عنوان الموضوع : غسّان والزلزال!
مقدم من طرف منتديات العندليب
غسّان والزلزال!
خيري منصور
14/02/2016
الكتابة عن غسان كنفاني لا تحتاج الى مناسبة، لأنه بحد ذاته مبدعا وشهيدا مناسبة مستمرة، لكن ما حدث مؤخرا في بلدة أركوي الفرنسية يفضح مرة أخرى من اغتالوا غسان كنفاني لأنهم يعيدون اغتياله كاتبا، فقد استجابت فرنسا لضغط اللوبي الصهيوني ومنعت عرض مسرحية مأخوذة عن رواية غسان ' عائد الى حيفا' بحجة ان مؤلفها مناهض للسامية، ويصفه اللوبي الصهيوني في فرنسا بأنه كان ارهابيا. لقد كان غسان فريقا في رجل واحد، يكتب وينقد ويترجم ويرسم ويناضل سياسيا، لهذا اعدوا له ما يكفي لفريق وليس لرجل نحيل واحد من الديناميت، بحيث تطايرت اشلاء جسده واشلاء جسد ابنة شقيقته لميس على السطوح المجاورة، وما كان اللوبي الصهيوني ليجرؤ على مثل هذه المواقف لولا استجابة البلدان التي يعيش فيها وينخر في ثقافتها ومؤسساتها، وقد سبق ان خضعت فرنسا لهذا الضغط بعد صدور كتاب لروجيه غارودي عن اساطير الصهيونية السبع، وتكرر الموقف ذاته مرارا مع البروفسور فوريسون والاب بيير وآخرين، ومحاكمة غسان كنفاني بتهمة العداء للسامية او الارهاب بأثر رجعي هي مجرد بداية لنبش قبور شهداء وعرب قاوموا الاحتلال، لهذا يجب ان نخرج جميعا عن صمتنا دفاعا عمّا تبقى، وهو ما أنجزه رجال ونساء افتدوا بحياتهم شعوبا اسيرة، تأقلمت مع الأسر وأوشكت ان تطرد من التاريخ.
لقد وصف محمود درويش الشهيد غسان كنفاني لحظة رحيله بأنه غزال بشّر بزلزال، وبالفعل، لم تهدأ ترددات ذلك الزلزال رغم العطب الذي أصاب مقياس ريختر السياسي لا الجيولوجي، ومن دقّ الخزان نيابة عن ربع مليار من الرهائن، فضح بدوره ذوي القربى ممن دفعهم الوعي الزائف الى البحث عن بديل للوطن وهو مجرد خيمة أخرى، حتى لو كانت من حجر او رُخام!
كان غسان قد بشّر بشعراء المقاومة رغم تحفّظنا على ما أصاب هذا المصطلح من أورام، وكان اول من كتب عن تحالف الادب الصهيوني مع عصابات شتيرن والهاجانا، فهو الذي كتب باستقصاء بليغ عن جورج اليوت، ورواية ' لصوص في الظلام' اضافة الى رواية ليون اوريس 'اكسودس' او الخروج، ذلك لأن وعي غسان كنفاني امتاز بشمولية نادرة في سن مبكرة، وهذا ما جعله يدرك أن كتابة الرواية والقصة لا تنفصل عن الرصد المعرفي لعدو متعدد الخنادق ويوظف كل شيء في حربه ومشروعه الاستيطاني ..
واذا كان غسان قد بقي حيا وراعفا بعد ان اخطأ الاغتيال تراثه، فإن بعض شخوص أعماله لا يزالون ايضا على قيد التاريخ، حتى لو فارقوا الحياة، كأبي الخيزران الذي نسي من ائتمنوه على حياتهم داخل الخزان وهو مستغرق في رواية مغامراته الجنسية رغم انه عنيّن، فإن قادة الحافلات والنظم هم من السلالة ذاتها، منهم من يستغرق في رواية انتصاراته وهو مهزوم حتى النخاع، ومنهم من يشهر خيزرانه او صولجانه وهو لا يدري بأن السوس يعشش فيه، ومن دفعوا حياتهم ثمنا لصمتهم الخائف ولم يدقّوا جدار الخزان ليسوا أبطال رواية ' رجال في الشمس' فقط، انهم شخوص رواية قومية كبرى تمتد صفحاتها كالتوابيت من الماء الى الماء، واحيانا من الدم الى الدم! ومن وشمت ذاكرته بالبرتقال الحزين لم تأسر عقله وقلبه نوستالجيا الحنين الى مسقط الرأس، فكتب عن آسيوي يموت وحيدا على سرير في ظهيرة صحراوية سوداء وكتب عن خذلان الآباء للأبناء، وأدان حتى من هاجروا عام 1948 ونسوا ابنهم الوحيد الذي تربى في احضان عائلة يهودية استولت على البيت وبعد عشرين عاما ... أنكر الابن ابويه.. فهو ضابط في الجيش الذي شرّد أهله، لكن هذه الرؤية المعقدة لدى غسان في روايته الاشكالية ' عائد الى حيفا' لم تعامل حتى الان بالجدية التي تستحقها، فقد وضع أصبعه على الجرح، ونكأه حتى نزف ولم يتوقف نزيفه حتى الآن!!
كان غسان حزمة من الاهداف لعدوه الذي يحاول الان اغتياله مرّة اخرى في آركوي الفرنسية، لأن هذه المدينة كما يقول فقهاء الاغتيال ذات علاقة مع مدينة الخليل الفلسطينية، ولا يدرك هؤلاء ان فك الارتباط بين مدن وكائنات وتقاويم ليس ميسورا لأحد، حتى لو كان من يحرك هذا الكوكب او يوقفه بأصبع واحد ... ولعل ما يزعج اللوبي الصهيوني في فرنسا وأوروبا كلّها، هو هذه الصحوة التي اعادت الى القارة شبه المحتلة رشدها بعد سبات طويل دام عدة عقود ... فالعزف على وتر الذاكرة الآثمة والهولوكوست لم يعد يطرب احدا، وفقدت هذه الاطروحة صلاحيتها ونفوذها، والناشطون من مختلف انحاء اوروبا ممن يحاولون كسر الحصار واقتحام الجدران العنصرية هم طلائع موجات قادمة، لهذا فإن اعادة اغتيال غسان كنفاني سوف تنتهي الى تعزيز قيامته الثانية وولادته الألف. نذكر في هذا السياق كيف وقف اسحق شامير امام الكنيست ذات قصيدة لمحمود درويش بعنوان 'عابرون في كلام عابر' ليقول بأن صاحب هذه القصيدة ارهابي، ويحرض على قتل اليهود، لأن درويش قال لهم بأعلى صوته الجهوري اخرجوا من جرحنا ومن بحرنا ومن برنا ومن ملحنا... ولم يدرك شامير يومئذ انه كان رغما عنه يتيح لهذه القصيدة المزيد من الاختراق للضمير اليهودي. لقد بشّر غسان بزلزال كما قال توأمه الجليلي، تماما مثلما بشّر محمود نفسه بزلزال آخر بحيث لم تكن سداسية حزيران ( يونيو) نهاية المطاف ولم يفلح الاحتلال في رهانه على ضحية خرساء، فالضحية كانت وستظل أبلغ من جلادها وصوتها هو الأعلى، وامثال غسان يموتون لكي يعيشوا جداً، منهم يفيضون عن مساحات قبورهم ومساقط رؤوسهم، وتتحول توابيتهم الى مهود لملايين الاطفال الذين يولدون من صلب اعمالهم والوطن الذي أرّخوا لعذاباته وأشواقه!
ما كتبه الراحل د . يوسف ادريس عن غسان في مقدمة اعماله الكاملة يتخطى الرثاء الى سداد الدّين، لأن مديونية الدم باهظة، لهذا كانت المقدمة بمثابة اعتذار في بعدها الاخلاقي، اما في بعدها الادبي فهي شهادة كاتب كبير ورائد عن زميل مبدع، فغسان لم يقترض من دمه ما يضيف اليه قيمة ابداعية، وهو الذي سخر ذات يوم من شعار رفعه بعض الكتاب وهو استبدال الحبر بالدم، وثمة وصف آسر في احدى قصص غسان لجسد الأرض الذي امتلأ بالجراح، فارتدت فوق اديمها عباءة وارفة من شقائق النعمان، اما هو فقد ارتدت العاصمة التي شهدت استشهاده على ذلك النحو التراجيدي شقائق الغسان لا النعمان، مثلما تحولت المقبرة التي حلّ فيها الى قيامة. وقد يسخر الذرائعيون والكلبيون ممن أكلوا بأثدائهم قبل ان يجوعوا من اي احتفاء كهذا بمبدع آخى وتوأم بين السّلاح والقلم وكان رهانه على التئام التوأمين، ذلك لأن هؤلاء يظنون ان زمن غسان قد ولى، وان الفرار بالجلد هو سدرة المُنتهى لمن لا مبتدأ لهم ولا مطلع او منبع، لكن التاريخ تولى تقديم كل ما يكرس صدقية هذا الرائي الذي صمت في أوج مراحل النُّضج، وهو يتهيأ لاستكمال مشروعه الكبير، وثمة مثقفون من العرب وغير العرب اعترفوا بأن مصائر زملائهم ومنها مصير غسان أحرجهم، فاعتذروا كل بطريقته الى من فضح عري الأباطرة والجنرالات وزعماء القبائل. لقد كان آخر ما كتبه غسان مقالا مشحونا بوعي عميق ومفارق للسائد العُرْفي، لأنه أبصر الشجرة والغابة معا، ولم يكن مصطلح المقاومة بالنسبة اليه ضيّقا بمساحة فوهة مسدس، لهذا قاوم بالمعرفة اولا، واخترق الحاجز الذي حال زمنا دون فهم العدوّ ورصد اسلحته الأخرى ومنها توظيف الادب بعد أدلجته لصالح الاحتلال، وحين يصف اللوبي الصهيوني في فرنسا غسان بأنه ارهابي، فإن المفارقة تصل ذروتها الكوميدية .. وهذه التبرئة لقاتلي غسان من الارهاب ومن دمه هي جريمة اخرى تضاف الى قائمة جرائم الصهيونية، ولو كنا اوفياء لمن افتدونا لعرضنا كل مسرحية تطارد من اعمالهم في العواصم الاسيرة في كل مدرسة وحارة ومقهى وجامعة في بلادنا ...
لكن من ماتوا صمتا لأنهم لم يدقوا جدران الخزان يحكم عليهم الان ان يتقلبوا في قبورهم وهم يرون ابناءهم واحفادهم يموتون للسبب ذاته، ويسلمون امرهم لأولي القهر والزّجر من امثال ابي الخيزران الذي يخون الأمانة ويستغرق في رواية مغامرات متخيلة عن فحولته الجنسية، وذلك على سبيل التعويض لأنه عنّين الروح ومخصيّ الجسد.
ان ملايين الرهائن من العرب يموتون الان في مختلف الخزّانات لأنهم يصمتون ولا يتجرأون على الصراخ او دق الجدران حتى تدمى قبضاتهم عليه، لهذا فالامة بأسرها واسراها في الشمس وليس شخوص رواية غسان فقط، وارض البرتقال الحزين اتسعت لتشمل النخيل والأرز والزيتون والقمح في خريف قومي استطال وقضم الفصول كلّها!!
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :