على ضفاف الحبّ
كيف يكتب المرء عن حبه لأمّه, ومدى تعلّقه بها ومدى حنينه إلى حضنها!!
وهل لشاعر أن يصف هذا الحبّ؟ أو لكاتب أن يسطّره أو لعباراتٍ أن تحتويَه؟!
وإني لأجزم - والله - إنّ كلّ ما كُتب ونظم عبر العصور والأزمنة والدهور, لا يكافئ سطراً واحداً من حبّ المرء لأمّه.
أمّي الغالية:
يعجز القلم عن رسم شكل من أشكال حبّك أو توضيح لون من ألوانه.
فحبّك أشكال وألوان؛ وأنهار وبحار, وسماء وأمطار؛ وورد تتفتح على خدود آذار.
إنّ الأشكال لتعجز أن تحيط بهذا الحبّ, وإنّ الألوان لتحتار كيف ترسم طيَفه أو ظلاًّ من ظلاله.
وكيف يرسم المرء بقلمٍ أنت فيه البدايةُ والنهاية, وكيف يكتب القلمُ عمّن علّمه مسك القلم؟! وكيف يمدح الحرف من علمه نطق الحروف؟!
حبّك أشكال وألوان, لا يستوعبه شكل, ولا يحدّه لون, ولا تتّسع له آفاق الدنيا.
فيا ترى ماذا يحبّ المرء في أمّه؟
أيحبُّ فيها الحنان الذي ملأ أركانه!
أم التفاني الذي أخجل ضميره وأعيا جنانه!
أم يرى فيها الطّيب الذي ملأ الكون وعطّر أركانه!
في كلّ يوم مع تلاوات آيات الفجر المشهود, أنادي الربَّ المعبود وأتبتّل إليه تبتّل العابدين, أن أكون بين يديك رضيّاً وبخدمتك حَفيّاً.
وكيف لا ومن حصل له الرضا من أمّه, والخدمة لها كان في الجنّة لا محالة بإذن الله.
كلّ زهرات الكون لا تساوي ضحكة من ضحكاتك, وكلّ أنهار الأرض لا تعدل عندي دمعة من دمعاتك؟!
أيّ حضن أهنأ من حضنك؟! وأيّ حِجْر أوسع من حِجْرك وأيّ وسادة أنعم من يديك؟!
وهل جمال الكون إلا بعضٌ من رضاك؟ وهل ضحكات الحياة إلا بعضٌ من ضحكاتك.
وهل يحتاج حبّ المرء لأمّه إلى دليل أو إثبات؟!
لعمري إنّ هذا لهو العقوق الخفيّ.
لكنّ المشكلة أنّ الإنسان من شدّة القرب ينسى الحبّ, ويسبح في عالم الاستغلال والانتهاز لمن يحبّ !
أمّي:
كيف لا يحبّك القلب وهو الذي جاور قلبك تسعة أشهر, يسمع دقّات قلبك, ويسبح في بحر فضلك, ويتّكئ يمنة ويسرة على وسائد الحنان في رَحِمِك؟!
كيف لا يحبّك القلب وقد جعل الله الجنّة تحت قدميك, وجعل دخول الجنّة بسبب الإحسان إليك؟!
لن تجد في الكون إنساناً إلاّ يحبّ أمّه, وإن بدا منه ما يبدو من الأولاد من صدود وردود وجفاء.
كيف لا يحبّها وهي التي حملته كُرْهاً ووضعته كُرْهاً
إنّ أغلب الأولاد لا يرون في أمّهاتهم إلاّ الحنانَ الذي يُنْتَهز والطيبة التي تُسْتَغل, وإنّ أغلب الأمّهات لا يرين في هذا الانتهاز وهذا الاستغلال إلا جمالاً يداعب أجفانهنّ, وحنيناً يلامس أفئدتهنّ , ويا للعجب كيف يحب المرءُ أن يُستغل ويُنْتَهز!!
لكن لا عجب في ذلك إذا كان المستغِلُّ هم الأولاد والمستَغَلَّة هي الأمّ.
أمّي الحبيبة:
إنّ للجنّة دروباً أنت خطاها, وللنّار حجاباً أنت ستائرُه, وإنّ للنجاح سلّماً رضاكِ درجاتُه, وللفشل أودية غضبك دلالاتّه.
فَمُنّي علينا بخطى الجنة وأكرمينا بستائر النار وتفضّلي علينا بدرجات النجاح والتوفيق, على الرغم من تقصيرنا وسوء أدبنا.
أمّي:
لقد جعل الله عقوقك ذُلّاً في الدنيا وخسارةً في الآخرة, فأزيلي عنّا هذا الذلّ وادعي الله لنا أن يجعل تجارتنا رابحة فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رَغِمَ أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عنده الكبر لم يدخلاه الجنة » [مسند الإمام أحمد مسند أبي هريرة].
أمّي الجميلة:
وهل هناك جمالُ امرأةٍ كجمال وجه الأمِّ؟!
فأوّل امرأة تتفتّح عليها العيون وجهُ الأمِّ فلم لا يأنس به, ويلتجئ إليه, وهو الذي لا يعرف وجه امرأة غيرَه ولا ابتسامةَ ثغرٍ غير ابتسامةِ ثغرها.
كل امرئ يحبُّ وجه أمّه ولو كانت دميمةَ الخِلْقة, فهو الوجه الذي ضحك له في طفولته, وآنسه في رجولته.
أمّي:
كلّما نظرْتُ إليك وأنت تصلّين وتستغفرين شعرت بأمن يسري في كياني, لأنّي قد تيّقنت أنّ هناك من يدعو لي ويترضّى عنّي.
وكلّما ضممت صغاري شعرت بالأمن الذي كنت تمنحين؛ وبالحنان الذي كنت به علينا ووالدي تجودين, وبالجهد الذي كنت وإياه تبذلين.
أيا أمّي..
أيا أمّي..
أنا الولد الذي أبحر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً.. ولم أكبر؟
سلُوا كلَّ من فَقَد أمّه فإنّه سيقول لكم:
لقد فقدتُ الحياة والبركة والحب والعطف والحنان فقدت الصوت الموجِّه والصدر الحنون, والمرشد النّاصح والمحبّ الخالص.
سلوا كلَّ من فقد أمّه فإنّه سيقول لكم: يمينا لست أنساك
كتبتُ إليكِ يا أمّي
نشيداً في المَدى انسَرَبا
أُعبّرُ فيه يا أمّي
عن الدمع الذي انسَكبا
عن القلبِ الذي اضّطربا
عن الفكر الذي شرَدا
عن الشوق الذي اتَّقدا
ولم أُشعِرْ به أحَدا !
فمنذ رحلتِ يا أمي
وحزني، آهِ مِن حزني !
يُطاردُني
يحاصرُني
فتَفضَحُ عبرةُ العين ِ
بصمتٍ بعضَ أشواقي
فأسجدُ في مَدى الصبر ِ
وتسري نغمةُ الشكر ِ
بأعماقي وأوراقي
..
ولا تدرينَ يا أمي
ولا أدري متى ألقى مُحياّكِ ؟
دعوتُ اللهَ يا أمي
ليجمعَنا بميعادِ
هناكَ بصحبة الهادي
هناكَ سيَنجلي همّي
ويَسعَدُ قلبيَ الباكي
وحتّى ذاكَ يا أمي
يميناً لستُ أنساكِ
أمي:
أحارُ كما يحارُ الملايين!
وأحار كما حار الملايين!
وسأظلُّ أحار كما سيظلُّ يحار الملايين!
سأظلّ أتيه بين أزقّة البيان وأودية الشعر! وأغرق في بيان البلغاء وعبارات الخطباء!
وأستجدي العلماء والأدباء!
أبحث عن جواب لسؤال حيّرهم جميعاً, وأحرجهم جميعاً, واستصغرهم جميعاً!
كيف يمكن أن أفيَك ولو جزءاً من حبِّك؟!
وهل يرقى الإنسان لِيَفيَ أمّه جزءاً من حقّها, أو زفرةً من زفراتها, لعمري إنّ هذا الأمر لتنقطع فيه أعناق الإبل, وتفنى فيه أعمار الرجال, ولا يصلون إليه.
كيف أفيك جزءاً من حقّك وقد جعل الله خدمتك جهاداً يعدل قتال الأعداء؛ في معركة يسيل فيها الدماء, ويُُقتل الرجال, ويُيتَّم الأطفال, وتُسبى النساء فجعل رضاك أثقل من كلِّ ذلك؛ فعن عبد اللهِ بن عمرٍو
رضيَ اللهُ عنهما يقول: «جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلم فاستأذَنهُ في الجهادِ فقال: أحيٌّ والِداكَ؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» [ متفق عليه]
بل كيف أفيكِ حقّك وقد جعل الله ضحكتك تعادل هجرة في سبيله, يترك المرء فيها مالَه وأهلَه وعشيرته, فجعل ضحكتك أنفس من ذلك كلّه؛ فعن عَبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي جِئْتُ أَبَايِعُكَ علَى الهِجرَةِ وَلَقَد تَرَكتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَان قَالَ: « ارْجِعْ إلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا ».[ النسائي كتاب البيعة- باب البيعة على الهجرة].
كيف أفيك حقّك وأنت جواز مروري إلى الجنّة وصكَّ براءتي من النّا,ر وقد جعل الله رضاك توقيعاً يطأطئ له خزنة النار, وتتلقّفه ملائكة الجنّة مستبشرين مسرورين؛ فكما قيل: فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار, وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة [تفسير القرطبي تفسير سورة الإسراء الآية 23].
كيف لا أبرّك وقد جعل الله برّك سبباً لقبول دعائي وتضرّعي إلى الله, فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلم َيقُولُ: « يَأْتِي عَلَيْكُمْ أوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِن مُرَادٍ، ثُمَّ مِن قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرصٌ فَبَرِئَ مِنهُ إِلاَّ مَوضِعَ دِرهَمٍ, لَهُ وَالِدةٌ هُو بِها بَرٌّ, لَو أَقسَمَ عَلَى اللّهِ لأَبَرَّهُ, فَإِنِ استَطَعتَ أَن يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافعَلْ».قال عمر رضي الله عنه: فَاسْتَغْفِرْ لِي فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.[مسلم كتاب الفضائل- باب فضائل أويس القرني].
أمّي:
أحنّ إليك, وأشتاق لنظرة من عينيك, فأنا الرجل الذي مازال يرى دلاله بين عيني أمّه, وأنا الرجل الذي طالما حننت لأنام على ساعديك واحتاج إلى ضمة إلى صدرك.
أعــودُ إليـــكِ يــا أمّــــي
أعـــودُ لصــدركِ الحـــانــي
أعـــودُ بكــلِّ أشــــواقـي
وأشـــــجانــي وأحـــــــزاني
فضمّينـــي وضمّـــــيني
فإنــَّــكِ ملجـــــــئي الثانـــي
أحـــنُّ لقبــــلةٍ كانــــــتْ
تهدهدنــــــي وتــــرعــــاني
أحــنُّ لصوتـكِ المحزون
أيـــــا وحــــــيي وكتمانـــي
آه ما أجمل ضحكةَ ثغركِ الجميل.
ضحكاتك يا أمي لا مصلحةَ فيها ولا رياء.
فهي تنبعث بسلاسة وبساطة وهدوء.
تضفي على القلب حناناً واطمئناناً وروعة.
تجعله آمناً هادئاً
مّي إني أحبّك وأحبّ لك الخيّر, وأحب لك الهداية, كما أحبَّ أبو هريرة الخيرَ لأمّه والهداية لها فعن أبي هُرَيْرَةَ رصي الله عنها قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَىٰ الإِسْلاَمِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللّهِ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسلاَمِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا اليَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللّهَ أَنْ يَهْدِي أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : « اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَة َ» فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِراً بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَىٰ الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَاف فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ اللّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَىٰ رَسُولِ اللّهِ ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَىٰ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ, فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَىٰ عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْراً قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ اللّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَىٰ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : «اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هٰذَا ـ يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ ـ وَأُمَّهُ إِلَىٰ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ [مسلم كتاب الفضائل -باب من فضائل أبي هريرة]