عنوان الموضوع : مخاطر السياسة الأميركية وتحديات مواجهتها خبر عاجل
مقدم من طرف منتديات العندليب

مخاطر السياسة الأميركية وتحديات مواجهتها

علي خليفة الكواري

يبدو لي أن السياسة الأميركية تعمل على إلحاق دول المنطقة بمجهودها الحربي وتوجهاتها الإستراتيجية واعتبارات مصالحها. وهي من أجل ذلك تجعل قرارات حكومات المنطقة قرارات تابعة لها تستجيب –بالجزرة وبالعصا– لمتطلبات نجاح إستراتيجيتها.

الجذور التاريخية للعلاقة
تنطلق سياسة الولايات المتحدة وحلفائها, من الوضع التاريخي لعصر الحماية والتحالف البريطاني مع الأسر الحاكمة في المنطقة وفي الوطن العربي عامة, وما تبعه بعد الاستقلال من ترتيبات أمنية وعسكرية ومعاهدات وعلاقات حلت بموجبها الولايات المتحدة مكان بريطانيا.

وجدير بالذكر أن علاقة الدول الغربية الكبرى مع دول المنطقة, تقوم على أساس تفاهم مع الأسر الحاكمة ومقايضة ضمان استمرار حكم الأسر وحماية السلطة المطلقة للحاكم مقابل أخذ الحكام "بنصيحة" القوى العظمى في الغرب والانسجام مع رؤيتها الإستراتيجية, في ظل الوجود العسكري والنفوذ الاقتصادي وإعطاء الأفضلية للمصالح الاقتصادية والتجارية للدول الأجنبية الحامية.

وقد نتج عن هذا التفاهم والتحالف والحماية, استمرار حكم الأسر نفسها منذ بداية معاهدات الحماية مع بريطانيا في القرنين الماضيين, وما تلاه من تكريس للدور الأميركي الذي أخذ مكان بريطانيا وزاد عليه. ولذلك لم يتغير حاكم من حكام المنطقة بأي أسلوب كان, إلا بعد أن توافق الدول الحامية على تغييره وفقاً للأسلوب المناسب الذي تراه. وعلى من أراد الوصول للحكم من أفراد الأسر الحاكمة بالوارثة أو من خارجها, أن يتفاهم مع القوة الحامية مباشرة أو من خلال حلفائها الإستراتيجيين ويقوي علاقته بهم.

وجدير بالملاحظة هنا أن دول الحماية اتخذت دائماً الموقف الداعم لحكومات المنطقة في مواجهاتها لحركات الإصلاح ومساعي التغيير السياسي وغطت سياسات حكومات المنطقة إعلاميا ودبلوماسياً إلى جانب القوة العسكرية, إن لزم الأمر.

ومن هنا سوف تؤدي علاقات التبعية للولايات المتحدة وحلفائها, إلى استمرار المواقف السلبية بل المعيقة, للولايات المتحدة وحلفائها, من كل إصلاح لأوجه الخلل المزمنة في المنطقة, حيث نرى مزيدا من الاعتماد على نظم الحكم القائمة وتعزيز السلطة المطلقة للحكام, لسهولة التفاهم معهم على حساب طموحات الديمقراطية والتنمية والأمن الحقيقي في المنطقة.

وهذا ما عبر عنه الزميل محمد غباش عندما حلل أسباب الخلل المزمن في العلاقة بين السلطة والمجتمع في دول مجلس التعاون ووصف الوضع بأنه "سلطة أكثر من مطلقة ومجتمع أقل من عاجز" فقد كانت الحماية الأجنبية للحكام هي أحد المصادر الثلاثة لاستمرار خلل العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنطقة, إلى جانب الخلل السكاني والتحكم في سياسة إعادة توزيع ريع النفط.


تداعيات العلاقة مع الولايات المتحدة

سمحت علاقة التبعية هذه للولايات المتحدة وحلفائها في الوقت الراهن, بتحقيق دعوة "احتلال منابع النفط" دون غزو, وإنما بالتفاهم والضغط في ضوء الحاجة إلى المظلة الأمنية إلى جانب الحماية التقليدية. وقد كان غزو العراق للكويت وانهيار الاتحاد السوفييتي واحتلال العراق, وما نتج عنها من إضعاف للنظام العربي وتآكل الإرادة الوطنية في المنطقة, كلها عوامل أدت إلى تحقيق إستراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وأمنت مصالحها المشروعة وغير المشروعة فيها.

ولعل الهيمنة على قرار النفط وتوظيفه ورقة تفاوضية ضد الشركاء التجاريين للولايات المتحدة, هي من بين المصالح التي تم ضمانها في الوضع الراهن. فلم يعد تأمين إمدادات النفط هو المهم فقط, وإنما أصبح استخدام النفط ورقة ضغط وتفاوض مع الشركاء التجاريين حتى الأوربيين منهم إضافة إلى الصين والهند وأمثالهما من بين المكاسب. هذا إلى جانب العودة المباشرة لعهد الامتيازات والدور المباشر لشركات النفط الكبرى في تطوير وإنتاج وتكرير الزيت, وتسييل وتصنيع الغاز الطبيعي في المنطقة.

وإلى جانب ورقة النفط ضمنت الولايات المتحدة لنفسها النصيب الوافر من استثمارات الفوائض النفطية, حيث يذهب إلى الولايات المتحدة ما يزيد على نصف تلك الفوائض, يوجه ثلثها لإقراض الميزانية الأميركية. كما يذهب الربع من الفوائض النفطية للاستثمار في السوق الأوروبية. هذا إلى جانب ارتباط معاملات وعملات دول المنطقة بالدولار ودعمها له.

والى جانب المصالح الإستراتيجية والنفطية تحصل الولايات المتحدة وحلفاؤها على معظم مشتريات السلاح الضخمة وعقود شركات الأمن والأجهزة والنظم الأمنية. يضاف إلى ذلك تحمل دول المنطقة جزءا من التكاليف المالية للوجود العسكري الأجنبي فيها, فضلا عن المخاطر المترتبة على وجوده.

مخاطر الاعتماد على الولايات المتحدة
ولعل أخطر ما يجعل سياسة الولايات المتحدة وحلفائها عبئاً ثقيلاً على دول مجلس التعاون وشعوبها, ويوجب الحد من آثارها, هو الطبيعة العدوانية على المستوى العسكري, إضافة إلى توجهها الإقصائي على المستوى الثقافي, حيث تقوم توجهاتها على تثبيت قيم ومصالح وعقائد الحضارة الغربية, ونفي قيم وعقائد ومصالح الحضارات الأخرى, الأمر الذي يؤدي إلى صدام الحضارات.

وفي تقديري, يعود قول هنتغتون بصدام الحضارات المثير للجدل, إلى قراءة دقيقة لتوجهات النخب الغربية التي وصلت للحكم في بداية عصر القطبية الواحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي, والتي لم يكن هناك بد من صراعها مع الحضارات الأخرى وصدامها القادم مع الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية بشكل خاص, لما يتوقع أن تبدياه من رفض ومقاومة.

وأذكر أنني كنت أبحث عن معرفة ما يريده الغرب من الآخرين كي أفهم إلى أين نحن سائرون, فوجدت شيئا منه عند نعومي تشومسكي في كتابه إعاقة الديمقراطية.

يرجع تشومسكي الصراع العنيف ومن ثم الحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والاتحاد السوفياتي وما شابهه من نظم اشتراكية على مدى سبعة عقود, إلى محاولة تجاوز تلك النظم للخطوط الحمراء التي حددها الغرب والتي تتمثل في ثلاثة ممنوعات على الدول الأخرى، أولها التوجه إلى حماية الأسواق الداخلية وإعاقة حرية التجارة, التي يجد فيها الغرب مجالا لتصريف منتجاته في أسواق الدول الأخرى, مستفيدا من تقدمه التقني وإمكانية الإنتاج على نطاق واسع.

ثانيها حرية انتقال رأس المال الغربي للاستثمار المباشر ومشاركته المباشرة, حيث وجدت موارد وفرص للاستثمار في أي دولة كانت. ثالثها يتمثل في الوقوف بشدة وحسم ضد كل دولة تسعى لتنمية رادع عسكري يعيق استخدام الغرب لقوته العسكرية المتفوقة حين يشاء دون ردع.

ويتضح مما سبق أن التحالف غير المتكافئ بل التبعية للولايات المتحدة, قد أدى إلى توظيف إمكانيات دول المنطقة وموقعها الإستراتيجي لخدمة سياسات عدوانية تجاه الآخرين ليس من مصلحة حكام المنطقة وشعوبها معاداتهم. وأصبحت هذه التبعية اليوم تنذر بمخاطر جمة في حالة الاعتداء على إيران. كما أن الصراع القادم بين الولايات المتحدة والصين لمنعها من أن تكون قطبا ينافس هيمنة القطب الواحد منذ عشرين عاما, سوف يعرض المنطقة إلى مخاطر هي غنية عنها.

وهذه المخاطر لا تتوقف فقط على تعرض المنطقة للرد على الأعمال العسكرية المنطلقة من مياهها وأراضيها, وإنما تتضمن مخاطر صحية وبيئية لوجود أسلحة دمار شامل فيها.

خيارات حكومات المنطقة
ما محددات الخيارات المتاحة لحكومات المنطقة؟ في ضوء سياسات الولايات المتحدة وحلفائها, المهيمنة على المنطقة, والساعية إلى تجيير قرارها بما يخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها, بصرف النظر عن مصالح الشعوب.

في البداية لا بد من التأكيد على أن حكام المنطقة من حيث التكوين النفسي والقيم وربما التطلعات العامة لا يختلفون كأشخاص عن بقية المواطنين. وهم يشعرون بالضغوط وربما الضيق كأفراد ولكن سياسة المقايضة لها أحكامها. وإذا أتيحت فرصة الجلوس مع أحدهم فإن السامع لا يجد فرقا كبيرا بين كلامهم وما يمكن أن يقوله عن تردي الوضع العربي والإقليمي وتداعياتهما المستقبلية, ولكن ذلك الكلام ينطبق عليه القول السائر "أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أتعجب".

وربما تكون تلك المفارقة بسبب شدة الضغط الخارجي وغياب الطلب الأهلي الفعال على الإصلاح. وإلى أن ينمو ذلك الطلب الأهلي على الإصلاح بالقدر الذي يحسب له الحاكم حسابا ويستطيع أن يوظفه كمبرر لتخفيف ضغط الخارج إن هو أراد الفكاك, فإن الوضع لن يتغير وتكلفة تلبية الضغط الخارجي على الحاكم أقل بكثير من تكلفة مواجهته.

ولعلنا نتذكر حالات معدودة خالف فيها الحكام "نصيحة" الدول التي تفرض حمايتها على بلدانهم وكان عقابهم رفع الحماية ونزع غطاء التعتيم على تجاوزاتهم وسلطتهم المطلقة وصولا لعزل بعضهم بطريقة أو بأخرى.

وجديرٌ بالملاحظة أن أرادة الحكام تتأثر بحالة النهوض العربي والوفاق الشعبي على الإصلاح. وقد كانت إرادة الحكام في مقاومة الهيمنة والانحياز للمصالح الوطنية أقوي عندما كان الوضع العربي أفضل والنظام العربي أكثر تماسكاً, والعكس صحيح. وكذلك تكون استجابة الحكام للمطالب الوطنية ملحوظة حتى وإن اعترضت على قيام حركات وطنية, عندما يكون أفراد الشعب وجماعاته موحدين في مطالبهم ومصرين على العمل من أجل تحقيقها. ومثال ذلك قطر عام 1964 والبحرين عام 1970 وعام 2016 والإمارات عندما كان المجلس الوطني ومجلس الوزراء فعالين في منتصف السبعينيات.

ولكن النظرة الواقعية اليوم تشير إلى أنه بالرغم من إمكانية حكومات المنطقة الحد من مطامع الدول الحامية نظريا, فإن الحكام يخشون رفع غطاء الحماية عنهم شخصيا ويعملون له ألف حساب. من هنا فإن الإشكالية التي تواجه الحكام تحتاج من الأفراد والجماعات التي تنشد التغير أن تتوحد في الأخذ بيدهم والصدق والصراحة في مواجهتهم, لما فيه مصلحة المنطقة وبلدانها وشعوبها من حاكم ومحكوم.

وقد ذكر أحد الحكام أمام جمع كنت من ضمنهم "أنه تعلم الدرس من ما أصاب المعترضين من الحكام على "نصيحة" الدول الحامية". فقد تعرض بعض أسلافه للإقصاء عن الحكم وتهميش دورهم عندما اختلفت توجهاتهم مع ما تنتظره الدول الحامية منهم. وإذا أضفنا ثمن المقايضة التي يضمنها من يستمع إلى "النصيحة" من الحكام, بإطلاق يده في التصرف المطلق في الشأن والمال العام مقابل استجابته لمتطلبات الدولة الحامية وهي التي تقدم المظلة الأمنية لنظام حكمه, فإننا نعلم مغريات بقاء الوضع على ما هو عليه, وندرك محددات خيارات الحكام في ضوء استمرار ضعف المجتمعات وعدم قدرة الجماعات الساعية للتغيير على تنمية قواسمها الوطنية المشتركة وتوحيد مطالبها في حركة فاعلة تجعل الحاكم والخارج يأخذها في الاعتبار عند تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة المؤثرة عليها.

الوفاق مدخل التغيير
وغني عن القول إن وجود الهيمنة الخارجية وحقيقة الاعتماد المتبادل بين أطرافها وبين الحكام, يجب ألا يعني التسليم بالهيمنة الداخلية والخارجية والاستكانة لهما. فذلك ليس خياراً لشعوب المنطقة التي ضاعت عليها فرص التنمية الحميدة حتى الآن.

كما يتعرض بعضها لتداعيات "تنمية الضياع" بسبب استمرار أوجه الخلل المزمنة وعلى الأخص تفاقم الخلل السكاني في الإمارات وقطر والبحرين, التي بدأت تدخل مرحلة التوطين لكل من يشتري أو ينتفع بعقار وتسير إلى نموذج سنغافورا. ومن ثم تمهد للانتقال إلى مجتمع متعدد الثقافات والديانات والأعراق لغته الإنجليزية ومجتمعه معسكر عمل, لا يمثل المواطنين الأصلين في بلدهم سوى أقلية هامشية ضعيفة, يتراجع دورها بمجرد أن ترفع عنها الحماية الإدارية والقانونية التي تتمتع بها في الوقت الحاضر.

والحقيقة التي لا جدال فيها هي أن المستقبل قادم وأسوأ خيارات شعوب المنطقة أن تقف متفرجة عليه, بل يجب عليها أن تتحرك لتأمين مصيرها بالرغم من كل المثبطات, وكسب المستقبل لصالح استمرار مجتمعاتها الأصلية وتنمية قدراتها لتكون التيار الرئيسي الذي يحافظ على الهوية العربية والإسلامية للمنطقة ويعمل على تأمين مستقبل الأجيال المتعاقبة من خلال عملية تنمية حميدة.

من هنا فإن إدراك الأفراد والجماعات من أبناء المنطقة لخطورة الوضع الذي تتعرض له المنطقة في ضوء سياسات الولايات المتحدة وحلفائها وفي طار السلطة المطلقة لحكامها ومحددات خياراتهم تجاه القوى الخارجية, يوجب عليهم التفكير العميق في أسلوب تعاطيهم مع متطلبات الأمن والنماء وضرورات تأمين مصير مجتمعاتهم والحفاظ على هويتهم الجامعة.

وهذا الإدراك لن يكون فاعلا إلا بعد أن يتوافق الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير -على المستوى الأهلي والمستوى الرسمي- على قواسم وطنية مشتركة تسمح بنمو حركة وطنية في كل دولة وعلى نطاق مجلس التعاون. حركة تدعو إلى تجسيد مجلس التعاون في اتحاد فدرالي ديمقراطي ربما على نموذج ماليزيا من حيث الوحدة والديمقراطية, وتتبنى من أجل تحقيق ذلك مشروعا للإصلاح الجذري من الداخل.

مشروعا يبدأ من تصحيح أوجه الخلل المزمنة في المنطقة والمتمثلة أولا في خلل العلاقة بين السلطة والمجتمع، وثانياً تفاقم الخلل السكاني، وثالثا الخلل الاقتصادي واستمرار الاعتماد على صادرات النفط، ورابعاً الخلل الأمني الذي يتمثل في إلزام أمن المنطقة وتجيير قرارها للدول الغربية صاحبة المصالح المشروعة وغير المشروعة في المنطقة والعالم.

إن كسب المستقبل وتأمين المصير ضرورة حيوية لشعوب المنطقة. واتجاه المستقبل سوف يتحدد في ضوء الأدوار التي سوف يلعبها ثلاثة فاعلين، أولهم: الحكومات. وثانيهم: القوى الخارجية. وثالثهم: شعوب المنطقة.

والدور الضعيف حالياً هو دور الشعوب, لأسباب تاريخية نتيجة الشعور بالعجز والقابلية للاستسلام ومن ثم الانصراف إلى المصالح الشخصية الضيقة, وبسبب شقاق الفكر وتفرق الكلمة والعجز عن تنمية قواسم وطنية مشتركة بين التوجهات الإسلامية والتوجهات الوطنية بكافة أطيافها.

وعلينا واجب استنهاض دور الشعوب, وعلى سراة القوم أن يتحملوا مسؤولياتهم التاريخية. والبداية الناجعة لذلك التحرك تكون بنبذ الشقاق بين الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير, ومن ثم العمل على مقاربة التوجهات والتوافق على قواسم وطنية جامعة, من أجل تفعيل دور شعوب المنطقة وتنمية حركات وطنية إصلاحية يأخذها الحاكم ويأخذها الخارج في الاعتبار عند تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة.




>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

خطة تفكيك المجتمعات العربية حققت نجاحاً؟

بقلم : طلعت رميح

لم تعد قضية المخططات الغربية ومن بعض دول الإقليم، لتفكيك المجتمعات العربية، مجرد حالة من حالات الترويج والتحضير للتنفيذ، ولكن الوقائع الجارية تؤكد للأسف، أن تلك المخططات قد حققت نجاحات حقيقية وخطرة للغاية، إلى درجة يمكن القول معها إن العالم العربي الذي عرفناه بدوله ومجتمعاته الحالية— منذ ما بعد الاستقلال— قد جرت خطوات كبيرة في مخطط إعادة تشكيل مجتمعاته، وإن الرقعة السياسية والجغرافية التي تسيطر عليها دول العالم العربي صارت قاب قوسين أو أدنى من الانكماش الجغرافي والسياسي لمصلحة كيانات ودول كاريكاتورية في طريقها للإعلان عن نفسها كدول مستقلة تعيش في خارج النظام العربي، كما أن المنظمة الإقليمية الجامعة للدول العربية صارت تواجه تحديات خطرة في داخل الدول والمجتمعات العربية - إذ نشطت وقويت حركات مضادة للعرب والعروبة - وتعيش الآن في انتظار تقلص مساحات الدول المنضوية لها، بحكم ما أنجز من مخططات صارت قاب قوسين أو أدنى من تشكيل دول جديدة تخرج من العباءة العربية جغرافيا وسياسيا وإستراتيجيا بطبيعة الحال، لتشكل نطاقا أو طوقا في الأغلب سيكون معاديا للعروبة والنظام الرسمي العربي وللدول التي خرجت من جغرافيتها تلك الكيانات الجديدة.


البداية من السودان :


في السودان تبدو الأمور مرشحة لتكون البداية المعلنة لانطلاق ظاهرة انفلاق الدول التي تشكلت عبر مرحلة الاستقلال، وميلاد دولة جديدة على أساس معاداة العروبة.


الصراع الجاري في هذا البلد لم يعد مجهولا فيه أمر، إذ الحركة الانفصالية لجنوب السودان، صارت على بعد أمتار من إنجاز مخطط الانفصال، حتى أن السؤال في المشكلة السودانية لم يعد ما إذا كان الجنوب سينفصل عن الشمال، بل حول مدى صمود الجزء الباقي من السودان في داخل دولة واحدة، في مواجهة تلك الريح العاتية التي تعصف به، وما إذا كان انفصال الجنوب سيكون البداية لانقسامات أخرى في الغرب والشمال. المؤشرات على انفصال الجنوب لم تعد بحاجة إلى تدليل، لا وفق ما يجرى على الأرض ولا على صعيد الاستعداد الدولي وربما العربي للاعتراف بتقسيم السودان إلى دولتين، إذ لدينا حتى الآن استعداد للاعتراف الدولي من كل من ليبيا والولايات المتحدة بالدولة التي لم تتشكل بعد.
والأهم فيما يجرى- من الزاوية العامة- أن تقسيم السودان يجرى على قاعدة كراهية العروبة والعرب والنظر لهم كمستعمرين، ويجرى وفق حالة رفض للثقافة العربية والإسلامية واللغة العربية.. الخ، بما يحدد ملامح السياسات التي ستقام عليها هذه الدولة الجديدة، وتجعلها في حالة عداء "للجوار العربي"، إذ هي تجد نفسها في وضع التابع والموالي لكل من يشاركها هذا العداء، خاصة أنها مدينة للآخرين بظهورها إلى حيز وجود الدول، ولأنها تحتاج الغرب وإسرائيل بطبيعة الحال في تطوير أوضاعها واستمرار وجودها. بل لعل إحدى المشكلات التي ستواجهها الأمة مع مثل تلك الدولة ليس فقط أن تشكيلها يجرى على حساب الأمن القومي العربي، على كل الصعد، بل إنها ستولد في وضعية عدائية مع الدول التي انفصلت عنها، ومع الدول العربية، والأخطر- كما سنرى- أنها ستشكل مع غيرها من الدول الانفصالية الأخرى حزاما يحيط بالدول العربية!


العراق الخطوة الثانية :

وفي العراق تكاد الأقدام تقف على حافة البئر من كل أطراف اللعبة السياسية التي شكلها الاحتلال ورعاها ولا يزال لتحقق له ما عجز عن تحقيقه بالحرب والقتال.


في الجنوب وعلى رأس السلطة السياسية وعلى رأس السلطة التنفيذية هناك من يحاول ربط مصير العراق كله بالمصالح الإيرانية وإن تعذرت أو تعثرت خطواته يتحدث فورا عن الانفصال والانقسام، كما هؤلاء يخوضون حربا بلا هوادة على عروبة العراق وارتباطه بأمته العربية بطرق ملتوية حينا وصريحة في أغلب الأحيان، أي أننا أمام محاولة لإلحاق كل العراق بإيران فإن تعذر فالتهديد هو بشق العراق.


وفي الشمال تبدو الحالة السياسية الكردية العرقية المتعصبة- وليس جمهور أهلنا الأكراد- ذات مواقف معادية للعرب والعروبة واللغة العربية، وكل ذلك في صراحة تامة ووضوح لا يقبل اللبس.


وإذا كانت تلك الجماعات تخوض صراعاتها الآن على هذه المدينة أو تلك أو على كيفية التعامل مع الثروة البترولية في الشمال، فإن المتابع يلحظ أن كل ملامح الدولة الكردية قد تشكلت لهم في شمال العراق، بما فيها الجيش المستقل لا الأجهزة التنفيذية والتشريعية فقط، وإن أمر الانفصال عن العراق والانسلاخ من النظام الرسمي العربي لا يعوق إعلانه إلا الوضع الإقليمي وربما انتظار حدوث تحولات أخرى في العراق وعلى صعيد الرؤى والقرار الدولي الذي لا يزال يرى أن الوقت لم يحن بعد.


الانسلاح عن العراق، ينتظر إنهاء بعض الملفات الخاصة بخطوط الانفصال أو بحدود الدولة الكردية مع العراق، إذ ترى القيادة الكردية الراهنة أن الظروف مهيأة على نحو كبير الآن ووفق آليات الصراع الداخلي لتحقيق المكاسب بشكل مطرد، وعلى نحو أفضل من الحصول عليها من خلال حالة صراع عسكري تحت عنوان الاستقلال، وإن الوقت الذي يجرى فيه إنجاز قضية حدود الإقليم الآن- الدولة فيما بعد- سيجرى خلاله أيضا، إكمال مختلف أعمال التعاقد مع الشركات الأجنبية لاستخراج النفط، بما يحقق دعما لميزانية الإقليم والدولة فيما يحقق حشدا دوليا وفقا لمصالح الشركات المؤثرة في مصالح دولها.


الأمور تتعلق بالوقت والترتيبات لا بالمبدأ بالنسبة لانفصال كردستان، وهنا يبدو لافتا أن التحرك الجاري للانفصال يقوم فعليا على رفض العروبة والنظام الرسمي العربي واللغة العربية، بل هو يقوم على ارتباط واضح وقوي بين تلك الدولة وبذات الدول الخارجية الفاعلة في تقسيم السودان والداعمة لدولة الجنوب الانفصالية!


الإطار الخارجي كله :


للمتابع أن يلحظ أن كل التحركات الانفصالية تجرى في المناطق المشكلة لنطاق الحدود الخارجية للمنطقة التي تخضع لسيطرة الدول العربية، فإذا كان جنوب السودان هو آخر امتدادات الدول العربية في الجنوب والحالة الكردية في طرف الشمال الشرقي، فإن حركة انفصال جنوب اليمن هي في الجنوب الغربي للجغرافيا العربية، وكذا الحال في الحركة الأمازيغية.. الخ.


وهنا يبدو أن رقعة مساحة سيطرة الدول العربية والنظام الرسمي ستتآكل خلال ما هو مقبل، وإن سياجا أو سورا من الدول الهامشية المعادية للنظام الرسمي العربي والمرتبطة بدول معادية للعرب ولاستقرار الدول العربية- والهادفة إلى تقسيم الدول العربية- صارت تتشكل حول البلدان العربية على أراض كانت ضمن إطار المحافظة على الأمن القومي العربي، وهو ما يشكل اختراقا خطيرا لعوامل الاستقرار العربي مجتمعات ودول.


لكن اللافت أن النظام الرسمي العربي لا يزال غائبا عن التعامل مع هذا التحدي بالغ الخطر في تهديده لمعطيات وجوده، ولم يخرج في تعامله مع تلك القضايا، عن إعلان التضامن مع الدول المتعرضة لتلك الأخطار، دون طرح أسس فكرية وسياسية للتعامل مع تلك القضايا ودون إخضاع ما يجرى للفحص والتمحيص على أسس بعيدة أو عميقة.


لم يجر طرح إعادة تقييم مفهوم العروبة بالتركيز على الثقافي والحضاري منه بديلا للعرقي الذي يجرى استغلاله في الحملات والصراعات الانفصالية، ولم تجر عملية إعادة تأصيل للعروبة ضمن إطار الفهم الحضاري الإسلامي بما يزيل حساسيات العرق والأصل الأثني، كما لم يجر تشكيل حتى مجرد مائدة حوار حول تكاثر تلك الظواهر ووصولها إلى درجة الخطر، في وقت تحمل فيه الحركات الانفصالية السلاح.. إلخ.


وإذا راجعنا ما جرى في قمة سرت لوجدنا النظام العربي غائبا عن التعامل مع هذا التحدي كليا، كما لم ينشط المثقفون والكتاب والمفكرون والساسة من غير الموجودين في السلطات الرسمية في إبراز هذا التحدي وطرحه للحوار العام الفاعل، وهو ما يضاعف من مخاطر ما هو جار، خاصة في وقت بدأ الترويج فيه لمخاطر الدول الفاشلة في المنطقة على الغرب، والتي هي فكرة ستمثل في المرحلة المقبلة نقطة الانطلاق الجديدة لتبرير التدخل الخارجي، وهو ما تظهره تجربة الصومال من جانب، وتجربة اليمن من جانب آخر.


الدورة الجهنمية :


لقد دخلت الدول العربية في دورة جهنمية تشبه فيها وضعية أسد السيرك الذي يدور، بينما كل المتواجدين في حلقة الدوران يلهبون ظهره بالسياط. من ناحية يجرى تأليب الرأي العام بكل الوسائل ضد أجهزة الدول والنظم، استثمارا لأخطائها في عدم توفير الحرية لشعوبها وبسبب الفساد وضعف التنمية، ومن ناحية ثانية، تتكثف الضغوط الغربية من الخارج على تلك النظم، بكل الوسائل العسكرية والاقتصادية والإعلامية والسياسية والثقافية، في اتجاه تحريك الأعراق ضد بعضها البعض وبلورة الثقافات وتأجيجها في مواجهة بعضها البعض وإعادة بعث المشاعر القبلية والطائفية والمذهبية وكل ما كان قائما قبل تشكيل الدولة الحديثة في العالم العربي.


وفي ذلك جرى تربية أو شراء نخب لتقوم بهذه الأدوار وتشكيل مجموعات مصالح تعيش وتتعيش على إثارة الاضطرابات من كل صنف ونوع، وهؤلاء صاروا يشكلون من جهة ثالثة جيشا مدربا وأشد قوة- بحكم الدعم الواسع- حتى من النخب الوطنية والقومية والإسلامية. هذا الجيش من المثقفين والساسة الجدد، صاروا أدوات محلية تكسب مشروعات التقسيم والتفتيت الخارجية طابعا محليا.


ومن جهة رابعة صارت تلك الحكومات والقائمون على معظم مسؤولية الحكم في حالة دفاع مختلطة مرتبكة بين المصالح الخاصة لنخبها ومصالح الوطن، فصارت تستنهض الجمهور لمواجهة الضغط الخارجي فيرفض الانصياع لرغباتها بحكم ما يعانية على أيديها، وتتعلل بالثقافات السائدة في مواجهة الخارج، فيكشف الخارج كيف أنها خارج تلك المنظومة التي تدعيها... إلخ.


والإشكالية الأعمق، هي أن كل قوى التغيير صارت في وضع المأزق الحقيقي. الجمهور العام صار في حالة حيرة وارتباك على صعيد الفعل. فهو من ناحية، لا يرغب في التقاطع مع طرق أهداف التغيير الغربية، لكنه لا يجد سواها فاعلة في الواقع الذي يعيشه، ولذلك هو يرفضها عقليا، لكنه لا يجد غيرها فاعلا في الواقع، وهو لا يستطيع الانتظار لأكثر من ذلك إذ وصلت مشاكله إلى الحلقوم.


وهو يتعاطف بكل قلبه مع قوى التغيير الوطنية والقومية والإسلامية، لكنه يراها مبعثرة وغير فاعلة وعلى درجة أدنى من النضج، بينما يعطي قلبه ويعطي عقله لآخرين.


والقوى السياسية المنظمة المنوط بها التغيير الوطني صارت هي الأخرى، مضغوطة من كل جانب. مشكلات المجتمع وصلت درجة الخطر، بما يهدد بحالات انفجارية تكون عامل هدم لا عامل تغيير ومن ثم تجد قوى التغيير نفسها في وضع من يريد التهدئة، في بعض الجوانب حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة وتتحول إلى طاقة هدم، والتصعيد في جوانب أخرى لم يعد الجمهور العام جاهزا لها.


والضغط الخارجي صار عميقا وفي داخل المجتمعات لا من خارجها، كما كان عليه الحال خلال المراحل الماضية، ولذلك هي تبدو حائرة بين رفضها لاستمرار بقاء الحكومات من جهة ورفضها وقلقها من أن تتقاطع جهودها أو تصب في دائرة المصالح الغربية من جهة أخرى.


هي تريد الديمقراطية، فلا تجد أمامها إلا ديمقراطية مزيفة لا تخرج عن كونها آليات لاستمرار الحكومات وبقاء الحال على ما هو عليه من جهة، بينما هناك خطط غربية فاعلة لتحقيق حالة ديمقراطية تؤدي لإطاحة الحكومات وتغيير النخب، لكن في الاتجاهات الأسوا والأشد خطرا إذ هي مجرد سعي لتعميق ارتباط نخب الحكم بالمشروعات والأهداف الغربية.


وبمعنى آخر فإن الديمقراطية الوطنية واقعة بين الحالة الصورية التي تثبت الحكومات والفساد، وتلك الحالة الأخرى التي تعيث فسادا في المجتمعات، وتسعى إلى تفكيك المجتمعات لا إلى بناء رؤية وطنية موحدة.


الخطر :


وفي ظل أوضاع كهذه، تتحول معضلة التغيير من حالة التغيير السياسي على الصعيد الوطني وفق رؤية وطنية جامعة، إلى تغيير هادم عبر تفكيك الدول والمجتمعات الذي يصبح لدى البعض ملجأ الحركة الممكنة، ووسيلة رائجة لحشد الجمهور العام، وكل ذلك بفعل انسداد قنوات التغيير وافتقاد الأمل في الإصلاح.


وذلك هو ما شكل الأرضية لنجاح مخططات تفكيك المجتمعات الذي صار قاب قوسين أو أدنى من إعلان الانطلاق لتفكيك الدول بدءا بالسودان الذي سيفتح الباب المغلق منذ الاستقلال، على مصراعية، دون أن ينحو منه أحد.


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :


أُمّتنا بين التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي

غازي التوبة

استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم بناء أُمّة واحدة فيما استهدفه أثناء حياته، وبالفعل استطاع أن يبدأ تكوين هذه الأُمّة في مكّة، ثم أكمل صياغتها في المدينة، ووصفها القرآن الكريم بأنها أُمّة واحدة في آيتين، هما: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء،92)، "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ" (المؤمنون،52).

وقد تحقّقت هذه الوحدة على مدار التاريخ، وكانت هذه الوحدة من أهم عوامل وجود هذه الأُمّة وتحقيق قوّتها، وتأكيد استمرارية وجودها مع كل الضغوط التي تعرّضت لها من فِرَق معادية: كالشعوبية، والزنادقة، والسمنية والباطنية إلخ... فما العوامل التي قامت عليها هذه الوحدة؟ أبرز هذه العوامل هي الوحدة الثقافية التي جاءت من القرآن الكريم والسنّة المشرّفة اللذين صاغا أفكار الأُمّة، وبلورا وجدانها، وحدّدا قيمها، وقعّدا عاداتها وتقاليدها، ورسما آمالها، وبنيا نفسيّتها وعقليّتها، ووجّها جهودها إلى إعمار الدنيا والفوز بالآخرة، وأشادا أشواقها وتطلّعاتها، وجعلا اللغة العربية لغة لها إلخ...

وبقيت هذه الوحدة الثقافية هي العامل الرئيسي في وجود هذه الأُمّة مع أنه قامت دول متعدّدة وتقسيمات سياسية مختلفة على مدار التاريخ الماضي بعد دولة الخلفاء الراشدين، من مثل دولة البهويين، والسلاجقة، والأخشيديين، والطولونيين والطاهريين، والأدارسة، والموحّدين، والمرابطين إلخ... لكنّ تلك التقسيمات السياسية لم تفصل بين أفراد الأُمّة ولا جماهيرها، ولم تكن نهائية، لأنها لم تترافق مع أيّ طرح ثقافي تجزيئي، بل بقيت الثقافة الواحدة هي المتداولة لدى كل أطراف التقسيمات السياسية، وكان العلماء الفقهاء هم الذين يقدّمون هذه المادة الثقافية، ويرعونها، ويطوّرونها حسب مقتضيات الحاجات في واقع الحياة.

وبعد أن استعمر الغرب بلادنا أدرك أنّ وحدة الأُمّة الثقافية والسياسية أكبر قوة لها، فعمد إلى إضعافهما من خلال عمليتين: الأولى: التفتيت الثقافي، والثانية: التجزيء السياسي.

وقد استهدف التفتيت الثقافي عوامل الوحدة الثقافية من مثل اللغة العربية والقرآن الكريم والسنّة المشرّفة والتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية والقِيَم السلوكية إلخ...، فحطّوا من شأن اللغة العربية، واتهموها بأنها لغة صعبة ومعقّدة، فإملاؤها صعب ونحوها أصعب ويحتاجان إلى تغيير، كما اتهموها بأنها لغة غير علمية، لذلك دعوا إلى الكتابة بالعامية حيناً، وإلى الكتابة بالحرف اللاتيني حيناً آخر كما فعلت تركيا الحديثة، وبادر بعضهم إلى ذلك فأصدر سعيد عقل ديوان شعر سمّاه "يارا" وكتب قصائده بالحرف اللاتيني، كما دعوا إلى تطوير النحو والإملاء، وكان أبرز الداعين إلى ذلك طه حسين فدعا إلى كتابة "طه" بهذه الصورة "طاها" إلخ...

وشكّكوا بإلهية القرآن الكريم، وقالوا بأنّ القرآن انعكاس للبيئة الجاهلية في عقل محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب عن ذلك طه حسين في كتاب "في الشعر الجاهلي"، كما تحدّث المستشرق جب عن تلك القضية في كتاب "المذهب المحمّدي"، كما شكّك كثيرون بالسنّة النبوية واعتبروها وُضعت من أجل تدعيم الفِرَق السياسية التي قامت في الساحة الإسلامية من سنّة وشيعة وخوارج إلخ...، كما شكّك كثيرون بالقيمة الحقيقية للتاريخ الإسلامي واعتبروه تاريخ دماء وحروب وسلب ونهب إلخ...، كما شكّك آخرون بالحضارة الإسلامية واعتبروها حضارة نقل عن الحضارات السابقة اليونانية والرومانية والهندية، ومن أبرزهم الفيلسوف الفرنسي رينان، فقد نقلت الحضارة الإسلامية العلوم والفلسفة عن اليونانية، ونقلت التشريع عن الحضارة الرومانية، ونقلت مراسم الحكم والآداب من الفارسية والهندية إلخ...، كما شكّك بعضهم في قضية الحكم، واعتبروا أنه ليس هناك حكم في الإسلام، وأنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاء بدعوة دينية فقط ولم يأت بحُكم، وقد دعا إلى ذلك عدد من المفكّرين أبرزهم علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".

أمّا على مستوى التجزيء السياسي فقد عمدت الدول الاستعمارية في مطلع القرن العشرين إلى ضرب العِرق العربي بالعِرق التركي اللذين كانا يشكّلان عماد الخلافة الإسلامية آنذاك، ثم قامت بتجزيء بلاد الشام إلى عدّة دول وهي: سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، بناء على اتفاقية سايكس-بيكو التي وقّعها وزيرا خارجية إنجلترا وفرنسا لتقاسم المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، ثم جزّأت فرنسا سوريا إلى أربع دويلات هي: دولة العلويين، دولة الدروز، دولة حلب، دولة دمشق.

ومن أخطر الأمور التي يمكن أن تحدث على مستوى التجزيء السياسي هو تحوّل الدولة القـُطرية إلى أُمّة، وتصبح الحدود القطرية حدوداً نهائية، وبذلك تصبح الأُمّة العربية الإسلامية أُمماً: فهناك أُمّة أردنية، وهناك أُمّة سورية، وهناك أُمّة مصرية، وهناك أُمّة تونسية إلخ... وتبذل الجهود بشكل حثيث من أجل تحقيق هذا الهدف، ويتم ذلك من خلال التأسيس الثقافي لهذه القطرية، واعتبار الهوية الوطنية هوية نهائية، ويختلف نجاح هذا التأسيس من بلد إلى آخر.

ويمكن أن نأخذ مصر كمثال على السعي في تحويل القطر إلى أُمّة مصرية، فقد اشتغل الغرب عليها منذ حملة نابليون عام 1799، وركّز على ربطها بالتاريخ الفرعوني، ثم جاء الاستعمار الإنجليزي وعمّق الاتجاه الفرعوني. وقامت نخبة مصرية في مطلع القرن العشرين من أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد وأحمد لطفي السيد وسلاّمة موسى ولويس عوض إلخ... تقول: إنّ الشعب المصري أُمّة فرعونية لا علاقة له بالأُمّة العربية الإسلامية، ودعت أحزاب إلى ذلك أبرزها حزبا الوفد والأحرار الدستوريان، اللذان حكما مصر بعد الحرب العالمية الأولى، لكنّ عبد الناصر جاء إلى حكم مصر عام 1952، وحمل راية القومية العربية، وصحّح الوضع، فاعتبر أنّ مصر جزء من الأُمّة العربية، وأقام دولة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 سمّاها الجمهورية العربية المتحدة، لكنّ مجيء السادات أحدث انتكاسة في التوجّه القومي العربي، وعاد بشكل موارب إلى دعوى فرعونية مصر، وافتخر بأنه أحد فراعنة مصر، وألغى اسم الجمهورية العربية المتحدة الذي ورثه عن جمال عبد الناصر وسمّى مصر "جمهورية مصر العربية".

إنّ هذه المساعي المتصلة لعدّة عقود في ترسيخ القطرية في مصر، وإشعار الشعب المصري أنه أُمّة مصرية فرعونية لا علاقة لها بالأُمّة العربية الإسلامية، هي التي استندت إليها القيادة المصرية في تبرير موقفها من واقعتين، هما:

الأولى: حصار غزّة: بدأ حصار غزّة في عام 2007، وهو مستمر لمدّة ثلاث سنوات، ثم جاءت -الآن- مرحلة أسوأ وهي بناء جدار حديدي يُحكم الحصار على غزّة، وهذا الحصار يتناقض مع مفهوم الأُمّة الواحدة الذي هو الأصل في العلاقة التاريخية بين غزّة ومصر، وقد برّرت القيادة المصرية موقفها ذلك بالحرص على الأمن المصري الذي يعني بوجه من الوجوه أنّ مصر أُمّة مختلفة عن الأُمّة في غزّة.

الثانية: مباراة كرة القدم بين الجزائر ومصر: وقعت عدّة مباريات بين مصر والجزائر من أجل التوصّل إلى نهائي مونديال العالم عام 2010، وحدثت الأولى في الجزائر والثانية في مصر والثالثة في السودان في نهاية عام 2009، وقد رافق هذه المباريات مصادمات واشتباكات كانت لها أصداء وضجيج إعلامي وسياسي، وكأنها حرب بين دولتين عدوتين وليست مباراة بين بلدين أخوين، وقد أذكت القيادتان: المصرية والجزائرية هذه المصادمات وكأنّ كل قطر أُمّة منفصلة.

أمّا عن التجزيء السياسي والتفتيت الثقافي فإنّ أبرز من يشارك -الآن- فيه دولتان، هما: إسرائيل وإيران، وسنستعرض الصور التي تشارك فيه هاتان الدولتان.

1- دولة إسرائيل: من الواضح أنّ إسرائيل دولة غريبة عن نسيج المنطقة الثقافي والاجتماعي والسياسي... إلخ، وهي قد زرعت بشكل اصطناعي، لذلك فهي حريصة على التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي لكل مفردات المنطقة من أجل تمزيقها، وجعل إسرائيل هي الأقوى، والفاعل الأكبر في توجيه سياسات المنطقة، وقد اتضح ذلك في تحريضها لكثير من الأقلّيات العرقية والدينية على التمرّد والانفصال كما حصل مع الأكراد في العراق منذ الستينات، وكما حدث مع المسيحيين في لبنان في الثمانيات، وكما يحدث -الآن- من تمزيق للسودان إلى دولة مسيحية في الجنوب، وإلى دولة عِرقية في الغرب.

أمّا في مجال التجزيء السياسي فقد تسرّبت عدّة وثائق من الدوائر الإسرائيلية، أهمّها: الوثيقة التي نشرها الصحفي الهندي كارانجيا، ونشرتها الصحف المصرية عام 1957 حول خطط إسرائيل في تقسيم المنطقة وإنشاء دولة للدروز في جبل العرب، ودولة للعلويين في جبل العلويين، ودولة للمسيحيين في لبنان... إلخ، ومن أهمّها أيضاً: الوثيقة التي نشرتها المجلة الإسرائيلية (kivunim) ومعناها في العربية (اتجاهات) في فبراير/ شباط 1982، وبيّنت الوثيقة أنّ الدوائر الإسرائيلية الصهيونية أعدّت خطة لتجزيء مصر إلى دولتين: إحداهما قبطية في الجنوب والأخرى سنّية في الشمال، وأعدّت خطة ثانية لتجزيء العراق وبلاد الشام، وأعدّت خطة ثالثة لتجزيء المغرب العربي، والرابعة لتجزيء الخليج العربي.

ومما يؤكّد ما ورد في الوثيقة السابقة دفع المحافظين الجدد -وهم لوبي صهيوني- أميركا إلى غزو العراق وتفتيته ثقافياً وتجزيئه سياسياً، وكذلك الاضطرابات والانقسامات في الجزائر وموريتانيا والصومال وجيبوتي والسودان... إلخ.

ومن الواضح أنّ ما نراه على أرض الواقع -الآن- من اضطرابات وانقسامات في السودان والعراق واليمن والصومال والجزائر وموريتانيا وجيبوتي... إلخ يؤكّد ما ذهبت إليه المجلة.

2- دولة إيران: تمارس دولة إيران -بكل أسف- دوراً يؤدّي إلى التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي للمنطقة، وإنّ ما يزيد في أسف المرء وحزنه أن يقوم بهذا التفتيت والتجزيء دولة كإيران تحمل الهوية الإسلامية، وإنّ أبرز ما يؤشّر على دور التفتيت الثقافي لإيران هو حرصها على نشر المذهب الشيعي في المناطق السنّية، وقد وضّح الشيخ يوسف القرضاوي هذه النقطة، فهو من أبرز مشايخ أهل السنّة الذين دعوا إلى توحيد الأُمّة بجناحيها: السنّي والشيعي في مواجهة أميركا وإسرائيل، وإلى توحيد المواقف السياسية للأُمّة في مواجهة أعدائها، واستنكر كل الاعتداءات التي تقع على الشيعة في أيّ مكان، ورفض تكفيرهم، وهو في كل هذا كان مقبولاً ومعتدلاً، وتعاون معهم في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، كما تعاون معهم في عدّة أُطُر تنظيمية واجتماعية وسياسية... إلخ، لكنه فوجئ بعد كل هذا الموقف المعتدل والمعقول والمقبول بحرصهم على نشر مذهبهم الشيعي في مناطق سنّية.

وقد تأكّد الشيخ القرضاوي -بنفسه- من هذا التصرّف في مناطق متعدّدة كمصر والمغرب العربي، فدعاهم إلى التوقّف عن هذا الفعل، وبيّن لهم إنّ في ذلك خسارة كبيرة لهم، وخسارة لتوحيد الجهود باتجاه أعداء الأُمّة، وخاطبهم قائلاً "تكسبون آحاد الناس في مصر لكنكم تخسرون شعب مصر كله بفعلكم ذلك" ثم أردف قائلاً "دعونا نتفق على أن لا يدعو أحد إلى مذهب أهل الشيعة في المناطق ذات الأغلبية السنّية، وكذلك لا يدعو أحد إلى مذهب أهل السنّة في المناطق ذات الأغلبية الشيعية"، لكنّ دعوته المنصفة والعادلة لم تلق استجابة من إيران.

ليس من شك بأنّ نشر إيران للمذهب الشيعي سيؤدّي إلى تصدّع كبير في الكيان الثقافي للأُمّة، وستؤدّي نتائجه إلى تفتيت ثقافي وتجزيء سياسي كما يحصل الآن في العراق الذي تشير التوقّعات إلى احتمالات انقسامه إلى ثلاث كتل: سنّية في الوسط، وشيعية في الجنوب، وكردية في الشمال، وسيكون هذا في خدمة توجّهات الغرب وإسرائيل وتخطيطاتهم.

الخلاصة: إنّ أكبر خطرين واجها الأُمّة خلال القرن الماضي ومازالا يواجهانها هما: التفتيت الثقافي والتجزيء السياسي، وعلى القيادات الفاعلة في الأُمّة مواجهة هذين الخطرين، ويكون ذلك بالحرص على الثوابت التي تقوم عليها وحدة الأُمّة الثقافية من جهة، وعلى تلاحم القيادات السياسية في مواجهة الخطر الصهيوني والأميركي مع إعطاء كل فريق حقّه في المحافظة على كيانه الثقافي من جهة ثانية.


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :

عندما يزايد الحكام العرب على شعوبهم في جلد الذات!

بقلم : الدكتور فيصل القاسم

لقد كانت القمة العربية الأخيرة فريدة من نوعها في تاريخ القمم العربية، فلأول مرة يتخلى الحكام العرب عن الخطاب الرسمي الخشبي الذي لم يعد يصدقه أحد منذ سنين، ليتحدثوا بلغة الشارع.


ولولا أننا كنا نشاهد الزعماء العرب على شاشات التلفزيون وهم مجتمعون في مدينة سرت الليبية، لكنا ظننا أن المتحدثين ليسوا أبداً حكاماً، بل من المواطنين العرب البسطاء يدلون بآرائهم ومظالمهم عبر برامج البث المباشر التي تبثها الإذاعات والتلفزيونات العربية من طينة "فش خلقك"، أو "عبر عن رأيك" أو "بساط أحمدي" أو "منبر المشاهدين".


لأول مرة نسمع نغمة مختلفة تماماً، لا بل وجدنا أن زعماءنا يصرخون ويشتكون، ويزايدون على المواطنين العرب في شتم الواقع العربي، وجلد الذات، وضرورة الإصلاح، والنهوض، والتحرك، والفعل، ومواجهة التحديات.


لا بل إن أحدهم اعترف بحق المواطنين العرب بأن يكونوا متمردين وساخطين على الوضع القائم، وبأن زملاءه الحكام "في وضع لا يحسدون عليه".

وقبل انطلاق القمة استمعنا إلى بعض الزعماء وهم يعترفون بشجاعة نادرة بفشلهم في الوفاء بمتطلبات شعوبهم وأوطانهم، وبأن من حق الشعوب أن تفقد الأمل في حكوماتها، مع العلم أن بعضهم لم يكن يترك أي فرصة إعلامية إلا ويستغلها ليتغنى بإنجازاته ومآثره الوطنية والقومية الجوفاء.


لكنهم هذه المرة، على ما يبدو، آثروا الابتعاد عن الكذب والتدليس والضحك على الذقون، وأكل الحلاوة بعقول شعوبهم، بعد أدركوا أن الشارع راح منذ زمن بعيد يسخر من خطابهم الطاووسي المهترئ.
ويعود الفضل في ذلك طبعاً إلى وسائل الإعلام الحرة التي فتحت المجال أمام النخب والشعوب في الأعوام القليلة الماضية كي تعبر عن رأيها بحرية وجرأة غير مسبوقة بالأنظمة الحاكمة وفضح فسادها وتخلفها وعمالتها وارتهانها للخارج.


لقد ذاب الثلج وبان المرج.


ولم يعد بإمكان الحكام أن يغطوا عين الشمس بغربال، لم يعد بإمكانهم أن يكذبوا ويصوروا الأسود أبيض، والأبيض أسود، فراحوا يعترفون بالواقع المرير الذي تسببوا هم أنفسهم في صنعه.


لكننا نخشى أن تكون المزايدات على نبض الشارع والتقرب من الخطاب الشعبي مجرد خدعة لامتصاص النقمة، خاصة بعد أن انكشفت عورات الأنظمة العربية بشكل لم يسبق له مثيل بسبب الثورة المعلوماتية والإعلامية.


ويؤكد هذا الرأي الباحث والكاتب علي خليفة الكواري الذي يرى أن "حكام المنطقة العربية من حيث التكوين النفسي والقيمي وربما التطلعات العامة لا يختلفون كأشخاص عن بقية المواطنين.


وهم يشعرون بالضغوط وربما الضيق كأفراد.


وإذا أتيحت فرصة الجلوس مع أحدهم فإن السامع لا يجد فرقاً كبيراً بين كلامهم وما يمكن أن يقوله عن تردي الوضع العربي والإقليمي وتداعياتهما المستقبلية, ولكن ذلك الكلام ينطبق عليه القول السائر "أسمع كلامك يعجبني أشوف أفعالك أتعجب".


بعبارة أخرى فإن ما سمعناه من شكاوى لدى الحكام أنفسهم في قمة سرت ليس إلا مجاراة شكلية لرأي الشارع كنوع من تنفيس الاحتقانات المتراكمة في نفوس الشعوب العربية، لا أكثر ولا أقل.


إن الذي يعترف بهذا الكم الهائل من المشاكل والإخفاقات يجب أن يفعل شيئاً لحلها ومعالجتها، وأن لا يكتفي فقط باللطم والعويل، خاصة وأن أولئك الحكام، على عكس الشعوب المغلوبة على أمرها، يمتلكون أدوات الحل والربط والعلاج، فهم الذين يتحكمون بوسائل الإعلام، والثروات، والجيوش، وصنع القرار وبالتالي، بدل التذمر والشكوى عليهم التحرك إذا كانوا صادقين في شكواهم، لكنهم لن يتحركوا لأساب كثيرة، أولها أن دوائرهم الانتخابية ليست في بلدانهم لدى شعوبهم، بل في عواصم القرار الغربية مثل واشنطن ولندن وباريس، بعبارة أخرى، فهم مسؤولون أمام أسيادهم في الغرب وليس أمام الشعوب، ويجادل الكواري في هذا الصدد قائلاً :


" إن علاقة الدول الغربية الكبرى مع دول المنطقة العربية, تقوم على أساس تفاهم مع الأنظمة الحاكمة ومقايضة ضمان استمرار حكم تلك الأنظمة وحماية السلطة المطلقة للحاكم مقابل أخذ الحكام "بنصيحة" القوى العظمى في الغرب والانسجام مع رؤيتها الإستراتيجية, في ظل الوجود العسكري والنفوذ الاقتصادي وإعطاء الأفضلية للمصالح الاقتصادية والتجارية للدول الأجنبية الحامية....وعلى من أراد الوصول للحكم بالوارثة أو من خارجها, أن يتفاهم مع القوى الحامية مباشرة أو من خلال حلفائها الإستراتيجيين، وأن يقوي علاقته بهم.


وقد نتج عن هذا التفاهم والتحالف والحماية, استمرار حكم الأنظمة نفسها منذ عقود.


ولذلك لم يتغير حاكم من حكام المنطقة بأي أسلوب كان, إلا بعد أن توافق الدول الحامية على تغييره وفقاً للأسلوب المناسب الذي تراه.


وجدير بالملاحظة هنا، حسب الكواري، أن دول الحماية اتخذت دائماً الموقف الداعم لحكومات المنطقة في مواجهاتها لحركات الإصلاح ومساعي التغيير السياسي وغطت سياسات حكومات المنطقة إعلامياً ودبلوماسياً إلى جانب القوة العسكرية, إن لزم الأمر.


وبناء على هذا التحليل، علينا أن نأخذ "صحوة ضمير" الحكام المفاجئة في مؤتمر القمة الأخير بكثير من الحذر، فلو كانوا فعلاً صادقين في تذمرهم من الوضع العربي المتردي لاستقالوا من مناصبهم، لأن خمسة بالمائة من الكوارث التي تسببوا بها لشعوبهم كفيلة بأن تطير أي حاكم في العالم من منصبه، لا بل أن تعرضه للمحاكمة كمجرم خطير من العيار الثقيل.


فعندما يعترف الحكام المنتخبون ديمقراطياً بأخطائهم فإن ذلك يكون عادة مقدمة أكيدة للتكفير عن الذنوب والتنحي عن السلطة، وهذا لن يفعله الحكام العرب أبداً، فكلنا يعرف أن الذين تسببوا في ضياع الأرض والهزيمة أمام الأعداء مثلاً ظلوا يحكمون حتى خطف عزرائيل أرواحهم، علماً بأن أي جنرال يحترم نفسه لا يستقيل فقط عندما يخسر المعركة، بل ربما ينتحر.


بقي أن نقول إن اللهجة السياسية الجديدة التي بدأ يتبناها الحكام العرب لن تنطلي على الشعوب. صحيح أنها طازجة من حيث الشكل.


أما في العمق، فلا طعم جديداً لها أبداً، فالعويل الرسمي الذي أتحفنا به قادتنا المنتخبون غربياً، والمزايدات على الشعوب العربية في جلد الذات، ينطبق عليها المثل الشعبي الشهير :


ضربني وبكى وسبقني واشتكى.


وسلامتكم.


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

امريكا.. وفشلها الاقليمي
عبد الباري عطوان




الولايات المتحدة الامريكية شنت حربين على العراق، الاولى في شباط (فبراير) عام 1991 تحت عنوان 'تحرير الكويت'، والثانية في آذار (مارس) عام 2003 تحت شعار 'تحرير العراق'، ولكن الهدف الاساسي كان تغيير النظام الحاكم، واستبداله بآخر موال لها، ومتماه مع مشاريع هيمنتها، ومهادن لاسرائيل اسوة بالعرب الآخرين.

مهندسو الحرب الاخيرة على العراق من المحافظين الجدد وحلفائهم ومؤيديهم (العرب على وجه الخصوص) استخدموا ذريعة امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل لتبرير عدوانهم، وعندما انفضحت هذه الاكذوبة بالدلائل العملية، رفعوا شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان لتبرير غزوهم، واحتلال بلد، وقتل مليون من ابنائه، وتيتيم اربعة ملايين طفل، وتهجير حوالى ثلثي هذا الرقم على الاقل الى دول الجوار، او داخل العراق نفسه.
نعترف بأن العراق الجديد شهد انتخابات شفافة وحرة، مرتين منذ الاحتلال، الاولى عام 2005، والثانية قبل شهر تقريبا، وكانت نسبة المشاركة في الثانية اكثر من ثلاثة وستين في المئة، بسبب مشاركة ابناء الطائفة السنية الذين قاطعوا الانتخابات الاولى بصورة شبه جماعية.
قوى خارجية عديدة تدخلت بشكل مباشر في الانتخابات بالمال او النفوذ. وكان لافتا ان الولايات المتحدة وحلفاءها العرب، مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الاخرى، ساندت قائمة الدكتور اياد علاوي 'العلمانية'، بينما وقفت ايران بقوة خلف القوائم الشيعية الاخرى.
الانتخابات العراقية الاولى سلّمت البلاد الى الاحزاب الطائفية الاصولية، او بالاحرى كرّست وضعا قائما اسست له الادارة الامريكية ودعمته، وعندما انقلب السحر على الساحر، ارادت الولايات المتحدة اصلاح خطئها من خلال الانتخابات الثانية، فجاءت النتائج اكثر كارثية، او هكذا نعتقد.
الادارة الامريكية الديمقراطية الحالية التي وصلت الى البيت الابيض على حساب حروب المحافظين الجدد الفاشلة في منطقة الشرق الاوسط (العراق وافغانستان) تجد نفسها حاليا في مأزق اكبر في البلدين والمنطقة بشكل عام.
' ' '
قبل الغزو الامريكي للعراق كان المعممون وغير المعممين، الطائفيون والعلمانيون، الليبراليون والشيوعيون، العرب والاكراد، يولّون وجوههم صوب الكعبة الامريكية، يحجون اليها تباعا، فرادا وجماعات، لطلب الود والاستماع الى التوجيهات. وبعد سبع سنوات من الغزو والاحتلال، وخسارة ثمانمئة مليار دولار، واربعة آلاف قتيل امريكي، واربعين الف جريح، وإحلال الديمقراطية الامريكية مكان 'الدكتاتورية' المحلية، واجتثاث البعث ورجاله، وذهاب ابناء العراق الى صناديق الاقتراع مرتين، باتت طهران هي الوجهة المفضلة للسياسيين انفسهم، والمعممين انفسهم، حيث حلت وباستحقاق، مكان العاصمة الامريكية.
هل هو الغباء الامريكي، ام الدهاء الايراني، ام قصر النظر العربي، ام الخبث الاسرائيلي، ام كل هذه العوامل مجتمعة؟.. كل ما نعرفه ان ايران، العدو اللدود للولايات المتحدة، والمنافس الأبرز لهيمنتها على منابع النفط وصادراته واحتياطاته، هي الفائز الاكبر حتى هذه اللحظة.
ومن المفارقة ان الدكتور اياد علاوي، الحليف الاقرب لواشنطن بين كل السياسيين العراقيين، والعامل الاكثر تأثيرا في خطط اطاحة النظام السابق، هو الوحيد الذي لم يُدع لزيارة طهران، ربما لانه العلماني الابرز الذي فاز بالاكثرية في الانتخابات الاخيرة بأصوات الطائفة السنية.
الديمقراطية العراقية التي ارادتها واشنطن لتكريس هيمنتها، وتعزيز سلطة حلفائها، وتحقيق الاستقرار والامن في البلاد بما يمهد الطريق لسحب قواتها، او بالاحرى هروبها في العام المقبل، تحولت الى كابوس
باعطائها نتائج عكسية تماماً.
فرص الدكتور علاوي في تشكيل الحكومة الجديدة المقبلة تبدو محدودة، مما يعني ان كل الاستثمار العربي والامريكي المالي والمعنوي، لانجاحه سيذهب هباء. فالسيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق الحالي هدد باللجوء الى العنف، اذا لزم الامر، لمنعه من الحلول محله في سدة الحكم. والسيد المالكي يعني ما يقول، فهو يملك، وبفضل الغباء الامريكي ايضاً، السيطرة الكاملة على القوات الامنية والعسكرية، والخزائن العامرة بأموال العوائد النفطية.
نظرياً يملك الدكتور علاوي وانصاره من السنة، العرب والاكراد معاً، دعم القوات الامريكية (20 الف جندي) الموجودة حالياً في العراق اذا لزم الامر، ولكن هل ستتورط هذه القوات في حال حدوث حرب اهلية نتيجة لهذا الانقسام العراقي الاخطر والاكثر دموية في حال لجوء طرفيه، او اطرافه الى السلاح والعنف لحسم الاوضاع؟
' ' '
الولايات المتحدة الامريكية تواجه اخطر انواع الفشل لسياساتها الخارجية في منطقة كانت، ويجب ان تكون من وجهة نظر مخططيها الاستراتيجيين، المنطقة الاكثر ولاءً واستقراراً كمنطقة نفوذ لها وذلك للأسباب التالية:
' اولا: حلفاؤها الاسرائيليون الذين زوّدتهم بأكثر من مئتي مليار دولار كمساعدات على مدى ستين عاماً، وساهمت بدور كبير في تسليحهم وبقاء دولتهم، باتوا يتمردون عليها، ويتحدّون ادارتها، ويرفضون ابسط طلباتها في الحفاظ على مصالحهم، اي الامريكيين، الاستراتيجية، مثل مجرد تجميد الاستيطان في القدس المحتلة.
' ثانيا: حلفاؤها العراقيون الذين سخّرت قواتها في خدمة طموحاتهم وضحّت بسمعتها من اجل اطاحة عدوهم اللدود الراحل صدام حسين، وايصالهم الى سدة الحكم، اداروا لها ظهرهم، وتحالفوا مع عدوتها ايران، وعلى رأس هؤلاء الدكتور احمد الجلبي الصديق الصدوق للمحافظين الجدد.
' ثالثا: حامد كرزاي الحليف الامريكي الآخر الذي جاءت به واشنطن من المجهول الى قصر الرئاسة في افغانستان، ليكون رمز الديمقراطية، والغطاء الامريكي، والمحارب الابرز والاشد لطالبان و'القاعدة'، لم يتورط في الفساد وتزوير الانتخابات فقط، بل ذهب الى ما هو ابعد من ذلك، وبات يهدد بالانضمام الى طالبان!
العنف او الارهاب مثلما يسميه الامريكان عاد بقوة الى المنطقة بفضل التدخل الامريكي، فالانفجارات باتت شبه يومية في العراق، ومرشحة للتصاعد، حيث حصدت امس ارواح العشرات من العراقيين، مما يؤكد ان تنظيم 'القاعدة' والفصائل الاخرى التي تتحالف معه، او تتبع نهجه، وتعارض المشروع السياسي الامريكي في العراق قد عادت بقوة. وليس من قبيل الصدفة ان يتوازى هذا مع تصعيد مماثل في افغانستان وباكستان، يستهدف السفارات الاجنبية في البلدان الثلاثة.
المصالحة الوطنية في العراق لم تتم، وفرص اتمامها المستقبلية باتت اكثر تعقيداً، والشيء نفسه في افغانستان، ولكن المصالحة الاهم التي وعد الرئيس اوباما بتحقيقها بين امريكا والعالم الاسلامي في عهد ادارته هي التي اجهضت، بل ظلت نطفة ولم تتطور حتى الى جنين، بفضل العداء المستحكم للمؤسسة الامريكية الحاكمة لكل ما هو عربي ومسلم.


__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :

شكراااااااااا