكريم بن عزوز التونسي (الرحلة المدينية - ط) وأشرف صاحب الترجمة على تصنيف كتاب عن والده سمي (تاريخ الأمير علي الجزائري - ط) وكان له موقف كريم في دمشق ، يوم خرج الجيش العثماني منها وبقي فيها جمال باشا الصغير آخر قواد ذلك الجيش فقابله الأمير سعيد وأخذ منه (500) بندقية سلح بها بعض الدمشقيين والمغاربة لحفظ الأمن.وأعلن استقلال سورية قبل دخول الجيشين العربي والبريطاني.
وألَّف حكومة وطنية مؤقتة أقرَّها أول داخل من الجيشين (الشريف ناصر بن علي) فعاشت يومين. وأَبْعَدَه عن الحكم مندوبون آخرون عن فيصل بن الحسين قبل دخول فيصل ، منهم لورنس، ونوري السعيد!! ثم نفاه الإنكليز إلى مصر.
وعاد إلى دمشق بعد الاحتلال الفرنسي (1920م) فأقام إلى سنة 1966م ورافق جثمان جدّه (عبد القادر) يوم نقله من دمشق إلى الجزائر، واستقر إلى أن توفي بها)).انتهى

من هاتين الترجمتين يتضح أن ما تعجّب منه الكاتب من إعلان الأمير سعيد لاستقلال سورية ، ووصفه إيّاه بأنه من الطابور الخامس الماسوني ، غير صحيح ومخالف للحقيقة!!!

ثالثاً ـ يروي لنا الأستاذ أنور الرفاعي في كتابه (جهاد نصف قرن) الحادثة التالية :
((نادى جمال باشا السفاح الأميرَ سعيدًا وقال له :"سأسافر مع الحملة إلى (الترعة) ويجب أن تكون أنت معي عندما أدخل مصر"
الأمير :"ما نفعي مع الحملة وما فائدة دخولي مصر إلى جانبك؟"
جمال :"سأكلفك بقيادة فرقة خاصة"
الأمير :"ماذا تراني أُعِد؟"
جمال :"استصحب معك اثنين من رجالك ليكونوا خدامًا لك ، ونحن نكفيك مؤونة كل ما يلزمك"
وبعد أيّام ، بينما كان الأمير مضطرًا لإعداد وسائل السفر مع موكب جمال ، هبط دمشق الجنرال الألماني (فافيوس) الذي أعطاه العثمانيون اسم (عبد الكريم باشا)! وكان فيما سبق واليًا على بعض المستعمرات الألمانية في إفريقيا ، وأستاذًا لأولاد الإمبراطور غليوم الثاني ، وكان الناس في دمشق يتساءلون عن معنى وجود الجنرال الألماني في دمشق وبصحبته حاشية خاصة ، منها ثلاثة مترجمين أحدهم مستشرق ألماني يتقن العربية ، وثانيهم مسيحي لبناني ، وثالثهم شيخ مسلم بعمامة من بخارى، وفي تلك الأثناء قابل قنصل ألمانيا في حيفا (لوتفيت) الأميرَ سعيدًا في داره وقال له :"يا سمو الأمير! إني أعلم أنك تعمل من مدة في سبيل إثارة الجزائريين ضد فرنسا ؛ وأنت تتمنى أن تصل إلى الجزائر لتقودها إلى الاستقلال ، وها هي الفرصة سانحة ، فإن هناك بعثة ألمانية ستذهب إلى شمال إفريقيا فيمكنك مرافقتها وتحقيق برنامجك"
وفي اليوم التالي دُعي الأمير لمقابلة جمال باشا الذي ابتدره قائلاً:"تغيّرت خطتي ، فلن ترافقني إلى مصر، وإنما سترافق بعثة عبد الكريم باشا الألمانية ، وهي ذاهبة إلى شمال إفريقيا ، وستمر في طريقك على طرابلس الغرب ، وسترى السيد السنوسي فيها ، فاكتب له قبل أن تصل وأخبره بقدومك وبأنك تحمل رسالة شخصية مني إليه ، وأخبره شفهياً بأني سأهاجم ترعة السويس ، فيجب على السنوسي عندما يسمع بوصول حملتي إلى الترعة لمهاجمة مصر ، أن يهاجم من ناحيته مصر أيضاً فنضعها بين نارين ، وليضرب المصريين على رؤوسهم ويسوقهم إلى الحرب كالـ..." وسلّم جمال باشا في الحال الأمير سعيداً رسالة مختومة ؛ وأمره بالاستعداد للرحيل في الغد .
صدّق الأمير سعيد أقوال جمال ، وخفق قلبه فرحاً لسيره إلى بلاده الأولى ، وفي الغد كان في محطة الحجاز في عربة خاصة تُقلّ بعثة عبد الكريم باشا الألماني ..
وفي الطريق التفت الأمير إلى الجنرال الألماني وقال له :"أين نحن ذاهبون؟ وما هي خطتنا؟ وما هو طريقنا؟" فأجاب الجنرال :"نحن ذاهبون إلى إفريقيا الشمالية" فاطمأن قلب الأمير وأخذ يطلّ من نافذة القطار ، وينظر إلى الأفق البعيد ويتخيل الرحلة الجميلة ، ويتصور وصوله إلى طرابلس واتصاله بالسيد السنوسي و ...........
وصادف عندما أشرف القطار على محطّة (العُلا) أنّ الأمير التفت إلى أحد كبار مرافقي البعثة الأتراك وهو (سامي بك) متصرّف (نجد) وأراد أن يتحقق من سلامة الطريق و.... وقال له :"يا سامي بك هل طريقنا جميعه في أمان؟ أم هو محفوف بالأخطار؟ وما هي تفاصيل مخطط السير؟"
فأومأ سامي بك إلى الأمير أن يخرجا معاً إلى رواق القاطرة ، وظنّ الأمير أنّ مثل هذا الحديث عن مخطط الرحلة يجب أن يبقى سرًا لا يبلغ مسامع الجنود خشية الجاسوسية وافتضاح الأسرار ، فترك مقعده ، وانتحى بمتصرّف نجد ناحيةً ودار بينهما حديثٌ لم يسمعه غيرهما :
سامي بك :"يا سمو الأمير إني أقدّر فيك وطنيتك وأعترف بشجاعتك ، ولأنك أمير من سلالة الأمراء فمن واجبي أن أصدقك القول ولا أخدعك . ليس هدف هذه البعثة الألمانية الذهاب إلى إفريقيا الشمالية ، وإنما هدفها الوصول إلى مستعمرات ألمانيا في إفريقيا الوسطى ، ولها مهمة خاصة في البلاد العربية ، فقد زوّد جمال باشا الجنرال الألماني بصلاحيات واسعة في الجزيرة العربية! وسوف تصل هذه البعثة إلى المدينة المنوّرة ، مدينة الرسول عليه السلام ، وستدخل هذه البعثة الأماكن المقدسة!! وطريقها هذا سرٌّ لم يطلعوك عليه"
وكان الإيمان والحماس الديني باديًا على وجه والي نجد وهو يتحدَّث ، فأطرق الأمير سعيد هنيهة ، وعلِم أنّ حديث قنصل ألمانيا في حيفا له وحديث جمال باشا ، والرسالة التي يحملها ، وجواب عبد الكريم باشا في الطريق ، كان كله مؤامرة عليه ، وخشي أن تكون أوامر جمال أن يقتله في الطريق .
فالتفت إلى محدِّثه وقال له :"ولكن هل يجوز لك أن ترافق هذه البعثة وأنت تعلم هدفها ، وتسمح لها أن تكشف عورات المسلمين في أماكنهم المقدسة؟.."
سامي بك :"نحن مأمورون وليس باستطاعتي الرفض ، مع أن سير البعثة إلى الحجاز ليس من رأيي"
الأمير :" وكيف السبيل إذن لنمنعها من تحقيق برنامجها؟"
سامي بك:"اكتب برقية سريّة إلى محافظ المدينة المنورة وأخبره أن يحذّر الجنرال الألماني من القدوم إلى المدينة ، والمحافظ لا بد وأن يثق فيك لمكانتك الممتازة في قلوب الجميع"
الأمير:"حسنًا! عندما أنزل مدينة (العُلا) سأبرق إلى بصري باشا والي المدينة البرقية التالية : (أنا مع بعثة ألمانية مُرادها المرور من المدينة المنورة ، وذلك فيه ضرر على مصالح الدولة ، فأرجو أن تعارض قدومنا ببرقية جوابية بقولك إن مرورنا من الأراضي المقدسة فيه خطر على حياتنا وعلى هياج السكان)
ونجحت الخطة ، فإن جواب بصري باشا والي المدينة وصل كما نرجو؛ واطّلع الجنرال الألماني على فحواه ، وتمتم وكأنه أدرك أن في الأمر سرًّا ، وأخذ ينظر إلى الأمير سعيد شَزْرًا ، ورضي أن يغيّر خطة سفره ، وأن يتجه إلى ساحل البحر الأحمر ، فيكون طريقه إلى الجنوب بحريًا على حذاء الشواطئ العربية ثم تأخذه نقّالة بُخارية إلى الشواطئ الإفريقية حيث يصل إلى هدفه.
وفي (العُلا) كلّف رِفادة باشا شيخ عشيرة (البلي) أن يُهيّئ قافلة للبعثة ، وأن يؤمن بمفرده سلامة البعثة من (العلا) إلى (الوجه) على ساحل البحر الأحمر.
وبعد سبعة أيام من رحلة صحراوية بحماية ورفقة رفادة باشا أشرفت البعثة على (الوجه) ، وهنا بدأت الخلافات بين قائد البعثة الجنرال الألماني وبين الأمير سعيد فقد رفض الأمير الخضوع لأوامر الجنرال بتركه البعثة والسير مع القافلة التي تحمل العتاد والذخيرة ، ذلك لأن هذا ليس من خصائص الأمير ، فالأمير مرافق للجنرال وليس مرافقًا للمؤن والحاجيات ، وخاصة أن ذلك يسير بحماية رفادة باشا .
وفي (الوجه) وزّع الجنرال رجاله على ثلاثة مراكب شراعية ، وضَعَ الأمير في أحقرها ، ولم يكتف بذلك ، بل كان نصيب الزورق الذي يُقِلّ الأمير أن يحمل جميع ما تحمله البعثة من مواد متفجرة وبنزين ، فشعر الأمير أن الجنرال يضمر له الشر ، وأن أقل حادثة يمكن أن تفجر البارود أو تحرق البنزين وبذلك تنتهي حياة المركب ومَنْ عليه ... وبعد أربعة أيام من رحلة بحرية وصلت البعثة إلى (ينبُع) ، فنزل الجنرال وقام بمهمة خاصة لم يدر الأمير شيئًا عنها لأنه مُنِعَ من النزول إلى البر ، وكذلك مُنع من أن يطأ اليابسة عندما وصلت البعثة إلى (جُدّة) ، وحاول الجنرال أن يفعل مثل ذلك عندما وصلت إلى (القنفذة) ؛ أحد موانئ (عسير) ؛ بعد سير سبعة عشر يومًا ، ولكن الأمير ، مخالفًا لجميع الأوامر الصادرة إليه ، غادر المركب ومعه خادمه الخاص (مسعود الجزائري) وبقي في (القنفذة) رافضًا جميع المحاولات التي قام بها الجنرال ليحمله على تغيير عزمه ، وكاد الخلاف ينتهي بينهما إلى تحكيم النار والبارود ، واضطر عبد الكريم باشا الألماني إلى ترك الأمير في (القنفذة) ، وأن يتابع سيره دونه.
عرّف الأمير بنفسه لشيخ (القنفذة) ، فاحترمه أيما احترام ، وقدّم له المعونة الكافية ، وأرسل من يرافقه إلى مدينة (الليث) ، وهنا اتصل الأمير بالقائمقام فأكرم وفادته ، وقدّم له الرواحل وأدِلاَّء ليسير إلى مكة ومنها إلى المدينة ثم يعود أدراجه إلى دمشق.
وفي مكة كانت أولى مقابلات الأمير سعيد بالشريف حسين شريف مكة ، ولم يكن الأمير على علم بمساعي بريطانيا لتهيئة الثورة العربية ، ومفاوضاتها للشريف حسين . فظنّ الأمير أن واجبه المقدس أن يُقنع الشريف بضرورة تأييد الدولة العَليّة صاحبة الخلافة الإسلامية ، فبعد أن أكرمه الشريف وأنزله في جناح خاص من قصره بمكة المكرمة ، اجتمع به ، وكان مما قاله الأمير بعد التعارف وتبادل عبارات الترحيب والشكر:
الأمير :"أنت تعلم أن الصليب يحارب الهلال اليوم . وأنت ابن رسول الله . فيجب أن تكون على وفاق مع الخليفة العثماني"
الشريف :"ولكن الاتحاديين كَفَرَة لا يتبعون تعاليم الدين ، ولقد قاوموني . ولقد حاول الوالي وهيب باشا قتلي ، وهاجمني في قصري ، ووضع يده على أوراقي ورسائلي الخاصة"
الأمير :"ولكنك يا شريف! أنت ثاني رجل في الدولة العلية بعد الخليفة ، وإذا حدث للحكومة حادث فلا أحق منك أن يتقلدها ، لنسبك من رسول الله ، ولمقامك العظيم عند جميع المسلمين ، ومن لنا أمير غيرك إذا أصيب الخليفة؟"
الشريف :"أبداً! أبداً! لا أطمع بالملك ، ولا أطمع بمنصب يزيد عن حماية الكعبة الشريفة"
الأمير :"أنا على رأيك أيها الشريف ، لسوء إدارة الاتحاديين ، وإني أكره جمال باشا شخصيًا ، ولكن أرى أن واجبي في تأييد الخليفة الشرعي ..."
وأخذ الأمير يشرح للشريف حسين ما جرى له مع جمال باشا وتفصيلات الرحلة الشاقة ... وانتهى الأمر بالشريف حسين أن فوّض إلى الأمير سعيد أن يُحسِّن العلاقات بينه وبين جمال .
وقد حمل الأمير سعيد ذلك إلى جمال باشا في دمشق ومهّد السبيل للتفاهم بين الطرفين . والراجح أن اتفاق جمال باشا مع الشريف فيصل ابن الشريف حسين في دمشق ؛ يوم أقام فيصل في دمشق كان على أثر وساطة الأمير سعيد .
وقد جاء وصف هذه المقابلة ونتيجتها في جريدة الجامعة الإسلامية التي تصدر في (يافا) ، في عددها (562) وتاريخ الأربعاء في 23 صفر 1353هـ الموافق 6 حزيران 1934م بتوقيع الأمير نفسه)).انتهى [من كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص54 إلى ص59]
ويتابع الأستاذ أنور الرفاعي فيقول (وكان الأمير سعيد قد كتب رسالة شكر من المدينة المنورة إلى الشريف حسين بمكة ، وكتب من دمشق رسالة أخرى شرحَ فيها للشريف حسين مساعيه لدى جمال باشا . ووصلته رسالة جوابية بخط الشريف حسين وتوقيعه تُعدّ وثيقة من الوثائق التاريخية ، وفيها يُبيّن الشريف حسين أنه لابد وأن الشريف فيصلاً قد قابل الأمير .
ونصّها : (((عزيزنا الكامل السيد الشريف الأمير محمد سعيد بن الأمير علي ابن مولانا المرحوم السيد الأجلّ عبد القادر الحسني ؛ حفظه الله ورعاه . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد تناولنا بغاية السرور كتابيك الأول من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ والثاني من دمشق الفيحاء وفرحنا بهما لأنهما قد وافيا ببشائر عافيتك التي نتمنى من الله أن يديمها عليك وعلى والدك وأهلك وعشيرتك موفقين لكل ما فيه سعادة الأمة وخير الإسلام . ويكفيك يا بني من الفخار أن تمثل بمناهجك السامية جلال فضائل شرفكم الباذخ الذي تتوجت به مفارق آبائك وأجدادك من سلالة ذلك البيت الطاهر الكريم.
إنا لا نعد خدماتنا التي ذكرتها بالإطراء والثناء إلا جزءًا من بعض ما تفرضه الإسلامية علينا لخدمة الدين الحنيف والخلافة العظمى والبلاد العزيزة المحبوبة ، مؤملين من الله عزَّ وجلّ أن يوفقنا لإيفاء تلك الواجبات حقها وأن يمنحنا السداد في الأقوال والأعمال بما تقرّ به عين جدك الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه.
أدعو لوالدك بنجاح مساعيه وأن يرده إليك سالماً في دينه ودنياه وأن يسمعنا عن أخباره ما تسر به الأفئدة .
أنجالنا يهدوك سلامهم . ولابد أن فيصل قد حظي بمشاهدة طلعتك البهيّة بالفيحاء . إننا لا نزال نذكرك كما تذكرنا والله يتولى رعايتك أيها العزيز .
20/5/1333هـ أمير مكة
حسين ))).انتهى [جهاد نصف قرن ص63ـ65]


ويتابع الأستاذ أنور فيقول: ((قدم فيصل دمشق في 26 آذار عام 1915م ، فتلقاه جمال باشا بحرارة ....وبقي في دمشق هذه المرة ستة أسابيع .... وكانت أولى مقابلات الأمير سعيد مع الشريف فيصل خلال تلك الإقامة القصيرة ... وقد زاره في منزل آل البكري وذكر له ما سعاه لدى جمال باشا عن حسن التفاهم بين قادة الدولة العثمانية وشريف مكة ، مع العلم أنّ انضمام الحسين إلى جانب الحلفاء لم يكن قد تم بعد ..)) [المرجع السابق ص63]
((وعاد فيصل من الأستانة ، وتردد على دمشق مرات ، وتم الاتفاق بينه وبين قادة العرب فيها على الثورة ، وكان والده قد أتم اتفاقه مع البريطانيين ، وكان جمال باشا في دمشق يكرم فيصلاً من ناحية ويراقبه من ناحية أخرى ، وكان الأتراك يتوددون للشريف حسين وأولاده ويكرمونهم ، ولكنهم كانوا يخشونهم ويخافون أن يقوموا عليهم ؛ وكأن تلك المراسلات السرية بين حسين ـ مكماهون ، قد شمّ الأتراك رائحتها أو تنبّؤوا حدوثها دون أن يتمكنوا من كشف أسرارها والوقوف على حقيقتها، فكانت كل حركة وسكنة من الأشراف أولاد الحسين تؤوَّل لدى المقامات التركية . ويروي الأمير سعيد إحدى قصص جمال باشا والشريف بقوله :"بينما كنتُ في دارٍ لي "بالجسر الأبيض" ، قدم الشريف فيصل ، فاستقبلته استقبالاً يليق بمثله ،.. وبعد أن استوى بنا المكان أخذ يحدثني والدمع يترقرق في عينيه :
فيصل :"أحب أن أحدثك يا أمير بحديث جرى لي اليوم مع جمال باشا ، وآخذ به رأيك"
الأمير :"خيراً إن شاء الله"
فيصل:" طلبني جمال (باشا السفاح) وقال لي:"بلغني أنّ أخاك الشريف علي ، قد وصل المدينة المنوّرة وأخذ يتصرف بأمور ليست من اختصاصاته ، وأخشى أن يكون غير مخلص النية نحو الدولة العثمانية، وأنت تعلم أنني لا أسكت عن إنسان مهما علت منزلته ، ولن أسمح له أن يحيد عن طريق الإخلاص للدولة ، لذلك أرى أن تكتب لأخيك الشريف علي حالاً ، بأن يغادر المدينة ويعود من حيث أتى ، وإلاّ فسأضطر لشنقه .."
الأمير:"يا سمو الشريف! نحن أبناء عمومة ، ننتمي إلى الأسرة النبوية الشريفة ، ونحن على السرَّاء والضرَّاء ، ومن واجبي أن أحميك وأمنع عنك وعن أخيك أذى جمال السفاح ، وخاصة أنني أنا الذي كنت واسطة الصلح بين الشريف والدك وبين جمال ، فإن شئت سرتُ أنا إلى جمال ودافعت عنك وعن أخيك وأفهمته أن الحجاز تحت إمارتكم ، وأنتم تتنقلون أينما شئتم وحيثما أردتم ، وليس لأحد عليكم سلطان ، ولا لرجل مهما علت مرتبته في الدولة أن يمنعكم من دخول المدينة أو غيرها من مدن السلطان ، وإما أن تترك دمشق وتعود إلى والدك ، تخبره بسوء نيات جمال ، وأنا على استعداد لإيصالك إلى الحجاز سالماً آمنًا مع عدد من رجالي الذين أعتمد عليهم دون أن يتمكن جمال وعيونه من معرفة شيء من أمركم ، وإما أن تعود إلى دار آل البكري وتمتنع عن الحضور إلى مقر جمال باشا حتى ينجلي الموقف ، ويرجع عن ظلمه لكم أو ترى فيه رأيًا"
فيصل:"ولكنك تعلم أنني لا أستطيع أن أقوم بعمل إلا بما يأمرني به والدي وقد كتبت له بتفصيل ذلك اليوم . وأنا بانتظار جوابه"
الأمير:"إنني أخشى أن يكون جمال قد أضمر لكم الشر ، ولا بد أنكم ستنتقمون منه شر انتقام ، ولكن الزمن لم يحن لمثل هذا العمل ، وعلى كلٍ إذا امتنعتَ عن المجيء إلى مقرّه ، فإنه لابد سيسترضيك لأنه بحاجة إلى مساعدتك أنت وجميع عائلة والدك الكريم"
وقد اعتكف فيصل بالفعل في دار آل البكري لم يخرج منها يومه وليلته ، فأرسل إليه جمال يسأله عن سبب تغيبه واعتذرَ له عما بدر منه ، وقال له :"نحن في حالة حرب ، ولذلك كنت حريصًا على أن أراقب كل حركة وسكنة حتى لا يقع ما يضر بصالحنا ، وقد علمتُ بحسن نية أخيك ، وأرى أن نكون دائمًا على وفاق ، لذلك سأرسل برقية إلى بصري باشا بأن يلاطف أخاك ويحسن معاملته ؛ وأنت أبرق إلى أخيك أن يتفاهم مع الوالي حتى لا يحدث ما يشوش الحالة في المدينة ويقلق بال الباب العالي")). انتهى[المرجع السابق ص 65 إلى ص67]

((انتهت حملة الترعة التي أعدّها (جمال باشا السفاح) لغزو مصر إلى الفشل ، وظهرت نيات جمال باشا نحو العرب وزعمائهم ، فأخذ ينفي العائلات إلى الأناضول ويراقب حركات سادة العرب ، وألّف ديوانًا عرفيًّا في (عاليْه) وأمر بالقبض على عدد من كبار رجالات القوم من مسلمين ومسيحيين وأخذ يحاكمهم بتهمة التآمر على سلامة الدولة العثمانية والاتصال بالدول الأجنبية ... وفي 6 أيار 1916م أُعدم شنقًا واحد وعشرون شخصًا مِنْ عِلْيَةِ القوم..)) [المرجع السابق ص68ـ72]
((وكانت الأمور في الدولة العثمانية تسير من سيِّىء إلى أسوأ ؛ فإن إعدام الشهداء في 6 أيار لم يزد العرب إلاّ بغضاً بجمال والأتراك ، وإن الشريف فيصل الذي كان في مزرعة آل البكري يوم الحادثة المشؤومة ، صاح صيحته الشهيرة :"طاب الموت يا عرب" وكانت اتفاقات الشريف حسين مع البريطانيين قد انتهت ، والعرب استعدوا لإعلان الثورة )) [المرجع السابق ص76]
يقول الأستاذ محمود شاكر في (التاريخ الإسلامي) 8/227 : ((وقد أثارت هذه الإعدامات شيئًا من النقمة على جمال باشا خاصّةً ، وسُمّي الذين أُعدموا بالشهداء ، وكان حجةً لثورة الشريف حسين على الدولة إذ أرسل ابنه فيصلاً ليتوسط لدى هؤلاء فأراد جمال باشا أن يُلقي القبض عليه فاختبأ وأرسل لوالده فاندلعت الحركة من مكّة ، وكان قد تمّ التفاهم مع الإنكليز ، وهُزِم العثمانيون)).انتهى
قال الأستاذ أنور الرفاعي (.. يمَّمَ الأمير عبد القادر الحفيد (شقيق الأمير سعيد) وجهه شطر الحجاز كعبة آمال المسلمين . وفي مكة تعرّف بالشريف حسين ..... وقبل أن يُغادر الأمير عبد القادر (المشهور بالأمير عبدو) مكة المكرمة ، حضر موسم الحج ، وكان موسمًا مزدحمًا كثير الحجاج من جميع أنحاء العالم الإسلامي ، وأخرج الحسين عَلَماً وصلى عليه أربعون ألف مسلم من الحجاج ، وطاف بالعلم سبع مرات حول الكعبة ، ثم سلّمه للأمير عبدو ليرفعه على سراي دمشق باسم الحسين ملك العرب.
وقد جاء في جريدة البيرق البيروتية في عددها (984) وتاريخ 19 تموز 1932م وصفٌ لرحلة الأمير عبدو (الشهيد) إلى الحجاز من مقال بتوقيع الأمير محمد سعيد ، نقتطف منه ما يلي :"وفي الحقيقة إن الخدمة الجليلة التي قام بها الشهيد عبد القادر نحو الوطن سوف تقدرها الأجيال المقبلة حق قدرها ويدونها التاريخ في أمجد صفحة من صفحاته بمداد الفخر والإعجاب ، وقد كان هذا الشهيد السبب في تأخير احتلال سورية مدة سنة ، وإذا علم الناس بأن الاحتلال كان مقررًا لسورية وليس هناك معاهدة يستند عليها، كما صرّح لي الأمير فيصل بنفسه في وهيد ، لعرفوا عندئذ مقدار الخدمة التي أداها الشهيد لوطنه . ومما يدل على شدة تعلقه بالله وفرط إخلاصه لوطنه وأمته أنه حين فرّ من بروسة مقر منفى عائلته وقطع تلك المسافة الشاسعة إلى أن وصل إلى مكة بقي متنكرًا عن الناس لابسًا النعل الحجازي والثوب الأبيض البسيط حتى تمكن من القيام بشعائر الحج خير قيام لا يشغله من مشاغل الدنيا وسفاسفها شاغل . ولما علم ملك العرب الحسين بن علي بمقدمه نصب له مضربًا إلى جانب مضاربه وخطب في السوريين قائلاً هذا أميرٌ من أمرائكم ، وزعيمٌ من زعمائكم، تعرض لأشد الأخطار رغبة بأداء الفريضة وحبًّا بخدمة بلاده وأمته وهو يتوارى عن الناس لكي يكون عمله خالصًا لله وحده فعليكم أن تقتدوا به وتسيروا في أثره) ثم أمر بتسليمه عَلَمَ القيادة الذي جاء ذكره وطلب منه الذهاب للعقبة ليكون إلى جانب نجله الأمير فيصل".انتهى
((واجتمع الأمير عبدو في العقبة بالأمير فيصل قائد الجيش العربي ، فأكرمه فيصل كما أكرم جميع قادة العرب ومشايخها وزعمائها ، وكان (لورنس البريطاني) يرافق الأمير فيصل ، ويدبر الخطط الحربية ، ويقدّم الذهب الوهّاج إلى الأمير فيصل ليوزعه على القبائل العربية دون ما حساب ... وسار لورنس والأمير عبدو إلى (الأزرق) ، وطلب لورنس من الأمير عبد القادر أن يسير برجاله ـ وقد أصبحت تحفّ به ثلة من المتطوعين الذين أُعجبوا ببطولته وشهامته ـ وأن ينسف الجسر الحديدي في وادي خالد قرب تل شهاب ، فأبى الأمير عبدو وقال :"إن مهمتي أنا هي قتل جمال باشا الذي شنق أحرار العرب وأبرياءها ، وهزئ بعائلتنا وكرامتها وأهانها بشنق الأمير عمر ، أمّا نسفُ جسرٍ حديدي يسبب قطع خط الرجعة على آلاف من الجيوش المسلمة التابعة للدولة العثمانية فليس من الإيمان في شيء ، فهم مسلمون قبل أن يكونوا أتراكًا ، وهم عرب على الغالب ، وقد حاربوا إلى جانب تركيا لأنها كانت هي صاحبة البلاد ، واليوم عندما يطلب إليهم الانضمام إلى جيوش الثورة العربية فلا يرفضون ، ولا يجوز لي أن أعمل على إيقاعهم أسرى في أيديكم أو على قتلهم برصاصكم ..."
ومن هنا نقم لورنس على الأمير عبدو وأضمر له ولأسرته الشر ، وترك الأمير عبدو لورنس غاضبًا ، وسار برجاله نحو دمشق فلما وصل جبل الدروز اتصل بزعمائها ورفع علم الحسين الذي كان معه ، وكان ذلك إخلاصًا منه للحسين الملك الجديد على العرب ، وإن خالف أوامر حليفه لورنس الإنكليزي ..
ثمّ عفت الدولة العثمانية عن الأمير عبدو ، ونزل دمشق ، واحتفظ بعلم الحسين في دار أبيه)).انتهى[جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص79 إلى ص81]

وأما قصة رفض الأمير عبدو لطلب الضابط البريطاني لورنس بنسف الجسر الحديدي ، وتركه له فقد ذكرها أكثر من مرجع . وأهمها ما ذكره لورنس نفسه في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) ص390 ، وكتابه (ثورة الصحراء) ص103 ، حيث خصص صفحات تحدّث فيها عن الأمير عبدو وشقيقه الأمير سعيد ، ووصف الأول بالتعصّب الديني وأنّ إسلامه وقف ضد مسيحيّته ، وكان يصفه بعدوّه القديم . وفي تلك الصفحات برزت نفسيته العِدائية نحوهما بوضوح تام .

يتابع الأستاذ أنور الرفاعي فيقول: (( ..وما كاد الأمير سعيد يستقر بدمشق ويتصل بأنصاره وأعوانه ـ وكانت الثورة العربية قد اندلعت وتراجع الترك عن الجزيرة العربية وأصبحت فلسطين وسورية مهددة ، وأُسندت قيادة الجيش في فلسطين إلى جمال باشا المرسيني المعروف بجمال باشا الصغير تمييزًا له عن جمال السفاح ـ حتى رأت الدولة العثمانية حاجتها إلى الأمير شديدة ، ليقوم بمهمة الوسيط بينها وبين الأمير فيصل قائد جيوش الثورة العربية ، فلقد حاولت تركيا أن تسترضي فيصلاً ، بعد أن سبق السيف العذل ، وبعد أن أطلق والده الملك حسين أول رصاصة إيذانًا بثورة العرب الكبرى وبعدما تقدمت جيوش الثورة العربية وضيّقت على الأتراك في الحجاز ، وضربت سكة حديد الحجاز وتقدمت شمالاً وأخذت تستعد لدخول سورية في الوقت الذي أصرّ فيه الملك حسين على الحلفاء تسيير حملة إلى فلسطين تساند الجيش العربي ، وكانت بريطانيا تهيئ حملة الجنرال (اللنبي) التي حررت فلسطين عن قريب من أيدي العثمانيين ولكنها مع الأسف حررتها من حكم ، لتكبلها بحكم أشد وأقسى ، نعم في هذه الوقت وصلت إلى الأمير سعيد رسالةٌ شخصية مع موفد خاص من قبل جمال باشا المرسيني يرجوه فيها التكرم بزيارته في مقر قيادته في (السّلط) في شرقي الأردن وكان ذلك في أواخر شهر تموز عام 1918م.
وقد أخذ جمال المرسيني يشرح للأمير موقف الجيوش العثمانية المتخاذل ، وقوة الأمير فيصل والجيوش العربية ، ويستفز حماسة الأمير الدينية ، ويقول له :"لقد هاجمت جيوش الأمير فيصل جيوشنا وأعملت فيها السيف ، ونحن مسلمون قبل كل شيء ، ويجب حقن دماء المسلمين ، والصلح خير الحلول بيننا ، ولقد جرت بين الأتراك والأمير فيصل مراسلات من عدة شهور لم تأت بطائل ، وإني لم أجد الآن خيرًا منك ليذهب إلى فيصل ويقوم بدور الوسيط في الصلح بيننا وبينه ، وذلك لشرف عائلتك ، ولانتسابك إلى الرسول العربي الكريم صلى الله عليه وسلم كانتساب الأمير فيصل ، فأنتم أبناء عم ، ولمقدرتك ومقامك عند الجميع ولإخلاصك إلى الخليفة العثماني وحبك لحقن دماء المسلمين ..."
((فرضي الأمير سعيد هذه المهمة الخطرة ولكن المشكلة كانت كيف يستطيع الأمير سعيد اجتياز الحدود بين الجيشين التركي والعربي ، وكيف يتوصل إلى الاجتماع بالأمير فيصل ... واقترح الأمير سعيد أن يتصل هو بالأمير فيصل ويستمزج رأيه بالاجتماع به وبعد الاتفاق معه سيذهب إليه ، وأعجبت الفكرة جمال باشا وترك أمر ذلك جميعه للأمير سعيد ... وأرسل الأمير سعيد أحد رجاله الذين يعرفون البلاد معرفة تامة برسالة خاصة منه إلى الأمير فيصل فجاءه الجواب :
((قيادة الجيوش العربية الشمالية
ديوان الأمير
تاريخ 3 ـ 2 القعدة 1336هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده .
حضرة الأخ الكريم ؛
تلقيت كتابك وسررت على صحتك ، عسى الباري يحفظك ، ولعلمي بصفاء نيّتك وخلوصك وما بيننا من الروابط الودية ، أُحرّرُ لك هذا ، أولاً لإعلامك عن صحتي ولله الحمد ، ثانيًا لئلا تتهمني بقلة الوفاء ، وإلا ما كنتُ أرى لزومًا للرد على كتابك لأنني قد جربت أصحابك، وجرَت بيننا أحاديث تحريرية ولم أر لذلك أدنى ثمرة ، وتأكدت من ذلك بأنهم يريدون المماطلة لاكتساب الفرص ليس إلاّ.
إنْ كنتَ تريد المواجهة شخصيًا فأهلاً وسهلاً وإنني على العهد ، وإن جئت لإبداء بعض ما يُظهرونه لك ويُضمرون خِلافَه ، فلا أرى لزومًا لتعبك ، ولذلك فهنا أمرين : إن كانوا أعطوك ما تتوثق به عن صفاء نيتهم وبيدك ما يثبت ذلك ، فمرحبًا بك ، وتأتي الليلة القابلة الموافق 3-4 القعدة 1336هـ وهي ليلة الأحد الموافق مساء 10 أغسطس إفرنجي ، وفي الساعة الواحدة عربي في وادي (عقيقه) الواقع جنوب سمنة القبلية ، وسيكون في ذلك المحل "فانوس" أحمر مع من يلزم لخدمتكم ، فاعتمدوا عليهم وامشوا بمشورتهم. وإن كانوا قد أجبروك على المجيء ولا بيدك ما يطمئن به قلبك ، فأنت بمحلك والعرب وشأنهم .والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التوقيع: أخوك فيصل )).انتهى
[كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص88]

ولي هنا تنبيه : كما ترون فالجميع يخاطب الأمير سعيد والأمير عبدو على أنّهما تابعان مخلصان للدولة العثمانية ، وكذلك تصرفاتهما تدل على ذلك ، والولاة العثمانيون أيضًا يتعاملون معهما بوصفهما مخلصان للخلافة العثمانية ، ولم يمر معنا أنهما فعلا شيئًا يخالف ذلك!!

((..وكان اجتماع الأمير فيصل بالأمير سعيد في (وهيد) بحضور نوري باشا السعيد وفائز بك الغصين أمين سر سمو الأمير فيصل الخاص في ذلك العهد ، واستمعوا جميعًا إلى أقوال الأمير سعيد الداعية إلى إحلال الوفاق بين الأتراك والعرب ، والضنّ بدماء المسلمين، وكان الأمير فيصل يصر على انسحاب تركيا من البلاد العربية وإعلان استقلالها استقلالاً ناجزًا والاعتراف بتتويج الملك حسين ملكًا عليها ، وهي نفس الاتفاقات التي كانت بين والده الشريف حسين ومكماهون البريطاني والتي قامت الثورة العربية على أساسها ، ولما كان الأمير سعيد لا يملك مثل هذه الصلاحية وإعطاء مثل هذه الوعود ، هنّأ الأمير فيصل على إيمانه بمستقبل العرب وعلى تشبثه باستقلال العرب ، وتمنى له التوفيق واستأذنه عائدًا يحمل رسالة الأمير فيصل الجوابية إلى جمال المرسيني ، وقد أملاها الأمير فيصل باللغة التركية على أمين سره فائز بك الغصين وترجمتها :
""إلى حضرة جمال باشا قائد الجيش الرابع :
يا حضرة القائد العام
تسلمت كتابكم المؤرخ في 5/8/1336هـ والذي تفضلتم بإرساله مع الأمير سعيد وليس لي ما أقوله بالنسبة إلى شخصكم لما أعرفه فيكم قديمًا من الشعور الطيب والعواطف النبيلة التي خبرتها بالذات ولكن هذا لا يمنعني من القول بأن هذه الكتب والرسائل التي لا أزال أتلقاها من وقت إلى آخر وأجيب عليها منذ نحو تسعة أشهر سواء من حضرتكم وسواء من غيركم من كبار القوم ليست سوى إضاعة للوقت فيما لا يفيد إذ لم أر فيها ما يدل على روح إسلامية صحيحة وبذلك لم يبق لي أمل ما في الوفاق والاتفاق. ومع أن زيارة الأمير سعيد بعثت شيئًا من الأمل في نفسي إلا أن هذا لا يمنعني من تنبيهكم إلى حالتكم العامة ، ووضعكم العسكري صار في أقصى درجة من الخطر وستؤيد الأحداث قولي هذا الذي أقوله بلسان المسلم المخلص الصادق لا بطريق التهديد ، والله يعلم أن ما أكتبه إليكم بهذا الشأن مصدره الوجدان الذي يهيب بي إلى نصحكم وتحذيركم . إن العرب لا يطلبون شيئًا من الترك ، إن كل ما يطلبونه هو أن يعيشوا أحرارًا وعلى وفاق تام واتحاد معهم.
إن للعرب مطلبًا صريحًا وواضحًا يلحّون في تحقيقه وإجابته ولا يتنازلون عنه وإني أصارحكم به وهو : (إن العرب يريدون منكم أن يكون حالهم معكم كحال بافاريا مع ألمانيا) ، إن قبول هذا الاقتراح يربط بين قلبي الأمتين برباط متين لا تنفصم عراه كما إني أَعُدُّ القَبولَ بأقلَّ منه جناية تُجنى على هاتين الأمتين الإسلاميتين فلا يتجدد بعد ذلك الزمن الذين يعودون فيه إلى دواوين الحرب العرفية وإلى أحكام الإعدام والشنق وإلى الفتاوى المزيفة وإلى ترديد عبارات (الأصابع الأجنبية) أو الخروج على السلطان فتجدد القلاقل والمصائب .
والخلاصة إنني أختم كتابي قائلاً بأنني على أتم استعداد للدخول في المفاوضات متى قبلت الحكومة التركية اقتراحي هذا مقدمًا احترامي إليكم . في 5/11/1336هـ
فيصل "".انتهى
(نص الكتابين نشرته جريدة الكفاح عدد 1652 وتاريخ الخميس 26/ربيع الأول/1365هـ ،و28/شباط/ 1946 بتوقيع الأمير سعيد نفسه). [ وانظر كتاب (جهاد نصف قرن) ص89 إلى ص92]

((ويضيف الأمير سعيد زيادة عما ذكرناه في وصف مقابلته للأمير فيصل ما جاء في سلسلة مقالاته في جريدة الجامعة الإسلامية الذي نقتطف منه بعض فقرات وردت في عدد 9 تموز 1934م وهي :""..وبعد العناق والسلام بدأنا بالحديث وسلمته كتاب جمال باشا فقرأه وأكثر الإمعان فيه ، وما لبث أن استأذن بالذهاب ودخل إلى فرع متصل بالصيوان وهو عبارة عن خيمة صغيرة فيها منضدة للكتابة ، وجلس حوله فائز بك الغصين ونوري باشا السعيد . وبعد محادثة نصف ساعة على التقريب جاء الأمير (فيصل) وأرباب معيّته وبيده كتاب يحتوي على جوابه لجمال باشا فناولني إيّاه قائلاً :"هاك جواب جمال باشا اقرأه . وبعد قراءته عرضتُ رأيي على الأمير بوجوب كتابة (دردنجي أردو قومانداني جمال باشا حضرتلرينه) بدلاً من (جمال باشا به) تبعًا لحسن المجاملة التي ما أنقص جمال فيها شيء . فرأى الأمير رأيي وضرب على هذه العبارة وكتب حسبما اقترحت .
.. وبعد هذا تداولنا في الشؤون وما يجب اتخاذه من تدابير إذا امتنع الترك عن الموافقة على الاستقلال وسألت الأمير عن العهود والشروط التي تقررت بينهم وبين الإنكليز فيما يتعلق بسورية وما هي الخطة التي تقررت بين الجانبين ، فأجابني بما يأتي حرفيًا : "ليس هناك لا عهود ولا شروط يا أخي ، إنما الذي تم القرار عليه هو أننا سنهاجم سورية وفلسطين ، فكل قوة من القوى الثلاثة الإنكليز والإفرنسيين والعرب تسبق فتحتل بلدًا تسيطر عليها إلى أن تنظر الدول المتحالفة في أمرها ، من أجل ذلك إذا أردتم أن تضمنوا استقلال بلادكم فلا تنتظرونا ، بل عندما تسمعون بقرب الجيوش منكم أعلنوا الاستقلال ولو بتضحية إذ ربما تأخر الجيش العربي وتقدم غيره".انتهى [المرجع السابق ص93]
(ونشرت جريدة الأيام والمقطم عام 1923 تصريحات الأمير سعيد كاملة حول هذا الموضوع)
وحمل الأمير سعيد الرسالة الجوابية من الأمير فيصل واتجه إلى مقر جمال باشا المرسيني .
(( .. وكان الأمير سعيد قد أخذ يناقش جمال باشا في مستقبل البلاد العربية وموقف الأتراك من حركة العرب ؛ ويقنعه بضرورة الاتفاق مع العرب والقَبول بمطالب الملك حسين جميعها وكان مما قاله :"هل تعتقد أن باستطاعة الجيوش العثمانية الصمود أمام هجمات الجيش العربي والإنكليزي؟"
جمال:"لا أعتقد هذا أبدًا"
الأمير:"إذن أليس من الأنسب أن تعلنوا أنتم استقلال البلاد فتكون لكم يد بيضاء على الأهالي ، وسوف تنتهي الحرب بشكل ما ، وستبقى العلاقات بينكم وبين العرب حسنة ، ولا يشعر الأهالي بفرق بين حكومتكم والحكومة العربية المقبلة ، لأنهما حكومتان مسلمتان"
وقَبِلَ جمال المرسيني وجهة نظر الأمير سعيد وعقد هيئة أركان حربه وعرض عليهم الفكرة ووافق الجميع إلاّ واحدًا.
وكتبوا إلى العاصمة التركية لأخذ موافقة أولي الشأن ، ووافق السلطان محمد رشاد ، وكتب بذلك أمرًا ، ولكن (طلعت) و(أنور) و(جاويد) قادة الاتحاديين أهملوه ولم يرسلوه إلى سورية وكانت الحوادث تمر بسرعة ؛ ولم يجدوا الوقت الكافي لتحقيق اقتراح الأمير سعيد)).انتهى [المرجع السابق ص94] و[انظر مذكرات عن القضايا العربية والعالم الإسلامي ص126]

وكانت أخبار تقدم الجيش العربي والإنكليزي وانهزامات الجيش التركي تَرِدُ إلى مدينة دمشق ، والأهالي يشاهدون ارتباك الأتراك وحلفائهم الألمان فيها ، وكان الناس ينتظرون سقوط مدينتهم على أيدي الجيوش العربية أو الجيش البريطاني بين لحظة وأخرى . ((... وكان جمال باشا المرسيني ؛ بعد أن عاد الأمير سعيد من (وهيد) وأيقن أن الصلح مع الأمير فيصل ضربٌ من المحال ؛ كلّف الأمير سعيدا بأن يُؤلف من المغاربة الموجودين في سورية قوة محلية لحفظ الأمن ولمساعدة الجيوش التركية وأعطى قيادة هذه القوة إلى أخيه الأمير عبدو الذي سار بها إلى (إزرع) ليحول دون اتصال الجيش العربي بجبل الدروز ، وبقي أفراد من هذه القوة المغربية حول الأمير سعيد بدمشق ، ولكن الترك لم يستطيعوا أن يصمدوا أمام زحف العرب والإنكليز فتراجعوا إلى الكسوة([1]) وأخلوا حوران وجبل الدروز وتراجع الأمير عبدو إلى دمشق ، وكانت المدينة في حالة فوضى مستحكمة ، فقناصل الدول تغادر المدينة، والناس في هرج ومرج ، والشائعات تبلبل الأفكار ، والوالي العثماني لم يُعرَف مقرُّه ، فقد فرَّ في الظلام من المدينة ؛ وخشيَ عقلاء القوم من حدوث فتنة في المدينة ، وانتشار الغوغاء واللصوص في أسواق المدينة للسلب والنهب ، وسارع الأمير سعيد إلى مقابلة جمال باشا المرسيني الذي كان قد نقل مركزه إليها وقال له :"إن المدينة أصبحت في حالة فوضى لا مثيل لها ، والناس لا يعرفون ما يعملون ، وأخشى وقوع حوادث تسيء إلى سمعة المدينة ؛ وإني كجدّي عبد القادر العظيم في عام 1860م أرغبُ في المحافظة على الأرواح ، ومنع الاعتداء على النساء والأطفال ، والوقوف دون النهب والسلب ، وما قد يحدث بين الطوائف من أناس لا خلاق لهم .."
جمال:"كيف العمل؟ والجيش مشغول بالانسحاب والأعداء يتقدمون نحو العاصمة والإشاعات أن طلائعهم أصبحت في الغوطة وسيدخلون المدينة بين لحظة وأخرى"
الأمير:"أرى أن نجمع زعماء الأحياء ليتفقوا على المحافظة على أحيائهم ويؤلفوا حرسًا وطنيًا كما كان الحال في فرانسا وقت الثورة الإفرنسية وبذلك نأمن وقوع حوادث محلية أهلية"
جمال:"حسناً ، افعل ما بدا لك"
ولكن اجتماع زعماء الأحياء لم يُثمر ثمرته المطلوبة ، فعاد الأمير سعيد إلى جمال باشا وقال له :"لم يعد وقت للتفكير والاستشارة ، فالبلد في غليان شديد ، ومُرَوّجو الإشاعات يقلقون الناس ويعملون على إشعال الفتنة . وأنا سأقوم بتوزيع رجالي المغاربة على مداخل الحارات لأمنع التعدي وأحفظ النظام"
جمال:"حسنًا! وأرجو أن يحافظ رجالك عليّ أنا أيضًا"
الأمير:"بما أني سآخذ على عاتقي حماية المدينة فإني أرى أن تأمر الفرق الباقية لديك بالانسحاب من دمشق هي والجنود الألمانية الموجودة فيها بمعدّاتهم وأسلحتهم حتى لا يقع أي اشتباك بين جيشكم المنسحب وجيوش الثورة العربية الظافرة وحتى تسْلم المدينة من الخراب والتدمير .."
جمال:"رأيك في مكانه ، وسأنفذ اقتراحك" . واعتبر الأمير سعيد نفسه مسؤولاً عن دمشق فأسرع إلى داره في حي العمارة وجمع أصحابه وأنصاره ، وأصدر لهم الأوامر المختلفة بالمحافظة على الأمن والنظام وتسهيل انسحاب الجيش التركي المنهزم . وكان ممن تطوع للمحافظة على الأمن والنظام في المدينة ومنع التعدي وحماية الأقليات الدينية العالم الجليل الشيخ رضا العطار ، وكان ضابطًا في الجيش التركي)).انتهى [جهاد نصف قرن ص96ـ 97]
(والشيخ محمد رضا العطار كان قاضيًا في دمشق ومن العلماء الكبار فيها وله عدة رسائل وكتب ودواوين شعر ، توفي في دمشق سنة 1372هـ وهو والد الداعية الكبير عصام العطار صهر الشيخ علي الطنطاوي. والجميع أصولهم من الجزائر!)
((.. ثم قصدَ (الأمير سعيد) إلى دار الحكومة أمام ضفة بردى يحفّ به ثلاثة من أسرته الأمراء وهم الأمير جعفر والأمير محمد الباقر والأمير حسن ، يحمل كلٌّ منهم بندقية ، ووجد على طول الطريق بين السراي وأوتيل فيكتوريا صفّين من الخيّالة (الدَّرك) المحلّي بقيادة أمين بك الطرابلسي ، فجاوزهم، وصعد درج السراي ولم يجد فيها أحدًا ودخل غرفة الوالي .. وجلس في كرسيّه ، يأمر وينهي.
وشَعَرَ الأمير سعيد أن واجبه الآن أن ينفِّذ ما وعد به الشريف حسين يوم اجتمع في مكّة أثناء رحلته الأولى في طليعة الحرب ، وأن يحقق وعد أخيه الأمير عبدو للشريف حسين عندما استلم منه العلم وحمله إلى دمشق واحتفظ به في الدار ؛ فنادى صديقه المرحوم معروف الأرناؤوط والمرحوم عثمان قاسم وقال لهما :"اذهبا إلى بيتنا في العمارة واتياني بعلم الحسين بن علي الذي أحضره أخي عبد القادر معه من مكة" ، وما هي إلا لحظات حتى شهدت دمشق موكبًا من المواكب الضخمة يذكرنا بمواكب الحج وسفر المحْمَل الشريف ، فقد حمل الأرناؤوط وعثمان العلم العربي ، وركبا في عربة الأمير سعيد الخاصة ، وسار أمامهما عدد من المتطوعين المغاربة يحمون العلم بسلاحهم ودمائهم ؛ وهرع السكان من كل حدب وصوب ينشدون ويهزجون أهازيج الفرح والسرور ، ويعلنون ولاءهم لهذا العلم العربي ، وانضمامهم إلى الثورة العربية ، وما كاد يصل إلى ساحة الشهداء (المرجة) حتى أصبح ألوفًا مؤلفة ، وخرج الأمير سعيد من السراي ، واستلم العلم بيده ورفعه على سراي الحكومة بين الهتافات والتحيات .....
ونترك وصف هذه الساعة التاريخية إلى جريدة المقتبس التي كان يصدرها العلاّمة الجليل الأستاذ محمد كرد علي ، التي صدرت ذلك اليوم ووصفت رفع علم الحسين على السرايا وبيان الأمير سعيد وصفَ شاهد عيان ، قالت المقتبس :""كان يوم أمس الاثنين سنة 1918 تشرين الأول من الأيام الكبرى في تاريخ الناطقين بالضاد عامة وقاطني حاضرة الشام خاصّة ؛ خَفَقَ فيه العلم العربي ذو الألوان الأربعة على الرؤوس بعد أن طال العهد ونَسيت الأمة العربية أنّ الدهر ربما أعادها سيرتها الأولى وبدلها من عسرها يسرًا ومن يأسها أملاً .
اخفُقْ علَمَ محمد بن عبد الله القرشي النبي الأمين ومَثِّلْ للبشر عظمة الأمويين ببياضك والعباسيين بسوادك واليمانيين باحمرارك وجيش النبوة باخضرارك ، واتلُ على الناس :

إنا لقوم أبت أخلاقنا شرفًا *** أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا


بيضٌ صنائعنا ، سودٌ وقائعنا *** خضرٌ مرابعنا ، حمرٌ مواضينا "" )).انتهى


ونقلتْ هذا المقال مع كلمة الأمير سعيد التي ألقاها في حينها جريدةُ النضال في عددها 1226 الصادر في يوم الجمعة 10/صفر/1363هـ الموافق 4/شباط/1944م .[كتاب (جهاد نصف قرن) ص98 ـ 101]
دمشق في آخر عام 1918م
بقي الأمير سعيد طوال الليل يتابع الأحداث مع رفاقه ((..وفي الصباح الباكر كلّف شاكر بك الحنبلي كتابة كتابين أحدهما للقائد الإنكليزي والآخر للقائد الإفرنسي لإبلاغهما تأسيس الحكومة الوطنية ولإنذارهما بعدم جواز دخول الجنود الأجنبية قبل إشعار هذه الحكومة ، عِلمًا منه بأن جيش الأمير فيصل لا يزال بعيدًا عن الشام وكان هو على علم واتفاق مع الأمير فيصل في (وَهيْد) غربي معان يوم اجتمع إليه فطلب منه فيصل أن يُعلن هذا الاستقلال وأن لا ينتظر قدومه خشية أن تسبقه جيوش الاحتلال .
وما طلع فجر 1/10/1918م حتى أحاطت بالمدينة جنود جيش يتجاوز العشرة آلاف جندي من جنود الإنكليز يتقدمه ماجور أوسترالي اسمه (الماجور آرتر أولدن) فأرسل الأمير رسولاً قابل القائد وسأله عن مطلبه فقال إنه يقصد احتلال فندق فكتوريا ورفع العلم الإنكليزي عليه بصفته أول جيش دخل ، كما كان مقررًا بين الجيش الإنكليزي والجيش الإفرنسي وقيادة الجيوش الشمالية التابعة للجنرال (اللنبي) .
وأمر الرسول بالرجوع ثانيًا وإبلاغ قائد الحملة ودعوته إلى الحضور إلى قيادته فأخَذَتِ القائد ريبةٌ لعلمه أن جمال الصغير كان بالأمس يسكن الفندق ولم يعلم ما حصل في الليل.
وما طال تردده بل ذهب إلى دار الحكومة ولما وصل إلى رتاج السراي خاطب السيد عبد الحليم اللاذقاني بالإنكليزية قائلاً :"إذا كان هناك حاكمٌ فليأت لعندي" وبقي حذرًا وسلاحه بيده مع زملائه الضباط . وخرج الأمير إلى الشرفة وخاطب القائد باللغة الإنكليزية قائلاً له :"اصعد إلى هنا ، هنا الأمير سعيد" فبغت القائد حينما سمع صوتًا جهوريًا بالإنكليزية يُملي عليه أمرًا عسكريًا فما وسعه إلا الامتثال.
ولما دخل الميجر الاسترالي (آرتر أولدن) قائد الطليعة الإنكليزية التي دخلت دمشق ، على الأمير في دار الحكومة بادره قائلاً بواسطة الترجمان :"ولماذا دخلت شاهرًا السلاح لمدينة مستقلة لها نظامها ولها تقاليدها؟"
فردّ الضابط قائلاً :"دخلت بأمر من الجنرال (اللنبي) لمدينة يحكمها الترك لاحتلالها احتلالاً عسكريًا"
وردَّ عليه الأمير :"إذن ينبغي أن تعلم أنك على خطأ بقولك أنك دخلت لاحتلال مدينة تركية وما كان ينبغي لك أن تدخل وجيشك شاهرين سلاحكم لمدينة تملك حريتها واستقلالها ، ولولا أنكم تنتسبون إلى حكومة حليفة لما اعتبرناكم ضيوفًا عندنا وطلبنا إليكم أن تنسحبوا"
وإزاء هذا الأمر الواقع لم يسع الماجور إلا أن يتراجع بنظام مجيبًا الأمير بقوله :"يا سمو الأمير! نحن لم ندخل إلى العاصمة بقصد الإساءة إلى حكومة حليفة لنا بل جئنا لنضع هذا الجيش تحت تصرفكم لتتمكنوا بواسطته من توطيد الأمن بعاصمةٍ خلت من رجال الأمن والشرطة"
فقال الأمير :"إن الأمن في البلاد كان بيد أهل البلاد زمن الترك وأنت حينما دخلت بجيشك هل وجدت غير الهدوء والسكينة والنظام؟ ولما كان عندنا من الجند المتطوع ورجال الدّرك والشرطة ما يخولنا إمدادكم بصفتكم حلفاء فنحن على استعداد لمعونتكم"
فانحنى الماجور وشكر الأمير ورجاه أن يمدّه بأدلاّء يذهبون معه لجهة باب شرقي حيث لايزال في تلك الجهة فلول من بقايا الجيش التركي والألماني.
ونادى الأمير الأميرالاي زكي بك العظمة وعزت بك الخوجة وأمرهما بالذهاب مع الجيش الإنكليزي شرطَ أن لا يتدخلا بأي أمر حين لقاء فلول الترك بل عليهما أن يأمراهم بالتسليم باسم الحكومة المؤقتة . وهكذا حصل ، وقد سلّم الترك لمجرد إخطارهم بالتسليم من قِبَل الضابطين العربيين.
وما كادت هذه الحادثة تنتهي حتى دخل الشريف ناصر ووراءه 30 فارسًا فدخل على سمو الأمير وسلم عليه ولمّا علم أنه رسول الأمير فيصل وأول طليعة له ؛ ولمّا كان الأمير ليس ممن يشتغلون في خدمة الوطن لطمعٍ وهو يعلم أخلاق الناس ما يعلم ، وخوفًا من أن يحدث تصدع في الصفوف من أجل هذا الكرسي المؤقت الذي شغَلَه بكل جرأة ودراية ، كلّف الشريف ناصر بإشغال كرسي الحكم ريثما يصل الأمير فيصل ، فاعتذر هذا بمرضه الشديد وقال له :"يا للعجب أما تلقيت كتابًا من الأمير يرجوك فيه إدارة الحكم حتى حضوره؟" فأجابه بالنفي.
وقد ظهر أن الأمير فيصل بعث بكتاب مع فائز بك الغصين سلّمه بالفعل لجماعة زعمت أنها من أنصاره ، وقد لعبت أيدي الطامعين بهذه الرسالة ؛ وبناءً على إصرار الشريف ناصر بعدم إمكانه إشغال هذا المنصب لمرضه كلّفه الأمير سعيد أن يكتب له تفويضًا بإدارة الحكومة حتى حضور الأمير فيصل ، فكتب ما يلي : (إن سمو الأمير محمد سعيد مكلّف بإدارة الحكومة لحين حضور مولانا سمو الأمير فيصل) الإمضاء ناصر بن راضي رسول الأمير))

((وأمر الأمير سعيد جماعته باستصحاب الشريف ناصر وجنوده إلى داره العامرة بالعمارة والقيام بضيافتهم . وما كاد يذهب الشريف إلى دار الإمارة حتى دخل (لورنس) ومِنْ ورائه جموع العرب وفي مقدمتهم سلطان باشا الأطرش والشيخ عودة أبو تايه وغيرهم .

فتقدم الأمير من لورنس وأبلغه بأن هنا حكومة مؤقتة أعلنها باسم جلالة الملك حسين وأراه العلم الذي أتى به الأمير عبدو أخوه من الحجاز ، فدخل لورنس البهو الكبير وهناك أخذ ذوو المطامع بدس الدسائس بحق الأمراء الذين كان لهم الفضل بتوطيد الأمن ولولا قيامهم بعملهم المفاجئ وإعلانهم الاستقلال لَنَسَفَ الألمان العاصمة بالمدافع التي وضعت بجبل قاسيون وأُعدت لنسفها في آخر لحظة ، ولكن إعلان الاستقلال بتلك الجرأة أوقعهم بتلاشٍ فلم يتمكنوا من غايتهم وإن تمكنوا من إحراق الذخائر ونسف باركات السيارات في أطراف المدينة ولا تزال آثارها باقية إلى الآن في باب شرقي والقدم)).
((ولما كانت هناك خطة مدبّرة ترمي إلى وضع الحكومة تحت نفوذ الإنكليز الذين لم يمكنهم الأمراء الجزائريون من بغيتهم فقد أصبح وجود الأمراء على رأس الحكم عقبة كأداء في سبيل المطامع الإنكليزية وتأمينًا لهذه الغاية فقد دسّ بعضهم على الأمراء بأنهم يتآمرون مع الشريف ناصر الذي أخذوه إلى دارهم مع أن دعوتهم للشريف ناصر صدرت بناءً على حقوق الضيافة ، ولصلة الأمير سعيد بالأمير فيصل صلةً سبقت كل هذه الحوادث يوم مقابلته له في 6 آب بمقر جيوشه بـ(وهيد) غربي معان وما قام الأمير سعيد بكل هذه الحركات إلا لإنقاذ البلاد من الفوضى وإبعاد مطامع الأجانب عنها وكان يصرف على الفرقة المتطوعة من ماله الخاص مما لم يُسبق له نظير بين الذين اشتغلوا بالسياسة ومع ذلك فقد تنحى عن الحكم بملء إرادته واختياره تاركًا الحكم لذوي المطامع وإن ما كتبه (لورنس) في كتابه (ثورة في الصحراء) لأعظم دليل على صدق ما نقول .
وبينما كان الشريف ناصر على وشك الجلوس على مائدة الأمير سعيد جاء رسول (لورنس) وهمس في أذن الأمير طاهر ، بوجوب ذهاب الشريف ناصر مع أحد الأمراء إلى مقرّ الحكومة حالاً ، فرفض الأمير عبدو أخو الأمير سعيد الطلب وأجاب الرسول بأن الشريف يحضر بعد تناول الطعام .
وما ذهب الرسول إلا ليعود بسرعة البرق لينذر الشريف ناصر بهذا القول :"إذا لم يحضر الشريف ناصر إلى دار الحكومة سريعًا ، فإني أحضره بالقوة وألقي القبض على الأمير سعيد"
وامتنع الشريف ناصر عن الطعام حينما سمع هذا الإنذار وطلب من الأمير سعيد أن يرافقه قائلاً :"ربما حدث حادث مهم أو جاء خبر من الجبهة يدعو إلى ذهابنا حالاً"
جرت هذه الحوادث بينما كان الأمير (سعيد) منهمكًا في الإشراف على الموائد لمئات الضيوف والحاضرين وقد تصرف الأمير عبدو دون علم أخيه وكان ..كثير الاعتداد بنفسه وله مواقف مع لورنس يوم كلّفه بنسف الجسور فوق نهر اليرموك للخط الحجازي (ورفض ذلك).
وما كادت السيارة تذهب ، حتى انتخب الأمير عبدو عشرة من فرسانه المغاربة يحملون البنادق الألمانية والسيوف فوصل إلى السراي حينما كان أخوه يهمّ بدخولها ، وكان في الصالون الكبير رضا باشا الركابي ، ونوري الشعلان ، وشكري الأيوبي ، ورضا العابد ، وأحمد قدري ، وشريف الكيلاني وغيرهم ، وكانت الجنود الإنكليزية التي لحقت بلورنس تحيط بالسراي مع فرسان من جماعة نوري الشعلان!.
ولما دخل (الأمير عبدو) كان الشرر يتطاير من بين عينيه لِما سمع من تهديد لورنس ـ وهو البطل الوحيد الذي لم يقهر لورنسَ في الصحراء سواه ـ وقد اعترف لورانس بشجاعته في كتابه (ثورة في الصحراء) وعدّ ذلك تعصّبًا دينيًا .
وقد ضحى الأميران بالمال والروح في هذا السبيل دون أن تبدو منهما بادرة طمعٍ بالمناصب والمقامات ومع ذلك كانا عرضة للدسائس التي كادت تودي بحياتهما معًا لولا مشيئة الله أن تنحصر الكارثة بواحد منهما)).
((واقترب الأمير عبدو من أخيه وهمس في أذنه مستأذنًا بالكلام فنصحه بالصبر ولكن هذا ، وكان الغضب آخذًا منه كل مأخذ ، قال بصوت جهوري مخاطبًا لورنس :"يالورنس! أنت تهدد أبناء عبد القادر بالسجن مساقًا بدسائس الدسّاسين وأنت تعلم أننا لا نخشى الحبس ولا الموت بل لا نخشى أحداً سوى الله، نحن أتينا بهذا العَلَم الذي يخفق منذ الأمس وقد استلمته من الملك حسين بن علي بعد أن طيف به حول الكعبة وصلى عليه أربعون ألف مسلم ، وهو يخفق الآن فوق الرؤوس ولن يتزحزح من مكانه حتى تراق آخر نقطة من دمائنا حسبنا أننا أعلنا الاستقلال ووطدنا الأمن وإذا كان الخصام على هذا الكرسي فنحن نرفسه بأرجلنا"
وما كاد يصل إلى هنا ، وكان لورانس قابعًا لا يتكلم ، بل يحمرّ ويصفرّ ، حتى وقف الدكتور أحمد قدري ، فقال للأمير عبدو :"هناك سوء تفاهم يا أمير" . فغضب وقال :" لا يجوز لأحد أن يقاطعني" واستمرّ في كلامه وتقدم من شكري الأيوبي ووضع يده على رأسه وقال له :"ألم نتعاهد يا شكري على خدمة هذه البلاد بكل تضحية دون أن نطمع بالمناصب؟ فقال : نعم .
فقال :"إذن استلموا هذا الكرسي المؤقت ، المفروض علينا المحافظة على هذا العلم وعلى استقلال البلاد"
وما كاد يصل إلى هذا الحد حتى قام أخوه ؛ وقد عَرَفَ بالدسيسة ؛ فقبّله وقال له : حقًا يا أخي أنت جدير بأن تكون حفيدًا لعبد القادر . والتفت للحاضرين وقال لهم :"إني تنازلت مقدمًا عن هذا الكرسي للشريف ناصر ولم أشغله إلا للضرورة المحتمة وها أنا نزولاً على رأي أخي أتنازل عنه باختياري"
ثم انصرف الأميران ، وما كاد يصلان إلى دارهما حتى اضطرب حبلُ الأمن واضطرت السلطة لوضع المدافع الرشاشة على منافذ الطرق لأن العشائر من عربان ودروز كانت تملأ المدينة وما أوقفها عن الاصطدام ببعضها سوى الخضوع للأمراء الذين لهم محبتهم وشعبيتهم في نفوس أبناء الوطن ولأنهم كانوا يبذلون المال بكرم في سبيل إعلاء كلمة الوطن .
ومرّ بعض الفرسان الدروز متجهين نحو حي الأكراد لغزوه لثأر قديم عليه ، فما كان من وطنية الأمير عبدو إلا أن ركب فرسه بمفرده وأرجعهم من قرب جادة الشيخ محيي الدين ..وكان هذا خاتمة أعمالهم .
وامتلأت الساحات بالقتلى ويربو عددها على الثلاثين ملقاة جثثهم بالطرق ورُفِعت أعواد المشانق أمام دار الحكومة للإرهاب ولولا خوف هياج الشعب لرُفِعَ على أعواد المشانق كثيرٌ من الأبرياء .
وإنّا رعايةً لهذه الظروف نضرب صفحًا عن التفصيل وفيه ما تبيض له وجوه وتسودّ له وجوه)).انتهى [من كتاب (جهاد نصف قرن) لأنور الرفاعي ص103 إلى ص 109]

كان الضابط البريطاني لورنس شديد الكره للجزائريين وبخاصة للأمير عبدو لأنه لمس فيه قوة ، ووجده عقبة كبيرة في طريق مخططاته ، ووصفه فيما بعد في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) بعدوّه القديم، ورفض باسم بريطانيا تأليف هذه الحكومة المؤقتة ، وعيّن شكري بك الأيوبي سرًا حاكمًا عسكريًا على جميع المناطق في حالة دخول القوات البريطانية التي أرسلها الجنرال (اللنبي) لاحتلال المدن ، ودخول مدينة دمشق ، ورفع العلم البريطاني على مقر الوالي التركي المنسحب ، قبل دخوله إلى جانب الأمير فيصل .
إنّ الكولونيل لورنس البريطاني والجهات الاستعمارية وعملاءهم أدركوا منذ أمدٍ أن الأمير سعيدًا وأخاه الأمير عبد القادر الحفيد (عبدو) لن يكونا متعاونين معهم وأنهما أصحاب مبادئ إسلامية يصعب تجاوزها ، ومِنْ ثَمَّ فإنهما سيكونان عقبةً في طريق الاستعمار ، فلا بد من إزاحتهما عن الطريق وبسرعة!!
وفي صباح اليوم التالي حصل حادث أليم ومفجع ؛ لقد اغتيل الأمير عبدو في شارع العفيف ، وهو على صهوة حصانه ، بطلقات نارية أُطلقت عليه من الخلف فأصابت ظهره وكان فيها حتفه، رحمه الله .
((وبينما كان الأمير سعيد ذاهبًا لملاقاة محمد علي التميمي الذي عينه مديرًا للشرطة يوم إعلانه الاستقلال ، لقيه هذا المدير ومعه قائد الدرك سعدي كحّالة فوق جسر المرجة فأشارا لسيارته بالوقوف ، فوقف الأمير وهو خالي الذهن من كل حادث فسألهم ماذا تريدون؟ فأجابوه : إن رضا باشا الركابي يطلبك . فقال ها أنا ذاهب إليه . وهكذا صعد الأمير إلى السراي ، وما كاد رضا باشا الركابي يشعر بمجيئه من ياوره حتى دخل غرفة معاونه وكان يومئذ عادل أرسلان فسأله الأمير :"ماذا تريدون مني؟" فأجابه : ليس الباشا هو الذي طلبك وإنما الماجور (ستيرلنك) . فترك الغرفة وأراد الذهاب لعند الماجور فاعترضه سعدي كحّالة ومحمد علي التميمي وسألاه فيما إذا كان يحمل سلاحًا فنهره الأمير وقال :"ألا تستحي من توجيه هذا السؤال إلى من ولاّك هذا المنصب وله الفضل فيما حصلت عليه البلاد؟" فوجم التميمي واحمرّ خجلاً ولم يزد كلمة واحدة ، ولمّا أراد الأمير أن يركب سيارته أُبلِغ أنها صودرت بأمر الحاكم العسكري وقدّم له رجال البوليس عربة حقيرة فامتنع عن ركوبها وفضّل المشي على الأقدام ، ولمّا مُنع عن ذلك قال للشرطة :"إما أن أسير على قدمي وإما أن تركبوني هذه العربة وأشار إلى عربة الحاكم الواقفة أمام دار الحكومة ، وهذه العربة أيضًا صودرت من جنرال تركي اسمه مصطفى رمزي باشا ، وهكذا ركب الأمير العربة وحولها عشرات من فرسان الدرك المدججين بالسلاح ووجهتُهم سراي المشيرية التي كانت مشغولة من الإنكليز فأدخلوه على الماجور (ستيرلنك) فرحّب به ، ولمّا سأله عن سبب طلبه بهذا الشكل الذي يتنافى مع العدل ولا يتناسب مثل هذا الإجراء مع أمير له عمله الإنساني وخدمة الوطنية ، فأجابه ستيرلنك بأنك موقوف لإرسالك (للرملة) أنت وأخوك لعند الجنرال (اللنبي) . وقد كتم عنه قتل أخيه خشية أن يثور. فأجابه الأمير :"إن مثلنا لا يحتاج أن يرسل موقوفًا فنحن على استعداد للذهاب حيث شئتم من تلقاء أنفسنا ونحن مستعدون أيضًا أن نأتيكم بكفلاء ، ونحن جبيننا ناصع ولا نخشى من أحد إلا الله الواحد الأحد ما دمنا لم نفعل شيئًا يخالف القانون"
فقال ستيرلنك : إن ما تقوله صحيح ولكني مأمور بإرسالكم مخفورين إلى الرملة . فأخذوا الأمير إلى غرفة خاصة بقي فيها إلى المساء .
وبعد هذا جاء ضابط إنكليزي واستصحب الأمير مع نفرين من البوليس الإنكليزي إلى معتقل (المزّة) فوضعوه بغرفة على التراب لا تحتوي على شيء من مقاعد ولا فرش ..)) [جهاد نصف قرن ص122]
وعند منتصف الليل سُمِح لابن عمّه الأمير كاظم أن يدخل عليه ليُخبره باستشهاد أخيه.
وعندما سأل الأمير سعيد الجنرال البريطاني عن سبب اعتقاله ((أجابه الجنرال بأن الحكومة تتهمه وأخاه بأنهما ادّخرا السلاح وساعدا الأتراك!!(انتبه أخي الكاتب والقارئ) وغير ذلك من التهم التي لا تنطبق إلا على الذين سوف يكشف الزمان عن ماضيهم الأسود)) [المرجع السابق ص125]
ثمّ سُمِحَ للأمير سعيد بالذهاب إلى بيته وقتيًّا . ((وما كاد الأمير سعيد يعود إلى بيته ويستقرّ به المقام حتى أخذت وفود المدينة تأتي للسلام والتعزية وكان في مقدمة من حضر العلماء وعلى رأسهم المحدّث الشيخ بدر الدين الحسني والعلاّمة السيد محمد بن جعفر الكتّاني )) [المرجع السابق ص125]

وبعد يومين من دفن الأمير عبدو ، أي في 5/10/1918 أذاع الأمير فيصل بلاغًا أعلن فيه تشكيل حكومة سورية دستورية عربية مستقلة [انظر (الوثائق التاريخية المتعلقة بالقضية السورية في العهدين الفيصلي والفرنسي) لـ حسن الحكيم ص37] .
وفي 10/12/1918 ، زار الأمير فيصل (لندن) العاصمة البريطانية ، وفوجئ بتأكيد البريطانيين له أن اتفاقية سايكس ـ بيكو بتقسيم البلاد العربية أمر واقع ، وأن ما حملهم على إخفائه عن والده الشريف حسين إنما هو رغبتهم في متابعة العرب الحرب إلى جانب الحلفاء على تركيا ، كما أكدوا له بما لا لبس فيه أن بريطانيا العظمى غير مستعدّة للتراجع عن وعد بلفور الذي أعطته لليهود، وأن في نيّة بريطانيا منح فرنسا المناطق الساحلية الواقعة غربي دمشق ومدن حمص وحماة وحلب ، وأما وعد بلفور فقد قضت به ظروف دولية .[انظر (السياسة الدولية في الشرق العربي) لـ عادل إسماعيل الجزء الرابع]
وعاد الملك فيصل خائبًا ، وكان يَعِدُ نفسه منذ سنين لتولي عرش سورية ولبنان وفلسطين ووالده خليفة للعرب والمسلمين ، عاد ليجد أن البلاد أصبحت كالطريدة تتقاسمها الذئاب الجائعة.

وأكتفي بهذا العرض وبتلك النقول التي تبيّن وبجلاء أن الاتهامات التي وجهها الأخ الكاتب للأمير عبد القادر وأحفاده ، لاسيما الأمير سعيد ، هي اتهامات باطلة.

وأظن أنه أصبح واضحًا للجميع أن الأمير عبد القادر وأبناءَهُ وأحفاده كانوا دائمًا موالين للخلافة العثمانية الإسلامية ، ومعادين للسياسات الأوربية الاستعمارية . ولا أظن عاقلاً يصف المواقف التي وقفها الأمير سعيد أو الأمير عبدو بالمواقف الماسونية أو العميلة!

وللفائدة فإنّ الأمير سعيد الذي يتّهمه الكاتب بالعمالة والماسونية ، كان يسعى وبكل جهد لأجل دعم الثورة الجزائرية لتحرير الجزائر من الفرنسيين ، وكان يجري الاتصالات مع كل الزعماء والملوك العرب للحصول على دعمهم ومساندتهم ، ومن هؤلاء الملك سعود بن عبد العزيز ، وعندي صورة عن الرسالة الجوابيّة التي أرسلها الملك سعود للأمير سعيد وسأرفق صورتها لكم، وإليكم نصها :


بسم الله الرحمن الرحيم

المملكة العربية السعودية
عدد
15/1/2/689 في 14من شهر ربيع الأول سنة 1376

((من سعود بن عبد العزيز إلى صاحب السعادة الأمير محمد سعيد الجزائري سلّمه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : وبعد فقد تسلمنا رسالة سموّكم المؤرخة 23 محرم 1376 وشكرنا لكم ما أعربتم عنه من عواطف طيبة كما شكرنا لكم هديتكم الثمينة التي هي كتاب الله عزوجل .
أما فيما يتعلق بقضية الجزائر فنحن والحمد لله ما توانينا منذ البداية عن بذل الجهود في مساعدتها كما أننا لن نتوانى بحول الله وقوته على ذلك فهي قضية العرب والمسلمين أجمعين .
نسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والعروبة والسلام)).انتهى

وبالمناسبة فإنّ الأمير سعيد كان يحترم دولة آل سعود ويرفض أي صدام معها ، وكان له دور بارز في منع الصدام وهذا يشهد له به المؤرّخون.
يقول الأستاذ المؤرخ أنور الرفاعي (فأخذت الإشاعات تروج بأن الأمير فيصل يرغب بإرسال الجنود العرب السوريين إلى الحجاز لقتال عبد العزيز بن سعود الذي كان قد اختلف مع الملك حسين في الجزيرة العربية ، واتّجهت أنظار اللبنانيين إلى الأمير سعيد لترشيحه على عرش سورية ولبنان ، فلقد جاء في جريدتي النادي والروضة اللتين تصدران في بيروت بتاريخ 26 تموز 1919 مايلي :""في دار سمو الأمير سعيد عبد القادر
ما بلغ منشور التجنيد في الشام مسامع أهل حلب وحمص وحماه حتى توافدت الجماهير لبيت سمو الأمير سعيد من كل هذه الأقطار المذكورة يستغيثون به ويلتمسون ترشيحه للإمارة السورية حفظًا لحقوقهم وحقنًا لدماء أبنائهم الذين يتهددهم الموت في محاربة ابن سعود ، وكلّهم برأي واحد ، يؤيّدون هذا المبدأ بكل ما لديهم من القوة ويطلبون راية سورية مستقلة ، شعارها حكومة ديموقراطية لا صبغة فيها لملك الحجاز ؛ فوعدهم الأمير خيرًا ولو اقتضى الأمر بذل النفس والنفيس ، فخرجوا وكلّهم صوت واحد يصرخ : فليحيا الأمير محمد سعيد"")) [جهاد نصف قرن ص135]

فائدة:إنّ المغاربة الجزائريين كانوا ـ ومنذ بداية قيام الدولة السعودية الأولى بمشاركة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب ـ رافضين للانحياز إلى جانب دون آخر من المسلمين!
جاء في رسالة السيد محيي الدين بن مصطفى الحسني ؛ والد الأمير عبد القادر ؛ والتي أرسلها إلى أخيه السيد علي بو طالب ، في رحلة الحج: ((... فقد أنعم الله علينا بتمام الحج والعمرة، فلله الحمد والمنة؛ فقد يسّره الله علينا مع تضييق الزمان علينا لأنّ أهل مصر امتُحنوا بالفتنة وامتنعوا من الذهاب في البرّ وعطّلونا)) [وقصده بالفتنة ثورة المماليك على أمير مصر] إلى أن قال ((وعطلونا إلى الثاني عشر من ذي القعدة .. ثم قال: وعجّل اللهُ علينا بفضله فمكثنا في البحر ثمانية أيّام ، الحاصل بين مكّة ومصر أربعة عشر يومًا ، ووقفنا بالأربعاء ... إلى أن قال: ((إنّ السلطان [أي أمير مكّة فيما يظهر] حاصر خلقًا كثيرًا من الحجاج المغاربة وأجبرهم على الخروج ليجعلهم عسكرًا يتقوى بهم على الوهّابيين [والحرب التي تحدث عنها محيي الدين كانت بين أمير مكة وأمراء نجد الوهابيين] ثم قال: ((وكذلك كان مصير الركب الشامي ـ ثمّ ذكرَ أنّ المغاربة رفضوا كما رفضَ أهل الشام التجنيد الإجباري ، واستعمل المغاربة السلاح ومات من الجانبين أموات)).انتهى[بحروفه من مقال للأستاذ المهدي البوعبدلي بعنوان (وثائق أصيلة تلقي الضوء على حياة الأمير عبد القادر) منشور في مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة في الجزائر العدد 75 رجب 1403هـ ،أيار 1983م ص134، والتعليقات التي بين المعقوفتين للبوعبدلي].

وللفائدة: فإن الأمير سعيد ـ الذي يصرّ البعض في أيّامنا هذه على اتهامه بالماسونية مع أنّه تبرّأ منها وتركها!ـ كان مسلمًا محافظًا على صلاته إلى آخر لحظة من حياته ، ليس هذا فحسب بل إنه ما ترك صلاته ولا تكاسل عنها حتى وهو في المعتقلات وفي أصعب الظروف . يروي لنا الأستاذ أنور الرفاعي ما جرى مع الأمير سعيد وهو في المعتقل في مصر بأوامر الجنرال (اللنبي) : ((وفي (القنطرة) اقتيد الأمير إلى معسكرات الاعتقال الكبرى التي أقامها البريطانيون لأسرى الترك ، واستقبله ضابط إنكليزي قاده إلى خباء كبير وسط فسحة صغيرة تحيط بها الأسلاك الشائكة ، وفي وسطها سرير واحد أُعدَّ له ؛ أما رفيقاه فما كان عليهما إلا افتراش الثرى . وفي الصباح استيقظ الأمير على عادته ، وبعد الوضوء خرجَ فأذّنَ بصوت عالٍ وتقدّم لصلاة الصبح ، فإذا عشرات من العمال والأسرى المسلمين الذين استيقظوا على صوته وهو يُنادي : حيَّ على الصلاة ، حيَّ على الفلاح. وهي أوّل مرّة يسمعونها في تلك المعتقلات ، فسارعوا إلى مصدر الصوت واقتدوا به في الصلاة، وبعد أداء فريضة الصبح التفّوا حوله ، وعرفوه وحيّوه ، مما أزعج قادة المعسكرات وخشوا حدوث فتنة وتمنوا الخلاص منه)).انتهى [جهاد نصف قرن ص153]
وأختم الكلام عن الأمير سعيد بما قاله الأستاذ أنور الرفاعي في نهاية حديثه عن جهود الأمير سعيد إبّان الانتداب الفرنسي: ((ولم يقْصِر الأمير سعيد همّه ونشاطه على هذا الباب من العمل في الحقل الوطني بل كان في طليعة العاملين في شتى ميادين الجهاد الوطني ، فلقد ترأس 1ـ جمعية الخلافة الإسلاميةعقب الحرب العالمية الأولى على أثر إخراج أتاتورك سلائل آل عثمان من بلاد الجمهورية التركية وإنهائه الخلافة العثمانية .
وترأس لجنة الدفاع عن الخط الحديدي الحجازي الذي اغتصبته شركة دمشق ـ حماة وتمديداته واستثمرته. ونجح في المساعي بإعادة الخط إلى الأوقاف الإسلامية.
3ـ وترأس جمعية مقاطعة شركة الكهرباء والترامواي في دمشق لغلوها في استثمار امتيازاتها.
وكان كل من يمر بالبلاد من شخصيات شرقية وغربية يتصل بالأمير ويعجب بنشاطه وثقافته ووطنيته وكرمه ، كـ (شوكت علي) زعيم المسلمين في الهند الإسلامية وغيرهم .
كما كان الأمير على اتصال بالسنوسيين زعماء طرابلس الغرب يؤيدهم في أعمالهم ضد الطليان ، وكان الأمير سعيد إلى جانب هذا وذاك دائم التفكير بوطنه الأول "الجزائر" الذي جاهد لأجله جدُّه الأكبر عبد القادر ودافع عنه دفاع الأبطال ، فكان لا ينقطع عن العمل في سبيل استقلاله في كل فرصة مواتية ...)) [(جهاد نصف قرن) ص183]
وأخيرًا وليس آخرًا فإن الأمير سعيد كان له موقف عظيم من المخطط اللعين الذي يقضي بسلخ فلسطين من الجسد العربي ، (( وعندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على النهاية وانكسرت دول المحور واستسلمت ألمانيا ، شعر الجميع بنشاط الصهيونيين وميل الرأي العام الأوربي والأمريكي المنتصر على الألمان إلى مشاريع اليهود العامة ، فشعر الناس بكارثة عظيمة ستنزل بفلسطين وبالعرب فيها ، وشعر الأمير سعيد كما شعر كثير غيره من المخلصين أن الاستعداد لحمل السلاح أمرٌ يحتمه قانون تنازع البقاء في فلسطين ، فما كاد يُعلَن قرار التقسيم الجائر حتى نشر الأمير نداءً عامًا وزّعه على جميع أنحاء العالَمين العربي والإسلامي يدعوهم فيه إلى حمل السلاح ، ويدعو المغاربة أبناء شمال إفريقية الأشاوس بصورة خاصة إلى تلبية نداء الواجب المقدس في بطاح فلسطين ، نقلته أكثر الصحف العربية ، وقد نشرته مجلة "المصري أفندي" في عددها 16 تاريخ 25/12/1947م تحت عنوان : ((هبّوا إلى حمل السلاح معشر العرب)) ، ونشرته جريدة "الإصلاح" الجزائرية في عددها 71 من السنة الحادية والعشرين بتاريخ 25/ربيع الأول/1367هـ الموافق 5/2/1948م بعنوان : ((نداء من حفيد الأمير عبد القادر بمناسبة حادث تقسيم فلسطين..))
((.. ومن أشهر برقياته تلك التي بعثها إلى الجامعة العربية ونشرتها أكثر الصحف السورية والمصرية ، منها جريدة "العلم الدمشقية" في عددها 445 تاريخ 19/2/1948م وهي :

الأمير الجزائري وموقف الجامعة العربية

فيما يلي نص البرقية التي بعث بها سمو الأمير سعيد الجزائري إلى الجامعة العربية
مصر: أمين الجامعة العربية
باسم الإفريقيين المغاربة ورجال الثورة في سورية وفلسطين الذين درسوا معنى الموت حق الدراسة ، مستعدون وأنا على رأسهم لإنزال ضربة ساحقة على رأس الصهيونية المجرمة آخذين على أنفسنا خوض الحرب حتى النهاية دفاعًا عن أولى القبلتين ، معلنين للملأ ولجامعتكم الكريمة أن إفريقية الشمالية بما فيها طرابلس الغرب جزء لا يتجزأ من القارة العربية ، ولا يمكن نهوض الإسلام والعرب وتوطيد السلم العام إلا بتحريرٍ كامل. اللهم إنا قدمنا أرواحنا في سبيلك حاكمين على الأثَرَة والأنانية بالموت ، اللهم فاشهد . الأمير سعيد.انتهى

ولم يكتف بالبيانات والبرقيات بل تبرّع من ماله الخاص لتأليف فرقة مغربية تحمل السلاح وتحارب إلى جانب المجاهدين العرب والفلسطينيين ، وصار يخرج معهم إلى ميدان التدريب العسكري ...)).انتهى [(جهاد نصف قرن) ص227ـ228]
ملاحظة مهمة: كان الأمير سعيد يمتلك أراضي واسعة ومزارع في منطقة الجولان ، فعرض عليه بعض اليهود أن يبيعها لهم مقابل قرى كاملة في حوران (وذلك قبل 1948) ، فرابه الأمر وشعر أن هذا الإغراء يخفي وراءه أمرًا خطيرًا ، فرفض العرض ولم يلتفت للإغراءات المالية .

فبعد هذا العرض هل يُقال عن أمثال الأمير سعيد (الطابور الماسوني الخامس)؟؟!!
لقدكان الأولى بالأخ محمد مبارك صاحب (فك الشفرة) أن لا يتسرّع في إطلاق التهم والأوصاف الشنيعة.
وأظن أنه أصبح واضحًا الآن دور الأمير فيصل ووالده الشريف حسين ، ومن وافقهما .
وأسوق تعليق المؤرّخ الكبير الأستاذ محمود شاكر على الأحداث التي جرت مع الشريف حسين وابنه فيصل وحلفائهم من أهل الشام ولبنان ، حيث قال : ((ويمكن القول إن عددًا من الزعماء المسلمين العرب كانوا يريدون إصلاح الجهاز الإداري ، وتأدية الخدمة العسكرية محليًا ، والمحافظة على اللغة العربية ولا يريدون الانفصال عن الدولة العثمانية وتجزئتها أبدًا . غير أنهم وقعوا في شباك أصحاب الفكر القومي ، والآراء الغربية ، والافتتان بأوربا ، وبالتالي بالتأثير النصراني، والتوجيه الخارجي ، والاتصالات الأجنبية ، والجهل لا يُعفي من المسؤولية ، والسذاجة لا يرضى بها الإسلام . أمّا النصارى من رعايا الدولة العثمانية ودعاة القومية فقد كانوا على صلة بالأجنبي ، ويطالبون بالانفصال ويدعون إلى ذلك ، ويُعادون الإسلام بكل وقاحة)) .انتهى [التاريخ الإسلامي 8/227]


والحمد لله رب العالمين


خلدون بن مكي الحسني


للبحث صِلَة إن شاء الله

لتحميل المشاركة على شكل ملف وورد : الحلقة العاشرة من الرد على الشبهات

[1] ـ من مقال لجميل بيهم : المنار الجديد العدد (13) .


>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

السلام عليكم شيخنا بارك الله فيك وجزاك خيرا ان شاء الله كان لي سؤال هام الى حضرتكم لكني لا استطيع التواصل على الخاص ارجو منكم مساعدتي فالامر هام والسلام

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :

أرجوك يا الحاج بارك الله فيك أريد الحلقات السابقة رجاءا أرجوك أرجوك بريدي الالكتروني - ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯ ط§ظ„ط¥ظ„ظƒطھط±ظˆظ†ظٹ ط*ط°ظپ ظ…ظ† ظ‚ط¨ظ„ ط§ظ„ط¥ط¯ط§ط±ط© (ط؛ظٹط± ظ…ط³ظ…ظˆط* ط¨ظƒطھط§ط¨ط© ط§ظ„ط¨ط±ظٹط¯) -
أو www.maktoob.com/elhakim1971

شكرا مسبقا

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :

أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أشكر الأخ الفاضل أبا عبد الله على مشاركته الكريمة . وأقول : صدقت يا أخي ، فإنّ الناس لو كانوا يعرفون سيرة هذا الأمير وتاريخ بلادهم لما استطاع أحد أن يغرر بهم ويشوّه لهم صورة رجالاتهم وعظمائهم .
وما أذكره في هذه الحلقات إنما هو غيض من فيض ، وليت إخواننا في الجزائر خاصة يطالعون كتب علمائهم المؤرّخين الكبار ، فإنّ أمثال الأستاذ أبي القاسم سعد الله ، لم أجد لهم نظيرًا في وطننا العربي ، وإنّ إنتاجه العلمي الخاص بتاريخ الجزائر ورجالها لهو من أبدع ما كتب ، اعتمد فيه الأستاذ على البحث والتمحيص والتنقيب ، والجمع الواسع للحوادث والوقائع .

وأشكر الأخ الكريم طه الهلالي على مشاركته ولطيف ثنائه ، وإن شاء الله ستجد في الحلقات القادمة الجواب على أسئلتك ، وبارك الله فيكم.

وشكرًا للأخ kious99 وبارك الله فيكم


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

أخي الكريم سعودي بشير السلام عليكم ورحمة الله

بوسعكم الحصول على جميع الحلقات من خلال هذا الرابط :

https://www.djelfa.info/vb/forumdisplay.php?f=110

بارك الله فيكم


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
نشكركم جزيل الشكر عن هذا العمل الجبار، خدمة للتاريخ و الجزائر والعروبة و الإسلام،
وذلك باسم كل جزائري غيور على تاريخه و وطنه.وفقكم الله لما يحبه و يرضاه.
والسلام.