هي مقاربة وجدت رواجها منذ ثمانينات القرن الماضي مستفيدة خاصّة من أعمال الفيلسوف الفرنسي "إدغار موران"(Edgar Morin) الذي بلغت معه البنائية قمة نضجها التربوي بعد "بياجي(Piaget)" إذ كان "موران" يرى في"الأشياء أنظمة" وفي المعارف كليات الفصل بينها ضرب من ضروب "الانغلاق المتخصّص".
نجده يمهّد لذلك خاصة في كتابه "تربية ...المستقبل المعارف السبع الضرورية لتربية الطفل" متحدّثا عن مفارقة نعيشها كلّما فكّرنا في ممارسة التربية ،مؤدّاها أنّ "التربية التي تهدف الى توصيل المعرفة الإنسانية هي عادة تربية جاهلة بماهية هذه المعرفة وبآلياتها وحدودها وصعوباتها وانحدارها غالبا في اتّجاه الوهم أو الخطإ" .
إننا نتعامل مع المعارف الموروثة على أنّها "معطى جاهز "ولا نخوض الصراع الحيويّ من أجل الوضوح" لذا بقيت التربية في معظم الأحيان عملا غامضا."بينما الخروج من حالة الغموض تلك يبقى رهين درس الخصائص الدّماغية والذهنية والإنسانية والثقافية للمعارف الإنسانية" . من واجبنا إذن بناء معرفة قادرة على تمثّل المشاكل الجوهريّة والشّمولية في أفق دمج المعارف" ،فكثيرا ما تؤدي المعارف الجزئية أوالمجتزأة إلى العجز عن الرّبط بين الأجزاء والكليات وخاصة بين أنساق المعارف وبنى الاختصاصات،لذا يفترض أن نعمل على إكساب دماغ الطفل مرونة التّفكير في عالم رحب مركّب متكامل الأنحاء يتملّك ثنيه منهجية تمثّل تلك العلاقات وتفاعلاتها الخصبة" .هذا ما جوّز حديث "موران" عن "الشّرط الإنساني للمعرفة" وعن تعليم " الهويّة الأرضية" نسبة إلى كوكب الأرض،أحد المبادئ الأساسية لتربية المستقبل.إضافة إلى مبدإ مواجهة غير اليقيني والريبي والمحتمل نتيجة وجود ما يسميه "الضلالات المنظوماتية" أي أن كلّ منظومة تتخفّى - حسبه - وراء غلالة منطقية تنتقي العمليات الموائمة لانسجامها الداخلي حتى تحولها إلى حقائق بديهية كثيرا ما ينخدع بها العقل البشري أو على الاقل لا يدرك تخومها(عمليات الإقصاء والدمج والفصل والوصل والتضمن والنفي) فالمنظومات تنتج مفهمة تتولى مراقبة استعمالهاوتقصي احتمالات التعارض أو التعدد، وهذا ما يمنحها طابعا إيدولوجيا زاجرا ،يبرّر في ذات الوقت حاجة العقل البشري إلى ممارسة التفكيك والنقد وإقامة الموازانات بين الاشباه والنظائر حتّى يتحّرر من الاستحواذ والإلزام ،هذا دون الإغضاء عن السياق وضاغطاته وأحوال الوجدان وأمزجته.
وفي مقال هام له خصّ به المقاربة:
Edgar Morin « Sur l'interdisciplinarité », Bulletin Interactif du Centre International de Recherches et Études transdisciplinaires, n° 2, 1994.
يعرّف الاختصاص كونه "صنفا تنظيميا يقع في صلب معرفة من المعارف العلمية، على أساسه نزوع المعارف الى الاستقلالية خاصة في خطابها وأدوات تفكيرها وآليات عملها" بينما واقعها الابستيمي غير ذلك ،فهو لا يخلو من تعالق وتنافذ وحتى ومن رحلة وهجرة ،وهنا مساق حديثه عن "هجرة الاختصاصات" إلى بعضها البعض، وعن "الشامات العرفانية معيدة التأليف"( Les schèmes cognitifs réorganisateurs) و"ما وراء الاختصاصات" L'au-delà des disciplines)
ولقد اهتم بـ"مقاربة الاختصاصات المتنافذة" تعلّميون آخرون مثل "شيلز" و"بايلي"(BAILLY et SCHILS, 1988) و"جيرودون وسوشون"GIORDAN et SOUCHON, 1992)) ساعين إلى إيجاد حلول عملية لتطبيقها في واقع التعلّمات.
وبالإفادة من أعمالهم اتضح أنّ التعلّم الذي ينهض على تنافذ الاختصاصات" ليس مجرّد تفكير اعتباطي في"كوكتال أو "عجنة" من المعارف "تأخذ من كلّ شيء بطرف" كما قد يذهب في الحسبان ،وليست المقاربة المقصودة من خلاله خليطا غير متجانس من الموادّ وهي لا تقول بمجرّد الإدماج بين الاختصاصات لمجرّد الإدماج، وإنما هي مقاربة تنهض على مبدإ الاستكشاف داخل دائرة نسقيّة من المحتويات المنظّمة ،يحيل بعضها إلى بعض بشكل منسجم متناسق عضويا ،لا يلغي وجود المادة الواحدة، وإنّما يمعن في تأكيد فرادة التعلّم وتحفيز التفكير وإنماء الأرصدة وخلخلة الحدود الوهمية بين الاختصاصات حتّى لا تبقى ظاهرة أو من مفهوم من المفاهيم معنى غامضا مفتقرا إلى أطر الإحالة الضرورية للفهم والإفهام والتحليل وإعادة التأليف والاستخدام.
فالتنافذ المعرفي إقرار مبدئي بوجود جوامع وكليات مفاهيمية ومنهجية مشتركة بين الاختصاصات العلمية تتجلّى خاصّة في مستوى الخاصيات المعرفية لتلك الاختصاصات (كالعلاقات المنطقية مثلا بين البلاغة والحساب وكالصلات المرجعية بين التاريخ والأدب والتربية الإسلامية والفلسفة ومثلها القوانين التحويلية بين الجغرافيا والتربية التشكيلية) تلك الوشائج والتقاطعات هي موجودة في أنساق تلك المعارف في حدّ ذاتها وفي بناها النظامية أوالمنظوميّة ومن ثمّ يمكن توظيفها واستثمارها بشكل تكاملي متكافئ يستهدف مرامي مشتركة أو جامعة يتوصل الى تحقيقها بمداخل و مناول ومحتويات مختلفة.
تعليميا وبيداغوجيا يمكن أن تكون هذه المقاربة منطلقا للجمع بين عدّة مواد تدريسية في إطار رؤية موحّدة لا تلغي الحدود وإنما تبيح للمدرّس أن يأخذ من مادّة إلى أخرى لترسيخ منوال تعليميّ شموليّ لا ندّعي كونه لا يفرّط من شيء في ما يحتاجه المتعلّم من المعلومات والخبرات في مسار مموه من الجمع والمراكمة (Aragrande, 1997). كما لا نقصدبها أيضا "المقاربة بالاختصاصات المتعدّدة"(l’approche multidisciplinaire)
لكنها مقاربة تقوم على الانتقاء المبرّر المدروس من داخل المادّة الواحدة ومن خارجها وهي برهان الثقافة الواسعة للمدرّس وحسن اطّلاعه على مواضيع درسه وقيامه بالبحث البيداغوجي والتعليميّ اللازم، الذي يستدعي بداهةأن ينخرط المتعلّم بدوره في عملية البحث والاستكشاف والجمع والإعداد واستثمار المجلوبات وإحكام الملاحظة والاستنتاج.
لا شكّ أنّ إقرارنا بالبعد النّسقي الوظيفي بين المعارف هو دليل وعينا بضرورة إعادة الاعتبار إلى ما هو موسوعي يعود بالمعرفة البشرية إلى أصلها الابستمولوجي الكلّي الواسع ويجعل من عملية التعلم حاضنها الكبير وحاكمها المسؤول عن ضمان أقصى حدود النّجاح التي لا تقاس نواتجها بالكمّ ،بل بالكيف وتجعل من المعرفة اللغوية أو الرياضية أو الفيزيائية ليست أقلّ قيمة وشأوا من المعرفة الموسيقية فهي لا تقيم مفاضلة بين أي مادة وأخرى متى أضمرت أهدافا أسمى وأرقى تتصل بذات التلميذ وشخصيته ورصيد ما يعلمه وما يعلم أنّه يعلمه وماذا بإمكانه أن يفعل في ما تعلّمه.
آن أوان أن ننتشل التلميذ من وضعيات الغباء المفتعل والمقدمات البديهية والسياقات المعزولة ليصبح التّفكير في مستوى التسجيل والتخييل وحل المسائل في قيمة التعبير و الإنتاج والإبداع، لا بدّ من صنافة جديدة تزيح الحدود الواهمة بين المراقي العرفانية وتبني سلالم المعرفة على نحو تكاملي متدرج لكن على درجة من المرونة والانفتاح والواقعية.
من نتائج هذه المقاربة إن طبقت في برامجنا التعليمية القادمة:
- مراجعة هندسة المناهج التعليمية لتصبح أكثر نسقية واتساقا بين المواد وبين المراحل والاختصاصات والشعب دون إجحاف بالميول وكفايات الأساس وأنواع الذكاء وفي نفس الوقت دون الإبقاء على الحدود الواهية بين الاختصاصات وعلى الفصل التعسفي بين المعارف والمواد.
- مراجعة نظام التوجيه وجدول الضوارب ليتقدم المتعلّم في ما هو عام مشترك ويبقى التوجيه رهين الاختلاف بين الضوارب وبين الشفوي والكتابيّ.
- مراجعة نظام تأهيل المدرسين وشبكة معارف أساسهم ليصبح كلّ مدرّس مختصّا في مادتين على الأقل مع ضمان تكوين جيّد في اللغات والعلوم وتكنولوجيا الاتصالات والتمتع بدرس الفنون والرياضة وعلم النفس وعلم الاجتماع والبيداغوجيات والتعلّميات.
- مراجعة محتويات التعلم ومناهجه ومقارباته ومواقيته وفضائه
- مراجعة معايير التقييم فيصبح التملّك داخل المادة الواحدة مرتبطا ببقية المواد في وضعيات تقويمية جامعة تسبقها سيرورات متابعة وتعديل ودعم وعلاج وتنويع لاستراتيجيات التعلم