الحمض النووي أو الـ: ADN
"أصبحت الإنسانية بين عشية وضحاها أمام تحدٍّ أقل ما يقال فيه: إنه مرعب وعلى الرغم من أن الدكتور محمد الهواري أحد كبار العلماء المسلمين المشتغلين والمتصدين لقضية الهندسة الوراثية ومجالات استخداماتها الحديثة، على الرغم من نصحه بعدم إغلاق الباب في وجه هذه البحوث، التي لا نعلم إلى أين سوف يصل بها درب العلم، وعدم تخلفنا عن هذا الركب الخطير علميًّا وإنسانيًّا..، إنها أسئلة صعبة تعكس خطورة المعادلات المطروحة على الساحة العالمية اليوم في حياة الإنسان وخطورة هذه القضية التي لا تنبع من هذه التجارب، بقدر ما تتعلق بعمق الجهل العام بين شرائح عريضة من كافة المجتمعات الإنسانية، وقد وجدت نفسها أمام تحديات تهدد تصوراتها عن وجودها، وعن الحياة. بل لقد استطاعت أحلام العلماء التي نظنها قد بلغت حدًّا غير مفهوم حالياً على الأقل من الشطط، أن تهز قناعات وعقائد الناس..."
بدأ التعرف لأول مرة على أن الحمض النووي في عام 1928للميلاد، وهو عبارة عن مادة الوراثة، بعد تجربة شهيرة أجراها العالم "جريفيث"، وأشار فيها إلى أن هناك "مادة" يمكن أن تغير التركيب الوراثي للبكتريا. وتم التحقق من أن هذه المادة هي الحمض النووي "حمض نواة الخلية" عام 1944م بواسطة عالمين أمريكيين، هما "آفري" و"مكلويد". ثم أجريت تجارب أخرى عديدة بعد ذلك، وأثبتت جميعها أن الحمض النووي الديوكسي ريبوزي هو الحمض الذي يحمل الصفات الوراثية التي تنسق جميع العمليات الحيوية في الخلية الحية، وفي عام 1953م تم اكتشاف التركيب الجزيئي للحمض النووي؛ حيث وضع العالمان "جيمس واطسون" و"فرانسيس كريك" من مختبر "كافنديش" في جامعة "كامبردج" نموذجًا للحمض النووي يسمى بـ"اللولب المزدوج"، ونشر نبأ الاكتشاف في مقال علمي مقتضب، عرف رسميا بأنه "رسالة" باسم "واطسون" و"كريك" في عدد مجلة "نيتشر" العلمية في 25 أبريل 1953م.
ومن الطريف أن "واطسون" و"كريك" لم يجريا أي تجربة عملية، ولم يحملا أنبوبة اختبار واحدة للتوصل لهذا الكشف المثير، ولكنهما وضعا نموذجهما استنادًا إلى البيانات التي وفرها باحثون في مختبرات جامعة "كامبردج" على مدى 3 سنوات، وكان من أهمهم البروفيسور "موريس ولكنز" الذي استخدم الأشعة السينية (أشعة أكس) لدراسة وتحليل الحمض النووي، وساعدته في ذلك الدكتورة "روزلندا فرانكلين" التي ساهمت في التقاط العديد من الصور للحمض النووي في عام 1952م. وكشفت هذه الصور النقاب عن التركيب الجزيئي للحمض النووي، وبنى "واطسون" و"كريك" نموذجهما للحمض النووي بعد أسبوعين فقط من الحصول على الصور. وباكتشافهما لحقيقة أن جزيئات الحامض النووي تكون تركيبا لولبيا مزدوجا، يشابه السلم الملتوي، تبين كيف يمكن للحمض النووي أن ينسخ نفسه، فبعد عامين من اكتشاف الـ"دي إن إيه" تحقق "آرثر كورنبرج" من إمكانات نسخ الحمض النووي لنفسه. وفي عام 1960م تمكن مارشال "نيرنبرج" و"هار خولانا" و"سيفيرو أكوا" من التحقق من أن 3 أحرف من الأحرف الأربعة للحامض النووي تشكل رمزًا لأحماض أمينية. وفي السبعينيات تمكن العلماء من التعرف على حروف الحمض النووي، ثم تمكنوا من قطع ولصق أجزاء من الحمض النووي، ثم تمكنوا من نسخه بعد ذلك ، و في عام 1983م استطاع العالم الأمريكي "كاري موليس" أن يطور طريقة لاستنساخ آلاف النسخ من الحمض النووي؛ وهو ما وضع أسس الهندسة الوراثية الحديثة. ثم توجت أبحاث العلماء في نهاية القرن العشرين بدراسة، ووضع جينوم الحيوانات، وفي منتصف عام 2000م وضع
جينوم الإنسان (الأطلس الوراثي البشري)..
وقد طور العلماء أهدافهم المرحلية في وقت لاحق وأضافوا هدفًا جديدًا وهو التعرف على الاختلافات الفردية في Genome بين شخص وآخر، وقد اكتشفوا أنه رغم أن أكثر من 99% من DNA في الإنسان وتتابعاته متشابهة في كل البشر فإن التغيرات الفردية قد تؤثر بشدة على استجابة الفرد للمرحلة والمؤثرات البيئية الضارة مثل البكتريا والفيروسات والسموم والكيماويات والأدوية والعلاجات المختلفة.
و حول الشفرة الوراثية يقول الدكتور ورج وينستوك أحد مديري مشروع الشفرة الوراثية في مركز أبحاث الجينات التابع لمدرسة الطب في هيوستون، وهو أحد المراكز الثلاثة العملاقة والمسئولة عن مشروع الجينوم: "إن هذا الاكتشاف هو مقابل لاكتشاف الميكروسكوب الإلكتروني" فقبل اكتشاف الميكروسكوب الإلكتروني، لم نكن نعرف أي شيء عن شكل أو تركيب الخلية، أو حتى عن وجود الجراثيم والميكروبات، وكما غير الميكروسكوب الإلكتروني مفهومنا الطبي فسوف يقوم هذا الكشف بتغيير وإحداث ثورة طبية لعدة قرون قادمة. وبعيدا عن ردود الأفعال المختلفة، التي دعت البعض لعقد مقارنة بين هذا الحدث والهبوط على القمر، يرى الدكتور أرثر كابلان وهو مدير مركز ما يسمى بأخلاق البحث العلمي الحيوية Bioethics بجامعة بنسلفانيا، أن القائمين على المشروع لم يقدموا شيئًا نهائيًّا أو شيئًا قريبًا من التفاصيل التي يمكن أن تفيد البشرية، من حيث تشخيص الأمراض المختلفة فضلاً عن علاجها، وكان من الأفضل حسب كلام الدكتور كابلان أن يكون الخبر الذي طيرته وكالات الأنباء الشهر الماضي عن هذا الاكتشاف هو "مجموعة من علماء الجينات قامت في يوم 26 يونيو 2000 بالكشف عن نتائج مشجعة لمشروع عملاق، تعد بداية وليست نهاية لثورة في عالم الطب.
فكل ما استطاع العلماء علمه حتى الآن هو قراءة الشريط الوراثي أو كتاب الحياة كما يسمى DNA حرفاً حرفاً وجزءاً جزءاً وتحديد معالمه، وبلغة الخرائط استطاع هؤلاء العلماء أن يرسموا لنا خريطة مشابهة لخريطة الكرة الأرضية بجميع قاراتها ومحيطاتها، ولكن تنقص هذه الخريطة ملء (الفراغات) التفاصيل المفقودة من جبال ومسطحات وسهول ووديان وأنهار وغابات وطرق ومدن تعطي صورة دقيقة لأي خريطة.
والسؤال الذي يطرحه الدكتور كابلان هو "ماذا سوف يجني (يفيد) عامة الناس من وراء هذا الاكتشاف؟ الإجابة للدكتور كابلان: لا شيء على المدى القريب، ولكن الكثير والكثير على المدى البعيد. فلن نستطيع تقديم الشفاء لأي إنسان أو نحرز أي تقدم قبل عدة أعوام من الآن، وحينما يتم ملء جميع الفراغات الموجودة على خريطة الشريط الوراثي، فسوف تصنع العديد من الأدوية لعلاج الأمراض الكثيرة، والتي ترجع أسبابها إلى خلل في الجينات الوراثية وهي تقترب من 4 آلاف مرض، وهذه العقاقير من المتوقع أن تخلو من أي أعراض جانبية، كذلك سوف تحل التحاليل الجينية محل (البصمة الوراثية) بصمات الأصابع التقليدية في القضايا ، كذلك سوف تساهم هذه الاختبارات في حل قضايا الأشخاص المفقودين وكذلك المساهمة في التعرف على مرتكب الجرائم. ولكن هناك العديد من المخاطر، يستطرد الدكتور كابلان: سوف ينتج عن معرفة الشفرة الوراثية للإنسان، ما يعرض خصوصياته للخطر، ولن يكون بمستغرب أن يهتم أصحاب العمل وشركات التأمين بمعرفة الحالة الصحية للإنسان بناء على معرفة الخريطة الجينية له لتفادي أي مشاكل صحية قد تعوقه عن العمل أو تتسبب في خسائر مادية لشركات التأمين مثل الإعاقة. إضافة إلى سوء استخدام المعلومات الخاصة بالشفرة الوراثية، من حيث قيام أصحاب العمل بالتفرقة بين الأفراد بناء على حالتهم الصحية المستقبلية.