عنوان الموضوع : دروس العلوم الاسلامية الفصل الثالث سنة 2 ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب

الدرس الثالث:

علم المكي والمدني

1) تمهيد:

إنّ معرفة المكي والمدني من القرآن من أهمّ ما يستند إليه الباحث في معرفة أسلوب الدعوة، وألوان الخطاب، والتدرّج في الأحكام والتكاليف.

وفي هذا الضوء استعمل العلماء اصطلاح المكّي على قسم من القرآن الكريم، والمدني على قسم آخر منه.

2) معرفة المكي والمدني:

* ـ منهج سماعي: يستند إلى الرواية الصحيحة عن الصحابة والتابعين الذين عاصروا الوحي وشاهدوا نزوله، أو عن التابعين الذين تلقّوا عن الصحابة وسمعوا منهم كيفية النزول ومواقفه وأحداثه.

* ـ منهج قياسي اجتهادي: يستند إلى خصائص المكي وخصائص المدني، فإذا ورد في السورة المكية آية تحمل طابع التنزيل المدني أو تتضمّن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مدنية، وإذا ورد في السورة المدنية آية تحمل طابع التنزيل المكي، أو تتضمّن شيئاً من حوادثه قالوا: إنها مكية، وهذا قياسي اجتهادي، ولهذا نجدهم يقولون: كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية فهي مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حدّ فهي مدنية.

3) تعريف المكي والمدني:

فيه ثلاثة آراء:

* ـ اعتبار زمن النزول: وهو القول المشهور. ويمتاز هذا القول بشمول تقسيمه جميع القرآن، ولا يخرج عنه شيء حتى كان عموم قولهم في المدني : (( ما نزل بعد الهجرة )) ، يشمل ما نزل بعد الهجرة في مكة نفسها في عام الفتح، أو عام حجة الوداع، مثل آية: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) سورة المائدة الآية 3، كما يشمل ما نزل بعد الهجرة خارج المدينة في سفر من الأسفار أو غزوة من الغزوات.

فالمكي ما نزل قبل الهجرة وإن كان بالمدينة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة، فما نزل بعد الهجرة وإن كان بمكة أو عرفة فهو مدني، كالذي نزل عام الفتح، مثل قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) سورة النساء الآية 58، أو نزل في حجة الوداع كقوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) سورة المائدة الآية 3.

* ـ اعتبار المخاطب:

أن المكي ما وقع خطاباً لأهل مكة، والمدني ما وقع خطاباً لأهل المدينة، لأنّ الغالب على أهل مكة الكفر، فخوطبوا بـ: ( يا أَيُّها النَّاسُ )، وإن كان غيرهم داخلاً فيه، وكان الغالب على أهل المدينة الإيمان، فخوطبوا بـ: ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا ) وإن كان غيرهم داخلاً فيه.

وهذا الضابط لا يطّرد ـ ينطبق ـ دائماً، لأنّ في سورة البقرة والنساء ـ وهما مدنيتان ـ خطاباً مكياًّ وهو : ( يا أَيُّها النَّاسُ ).

* ـ اعتبار مكان النزول:

أنّ المكي ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، والمدني ما نزل عليه بالمدينة، ويترتّب على هذا الرأي عدم ثنائية القسمة، فما نزل عليه بالأسفار ـ مثل سورة الأنفال، وسورة الفتح، وسورة الحج ـ لا يطلق عليه مكي ولا مدني وذلك مثل ما نزل عليه بِتَبُوك وبيت المقدس.

ويدخل في مكة ضواحيها، مِنًى وعرفات، والحُدَيْبِيَة، ويدخل في المدينة أيضاً ضواحيها: بَدْر، وأُحُد، وسَلْع.

وكذلك يترتب على هذا الرأي أنّ ما نزل بمكة بعد الهجرة يكون مكياً.

* ونستطيع تلخيص ما ذكرنا ونعتبره القول الراجع وهو:

ـ القرآن المكّي: هو ما نزل قبل الهجرة النبوية، وإن كان بغير مكّة المكرّمة.

ـ القرآن المدني: هو ما نزل بعد الهجرة النبوية وإن كان بغير المدينة المنوّرة.

4) أهمية علم المكي والمدني:

ـ علم المكي والمدني يعين الدارس على معرفة تاريخ التشريع والوقوف على سُنّة الله الحكيمة في تشريعه، بتقديم الأصول على الفروع، وترسيخ الأسس الفكرية والنفسية، ثم بناء الأحكام والأوامر والنواهي عليها، مما كان له الأثر الكبير في تلقي الدعوة الإسلامية بالقبول، ومن ثم الإذعان لأحكامها.

ـ الاستعانة بهذا العلم في تفسير القرآن وفهم معانيه.

ـ تذوق أساليب القرآن والاستفادة منها في أسلوب الدعوة.

ـ الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية.

5) منزلة المكي والمدني:

من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، والآيات المدنيات في السور المكية، و الآيات المكية في السور المدنية.

ـ عناية الصحابة بهذا العلم:

نجد أعلام الهدي من الصحابة والتابعين يضبطون منازل القرآن آية آية ضبطاً يحدد الزمان والمكان وهذا الضبط عماد قوي في تاريخ التشريع، فنرى ابن مسعود يقول: والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله، تبلغه الإبل لركبت إليه.

ـ عناية التابعين:

نجد أيضاً الأعلام من التابعين الذين أخذوا عِلمهم من الصحابة يعتنون بهذا العلم عناية تامة، كيف لا وهم تلاميذ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا رجل يسأل عكرمة عن آية من القرآن، فيجيبه أنها نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سَلْع.

ـ عناية العلماء :

اعتنى العلماء بتحقيق المكي والمدني عناية فائقة فتتبعوا القرآن آية آية وسورة سورة ترتيباً وفق نزولها حيث بذلوا جهداً كبيراً، وراعوا في ذلك الزمان والمكان والخطاب وهو تحديد دقيق يعطي صورة علمية في التحقيق لهذا العلم.

6) ضوابط و مميزات المكي والمدني:

ـ ضوابط المكي: * كل سورة فيها سجدة. * كل سورة فيها لفظ كلا. * كل سورة فيها ( يا أيها الناس ). * كل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الغابرة. * كل سورة فيها قصة آدم وإبليس ما عدا البقرة. * كل سورة تفتح بحروف التهجي مثل: آلم، آلر، حم، ما عدا البقرة وآل عمران.

ـ مميزات المكي: * الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله، وذكر القيامة والجنة والنار، ومجادلة المشركين. * فضح أعمال المشركين من سَفْك دماء، وأكل أموال اليتامى ، ووأد البنات. * قوة الألفاظ مع قصر الفواصل وإيجاز العبارة. * الإكثار من عرض قصص الأنبياء وتكذيب أقوامهم لهم للعبرة، والزجر، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.

ـ ضوابط المدني: * كل سورة فيها فريضة أو حدّ. * كل سورة فيها ذكر المنافقين. * كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب. * كل سورة تبدأ بـ (يا أيها الذين آمنوا ).

ـ مميزات المدني: * بيان العبادات والمعاملات، والحدود، والجهاد، والسِّلْم، والحرب، ونظام الأسرة، وقواعد الحكم، ووسائل التشريع. * مخاطبة أهل الكتاب ودعوتهم إلى الإسلام. * الكشف عن سلوك المنافقين وبيان خطرهم على الدين. * طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرر قواعد التشريع وأهدافه ومراميه.

7) عدد السور المكية والمدنية:

ـ السور المكية: اثنان وثمانون ( 82 ).

وهي: الأنعام، الأعراف، يونس، هود، يوسف، إبراهيم ، الحجر، النحل، الإسراء، الكهف، مريم، طه، الأنبياء، الحج، المؤمنون، الفرقان، الشعراء، النمل، القصص، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، سبأ، فاطر، يس، الصافات، ص، الزمر ، غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ق، الذاريات، الطور، النجم، القمر، الواقعة، الملك، القلم، الحاقة، المعارج، نوح، الجن، المزمل، المدثر، القيامة، الإنسان، المرسلات، النبأ، النازعات، عبس، التكوير، الانفطار، الانشقاق، البروج، الطارق، الأعلى، الغاشية، الفجر، البلد، الشمس، الليل، الضحى، الانشراح، التين، العلق، العاديات، القارعة، التكاثر، العصر، الهمزة، الفيل، قريش، الماعون، الكوثر، الكافرون، والمسد.

ـ السور المدنية: عشرون ( 20 )

وهي: البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنفال، التوبة، النور، الأحزاب، محمد، الفتح، الحجرات، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحنة، الجمعة، المنافقون، الطلاق، التحريم، والنصر.

ـ السور المختلف فيها: اثنا عشر ( 12 ).

وهي: الفاتحة، الرعد، الرحمن، الصف، التغابن، المطففين، القدر، البينة، الزلزلة، الإخلاص، الفلق، والناس.

8) المكي والمدني من السور على ترتيب النزول:

العلق، ن، المزمل، المدثر، الفاتحة، المسد، التكوير، الأعلى، الليل، الفجر، الضحى، الشرح، العصر، العاديات، الكوثر، التكاثر، الماعون، الكافرون، الفيل، الفلق، الناس، الإخلاص، النجم، عبس، القدر، الشمس، البروج، التين، قريش، القارعة، القيامة، الهمزة، المرسلات، ق، البلد، الطارق، القمر، ص، الأعراف، الجن، يس، الفرقان ، فاطر، مريم، طه، الواقعة، الشعراء، طس النمل، القصص، الإسراء ، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، لقمان، سبأ، الزمر، حم غافر، حم السجدة فصلت ، حم عسق الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النحل، نوح، إبراهيم، الأنبياء، المعارج، المؤمنين، السجدة، الطور، الملك، الحاقة، سأل المعارج، النبأ، النازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين، البقرة، الأنفال، آل عمران، الأحزاب، الممتحنة، النساء، الزلزلة، الحديد، القتال محمد، الرعد، الرحمن، الإنسان، الطلاق، البينة، الحشر، النور، الحج، المنافقون، المجادلة، الحجرات، التحريم، التغابن، الصف، الجمعة، الفتح، المائدة، براءة، النصر.

9) أسئلة المناقشة:

ـ ما هي أهمية علم المكي والمدني ؟

ـ ما هو المعيار الذي يفرق بين المكي والمدني ؟



الدرس الرابع:

القراءات والقراء

1) تعريف القراءات:

القراءة: هي النطق بالقرآن كما نطق بها النبي صلى الله عليه وسلم.

القراءات: هي علم بكيفية أداء كلمات القرآن الكريم.

والقراءات المشهورة للقرآن الكريم هي سبع قراءات، ومنشأ هذه القراءات يعود إلى الاختلاف في اللهجات وكيفية النطق بها وذلك كالترقيق والتفخيم والإمالة والإدغام والإظهار والمد والقصر والوقف والوصل والتشديد وغير ذلك من طرق الأداء.

2) أقسام القراءات:

قسم بعض العلماء القراءات إلى:

ـ المتواترة: وهي ما نقله جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب. وهي ما وافقت اللغة العربية مطلقا، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو تقديرا.

ـ المشهور: هو ما صح سنده بنقل العدل الضابط عن مثله، ولم يبلغ درجة التواتر، ووافق اللغة العربية، ورسم المصحف.

ـ الآحاد: هو ما صح سنده وخالف رسم المصحف، أو أصول العربية، وهذا لا يجوز قبوله برغم صحة سنده.

ـ الشاذة: وهو ما لم يصح سنده ومخالف لأصول العربية، وهذا يجب إهماله.

* الأوجه التي يقع بها التغيير: وهي على النحو التالي:

ـ ما تغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: ( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) سورة هود الآية 78، و ( هنَّ أطهرَ لكم ).

ـ ما تغير معناه ولا تتغير صورته، مثل: ( رَبَّنَا بَاعِدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا ) سورة سبأ الآية 19، و(ربُّنا باعِدْ بين أسفارنا ).

ـ ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، مثل: ( كَالعِهْنِ المَنْفُوشِ ) سورة القارعة الآية 5، و(كالصوف المنفوش ).

ـ ما يتغير معناه وصورته، مثل: ( طَلْحٍ مَّنْضُودٍ ) سورة الواقعة الآية 29، و( طلع منضود).

ـ ما يتغير بالتقديم والتأخير، مثل: ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ) سورة ق الآية 19، و(وجاءت سكرة الحق بالموت ).

3) شروط القراءة الصحيحة:

اشترط العلماء في القراءة الصحيحة التي يطمئن إليها القلب وتكون هي المعتمدة دون غيرها من القراءات ما يلي:

ـ أن تكون القراءة متواترة، والتواتر هو النقل عن جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهاه.

ـ أن تكون القراءة صحيحة الإسناد. فالقراءة تثبت عن طريق النقل لا الرأي والاجتهاد.

ـ أن تكون موافقة للّغة العربية بوجه من الوجوه، بحيث لا تصح القراءة التي لا تتفق مع قواعد اللغة العربية. ولو كان مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله، فلا يصح مثلا الاعتراض على قراءة حمزة. ( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ ) سورة النساء الآية 1، بجر الأرحام.

ـ أن تكون القراءة موافقة لرسم المصحف العثماني، بحيث لا تصح القراءة التي تغاير الرسم العثماني. وذلك أن النطق بالكلمة قد يوافق رسم المصحف تحقيقا إذا كان مطابقاً للمكتوب، وقد يوافقه احتمالاً أو تقديراً باعتبار أن رسم المصحف له أصول خاصة تسمح بقراءته على أكثر من وجه.

مثال ذلك: ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) سورة الفاتحة، رسمت ( ملك ) بدون ألف في جميع المصاحف، فمن قرأ: ( ملك يوم الدين ) بدون ألف فهو موافق للرسم تحقيقياً، ومن قرأ: (مالك) فهو موافق تقديراً، لحذف هذه الألف من الخط اختصاراً .

4) القراء السبع:

المقرئ: هو العالم بالقراءات، التي رواها مشافهة بالتلقي عن أهلها إلى أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم.

الأول: عبد الله بن كثير المكي القرشي، وهو من التابعين، توفي بمكة عام 120 هـ.

تلقى القراءة من الصحابة أنس بن مالك وعبد الله بن الزبير وأبا أيوب الأنصاري.

الثاني: نافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم، وهو مدني لأصله من أصبهان، توفي سنة 169 هـ بالمدينة.

تلقى القراءة عن عدد كبير من التابعين الذي أخذوا عن أبيّ بن كعب وعبد الله بن عباس وأبي هريرة.

الثالث: عبد الله بن عامر الدمشقي قاضي دمشق، وهو من كبار التابعين، توفي عام 118 هـ.

أخذ القراءة عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي عن عثمان بن عفان.

الرابع: أبو عمر بن العلاء البصري، توفي بالكوفة عام 154 هـ

وقد روى عن مجاهد بن جبير وعبد الله بن عباس عن أبيّ بن كعب.

الخامس: عاصم بن أبي النجود الكوفي، توفي عام 128 هـ بالكوفة.

قرأ على زرّ بن حبيش على عبد الله بن مسعود.

السادس: حمزة بن حبيب بن عمارة التيمي الكوفي، توفي عام 156 هـ.

قرأ على سليمان بن مهران.

السابع: الكسائي علي بن حمزة الأسدي، تفي عام 189 هـ.

قرأ على حمزة وألحق بالقراء السبعة في زمن المأمون الخليفة العباسي إلحاقا، فإنما كان السابع يعقوب الحضرمي كما قيل.

5) أهمية الأحرف السبعة والقراءات:

إن الأحرف السبعة والقراءات ظاهرة هامة جاء بها القرآن الكريم من نواح لغوية وعلمية متعددة، نوجز طائفة منها فيما يلي:

ـ زيادة فوائد جديدة في تنزيل القرآن: ذلك أن تعدد التلاوة من قراءة إلى أخرى، ومن حرف لآخر قد تفيد معنى جديداً، مع الإيجاز بكون الآية واحدة.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في آية الوضوء: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) سورة المائدة الآية 6، قرىء: ( وأرجِلَكم ) بالنصب عطفاً على المغسولات السابقة، فأفاد وجوب غسل القدمين في الوضوء، وقرىء بالجر، فقيل: هو جر على المجاورة، وقيل: هو بالجر لإفادة المسح على الخفين، وهو قول جيد.

ـ إظهار فضيلة الأمة الإسلامية وقرآنها:

وذلك أن كل كتاب تقدم كتابنا نزوله، فإنما نزل بلسان واحد، وأنزل كتابنا بألسن سبعة بأيها قرأ القارىء كان تالياً لما أنزله الله تعالى.

ـ الإعجاز وإثبات الوحي:

فالقرآن الكريم كتاب هداية يحمل دعوتها إلى العالم، وهو كتاب إعجاز يتحدى ببيانه هذا العالم ، فبرهن بمعجزة بيانه عن حقية دعوته، ونزول القرآن بهذه الأحرف والقراءات تأكيد لهذا الإعجاز، والبرهان على أنه وحي السماء لهداية أهل الأرض من أوجه هذه الدلالة:

* إن هذه الأحرف والقراءات العديدة يؤيد بعضها بعضاً من غير تناقض في المعاني والدلائل، ولا تناف في الأحكام والأوامر، فلا يخفى ما في إنزال القرآن على سبعة أحرف من عظيم البرهان وواضح الدلالة.

* إن نظم القرآن المعجز، والبالغ من الدقة غايتها في اختيار مفرداته وتتابع سردها، وجملة وإحكام ترابطها، وتناغمه الموسيقي المعبر يجري عليه كل ما عرفنا من الأوجه السابقة في الأحرف والقراءات ثم يبقى حيث هو في سماء الإعجاز، لا يعتل بأفواه قارئيه، ولا يختل بآذان سامعيه، منزها أن يطرأ على كلامه الضعف أو الركاكة، أو أن يعرض له خلل أو نشاز.

6) أسئلة المناقشة:

ـ للقراءات أقسام، فما هي القراءة التي يجب الأخذ بها ؟

ـ ما هي شروط القراءة الصحيحة ؟



الدرس الخامس:

علم التفسير نشأته وتطوره

1) تعريف التفسير:

ـ معناه في اللغة: التبيين والإظهار والكشف. وكشف المراد عن اللفظ المشكل. ومنه قوله تعالى: ( وَلَا يَاتُوكَ بِمَثَلٍ اِلَّا جِئْنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ) سورة الفرقان الآية 33. قال ابن عباس تفصلا.

ـ معناه في الاصطلاح: هو العلم المتعلق بالقرآن الكريم من حيث الكشف عن أسباب نزول آياته وعن محكمه ومتشابهه وخاصه وعامه ومطلقه ومقيده ومجمله ومفسره، وعن حلاله وحرامه وقصصه وأخباره..

قال الزركشي: التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه، واستنباط ذلك من علم اللغة، والنحو والتصريف، وعلم البيان، وأصول الفقه والقراءات..

2) الفرق بين التأويل والتفسير:

التفسير هو بيان اللفظ عن طريق الرواية، والتأويل بيان اللفظ عن طريق الدراية.

وقيل التفسير بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة، والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة.

3) نشأة علم التفسير:

مرّ علم التفسير في نشأته بمراحل عدّة وهي:

ـ التفسير في عهد الوحي:

نشأ علم التفسير مبكراً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أول شارح للقرآن، يبين للناس ما نزل على قلبه من الوحي، وكان هو المعلم الأول للقرآن الكريم وتوضيح مقاصده، وحل ما غمض من عباراته. قال الله تعالى: ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) سورة النحل الآية 44. وقال عز وجل: ( هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْولُوا عَلَيْهِمُ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) سورة الجمعة الآية 2.

ـ التفسير في عصر الصحابة:

اشتغل جماعة من الصحابة بتفسير القرآن الحكيم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يفهمون القرآن الذي نزل بلغتهم، ونزل بين أظهرهم.

المفسرون من الصحابة كثيرون وأشهرهم: الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير...

ـ التفسير في عصر التابعين:

اشتهر بعض أعلام التابعين بتفسير القرآن الكريم. وقد اعتمد هؤلاء الرجال في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في القرآن نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثير منهم أخذ عن ترجمان القرآن ابن عباس، وأشهر هؤلاء المفسرين: مجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي عباس، وعكرمة مولى ابن عباس وطاووس بن كيسان اليماني ..

ـ التفسير ما بعد التابعين:

ثم انتقل علم التفسير إلى ما بعد التابعين ، فجمعوا أقوال من تقدمهم، وصنفوا التفاسير، ومن أوائل المؤلفين في علم التفسير: شعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح، وسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق بن همام ..

ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا في علوم شتى، فكان كل منهم يقتصر في تفسيره على الفن الذي يغلب عليه.

4) مصادر التفسير:

المصادر التي يعول عليه في فهم القرآن الكريم هي:

ـ المصدر الأول: القرآن نفسه، فهو خير طريق لتبيين معاني القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم كثيرا ما يفسر بعضه بعضا.

مثال ذلك: قوله تعالى: ( هَلْ اَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ ) سورة الغاشية الآية 1، فإن الغاشية يفسرها ما بعدها من الآيات في قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ.. ) إلى آخر الآيات.

ـ المصدر الثاني: السنة النبوية المطهرة، فالسنة مصدر آخر للتفسير تقوم بتحليل بعض الأشياء وتحريم أخرى، وتضع مقاييس الفرض والواجب والمستحب والمباح والمكروه، كما تقوم بتفصيل مجمل القرآن وتفسير مبهمه وتخصيص عامه وتقييد مطلقه.

ـ المصدر الثالث: أقوال الصحابة، لقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قول الصحابي يعتبر حجة، وذلك لأن طبقة الصحابي أعظم دراية، وأصدق نظرا في مسائل الدين والقرآن من غيرهم، فهم الذين عاينوا هبوط الوحي ونهلوا من معين الرسول صلى الله عليه وسلم الصافي، وعاشوا أصدق فترات الزمان وهي فترة النبوة، فضلا عن تزكية النبي صلى الله عليه وسلم لهم.

ـ المصدر الرابع: الأخذ بمطلق اللغة العربية، فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين، قال مجاهد: ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر بأن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب.

ـ المصدر الخامس: أن يستند المفسر في تفسيره للقرآن إلى ما يقتضيه معنى الكلام مما هو مبني على قوة الشّرع. والمراد بالتعبير من هذا المصدر هو أن يستند المفسر إلى فهمه الذاتي الذي وهبه الله، وذلك ما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بقوله: ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ). وهذا المصدر لا ينبغي أن يكون مجردا عن المصادر التي سبق ذكرها.

5) العلوم التي يحتاج إليها المفسر:

ذكر العلماء جملة من العلوم لا بد أن تكون في جعبة المفسر للقرآن الكريم ليجوز له الإقدام على تفسير القرآن الحكيم، وهذه العلوم هي:

ـ علم اللغة، وهي أساس فهم المفردات والألفاظ القرآنية وما تحتويه من مدلولات.

ـ علم النحو، وهو يعتمد الإعراب أساسا.

ـ علم الصرف، عن طريقه يعرف كل من البناء والصيغة للكلمة، لأن المفردة الغريبة المبهمة إذا صرّفت اتضحت وتبين المراد منها.

ـ علم الاشتقاق، لأن في ضوء الاشتقاق يستطيع المفسر أن يميز بين الألفاظ من حيث المعنى خصوصا إذا كانت الكلمة مشتقة من مادتين مختلفتين.

ـ علوم البلاغة، وذلك كالمعاني والبيان والبديع. وهي علوم تمكّن العالم المفسر من الوقوف على حقائق الإعجاز في القرآن.

ـ أصول الفقه وكذا مقاصد الشريعة، وهو السبيل إلى استنباط الأحكام التفصيلية.

ـ معرفة أسباب النزول، للوقوف على الوقائع والأحداث والمناسبات التي نزلت فيها الآيات أو السور. وتلك من أهم الوسائل لفهم مراد الله تعالى.

6) أنواع التفسير:

التفسير نوعان، التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأي.

* ـ التفسير بالمأثور: هو التفسير الذي يعتمد على صحيح المنقول، بالقرآن، أو بالسنة النبوية، أو بما روي عن الصحابة الكرام، أو بما قاله كبار التابعين.

ـ أشهر كتب التفسير بالمأثور: ـ تفسير ابن عباس. ـ تفسير ابن عيينة. ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي. ـ جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري. ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير. ـ فتح القدير للشوكاني...

* ـ التفسير بالرأي: المراد بالرأي الاجتهاد. ومعنى التفسير بالرأي: تفسير القرآن بالاجتهاد بعد معرفة مصادر التفسير التي ذكرنا آنفا. وهذا النوع من التفسير جائز ويمكن الاستدلال عليه بما يلي:

قال الله تعالى: ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) سورة محمد الآية 24.

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُّدَّكِرٍ ) سورة القمر الآية 17.

وقوله عز وجل: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الاَمْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) سورة النساء الآية 83.

وقوله تبارك وتعالى: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) سورة الإسراء الآية 36.

ـ أشهر كتب التفسير بالرأي: ـ تفسير الرازي. ـ أنواع التنزيل للبيضاوي. ـ مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي. ـ لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن. ـ البحر المحيط لأبي حيان. غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري...

7) أسئلة المناقشة:

ـ ما هي أهم العلوم التي يحتاج إليها المفسر ؟

ـ ما هي مصادر التفسير ؟

ـ ما الفرق بين التأويل وبين التفسير ؟

الدرس السادس:

جمع القرآن الكريم وترتيبه

1) معنى الجمع:

يطلق الجمع على معنيين:

ـ المعنى الأول : جمعه بمعنى الحفظ في الصدور ، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى: ( لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) القيامة 16/17.

ـ المعنى الثاني: جمع القرآن بمعنى كتابته في السطور، أي الصحائف التي تضم السورة والآيات جميعها.

2) مراحل الجمع:

مرّ جمع القرآن الكريم على مرحلتين هما:

ـ المرحلة الأولى: الجمع الأول في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم

*) حفظه في الصدور:

* حفظ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن عن ظهر قلب لا يفتر لا سيما في الليل، حتى إنه ليقرأ في الركعة الواحدة العدد من السور الطوال.

ولزيادة التثبيت كان جبريل يعرض القرآن عليه كذلك.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن …

وقال أبو هريرة: كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه …

* حفظ الصحابة للقرآن الكريم:

توفرت للصحابة العوامل التي تجعلهم قادرين على حفظ القرآن وتسهل عليهم هذه المهمة ومن تلك العوامل:

1 ـ قوة ذاكرتهم الفذة التي عرفوا بها واشتهروا، حتى كان الواحد منهم يحفظ القصيدة من الشعر بالسمعة الواحدة.

2 ـ نزول القرآن منجماً.

3 ـ لزوم قراءة شيء من القرآن في الصلاة.

4 ـ وجوب العمل بالقرآن، فقد كان هو ينبوع عقيدتهم وعبادتهم، ووعظهم وتذكيرهم.

5 ـ حض النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن، والترغيب بما أعد للقارىء من الثواب والأجر العظيم.

6 ـ تعاهد النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بتعليم القرآن: فكان الصحابة تلامذة للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون منه القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شيخهم، يتعاهدهم بتعليم القرآن، فإذا أسلم أهل قبيله أرسل إليهم من القراء من يعلمهم القرآن، وإن كان في المدينة ضمّه إلى حلق التعليم في جامعة القرآن النبوية.

*) حفظه في السطور:

وهو لون من الحفظ يدوم مع الزمان، لا يذهب بذهاب الإنسان، فلا بد أن يتحقق ما تكفل الله بحفظه: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) سورة الحجر الآية 9.

لقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن عناية بالغة جداً، فكان كلما نزل عليه شيء منه دعا الكُتّاب، منهم: علي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، فأملاه عليهم، فكتبوه على ما يجدونه من أدوات الكتابة حينئذ مثل:

الرقاع، اللِّخاف، والأكتاف، والعُسُب . وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم جهد هؤلاء الكتاب في كتابة القرآن فمنع من كتابة غيره إلاّ في ظروف خاصة أو لبعض أناس مخصوصين.

فتحقق بذلك توفّر طاقة كبيرة لكتابة القرآن وترتيبه، كما أخرج الحاكم عن أنس رضي الله عنه: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن في الرَّقاع… ومقصود هذا الحديث فيما يظهر أن المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم .

ـ المرحلة الثانية: الجمع الثاني في عهد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.

عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال : إن القتل قد استحر بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتّبع القرآن فأجمعه، فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! قال: والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر.

فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب و اللِّخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، ولم أجدها مع غيره: ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ... ) سورة التوبة الآية 128/ 129. حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم.

وبهذا جمعت نسخة المصحف بأدقّ توثّق ومحافظة، وأودعت لدى الخليفة لتكون إماماً تواجه الأمة به ما يحدث في المستقبل، ولم يبق الأمر موكلاً إلى النسخ التي بين أيدي كَتّاب الوحي، أو إلى حفظ الحفاظ وحدهم.

وقد اعتمد الصحابة كلهم وبالإجماع القطعي هذا العمل وهذا المصحف الذي جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وتتابع عليه الخلفاء الراشدون كلهم والمسلمون كلهم من بعده، وسجلوها لأبي بكر الصديق منقبة فاضلة عظيمة من مناقبه وفضائله. وحسبنا في ذلك ما ثبت عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع كتاب الله.

* منهج زيد بن ثابت في جمع القرآن:

تتبّع زيد في جمع القرآن من العُسُب واللِّخاف وصدور الرجال، فكان منهجه أن يسمع من الرجال ثم يعرض ما سمعه على ما كان مجموعاً في العُسُب والأكتاف، فكان رضي الله عنه لا يكتفي بالسماع فقط دون الرجوع إلى الكتابة، وكذلك من منهجه في جمع القرآن أنه لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد عليه شاهدان، وهذا زيادة في التحفظ، مع أن زيداً كان من حفظة القرآن .

وبهذا التثبت والتحفظ تم جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.

ـ المرحلة الثالثة: الجمع الثالث في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن حُذيفة بن اليمان قدم عَلى عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.

وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق.

ـ السبب الداعي للجمع:

السبب الدافع لهذا العمل الذي قام به عثمان وهو اختلاف الناس في وجوه قراءة القرآن

حتى قرؤوه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدّى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض، فخُشي من تفاقم الأمر في ذلك، فنسخت تلك الصحف في مصحف واحد مرتباً لسوره واقتصر من سائر اللغات على لغة قريش.

3) ترتيب آيات القرآن وسوره:

ـ تعريف الآية:

لغة: أصلها بمعنى العلامة، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ ) سورة البقرة الآية 248.

اصطلاحاً: فهي قرآن مركب من جمل ولو تقديراً، ذو مبدأ ومقطع، مندرج من سورة.

ـ تعريف السورة:

لغة: من سور المدينة، أو من السورة بمعنى المرتبة والمنزلة الرفيعة.

اصطلاحاً: قرآن يشمل على آيٍ ذوات فاتحة وخاتمة، وأقلها ثلاث آيات.

4) حكمة تقسيم القرآن إلى سور وآيات:

منها: أن القارىء إذا ختم سورة أو جزأً من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله.

ومنها: أن الحافظ إذا حَذَق السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة، فيعظم عنده ما حفظه، ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلّ فينا.

5) مصدر ترتيب القرآن الكريم:

* ترتيب سور القرآن:

هذه المسألة موقع خلاف. إذ كان للعلماء فيها عدة آراء وهي:

ـ الأول: وهو للجمهور إذ ذهبوا إلى أن ترتيب سور القرآن الكريم اجتهاد من الصحابة، وقد استدلوا على ذلك باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور.

فمنهم من رتّبها على النزول، وهو مصحف علي رضي الله عنه، فقد كان أوّله سورة اقرأ، ثم المدّثّر، ثم ن، ثم المزّمّل، ثم تبّت إلى آخر السور المكية ثم المدنية.

وكان أول مصحف ابن مسعود البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وهكذا..

ـ الثاني: ذهب فيه بعض العلماء إلى أن ترتيب السور أمر توقيفي لا علاقة للاجتهاد أو إعمال الرأي فيه.

* ترتيب الآيات:

اتفق جميع العلماء أن ترتيب آيات القرآن الكريم في السور توقيفي. بمعنى أن الآيات من حيث ترتيبها في مختلف سور القرآن كانت توقيفيا من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الذي كان يأمر صحابته من كتبة الوحي أو يضعوا الآية أو مجموعة الآيات في موضعها المعين من السور وذلك بناء على توجيه من الوحي الذي يتلقى عنه النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة أقواله وأفعاله وممارساته.

والأحاديث في إثبات التوقيف في ترتيب الآيات في السور كثيرة جداً تفوق حد التواتر، إلا أننا سنذكر أمثلة منها:

أخرج البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا) سورة البقرة الآية 234، قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال: يا أبن أخي لا أغيرّ شيئاً منه من مكانه.

وأخرج الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شَخَص ببصره ثم صوَّبه، ثم قال: " أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية في هذا الموضع ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى... ) سورة النحل الآية 90، إلى آخرها ".



الدرس السابع:

السنة ومكانتها في الشريعة

1) تمهيد:

السنة مصدر آخر للتشريع الإسلامي بجانب القرآن الكريم، تقوم ـ مثل القرآن الكريم ـ بتحليل بعض الأشياء وتحريم أخرى، وتضع مقاييس الفرض والواجب والمستحب والمباح والمكروه، كما تقوم بتفصيل مجمل القرآن وتفسير مبهمه وتخصيص عامّه وتقييد مطلقه.

فالقرآن والسنة مصدران تشريعيان متلازمان، لا يمكن لمسلم أن يفهم الشريعة إلا بالرجوع إليهما، ولا غنى لمجتهد أو عالم عن أحدهما.

فالسنة من حيث وجوب العمل بها، ومن حيث إنها وحي هي بمنزلة القرآن الكريم، وإنما تلي القرآن بالمرتبة من حيث الاعتبار، لأنه مقطوع به جملة وتفصيلا، والسنة مقطوع بها على الجملة لا على التفصيل، ولأنه هو الأصل، وهي الفرع، لأنها شارحة ومبينة له، ولا شك في أن الأصل مقدم على الفرع، والبيان مؤخّر عن المبيّن.

2) أدلة حجية السنة:

نوجز في ما يلي الأدلة التي تثبت أن السنة مصدر من المصادر التشريعية التي تستنبط منها أحكام الشريعة وآدابها في الإسلام: وهذه الأدلة هي:

* الإيمان: من لوازم الإيمان بالرسالة وجوب قبول كل ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الدين، فقد اجتبى الله عز وجل الرسل واصطفاهم من عباده ليبلغوا شريعته عليهم: قال الله تعالى: ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ ) سورة الأنعام الآية 124.

وهناك آيات تنصّ على الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم: ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالكِتَابِ الذِي أَنْزَلَ مِن قَبْلُ ) سورة النساء الآية 136.

قال الله تعالى: ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمُنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) سورة النساء الآية 65.

* القرآن الكريم: في القرآن الكريم آيات كثيرة تنصّ على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم منها قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمُنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ) سورة النساء الآية 59.

وقوله تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ) سورة المائدة الآية 92.

وبين الله تعالى أن طاعة الرسول طاعة الله تعالى: ( مَّنْ يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) سورة النساء الآية 80.

وقال عز وجل: ( إِنَّ الذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) سورة الفتح الآية 10.

وقال عز وجل: ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) سورة النور الآية 56.

* أدلة حجية السنة من الحديث: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي ) أخرجه الإمام مالك.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) رواه أبوداود.

وقال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ ) رواه أبوداود.

ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالحث على التمسك بسنته، بل ذم من يترك حديثه متذرعا بالاعتماد على ما جاء في القرآن الكريم فقط، فقال: ( يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله ) رواه ابن ماجه والبيهقي وأبوداود.

3) منزلة السنة من القرآن الكريم:

* تفسير القرآن:

نقرأ كل يوم في صلاتنا سورة الفاتحة ونتضرع إلى الله تعالى بأن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. ومع أن صفة المغضوب عليهم وصفة الضالين صفتان عامتان فهناك حديث شريف يقول: « فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضُلاّل »، وهكذا يقوم الحديث بتفسير القرآن. فاليهود استحقوا الغضب منذ تاريخهم الماضي المظلم وفي أثناء العهد النبوي، وهم أول من يتبادرون إلى الذهن في هذا الخصوص على قاعدة أن مطلق الذكر ينصرف نحو الكمال، لأنه لا يوجد أحد مثلهم يستحقون الغضب، وذلك بقتلهم الأنبياء وبأخلاقهم الخسيسة وعاداتهم السيئة وعبادتهم للمال وكونهم حتى الآن ممثلي المادية في القرن العشرين، لذا فلا يملك الإنسان إلا الموافقة على هذا التفسير النبوي الشريف. ولاشك أن هذا الغضب الإلهي يشمل كل من اتصف بهذه الأخلاق اليهودية.

ومن جانب آخر فإن النصارى الذين ساروا في أول الأمر على الهدى وعلى الصراط المستقيم واستمسكوا بكل شجاعة بدينهم الذي لم يكن سوى الدين الإسلامي الحنيف.. هؤلاء النصارى ضلوا الطريق لأسباب عديدة، أي سقطوا في الضلالة، لذا دخلوا ضمن صفة ( الضالين) لذا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم بحقهم « وإن النصارى ضُلاّل » لأنهم قلبوا التوحيد إلى التثليث وغيروا الكتاب وحرفوه، لذا انطبقت عليهم صفة ( الضالين ) انطباقاً تاماًّ. وسواء أكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد بهذا التفسير أقواماً معينين أم سلوكاً خاصاًّ، فلو لم يقم بهذا التفسير ما كان باستطاعتنا معرفة هذه الحقيقة المبهمة. وهكذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التفسير بتوجيه الأنظار إلى بعض الأقوام وكذلك إلى بعض الحالات النفسية المنحرفة، وبين من وقع ولماذا وقع وبأي الأعمال استحق الغضب أو استحق الضلالة بياناً واضحاً.

ويُروى عن أمنا عائشة رضي الله عنها وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن " الصلاة الوسطى" الواردة في الآية: ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى ) سورة البقرة الآية 238، هي صلاة العصر إلى درجة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقرأ هذه الآية كما يلي: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى وَصلاة العصر وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ ) وقال أبو يونس مولى عائشة رضي الله عنها: أمرتني عائشة رضي الله عنها أن أكتب لها مصحفاً فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى ) فلما بلغتها أذنتها فأملت عليّ ( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الوُسْطَى ) وصلاة العصر ( وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ ) وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* قيام السنة بتفسير مجمل القرآن:

إلى جانب قيام السنة بتفسير مبهم القرآن قامت بتفصيل مجمله أيضاً.

مثلاً يأمر القرآن الكريم فيقول: ( أقيموا الصلاة ) ولكنه لا يوضح إقامة الصلاة ولا أوقاتها. صحيح أن بعض المفسرين رضي الله عنهم استنبطوا الصلوات الخمسة من الآية التالية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اليْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) سورة هود الآية 114، إلا أن السنة هي التي حدّدت أوقات هذه الصلوات التي يذكر الله تعالى بأنها مرتبطة بأوقات معينة: ( إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُومِنِينِ كِتِاباً مَّوْقُوتاً ) سورة النساء الآية 103. فهناك حديث يبين أن أوقات الصلاة عينها جبريل عليه السلام، أي أن مصدرها سماوي وإلهي، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أمّني جبريل عليه السلام عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشِّراك وصلى بي العصر حين كان ظلُه مثله، وصلى بي - يعني المغرب - حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله، وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل، وصلى بي الفجر فأسفر ثم التفت إليّ فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين الوقتين. ))

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم أمته بأوقات الصلاة فهو المرجع الوحيد لأمور كثيرة متعلقة بالصلاة مثل أقسامها من فرض أو واجب أو مستحب أو مكروه وما يفسدها، وشرح ركوعها وسجودها وقراءة التحيات فيها والخروج منها بالسلام. أجل، فهو المفسر الوحيد للصلاة التي جاء الأمر بها في القرآن الكريم بصيغة مجملة وهي أقيموا الصلاة، إذ قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ولو قام القرآن بإعطاء كل تفاصيل الصلاة لزاد حجمه مرتين على الحجم الحالي، لذا ترك إيضاح هذه التفاصيل إلى صاحب الفطنة الكبيرة الذي هو أفضل من فهم عن ربه، وقام فعلاً بنقل هذا الوحي غير المتلو إلينا بالتفصيل المطلوب، وقد أنجز هذا بالفطنة التي تعني تجاوز العقل بالعقل والاستعانة بالإلهام في المواضيع التي يقف فيها العقل.

والسنة هي التي شرحت مناسك الحج أيضاً. صحيح أن القرآن تناول موضوع الحج في موضع أو موضعين وقدم بعض الشروح القيّمة، ولكن هذه الشروح تناولت جزءاً من مناسك الحج، لذا نرى أن السنة هي التي قامت بتفصيل وشرح جميع مناسك الحج، وهذه التفاصيل هي أضعاف ما ورد في القرآن الكريم. وقد أدى الرسول صلى الله عليه وسلم الحج مرة واحدة، هذا الحج سمي بـ ( حجة الوداع ) لأنه ودّع فيه أصحابه، وأدى مناسك الحج وهو راكب على بغلته بحيث يراه الجميع. شرح كل شيء بكلامه ثم بأفعاله إلى درجة التصريح بكونه صائماً أم مفطراً، وبعد أن أتم هذا قال لهم: ( خذوا مناسككم ) مشيراً إلى موقع كلامه وأفعاله في الشريعة. ولا شك أن القرآن الكريم لم يأتِ ناقصاً ولكنه جاء مع مبلغه ومع شارحه ومفسره الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قيام السنة بتخصيص بعض الأحكام:

تناول القرآن الكريم الميراث بشكل عام فقال: ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيْنِ ) سورة النساء الآية 11. وهذا الحكم عام يشمل الجميع سواء أكانوا أنبياء أم أولياء أم أصفياء أم من المقربين أم من الناس الاعتياديين، غير أن فاطمة رضي الله عنها عندما راجعت أبا بكر رضي الله عنه بعد وفاة والدها لأخذ ميراثه قرأ أبو بكر رضي الله عنه هذا الحديث الذي سمعه عن والدها النبي صلى الله عليه و سلم: ( إنا معشر الأنبياء لا نورّث، ما تركناه صدقة ).

كما أن حديث ( القاتل لا يَرِث ) يحرم القاتل من الميراث، فمن يقتل والده يحرم من ميراثه ومن يقتل عمه يحرم من ميراثه وكذلك من يقتل أخاه. وهكذا قامت السنة بتقييد الحكم العام الذي جاء به القرآن في موضوع الميراث.

* تقييد السنة لبعض الأحكام:

تقوم السنة أحياناً بتقييد بعض الأحكام العامّة الواردة في القرآن الكريم، فمثلاً يقول القرآن الكريم: ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ ) سورة المائدة الآية 38، هذا أمر مطلق، ولم يتم شرح الشروط والظروف التي يجب توفرها لإجراء هذا العقاب ولا نصاب السرقة ولا مقدار ما يقطع من اليد، وبما أن اليد تمتد من الأطراف حتى المرفق حسب الآية التي تشرح الوضوء قال الله تعالى: ( يَأَيُّهَا الذِينِ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمُ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمُ إِلَى المَرَافِقِ ) سورة المائدة الآية 6، لذا، قامت السنة المطهرة بتقييد الجزء الذي يقطع من اليد، أي قامت بتقييد حكم مطلق في القرآن. وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يد أحد السارق من الكف فقد قيد ما جاء في القرآن في هذا الخصوص من حكم عام.

ومثال آخر، يقول القرآن الكريم: ( يَأَيُّهَا الذِينِ آمَنُوا لَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) سورة النساء الآية 29. وتأتي السنة هنا فتقيد هذه الآية في موضوع معين، إذ ورد حديث شريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ).

وكما قلنا سابقاً فالسنة أساس مستقل في التشريع لكونها تضع أحكاماً غير واردة في القرآن. ومن الأمثلة على ذلك تحريمها لحم الحمر الأهلية، وتحريمها الزواج بخالة الزوجة وعمتها.

والسنة التي تعدّ أساساً مستقلاً في التشريع بدأت في إجراء عملها ومهمتها منذ بداية الوحي، والتحمت مع القرآن الكريم، وتم النظر إليها من هذا المنظار من قبل جمهور العلماء وجمهور الأمّة. ولكنها تعرضت إلى هجوم من قبل المعتزلة الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية مثل النظّام، ومن قبل المستشرقين الحاقدين على الإسلام الذين حاولوا على الدوام تعكير هذا النبع الصافي. وفي القرنين الأخيرين تأثر بعض رجال العلم المسلمين بهؤلاء المستشرقين بسبب مركب النقص عندهم تجاه الغرب، وأصبحوا أداة بيد المستشرقين، وبدأوا باتهام السنة والتهوين من شأنها. غير أن جهود السلف الصالح وما خلفوه من كتب وآثار قيمة استطاعت أن تقف في وجه هذه الحملات، وحافظت على صفاء هذا النبع ونقائه.. نبع السنة النبوية المطهرة.

4) أسئلة المناقشة:

ـ ما الدليل من القرآن على حجية السنة النبوية ؟

ـ ما هي منزلة السنة النبوية من القرآن الكريم ؟

من كتاب الوافي



>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :

مشكوووووووووووووور أخي

و الله العظيم نحن في الإختبارات 3 دروس

الحكم الوضعي
المقاصد التشريعية
التيسير في العبادات


=========


>>>> الرد الثاني :

ramzi-messi
الله يسلمك خويا
يا خويا احنا ما قالناش حتي منين نبداو راني نحفظ علي ربي

=========


>>>> الرد الثالث :

شكرا لكم نحن نحتاج الدروس التي بعدها

=========


>>>> الرد الرابع :


=========


>>>> الرد الخامس :


=========