عنوان الموضوع : حزب الله....رؤية مغايرة
مقدم من طرف منتديات العندليب
حـــزب الله .. رؤية مغايرة!!(2)
من هامش الحياة إلى نسيجها
"النظام اللبناني غير شرعي ومجرم" و "من الضروري تسلُّم المسلمين الحكم في لبنان كونهم يشكلون أكثرية الشعب"(1).
فَتْوَيَانِ: الأولـى خمـينية، والأخرى خامنئية، وضعتهما الحركة الشيعية في لبنان في بؤرة القلب وبؤبؤ العين، ورفعتهما إلى مرتبة الهدف الذي يُسعى لتحقيقه.
كما أفتى رئيس المجـلــس الإسلامي الشيعي الأعلى، مهدي شمس الدين بذلك أيضاً حين قال: إن الدولة وجدت نـتـيـجـــة لعقْدٍ، هذا العقد تبرمه الأكثرية من المواطنين بإرادتهم الحرة، فينتج عن إبرامه كيان الدولة، ومن المؤكد أن التنازل عن الهوية الثقافية والدينية ومظاهرها في المؤسسات والقوانين يـتـنـافى مع موجبات هذا العقد، ولا يؤثر على موجبات هذا العقد موقف الأقلية التي توافق علـى التنازل عن هذه الهوية؛ فإن على الأقلية في هذه الحال أن تخضع للأكثرية(2).
وفي معرض رده على الأسئلة الموجهة إلـيـــه فـي أحد البرامج قال محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله - هكذا يلقب -: لم يـكـن هؤلاء الذين حكموا العالم الإسلامي في الماضي يحكمون باسم الإسلام؛ فنحن لا نعتقد - عـلـى سـبـيـل الـمـثـــال - أن الحكم العثماني كان عادلاً وحراً وإسلامياً!!(3)،(4).
وهكذا يُخرج الفقهاء الشيعة فتاويهم دون اعتبار لعامل التاريخ أو الجغرافيا ومن دون تقية كذلك.
ولأثـر الــتـبـديـل فقد احتل الفقهاء والآيات والحجج مكانة عالية بلغت درجة التقديس، وأضـحــت الفـتــاوى الصادرة عنهم، بل حتى الكلام المجرد من القداسة الدينية، يتمتع بمرتبة القداسة في نفوس أتباعهم.
وكما مر - في الحلقة السابقة - فقد دأب الفكر الإمامي على ربط "الأمة" الجعفرية برموز غير قابلة للنقد أو الـتـجـــريــــح، وأعطاهم - أو أعطوا لأنفسهم - صلاحيات وصلت إلى خصائص الإمام الغائب المعصوم، المعيَّن من قِبَلِ الله - تعالى -!!
ولقد تجاوزت هذه الصلاحيات مـــا كان يتمتع به الشاه المستبد الطاغية الدكتاتور عميل الإمبريالية والصهيونية!! فقد أقر مجلس الخبراء الإيراني إعطاء الولي الفقيه صلاحيات تفوق ما كان مخولاً به للشاه السابق، ونص على ذلك في المادة (107)(5) والفقرة (110) من الدستور الإيراني(6).
"الثورة الإسلامية في لبنان" هذه العبارة هي آخر ما تقرؤه على علم "حزب الله" في لبنان. والثورة بهذا الوصف محاولة استنساخ للثورة الأم في قم وكلتاهما ثورة آيات، أي أن العلم الديني الإمامي هو أساس التصور والحركة؛ فالثورة - بحسب المعلن - ثورة دينية: إمامها فقيه، رئيسها فقيه، وزيرها فقيه؛ فالمثال الذي ينبغي وضعه نصب العين هو إرادة الفقهاء، ولهذا فقد كان للحوزات والحسينيات دور هام في غرس مفاهيم التقديس، وفي إمداد الثورة بالوقود البشري.
الملالي.. ومدارج المعالي:
مع نهاية الغيبة الصغرى المدَّعاة للمهدي وجد علماء الشيعة أنفسهم في حيرة شديدة؛ وذلك خوفاً من انكشاف حقيقة أمر الغيبة والمهدي ودعاوى أخرى كثيرة لا تمتُّ إلى الحق بسند ولا نسب، فأخرجوا مرسوماً منسوباً إلى مهديهم الغائب يقول فيه: أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله. ثم أتبعوه بمرسوم آخر يقول فيه: أما من الفقهاء من كان صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً مولاه فللعوام أن يقلدوه(7).
ولهذا فقد وَسِعَ إمامهم المعاصر أن يقول: إن الفقهاء "هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليهم، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك، وعلى كلٍ فقد فوَّض الله إليهم جميع ما فوض إلى "الأنبياء" وائتمنهم على ما ائتمنوا عليه"(8).
"فإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا"(9).
وقد نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وعلماء أمتي كالأنبياء السابقين"(10) بل إنه لم يجد حَرَجاً في أن يقول: "الفقيه ـ الرافضي ـ بمنزلة موسى وعيسى"(11)!!
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقول أحد المسؤولين الإيرانيين: إن الخميني أعظم من النبي موسى وهارون(12). وترتفع وتيرة التجاوزات في إعطاء الصلاحيات لفقهاء المذهب حين كتب آية الله آزاري قمي يقول: ليس لدى الولي الفقيه أية مسؤولية أخرى غير إقامة نظام الحكم الإسلامي، حتى لو اضطره ذلك إلى أمر الناس بالتوقف مؤقتاً عن الصلاة والصيام والحج.. أو حتى الإيمان بالتوحيد!!(13).
ويستمر التضليل بمحاولة الإقنــاع أن الفقهاء لا دخـل لهم في وظائفهم وخصائصهم؛ بل إن "الفقهاء معينون ضمناً من قِبَل الله"(14) وبذلك تكون سلطة الفقيه سلطة إلهية.
وبهذه المراسيم والقوانين والتحذيرات والتهديدات أصبحت سلطة الفقهاء فوق كل السلطات ولا تخضع لأي سلطة كانت، وكما يقول الخميني: وإذا كان السلاطين على جانب من التدين فما عليهم إلا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن الفقهاء، وفي هذه الحالة، فالحكام الحقيقيون هم الفقهاء، ويكون السلاطين مجرد عمال لهم(15).
ولم يخرج محمد حسين فضل الله عن هذا الخط الساخن الرافع أقدار الفقهاء إلى منازل النبيين.
حيث يقول: إن رأي الفقيه هو الرأي الذي يعطي الأشياء شرعية بصفته نائباً عن الإمام، والإمام هو نائب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، فالإمام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والفقيه العادل هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم(16).
والواقع أن شرعية كل الأمور تنطلق من إمضاء الفقيه لها، وهذا يعني أن رئيس الجمهورية لا يستمد سلطانه من الشريعة الإسلامية، أو الدولة الإسلامية - من انتخاب الناس له - وإنما من إمضاء الفقيه لرئاسته، والأمر ذاته يطبق بالنسبة للنواب في مجلس الشورى والخبراء في مجلس الخبراء وغيرها من المؤسسات الدستورية في الدولة(17).
وقد حرصت السياسة الإيرانية على الاستحواذ الكامل على إعداد (رجال الدين الشيعة) في لبنان، كما حرصت على إيلائهم دوراً متصدراً في الساحة اللبنانية؛ فهؤلاء وحدهم الذين يُضمَنُ ولاؤهم للقيادة الإيرانية ولسياستها، كما يَظهرون بأنهم القادرون وحدهم على صبغ المجتمع الشيعي اللبناني بصبغة عميقة تحصنه من التأثيرات المخالفة للنفوذ الإيراني والمنافسة له. وتتوسل طهران وقم بالتعليم الديني لتأطير الاجتماع الشيعي اللبناني تأطيراً متيناً، فتحل نخب ثقافية جديدة محل النخب المدنية التي تدين بعقائد سياسية أخرى، كما حدث بإحلال "حزب الله" محل "أمل".
وبهذا فقد تحقق نجاح كبير في إنجاز أحد أكبر الأهداف، وهو تأطير "الأمة" الشيعية بسياج الآيات وتجييشها تحت قيادة واحدة؛ وعليه فلا عجب أن نرى قوافل متوالية من الشباب الشيعي يضحون بأنفسهم في سبيل طاعة الفقهاء، وهذه الطاعة والسيطرة المطلقة كانت نتيجة لجهد كبير بذله الفقهاء على مر التاريخ الإمامي. يقول د. موسى الموسوي معللاً كيفية سيطرة الفقهاء الشيعة على الأمة الإمامية: لقد استغلّت الزعامات المذهبية والفقهاء عبر التاريخ - ومنذ أن بدأت تُحكِم علينا الطوق - سذاجتنا - نحن الشيعة الإمامية - وحبَّنا الجارف لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحدثت في مذهبنا بدعاً وتجاويف وتجاعيد كل واحدة منها تخدم مصالحهم، وفي الوقت نفسه تضر بنا بل تنسفنا نسفاً. إن كل واحدة من هذه البدع أُدخلت في عقيدتنا - نحن الشيعة الإمامية - لإحكام طوق العبودية علينا والتحكم فينا كما يشاء الفقهاء؛ إذن السذاجة وحدها لم تلعب الدور الكافي، بل استغلال الفقهاء حبَّ الشيعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافاً إليه البدع التي أحدثوها في العقيدة جعلت من الشيعة أداة طيعة للفقهاء، يضحون في سبيل مآربهم في ساحات الوغى مرة وفي ساحات البلاء مرة أخرى، ولم يكن الفقهاء وحدهم هم الذين لعبوا هذا الدور الخطير في انحراف الشيعة عن نهجها الصحيح القويم المتمثل في تبعيتهم لفقه الإمام الصادق، بل كان للفقهاء أجنحة أخرى استمدّوا قوتهم منها وهم الرواة ورجال الحديث والمفسرون الذين نسبوا إلى أئمتنا الكرام - زوراً وبهتاناً - روايات وأحاديث كلها تؤيد البدع والتجاويف والتجاعيد التي أدخلوها في العقيدة الشيعية لصالحهم، وتفسير الآيات القرآنية حسب أهوائهم بصورة تخدم أهواء الفقهاء، وبهذين الجناحين استطاع الفقهاء أن يحكموا قيود الاستغلال والاستبداد على أعناق الشيعة عبر التاريخ. كان فقهاؤنا على علم كامل بالنفسية الشيعية التي كانت مهيأة للخضوع إلى ما يُطلب منها في عهد الظلام؛ فنصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليهم.
وأعتقد جازماً أن فقهاءنا لم يقصدوا من استعبادنا - نحن الشيعة الإمامية - بالسيطرة الروحية والفكرية علينا فحسب، بل كانوا يخططون لأمرين كل واحد منهما أخطر من الآخر: كانوا يخططون للسيطرة على أموال الشيعة، ومن ثم الاستيلاء على مقاليد الحكم. فأدخل الفقهاء تلك البدعة الكبرى في العقيدة الشيعية، وفسروا الآية الكريمة التي تقول: ((واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ...)) [{الأنفال: 41]}، بأن هذه الآية نزلت في أرباح المكاسب في حين أن المفسرين وأرباب الأحاديث والفقهاء أجمعوا على أنها نزلت في غنائم الحرب ولا علاقة لها بأرباح المكاسب، ثم أفتوا بوجوب تسليم هذا الخمس إلى يد الفقهاء، وأضافوا أن الشيعة إذا لم تسلِّم خمس أرباحها إلى يد المجتهد أو الفقيه فإن صلاتهم باطلة وصومهم باطل وحجهم باطل... وهكذا دواليك، وخضعت الشيعة المسكينة إلى هذه الفتوى التي ما أنزل الله بها من سلطان. وها هم عبر التاريخ يقدمون إلى الفقهاء خُمس أرباح مكاسبهم، ولم يحدث قط أن نفراً منهم قد سأل هؤلاء الشركاء الذين لا يشاركون الشيعة في رأس المال ولا في التعب والكد والجهد؛ بل يشاركونهم في الأرباح فقط: من الذي جعلكم شركاء في أرباحنا؟ وما الأدلة التي تستندون عليها؟ ولماذا نكدح ونكافح نحن، وأنتم قاعدون تجنون ثمار تعبنا؟
لقد خضعت الشيعة لهذه الضريبة الجائرة بلا سؤال ولا ضجر، فاحتلبهم الفقهاء كما تُحتلب الناقة الطيعة. ولم يقنع الفقهاء بمشاركتهم في أرباح الشيعة، بل زعموا أنهم ولاة عليهم يجب إطاعتهم، ومن خرج عليهم فقد خرج على الله، ومن رد عليهم فهو كالراد على الله يجب قتله وقمعه من الوجود. فخضع كثير من الشيعة لهذه الفاجعة الفكرية وقبلوها وآمنوا بها وضحوا بأنفسهم وأولادهم في سبيل هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الإلهية وبدون أن يساندهم دليل أو يقف معهم برهان؛ بل إن الذي يدَّعونه لا يتناقض مع عقيدة التوحيد والشريعة الإلهية فحسب، بل يتناقض مع مبادئ العقل والبدهيات الأولية، حقاًّ إنه من الأمور المحزنة أن تواجه الشيعة محنة فكرية كهذه، وكثير منهم يؤمنون بها، ويتفانون في سبيلها(18).
لا عزاء للملة.. ولا للملالي:
قام النائب الشيعي الجنوبي رشيد بيضون يصيح في جلسة البرلمان اللبناني في 11-5-1944م، مطالباً بمنح الطائفة الشيعية حقوقها قائلاً: امنحوها حقها في الوظائف، وفي العلوم والمعارف، مدوا الطرقات وسهلوا المواصلات في أرجائها المحرومة، عززوا فلاحيها وعمالها، تعهدوها بالعناية اللازمة انظروا إليها نظرة احترام كما تنظرون إلى غيرها(2). كانت هذه الحال وصفاً لواقع الحياة الشيعية السياسية في ذلك الوقت، أما في الجانب التعليمي، فبالرغم من هذا الإحكام الشديد لطوق السيطرة الدينية الشيعية على الناس، إلا أن الوضع الديني والاجتماعي والتعليمي بلغ في لبنان وضعاً مزرياً، "فهذه القرى العاملية لا يُذكر فيها اسم الله - تعالى - في ليل ولا نهار، ولا فرق عند أهلها بين رمضان وشوال، أما مكانة عالم الدين فانحطت إلى أسفل الدركات: فهذا يموت جوعاً ولا يشعر به إنسان، وذاك تتهجم السفهاء على كرامته، فلا يجد ناصراً ولا معيناً، وآخر يتحزب للبيك والنائب ليأكل الرغيف"(19)، وقد دفعت هذه الحال الحاج سليمان البزي - أحد وجهاء الجنوب - إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي - أشهر علماء العرب في العراق وقتها - يطلب أحد اثنين: السيد إسماعيل الصدر، أو السيد مهدي الحكيم، وقَبِلَ الحكيم المجيء على أن يُرسَلَ له مئتا ليرة عثمانية ذهباً.
كما عزف أبناء علماء كبار أمثال: محسن الأمين، وعبد الحسين شرف الدين وغيرهم عن طلب العلم الإمامي، بل وقد خلع بعضهم العمامة ولم يكمل العلم الشرعي وانصرف لغيره.
ولا يُخفي جواد مغنية مرارته حين يقول: إن ثلة من خيرة الشباب العاملي قضوا في طلب العلم والدين سنوات طوالاً، وبعد أن اجتمعت لهم الشروط تحولوا عنه مغتبطين حين وجدوا الفرصة للتحرر والانطلاق، هذه الظاهرة آيات بينات على عدم الثقة بمصير العلم ورجال الدين(20).
وكان طالب العلم في النجف يقيم مدة تؤهله لإصلاح إحدى القارات الخمس، فإذا عاد إلى بلده لم يحصل له من المال ما يتناوله حارس أو موظف بريد، فانحطت مكانة عالم الدين الاجتماعية والأدبية انحطاطاً ذريعاً، حتى لقد أخذ بعضهم على أهل جبل عامل ضنهم على العالم بالرغيف(21)!!
وقد تسببت هذه الحال في حسرة ومرارة شديدة لدى الشيعة؛ حيث مثلت هذه الحال حائطاً كبيراً أمام تحقيق الأحلام المنشودة، ولهذا يقول وضاح شرارة: ولا شك أن انصراف طلبة العلم الديني الإمامي إلى غيره وإحجام وَلَدِ من استووا أعلاماً على التشيع - ليس في جبل عامل أو لبنان وحده؛ بل في العالم العربي والإسلامي "الشيعي" كله - عن اقتفاء سنة آبائهم، ظهر ذلك بمظهر تنكب تاريخ برمته، ولما كانت الجماعة العاملية التي جرى مثقفوهـا مـن علماء وأفندية وأساتـذة علـى تسميتها بـ "الأمة" أناطت بتشيعها وببلائها وبلاء علمائها في حفظ التشيع ورعايته واستمرارها واستقلالها، وقع انقطاع المنقطعين عن طلب العلم النجفي عليها وعلى مثقفيها وقوعاً قاسياً وأليماً(22).
وقد كان من أسباب اضمحلال التعليم الإمامي في لبنان والعزوف عنه أنه كان يؤخذ على جامعة النجف - إضافة إلى البعد المكاني - انزواؤها وانكفاؤها، وبعدها عن العالم المحيط بها ومشكلاته وقضاياه، وإذ تركها من تركها منهم أقبل على السياسة وعلى الحياة السياسية إقبال النهم، وباشرها كتابة ودعاوى وتظاهراً وتنظيماً، أما من لم يتركها فقدم الدعوة إلى الإصلاح. واعتبر بعضهم أن أصل البلاء: هو عجز العلماء عن مماشاة العصر، وقال: "تطورت الحياة وجمدنا، وتكلم العصر وخرسنا، إن على العالم أن يتصل بجميع طبقات الشعب اتصالاً وثيقاً ويحيط بأحوالها مباشرة، ويسير بحسب التطور مع المحافظة على الدين الحقيقي"(23).
وبهذا فقد تمثلت المأساة الإمامية في لبنان في أمور عدة نوجزها بالآتي:
1 - غياب القيادة الدينية التي تمثل مرجعية واعية لتحقيق أحلام الطائفة.
2 - انكفاء العلم الإمامي على نفسه وعدم مواكبته لمتطلبات العصر.
3 - انحطاط مكانة العلم والعلماء بين عامة الناس وخواصهم.
4 - بُعد المدارس الدينية الشيعية الكبرى التي يتطلب شدُّ الرحال إليها والتحصيلُ العلمي منها مبالغَ مالية كبيرة، وهو ما لم يكن في مستطاع الكثير من الناس وقتها.
5 - انصراف أبناء العائلات الدينية الكبيرة والمشتهرة بأنها "بيوت علم ودين" عن طلب العلم الإمامي.
وهكذا اكتملت صورة المأساة للواقع الشيعي في لبنان، ولكن مع نهاية منتصف هذا القرن الميلادي كانت هناك بدايات جديدة لحياة جديدة.
التثوير قبل الثورة:
دفعت هذه المرارة علماء الشيعة إلى النظر بجدية للواقع اللبناني، كما كان النظر منصرفاً لحال بقية الأمة الشيعية؛ فخلال الفترة السابقة للثورة كانت الأفكار الثورية حول الحكم تتطور وتفصل في أوساط القوى المعارضة للشاه في عملية ملحوظة من التفاعل الشيعي الشامل. إن المدارس الدينية مثلت في قم بإيران وفي النجف بالعراق (وخاصة الأخيرة) دوراً جاذباً ونقطة التقاء للعلماء والفقهاء من إيران ولبنان والعراق؛ حيث أُرسيت الأسس من أجل رؤية عالمية مماثلة - وإن لم تكن متطابقة تماماً - وشبكة من الصداقات الشخصية والولاءات السياسية الدينية التي كان لها أثر هام على المنطقة بأسرها.
إن العلاقة بين الإمام موسى الصدر ورجال الدين الشيعة اللبنانيين الآخرين والخميني قد ساعدت في تأسيس الروابط التي سهلت فيما بعد دخول إيران الثورية إلى الساحة اللبنانية، وعلى الرغم من الطبيعة الشيعية الخاصة بمدرسة النجف، فإن هذه التجمعات ربما تكون قد ساعدت على التخفيف من حدة الطائفية الضيقة للعقيدة الثورية الجديدة(24).
وهكذا فقد مثلت المدارس الشيعية الكبرى بؤراً أساسية لتجميع الملالي وتوحيد الأفكار الثورية، التي كان على رأسها إقامة دولة شيعية كبرى تضم إيران والعراق ولبنان في بداية الأمر.
وعندما نظر علماء هذه المدارس إلى الحال اللبنانية التـي هــي أحـد أضلاع مثلث الحـلم، كان لا بد من تذليل العقبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الحلم، وكان التركيز العلاجي متوجه لحل الإشكاليات الخمس السابقة الذكر، وكان ذلك بسلوك خطين متوازيين في وقت واحد يلتقيان في مرحلة ما؛ فيشكلان نقطة انطلاقة واحدة، وكان الخطان هما: التثوير السياسي، والتثوير العلمي الديني، ثم ينتهيان إلى الثورة المسلحة.
التثوير السياسي:
عندمــا توفــي المرجعية العلمية لشيعة لبنان عبد الحسين شرف الدين (ت 1958م) طلب آل شرف الدين من أحد أقربائهم المجيء إلى مدينة صور لخلافة عبد الحسين في هذه المرجعية؛ حيث إنه قد نص على هذا الشخص لخلافته(25)، وكان جد هذا القادم هو عبد الحسين العاملي من بين مجموعة من علماء جبل عامل الذين التحقوا ببلاط الدولة الصفوية ليساعدوها في ترسيخ المذهب الشيعي في إيران. ولد المرجع في قم بإيران عام 1928م، ووافق آية الله محسن الحكيم على إرساله إلى لبنان(26)، كما كان والده أحد الآيات الكبار في إيران، وتخرج هذا "المرجعية العلمية" من جامعة طهران، كلية الحقوق والاقتصاد والسياسة، وبالرغم من ذلك فقد حصل على لقب "الإمام".
كان هذا الرجل هو موسى الصدر الذي تربطه صلة مصاهرة مع الخميني؛ فابن الخميني أحمد متزوج من بنت أخت الصدر، وابن أخت الصدر مرتضى الطبطبائي متزوج من حفيدة الخميني، كما يُذكر أن الصدر تتلمذ على يد الخميني في قم، وعندما قدم الصدر إلى لبنان وكان ذلك في عام 1958م، وكان عمره آنئذٍ ثلاثين عاماً فحصل على الجنسية اللبنانية مباشرة بناء على قرار جمهوري أصدره الرئيس شهاب (1958م ـ 1964م)(27) وكان هذا القرار فريداً من نوعه؛ لأن إعطاء الجنسية اللبنانية لغير النصارى أمر في غاية المشقة، فكان ذلك القرار بمثابة التمكين لأقدام الصدر في لبنان.
وكانت شخصية الصدر وبداياته ودوره وتحالفاته مثار كثير من التساؤلات؛ إذ أحاط بها الغموض الشديد وعلامات الاستفهام الكثيرة(28).
ومما يُعرف عن الشاه محمد رضا بهلوي - وهو شيعي أيضاً - أنه كان يقمع الحركات الدينية الشيعية داخل إيران، ويدعم توسعها خارجها وقد دعم الشاه حركة الدعوة التي يقودها (محمد باقر الصدر) في العراق، وموسى الصدر في لبنان(29).
وقد ذكر شهبور بختيار - الذي قلده الشاه السلطة في إيران حينما تركها - أن الشاه محمد رضا بهلوي كانت له أحلام توسعية كبيرة، فأرسل موسى الصدر إلى لبنان من أجل تعزيز مشروع إنشاء دولة شيعية تضم إيران والعراق ولبنان، ووعده الشاه بخمسمائة ألف دولار مقابل ذلك(30). واللافت للنظر والذي يؤكد التواطؤ الواضح لتنفيذ مشروع الدولة الشيعية الكبرى ذلك التوافقُ الزمني للبدايات في الدول الثلاث؛ فالخميني في إيران، ومحمد باقر الصدر في العراق، وموسى الصدر في لبنان، فهكذا كانت الأمور مرتبة ومعدة.
والآن نقف على الإنجازات التي حققها موسى الصدر للشيعة في لبنان، فقد حقق الصدر لشيعة لبنان عدة إنجازات تحولوا بها من هامش الحياة السياسية اللبنانية إلى نسيجها، بل وإلى عناوين موضوعاتها، وكان من أهم تلك الإنجازات:
1 - تحديث القيادة الشيعية:
آذن النهج الذي نحاه موسى الصدر في بناء القيادة الشيعية في العقد السابع بتحول كبير في أسلوب هذه القيادة وفي ترتيب معاييرها. فتصدى الشاب ذو الثلاثين ربيعاً لمثل هذه المهمة: مهمة القيادة من غير ادعاء علم يفوق فيه أقرانه، ومن غير الإدلال بإجازات ولا بتآليف أو اجتهادات. ولم يعنِ ذلك عزوفاً عن الخوض في المطالب الدينية.
فهو توسل إلى غاياته بالعمل السياسي الجماهيري، وبتكثير العلاقات ونسج الروابط التي تجعل منه وسيطاً وطرفاً في شبكة الروابط اللبنانية والإقليمية. فتوجت مكانته وإمامته فلاحَ نهجه في إظهاره من يتكلم باسمهم بمظهر القوة السياسية والاجتماعية التي ينبغي احتسابها في المشاريع العامة المختلفة، وانضوى إليه وإلى حركته معظم العلماء الشيعة اللبنانيين واعتزلته جماعات منهم.
إلا أن الدور السياسي لم يورث مرجعية دينية وفقهية، وقد بدا أن الصدر لا يوليها اهتماماً كبيراً، برغم حرصه وحرص شرف الدين - الذي قَدَّمَ الصدر ليخلفه - على تكثير العلماء، وتمهيد سبل إعدادهم. فتصدر الشيعة اللبنانيين تصدراً متنازعاً رجلُ دين لم يُجمِع أقرانه عليه، ولم يسعَ هو إلى مثل هذا الإجماع. لذا خلت مسألة المرجعية من كل مضمون، وجلاّ عنها كل إلحاح، فأثر موسى الصدر في إخلاء مسألة المرجعية من مضمونها وإلحاحها، برغم أن السياسة الخمينية تنهض في وجه من وجوهها على إنشاء سلك علمي وديني واسع ومتماسك تسوسه على نحو مركزي(31).
وبهذا فقد قضى الصدر على الزعامات الشيعية التقليدية التي لم تكن لها تطلعات ثورية، وارتضت واقع العيش اللبناني، والتمسك بالمكاسب الخاصة دون النظر لتطلعات وآمال وآلام الأمة الشيعية.
2 - وضوح التميز الطائفي:
اتخذ الصدر لإجلاء صورة الطائفية الشيعية أمرين مهمين:
الأول: تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:
جاهد الصدر كثيراً لضم الشتات المبعثر لشيعة لبنان، وما إن بدأ الالتئام حتى سعى إلى الانفصال التام بالشيعة باعتبارها طائفة مستقلة عن المسلمين "السنة" في لبنان، فقد كان للمسلمين في لبنان مفتٍ واحد ودار فتوى واحدة، وكان المفتي وقتها هو الشيخ حسن خالد - رحمه الله - وادعى الشيعة أن الشيخ حسن خالد رفض التوصل إلى عمل مشترك معهم(32)، وفكر الشيعة في إنشاء "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" عام 1966م ووافق مجلس النواب اللبناني على إنشائه واختير الصدر رئيساً للمجلس، وبهذا أصبح الشيعة طائفة معترفاً بها رسمياً في لبنان كالسنَّة والموارنة.
وأصبح هذا المجلس المرجعية السياسية والدينية الجديدة التي تهتم بكل ما يتعلق بالشيعة اللبنانيين وبجميع شؤون حياتهم ومماتهم!! وتحولت المرجعية بهذا المجلس من مرجعية فردية إلى مرجعية مؤسسية، وإن لم يتم التخلي عن دور المرجع الشخصي.
الثاني: تأسيس حركة المحرومين:
أخذت هذه الحركة في بدايتها السمة الاجتماعية، والمناداة بتحسين أحوال الشيعة في لبنان، وخاصة سكان الجنوب، ووضع لها الصدر شعارات براقة، كالإيمان بالله والحرية والعدالة الاجتماعية والوطنية وتحرير فلسطين، وأن الحركة لجميع المحرومين وليست خاصة بالشيعة، فنزعت هذه السياسة مع موسى الصدر إلى استدراك ما فات الشيعة اللبنانيين من لحمة ومن قوة، وذلك من طريق وصل ما انقطع بين المقيمين بالأرياف وبين النازلين المدن، وعن طريق تقريب ما تباعد بين أهل جنوب لبنان وبين أهل بقاعه أو شماله الشرقي، وكان على حركة الصدر أن تصور الفروق الاجتماعية والثقافية المتعاظمة في صفوف الشيعة في صورة الأمر الهين والثانوي، ولما كان "كلّ" الشيعة - شأن "كلّ" أو "جميع" أي جماعة - لا كيان لهم إلا متخيّلاً ومتوهماً ومرموزاً إليه، عمل موسى الصدر على نصبه وتجسيمه في شارات تقربه من المخيّلات، وتحمله على الحقيقة.
فكانت التظاهرات الكبيرة التي تجمع عشرات الألوف من الناس، وتضمّ أجنحة الشيعة اللبنانيين، في الجنوب والبقاع، وفي الريف والمدينة، وكان رفع "الحرمان" شعاراً ليميز الشيعة أنفسهم(33).
وكان العديد من الشباب الشيعي قد انضم إلى جماعات مختلفة، مثل التنظيم البعثي الموالي لسوريا والحزب القومي الاجتماعي السوري، وجبهة التحرير العربية التي يدعمها العراق، وبعض التنظيمات الماركسية المتعددة، ولقد كان من أسباب هذا الانضواء تحت هذه المذاهب المختلفة خلو الساحة السياسية من حركة شيعية تجمع هذا الشتات الكبير، كما أن هذه التنظيمات كانت تدفع رواتب مجزية لأعضائها، وقد كانت الحال الاجتماعية للشيعة شديدة في فقرها.
وعندما أعلن موسى الصدر عن حركة المحرومين، دخلها من دخلها من هؤلاء بما هم عليه من أفكار هذا الشتات الفكري والمنهجي، وكما ضمت الحركة تلك التشكيلة المختلفة، ضمت كذلك في ثناياها "الجماعة الإسلامية" أو الخمينية والإيرانية الولاء لاحقاً، وكانت هذه الأخيرة أكثر الجماعات المنضوية تحت عباءة الحركة، وقد سعت للاستيلاء على الحركة من داخلها والسيطرة عليها، فكانت حركة المحرومين هي "العباءة" التي لبستها وتسترت بها قبل أن يحين خلعها والسفور عن هوية سياسية ومنظمة مستقلة، ويبدو في تلك المرحلة أن الهم الأكبر كان جمع هذا الشتات الشيعي بأي شكل كان، تحت قيادة جديدة تستطيع المحافظة على هذا الجمع إلى حين.
وكذلك ذهب الصدر إلى علاج ما يلح عليه أهل الطائفة الشيعية من احتياجهم إلى مرافق يتوسلون بها إلى ما فاتهم من تحديث التعليم والإعداد المهني والرعاية الصحية والاجتماعية، فأنشأ مدرسة الخياطة والتفصيل، ومدرسة التمريض، ومدرسة جبل عامل المهنية التي تخرج منها أهم كوادر المقاومة المسلحة لحركة أمل فيما بعد، كما شهد بذلك نبيه بري - زعيم الحركة بعد الصدر -(34) كما أنشأ مبرة الزهراء ومستشفى الزهراء فيما بعد.
الثاني: تأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى:
جاهد الصدر كــثـيرا لضم الشتات المبعثر لشيعة لبنان ، وما إن بدأ الالتئام حتى سعى إلى الانفصال التام بالشيعـة باعتبارها طائفة مستقلة عن المسلمين "السنة" في لبنان ، فقد كان للمسلمين في لبنان مفت واحد ودار فتوى واحدة، وكان المفتي وقتها هو الشيخ حسن خالد رحمه الله وادعى الشيعة أن الشيخ حسن خالد رفض التوصل إلى عمل مشترك معهم(35)، وفكر الشيعة في إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عام 1966م ووافق مجلس النواب اللبناني على إنشائه واختير الصدر رئيسا للمجلس، وبهذا أصبح الشيعة طائفة معترفا بها رسميا في لبنان كالسنة والموارنة .
وأصبح هذا المجلس المرجعية السياسية والدينية الجديدة التي تهتم بكل ما يتعلق بالشيعة اللبنانيين وبجميع شؤون حياتهم ومماتهم!! وتحولت المرجعية بهذا المجلس من مرجعية فردية إلى مرجعية مؤسسية، وإن لم يتم التخلي عن دور المرجع الشخصي.
إلى هنا سنترك الصدر بهذين الإنجازين وسنعود إليه عندما يلتقي مع محمد حسين فضل الله في نقطة الانطلاق الثالثة.
التثوير العلمي والديني:
الدور الذي قام به الصدر حل بعض الإشكالات التي تواجه التجمع الشيعي بأمراضه المزمنة؛ ولكن بقيت بعض الإشكالات الأخرى التي لا يصلح لها الصدر ولا أمثاله، فبقيت قضية العلم الديني الإمامي: تدريسه، وتطويره، وتقريبه للناس، والترغيب في العودة إلى حِلَقه في الحوزات والحسينيات، ثم ربط ذلك كله بالهدف الأساس، وهو تحويل المجتمع الشيعي اللبناني إلى مجتمع حرب - على حد قول فضل الله نفسه - ليمهد للثورة وتحويل لبنان إلى دولة شيعية.
ولد فضل الله في عين عطا بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وتلقى تعليمه في النجف على يد محمد باقر الصدر ومحسن الحكيم، ويدعي فضل الله دائماً أنه ليس قائداً لأي حزب أو حركة، ولكنه يتمتع بنفوذ خاص بين جماهير الشيعة، وفضل الله رجل زئبقي التصورات والأفكار، ويجيد المراوغة الكلامية والتلاعب بالألفاظ، ولكن يبقى أن كل هذه المؤهلات لا تستطيع الحياد به أو أن يحيد هو بها عن هدفه الأساس في لبنان، ومن هذه الأفكار التي تبدو متناقضة متنافرة نراه يقول: أنا في الحقيقة رجل حوار، ولي كتب ومدرسة للحوار، وأطلب من الناس أن يحلو مشاكلهم عبر الحب والتفاهم وليس عبر استخدام العنف(36).
وسئل في حوار معه قريب(37): بالأمس دعوتم إلى التدرب على الحب "كما تدربنا على السلاح في لبنان" فهل يعني ذلك أن زمن السلاح قد ولى برأيكم؟ فأجاب: ليس من الضروري أن يكون زمن السلاح في المطلق ولى؛ لأن الحياة تحتاج بحسب طبيعتها إلى حركية السلاح وترتبط بها في الجانب الإيجابي أو السلبي، لكن المسألة التي أحب أن أؤكد عليها دائماً أن قضية الحب هي قضية الحياة؛ بحيث إنك عندما تملك السلاح - يجب أن تعيش معنى الحب في حركة السلاح في يدك؛ بحيث لا تحركه إلا من خلال خدمة الإنسان وخدمة الحياة بدلاً من أن تحركه لإسقاط الحياة. ومن المؤسف أن الناس لا يتدربون على الحب؛ بل إنهم يتدربون على البغض والحقد حتى أصبحنا نتحدث عن الحقد المقدس وعن البغض الإنساني.
هذا الكلام يجب أن نتذكر معه قول فضل الله وهو يخاطب جمهور المصلين في بلدة النبي عثمان قائلاً: وعلينا أن نخطط للحاضر والمستقبل؛ لنكون مجتمع حرب!!(38).
ثم يحاول الهروب من دوره في تعبئة الناس للحرب والتأكيد على دوره في ذلك في آن واحد بقوله: لا بد للشعب أن يعبر عن نفسه ويأتي التعبير إما عبر الوسائل التقليدية، أو بغير الوسائل التقليدية؛ ولهذا نجده اختار الهجوم الانتحاري، وهذا شكل آخر من أشكال الصراع، ويعتقد من يفعل ذلك أنه يصارع إذا حول نفسه إلى قنبلة حية، ويصارع أيضاً لو كانت هناك بندقية في يده، ولا فرق أن تموت بقنبلة في يدك أو أن تفجر نفسك، وهذه المفاهيم التي أتحدث عنها مفاهيم عقلية!! في مواقف الصراع، أو في الحرب المقدسة، عليك أن تجد أفضل الوسائل لتحقيق أهدافك، نعم إنني أتحدث عن الشعب الذي يواجه الخطط الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، لكنني لم أقل لهم على وجه الخصوص: "فجروا أنفسكم" وقد سمعت من يتهمني بأنني أبارك الهجوم، أنا في الواقع أدعو إلى الحرية، إنني أدعو إلى التحرر من الاستعمار. إذا كان الاستعمار يظلم الناس فعلى الناس أن يحاربوه، أما أن نقول: إني أتزعم الناس في أعمال عنف فلا. ثم يلتفت ويستدير للوجهة الأخرى من سياسته ويقول:
إننا يمكن أن نأتي بالتغيير في لبنان بتعليم الشعب وتنويره داخل المؤسسات الاجتماعية، وهناك طرق أخرى يمكنك أن تلجأ إليها: أن تبدأ بإقناع الناس، وهي نفس الطريقة التي يعظ بها المسيحيون، أو يفعلها الماركسيون - حتى لا يكون شاذاً في عرضه - إنك حين تقنع الأغلبية السائدة بأن تهتدي بالإسلام يكون وقتها لدينا الظروف السياسية المناسبة، ووقتها تستطيع أن توجد جمهورية إسلامية.
ثم يعرج على الدور الهام للخدمات الاجتماعية الكبيرة التي يقدمونها للناس بقوله:
إن قوتنا تكمن في قدرتنا على صنع الناس والجماهير، وعلى أن نضع أوامرنا موضع التنفيذ إنهم ينفذون أوامرنا؛ لأنهم يعرفون أننا أقرب الناس في تحقيق مطالبهم(39).
فهذه عجالة من أفكار الرجل التي يُبَيّنُ أهدافها الواقع، كما تَبِينُ مراوغاتها الفكرية، وقد حقق فضل الله - كالصدر - عدة نجاحات هامة للشيعة في لبنان نوجزها فيما يلي:
1 - توطين العلم الإمامي:
كانت إحدى الإشكالات الكبرى التي كانت تواجه المجتمع الشيعي اللبناني، بُعد المدارس الدينية الكبرى، وكثرة المعوقات التي تحول دون الالتحــاق بها، وكان مــن أكثرها تعويقاً للاتصال بها تلك المعاناة المالية التي لا بد أن يتحملها الطالب وأهله طوال مدة طلبه للعلم الإمامي، لذا كان الدور الذي أُنيط بـ (فضل الله) عند عودته من النجف أن ينقل معه هذه المدرسة في صورته وصورة مهدي شمس الدين، وتم اعتماد ذلك على أنه بمثابة السفر إلى النجف أو إلى قم، فأنشأ فضل الله "المعهد الشرعي الإسلامي" وبدأ التدريس فيه، وأنشأ كذلك جمعية أسرة التآخي وحسينية الهدى، ثم بدأت المدارس في الانتشار فيما بعد على نحو ما سيأتي.
كما تم اعتماد سياسة تعليمية تسهل الالتحاق بهذه المدارس، وقامت هذه السياسة الجديدة على:
أ - تكثير المدارس ونشرها في الأرياف الشيعية والضواحي؛ حيث تجتمع كثرة الشيعة.
ب - إجراء وظيفة أو رواتب للطالب.
ج - قبول الطلبة من غير شرط مدرسي أو شرط يتعلق بالسن(40).
وقد ساعدت هذه السياسة التعليمية على الخروج من سيطرة الأهل، من أفكارهم وأموالهم، كما ساعدت كذلك على تكثير سواد الطلبة الجدد.
2 - تطوير العلم الإمامي:
كانت التقليدية والجمود الذي أصاب العلم الإمامي إحدى الإشكالات التي كان ينبغي التوجه إلى علاجها والتأكيد عليها، وكان مما قاله الخميني في ذلك: قدموا الإسلام للناس في شكله الحقيقي، حتى لا يتصور شبابنا أن وظيفة رجال الدين أن يجلسوا في أحد أركان النجف أو قم لتدارس أمور الحيض والنفاس بدلاً من شغل أنفسهم بالسياسة، ومن ثم يستنتج الشباب أنه يجب فصل الدين عن السياسة(41).
والمعهد الشرعي الإسلامي سعى إلى إخراج "العلم" الإمامي بلبنان من شرنقة العائلات الدينية التقليدية، وقصد إلى جلاء صورة جديدة لرجل الدين تميل به عن صورة "الشحّاذ"، العاطل عن العمل، أو واعظ الناس "مواعظ تقليدية"، ومحدّثهم في الصلاة والصوم، ومرغبهم في الجنة إلى صورة بل إلى حال مختلفة يصح معها نزوعه إلى دور الولاية العامّة، وإلى محلّ الصدارة في ميادين النظر والعمل كافة، فأقبل على المعهد الشرعي الإسلامي طلاب حرص بعضهم حرصاً شديداً على الظهور بمظهر محصّلي العلم "العصري" وعلى النجاح أو التفوق في مضماره، ورمى الطلاب ومرشدوهم من وراء ذلك إلى رفع ما لحق رجل الدين التقليدي من ازدراء، وإلى محو وصمة البطالة والفراغ والجهل عنه؛ فلا يؤول ذلك إلى نفض الغبار عن دوره فحسب، بل تحلّ قوة العلم في دعوته وفي كلامه ومواقفه، ويشق الطريق أمام المحتذين بمثاله والمقتدين به، فيتكاثر عدد السالكين طريق علوم الدين.
وجمع طلاب المعهد بين التحصيل الديني وبين أنشطة حياة عادية ووجوهها. ومثل هذا الجمع ضروري وحيوي للدعوة وحزبها(42).
وقد صب هذا التطوير للتعليم الديني في مجرى تحقيق الهدف الأساس من تحويل المجتمع اللبناني الشيعي إلى دولة شيعية قد تتوافق بداياتها مع البدايات الإيرانية أو تلحق بها فيما بعد فلا تقتصر السياسة على الوجه المتصل بالمدارس والتدريس، وعلى سلك العلماء وإعدادهم؛ فهي تعد الجسم الديني بغية تأطير "المجتمع الإسلامي" وقيادة المعقل الشيعي؛ فما العلماء والطلبة من بعدهم وورائهم إلا المبلغون عن الثورة، وعن مرشدها، ودولتها، وحوزاتها، وقد أوْلى التراث الشيعي العلماء والمبلغين والدعاة دوراً خطيراً، وأناط بهم نقل العلم الإمامي، أو الأدلة إليه؛ فكان التشيع الإمامي بين أُولى الفرق التي برعت في إعداد الدعاة وتنشئتهم ووضع رسوم عملهم.
وكان لا بد لهذا التطوير بعد هذا التأطير للمجتمع الشيعي من أن يصب في مجرى آخر للالتقاء مع حركة الصدر من أجل الثورة بعد التثوير.
فيقول الشيخ محمد إسماعيل خليق - ممثل الشيخ حسين منتظري في لبنان -: إن الحوزات العلمية على مدى العصور كانت منطلقاً للثورات ضد الظالمين؛ فهي مشعل لانتصار الإسلام والمسلمين في كل العالم، ومعين الطلبة الذين يشتركون في العمليات الجهادية(43).
وقد تم التوسل برباط "العلم" الإمامي الذي ينبغي أن يتعالى عن الأقوام والأهل واللغات، وأن يلحق المدارس الدينية والحوزات بـ "خط الإمام". وحملة "العلم" وأصحابه على "العمل" ووحدت بين العمل وبين "الحرب والقتال والشهادة، وتوّجته بالدم"، فاستعادت من غير ملل، ولا خشية من التكرار المقارنة التي عقدها التراث الإمامي بين حبر العلماء وبين دم الشهداء، ومزجت بينهما، وجعلت مِزَاجهما عنواناً قاطعاً على وحدة "الشخصية الإسلامية" وعلى فرادتها، فاستحال عالم الدين إلى أحد وجهين متلازمين لكل مناضل إسلامي. أما الوجه الآخر فهو المقاتل أو المجاهد. فإذا اجتمع العلم والقتال والشهادة في شخص واحد ارتفع الشخص إلى مرتبة الولاية والمثال، وكما قال أحد شبابهم: لا بد للعلم من جهاد يكمله ويتكامل معه(44).
ولهذا فقد افتخر محمد حسين فضل الله بأن هذا الجيل الذي يمثله الآن "حزب الله" قد تربى على يديه(45).
وإلى هنا اتفق فضل الله مع الصدر في نقطة الانطلاق التي هـي مـدار حديثنا في الحلقة القادمـة - إن شاء الله تعالى -.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
مشكوووووور موضوع هايل بصح راك تعبتني ياسر
راني قليل في الشوفة ههههههههههههه
مذا بيك منا وجاي كبر شويا الخط
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
نسيت ما سقسيتكش انت شيعي ولا سني
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
اللهم انصر السنه فى كل مكان
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
شكرا على اطلاعكم على الموضوع .......وانا سني وافتخر بذلك والحمد لله الذي جعلنا كذلك وحبب الينا اهل البيت والصحاب وامهات المؤمنين
رضي اللهم عنهم جميعا
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
هدا كتاب رؤية معاكسة