وأخيرا زرت الجزائر، ورأيت الجزائر، وامتلأت بحب وكرم وشهامة الجزائر،فشكرا للجزائر أرض البطولات وميدان التضحية ومهد الثورة وميلاد الاستقلالومعترك النضال، وعرين البسالة، ومعدن الأصالة، شكرا للجزائر حكومة وشعباعلى ما غمرونا به من كرم واحتفاء ومحبة ووفاء، وود وصفاء. شكرا لكل جزائرييمشي مرفوع الهامة قوي الهمة، لأنه آمن بالله ورسوله وحرر أرضه من المحتل،وحفظ هويته الإسلامية وبذل نفسه في الوغى، وجاد بدمه على تراب أرضه. شكرالكل جزائرية حيث الديانة والصيانة، والعفة والحياء، والعلم والثقافة،والصبر والتضحية. شكرا لشيوخ الجزائر فقد ذكرت بهم كفاحهم العظيم يومقدموا مليون ونصف المليون شهيدا، فدحروا فرنسا وكسروا قناة الاحتلال. شكرالشباب وشابات الجزائر، فما منهم إلا ابن مناضل أو مناضلة أو أخ لشهيد أوقريب لبطل أو صهر لفارس أو نسيب لرمز. شكرا لشعب الجزائر العظيم، الذيذكرني بعظمة الإسلام لما زرته، وبعث في نشوة المجد وحرك في لواعج الشوقلماضينا المجيد وتاريخنا المشرق ورسالتنا العالمية، فاضت دموعي في الجزائرثلاث مرات، مرة يوم أنشدوا نشيدهم الوطني في جامعة الأمير عبد القادرالجزائري بقسنطينة، فقام الناس كما الغمام احتراما للجزائر، فقمت معهم أناوالمشايخ معي الدكتور يحيـى الهنيدي، والدكتور عبد الرحمن القحطاني،والشيخ محسن الزهراني، من السعودية، وتذكرت وأنا واقف جهاد الجزائريينوتضحياتهم وأمامنا ألوف الرجال والنساء، وقد رفعوا هاماتهم في السماء،وكان النشيد مؤثرا مبكيا مشجيا لشاعر ثورتهم مفدي زكريا، تقول بعض كلماته: يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب يا فرنسا قد دنا وقتالحساب فاستعدي وخذي منا الجواب فما وجدت تعبيرا أصدق من إرسال الدموع.
وفاضت دموعي في الجزائر، يوم دخلت الإستاد الرياضي في العاصمة الجزائرية،والناس أمامي كالغمام، وقلت في نفسي: من أنا حتى يجتمع لي الناس؟ من أناحتى تحتفي بي هذه الألوف؟ وأنا الإنسان البسيط المقصر؟ حتى قلت لنفسيمازحا والجموع كالبحر الهائج أمامي: (لقد ارتقيت مرتقا صعبا يا رويعيالغنم)، ولكني عرفت السبب، إنه الإسلام العظيم الذي أنا أحد خدامه الصغار،إنه الوحي المقدس الذي أحمل بعض نصوصه، إنها الرسالة المحمدية الخالدةالتي رويت بعض حروفها، وليس لشخصي الضعيف الفقير إلى الله. وفاضت دموعيمرة ثالثة في الجزائر، حينما كنا في الزحام، وإذا بعجوز جزائرية مسنة تشقالزحام، تريد حضور المحاضرة، فلما أبصرتنا داخل السيارة رفعت يديها تدعووتبكي. شكرا للكرم الجزائري، فكل بيت يرحب، وكل وجه يتهلل، وكل قلب يحيي،كلما دخلنا بيتا للضيافة قاموا كبارا وصغارا يتسابقون على الإكراموالإتحاف وحسن الضيافة، كلما دخلنا شارعا أو سكة رحب أهله وتبسموا ولوحوابأيديهم: أهلا وسهلا. وعرفت أن الكلمة اللينة والبسمة الرائقة تفعل فيالناس فعل السحر، فبادلنا الجزائريون حبا بحب، ووفاء بوفاء، من الرئيس إلىالعامل البسيط، فصافحنا العالم والمهندس والطبيب والأستاذ والفلاح ورجلالأمن والدرك، وتبسم لنا الشيخ المسن والطفل البريء، نعانقهم نمازحهمنتصور معهم. وشاهدت الإنسان في الجزائر إنسان الصبر والطموح والأملوالإصرار، وإنسان التضحيات مهما كانت ضخمة، وإنسان البسالة مهما كانتكبيرة. والجزائري يوم تأتيه بالكرم والرفق يجتهد أن يكون أكرم وأرفق، ويومتأتيه بالعناد والشراسة يجتهد أن يكون أعند وأشرس. أرض الجزائر جنة اللهالواسعة في الدنيا، جمعت بين الجبل الشاهق والتل الأخضر والسفح المائسوالهضبة الخاشعة والروض الأفيح والبستان الوارف والبحر الهائج والصحراءالوقورة الصامتة، أمامك حقول القمح مد البصر، وخلفك قمم الثلج منتهىالروعة، وعن يمينك صفوف النخل نهاية الحسن، وعن يسارك جداول الماء غايةالفتنة والسحر. الجزائري إنسان واضح مكشوف مباشر شجاع، خال من العقد،الجزائري إذا أحبك دفع دمه دونك، وإذا أردت أن تحط من قدره فالويل لك،الجزائريون أساتذة التحرير، والأستاذ لا بد أن يكون ذكيا شجاعا كريماصريحا وفيا وكذلك هو الجزائري، بلغت الجزائر سلام بلاد الرسالة ومهبطالوحي وأرض السعودية حكومة وشعبا، فردوا التحية بأحسن منها. وشكرا لسفارةخادم الحرمين الشريفين، والأساتذة والطلبة السعوديين، والملحق العسكري فيالجزائر، الذين أكرمونا غاية الإكرام، أهدى لي الجزائريون ست هدايا: فروةمحلية، وعباءة جزائرية ولوحة أمازيغية ومخطوطة نادرة وتمر الدقلة وحقيبةغالية، وأهديت لهم ست هدايا: كتاب لا تحزن، والتفسير الميسر، وأسعد امرأةفي العالم، وعلما نافعا، ومنهجا وسطيا، وشعرا خالدا، «إذا اختلفت الأجناسفبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد»، وفي جامعة منتوري بقسنطينة سبعون ألفطالب وطالبة اختلط عندهم التكبير بالهتاف والتصفيق، وأنا أحيـي جزائرالإسلام والثورة والاستقلال، وحاورت في الجزائر مجموعة من المسلحينالتائبين الذين ألقوا السلاح، وأجبت عن شبهة علماء السلطة، وأن المسجونمكره إذا تراجع، وأن من ألقى السلاح مرتد.
رجعت وتركت في الجزائر وفي عنابة وفي قالما وقسنطينة حبـي ودمعي وأشواقيوحنيـني. وقد هتفت بهذه الأبيات في الإستاد الرياضي بالجزائر أمام الجموع:
* حي الجزائر وأخطب في نواديها - شعب البطولات حيا الله طلعتكم
* كتبتموا بالدم القاني مسيرتكم - نصرتم الله في تحرير أرضكموا
* أنتم أساتذة التحرير ثورتكم - رصوا الصفوف على الإسلام وحدتكم
* وأبعث لها الشوق قاصيها ودانيها - كتائب البغي قد قصوا نواصيها
* اسأل فرنسا وقد خابت أمانيها - فصرتموا قصة للمجد نرويها
* للعالم الحر إيقاظا وتنبيها - محمد رمزها والله راعيها
* أتيتها وجناح الشوق يحملني - فصرت بين جموع الناس في لجب
* رجالهم كأسود الغاب في همم - فكلهم حاتم في بيته كرما
* يا جنة الله في الدنيا كفى خطرا - ترابها زعفران والربى حلل
* طاب الهواء وراق الماء وارتجلت - والشمس خجلى غمام الودق يسترها
* هذي الجزائر أرض الفاتحين بها - شكرا لكم يا نجوم المجد ما هتفت
* شكرا لكم يا أباة الضيم ما رفعت - شكرا لكم من بلاد الوحي أبعثها
* أكاد من فرحة البشرى أناجيها - من الأشاوس تشجينا معانيها
* حتى الغواني ظباء في مغانيها - وكلهم عنتر لو صاح داعيها
* من سحر عينيك قد ذقنا دواهيها - منسوجة بيد من صنع باريها
* حمائم الروض أبيات تغنيها - حينا وحينا بوجه الحسن يبديها
* منابر المجد تدريبا وتوجيها - ورقاء روض وماست في الربى تيها
* أعلامكم وسيوف الله تحميها - الدمع يكتبها والقلب يمليها