عنوان الموضوع : مساعدة ..رحمة الوالدين...فلسفة للثالثة ثانوي
مقدم من طرف منتديات العندليب
السلام عليكم..... اريد مقالة جدلية
الاشكالية : هل يمكن دراسة الظاهرة الانسانية دراسة عليمة
شكرا
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
نص السؤال
هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية ؟
إن التطور الذي عرفته العلوم التجريبية في العصر الحديث نتيجة اعتمادها على التجربة كمصدر لليقين سعت مختلف العلوم الأخرى إلى محاولة تجسيد الدراسات العملية على مختلف الظواهر التي تدرج ضمنها ، ومن بين هذه العلوم نجد العلوم الإنسانية ، ونتيجة اختلاف الظاهرة الطبيعية عن الإنسانية أصبحت مسألة دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية غير ممكنة ، وفي مقابل ذلك نجد أن الميزة التي امتازت بها فرضت خصوصية ومنهج منظم يمكن الظاهرة الإنسانية من التحقيق العلم ، التناقض الموجود بين التصورين فرض جدلا ونقاش بين الفلاسفة والعلماء .
فهل يمكننا الإقرار بإمكانية خضوع الظاهرة الإنسانية للتحقيق العلمي ؟
لا يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية ، ذلك أن هذه الأخيرة تمتاز بجملة من الخصائص والمميزات التي تجعلها تختلف عن الظاهرة الطبيعية مما أدى إلى وجود عدة عوائق تصادف الباحث عند محاولته دراسة أي ظاهرة إنسانية فالظاهرة التاريخية مثلا تختلف عن المادية لهذا نجد بعض المفكرين يظنون أن التاريخ لا يمكنه أن يكون علما كغيره من العلوم منهم وليام دلتاي وكروتشه نتيجة العوائق التي تصادف المؤرخ كون الحادثة التاريخية حادثة إنسانية : أي أنها تتعلق بما يحدث للإنسان فقط ، لأن التاريخ لا يدرس ماضي الظواهر الطبيعية بل الظواهر الإنسانية من حيث أنها حوادث محددة بالزمكان " الزمان والمكان " لا يمكن تكرارها وملاحظتها من جديد لهذا لا يمكن فصلها عن الزمان والمكان الخاصان بها وإلاّ فقدت صفتها التاريخية . كما أنها حادثة اجتماعية لأن الحوادث الفردية لا تكون تاريخية إلاّ إذا تمكن أصحابها من التأثير على سير الحوادث إما عن طريق إحداث تقاليد جديدة كما يحدث ذلك في الفن والعلم والدين ، وإما عن طريق توجيه الجماعات كما يفعل ذلك رجال الحكم والزعماء . أي أن الحادثة لا تكون تاريخية إلاّ إذا شمل صداها مجتمعا بأسره مهما كان هذا المجتمع كبير أم صغير . إضافة إلى أنها حادثة تعرف بطريقة غير مباشرة على خلاف الملاحظة الطبيعية التي تتم بطريقة مباشرة وبالتالي يمكن التجريب عليها ، لهذا فهي – الإنسانية – غير قابلة لأن تحدث مرة جديدة بطرق اصطناعية ، كما أنها غير قابلة للتكميم ذلك أن المؤرخ لا يمكنه أن التأكد من صحة افتراضه عن طريق التجربة العلمية ، أي أنه لا يستطيع مثلا أن يحدث حربا "تجريبية " حتى يتأكد من افتراضاته ، وبالتالي استحالة الوصول إلى قوانين عامة ، وهذا ما من شأنه أن يمنعنا من التنبؤ بحدوث الظاهرة في المستقبل . وما يؤكد استحالة دراسة الحادثة التريحية دراسة علمية هو صعوبة تحقيق الموضوعية لأن المؤرخ إنسان ينتسب إلى عصر معين ومجتمع معين ، فهو لا يستطيع -على الرغم من اجتهاده في أن يكون موضوعيا - أن يكتب التاريخ إلاّ طبقا للواقع الذي يحياه ، فيعيشه من خلال قيمه واهتماماته ، وتربيته ، فالمواطن الجزائري الذي يكتب عن تاريخ فرنسا قبل 1962 ليس هو المواطن الذي يكتب عنه بعد هذا التاريخ ، ذلك أن الماضي يعاد بناؤه ، كما أننا لا نستطيع أن نطلب من الاشتراكي أن يعطينا دراسة موضوعية حول الرأسمالية .
ومن جهة أخرى نجد أن الظاهرة الاجتماعية تستحيل فيها أيضا الدراسات العلمية نتيجة الخصائص التي تمتاز بها والتي جعلتها تختلف عن الظاهرة الإنسانية ،هذا ما حاول أن يؤكد عليه العديد من الفلاسفة من بينهم كارل مانهايم ماكس فيبر ، وماكس شيلر . فهي ليست اجتماعية خالصة أي أنها تنطوي على خصائص بعضها بيولوجي وبعضها نفسي ، لهذا اعتقد البعض أنها تلحق بالدراسات البيولوجية ما دام الذي يميزها لا يختلف كثيرا عن الظواهر الحيوية أو البيولوجية وما يميزها من قوانين تخضع له أيضا ظواهر المجتمع ، ويميل البعض إلى أنها تلحق بالظواهر النفسية لأن ما تنطوي عليه من خصائص يتفق إلى حد كبير مع ما تقوم عليه الحادثة النفسية ، ويتجه صنفا آخر إلى تفسيرها تفسيرا تاريخيا لأنها لا تكاد تتطور في الزمان والمكان حتى تدخل في الماضي . كما أنها ظاهرة إنسانية لا تشبه الظواهر الطبيعية ، فهي مرتبطة بحياة الإنسان ن وهذا الأخير متغير لا تتحكم فيه الحتمية التي تخضع لها الظواهر الطبيعية ، وبالتالي لا يمكن ان تخضع للبحث العلمي ، كون الإنسان يملك حرية الإرادة في التصرف ، فالزوج مثلا في مستطاعه أن لا يطلق زوجته بالرغم من حضور الأسباب المهيئة للطلاق . هذا ونجد أيضا الظاهرة الاجتماعية ظاهرة خاصة وليست عامة لأنها تتعلق بالفرد ، وما هو خاص لا يكون قابل للدراسة من الخارج بفضل التحليل والتجريد ، وهذا ما يجسد الدراسات الذاتية في الدراسات الاجتماعية ، الشيء الذي جعل هذه الأخيرة كيفية لا كمية أي قابلة للوصف لا التقدير الكمي يقول جون ستيوارت ميل :" إن الظواهر المعقدة والنتائج التي ترجع إلى علل وأسباب متداخلة ومركبة لا تصلح أن تكون موضوعا حقيقيا للاستقراء العلمي المبني على الملاحظة والتجربة ."
ومن العوائق التي تصادف عالم الاجتماع عند دراسته للظاهرة الاجتماعية نجد صعوبة تحقيق الموضوعية كما هو الشأن في الظواهر الطبيعية ، وهنا يؤكد أحد العلماء وهو جبسون gibson على أن تحقيقها الكامل في العلوم
الاجتماعية يعتبر مثلا أعلى يصعب تحقيقه ،لأن الباحثين الاجتماعيين هم أفراد يعيشون في مجتمعات يتفاعلون مع أوضاع الحياة القائمة ، ويقبلون ألوانا معينة من أساليب التفكير والسلوك القائمة في مجتمعاتهم ، ومن ثمة هناك عوامل قد تنأى بهم عن الموضوعية فالمركز الذي يشغله الإنسان والطبقة التي ينتمي إليها والعصر الذي يعيش فيه قد تؤثر فيما يتوصل إليه من نتائج أو فيما يصدره من أحكام ، وبالتالي لا يمكن للعلوم الإنسانية أن تتخلص من أثار الإيديولوجيا هذه العوائق كلها أدة إلى استحالة تطبيق التجربة على الظاهرة الإنسانية ، الشيء الذي يقف كعقبة أمام الوصول إلى قوانين عامة تفسر حقيقتها ، وبالتالي صعوبة التنبؤ .
أما إذا جئنا إلى الحياة النفسية نجد الظاهرة النفسية لها هي الأخرى جملة من الخصائص التي جعلتها تختلف عن الظاهرة الجامدة ، الشيء الذي ولد عدة عوائق أمام علماء النفس باعتبار علم النفس علما يعنى بدراسة الحوادث والحالات النفسية للكشف عن قوانينها بعيدا عن النفس كجوهر ميتافيزيقي هذا ما حاول أن يؤكد عليه برغسون ووليام جيمس واهم العوائق التي تصادف الباحث أو الدارس نذكر من أهمها ما يلي :
موضوع غير ثابت ولا يعرف مكان محدد كما هو الشأن في ظواهر الطبيعة ، فلا مكان للشعور ولا محل للإنتباه ولا حجم للتذكر أو الحلم ، لأن الحوادث النفسية تمتاز بالديمومة والحركية ولا تبقى على حالها في زمنين متواليين لهذا فإن تطبيق المنهج التجريبي عليها يعني القضاء على ديمومتها ، ودراستها كماض لا كحاضر ، أي كشيء ثابت جام لا ظاهرة حية . كما نجد أيضا الظاهرة النفسية تمتاز بشدة التداخل والاختلاط بحيث يشتبك فيها الإدراك مع الإحساس ، والذكاء مع الخيال ، والانتباه مع الارادة ... ، دون نسيان أنها حادثة كيفية لذلك فهي قابلة للوصف ولا يمكن قياسه مثل الظاهرة الطبيعية كأن أقول إن شعوري يقدر بمائة كلم كما أن اللغة المستعملة تعجز أحيانا عن وصف كل ما يجري بداخل النفس ، فضلا عن تدخل اللاشعور نتيجة صدور من الفرد سلوكات وأفعال لا يعي أسبابها . إضافة إلى ذلك نجد الظاهرة النفسية حادثة شخصية داخلية لا يعرفها إلاّ صاحبها ، كما أننا لا نجد نفس الحالة الشعورية عند جميع الأفراد وحتى إن كان الموضوع المشعور به واحد .
النقد
لكن إذا كانت هذه العوائق – سواء التي تتعلق بالموضوع أو الذات – تحول دون تطبيق المنهج التجريبي في الظاهرة أو الحادثة التاريخية بشكل ، فإن هذا لا يعني البتة أنه لا يمكن دراستها دراسة علمية لجعل التاريخ علما قائما بذاته ، فإذا كان الاستقراء التجريبي هو الأنسب لدراسة علوم المادة فإن العوائق الإبستيمولوجية التي صادفته أدت إلى استحداث منهج يسمح بدراسة الحادثة التاريخية دراسة علمية ، ويعتبر ابن خلدون السباق إلى رسم منهج واضح المعالم يمكننا من دراسة الحادثة التاريخية ويفسرها أي أنه لم يكتف بمجرد نقلها والإشارة إلى مكان حدوثها من عدمه ، بل تجاوز ذلك إلى تفسيرها وربطها بعللها أسبابها
يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية بشرط تكييف المنهج العلمي وخطواته وفق ما يتماش مع طبيعة الظاهرة المدروسة ففي الظاهرة التاريخية مثلا نجد ابن خلدون يؤكد على امكانية تحقيق الموضوعية فيها ، وذلك من خلال منهج قائم على مجموعة من الخطوات تتجسد من خلالها خطوات المنهج التجريبي والقائمة أساسا على :
أولا : جمع المصادر: والتي يمكن أن نميز فيها نوعين من المصادر التاريخية " إرادية وغير إرادية " فالمصادر الإرادية تتمثل في تلك الأثار والوثائق التي أنجزها الإنسان واحتفظ بها قصد تأريخ الحادثة وإخبار الآخرين بها كالمجلات والصحف ، ورسائل القادة التاريخية ، ونصوص الاتفاقيات والروايات والمعاهدات المختلفة ، والقصص الواردة في القرآن الكريم ، والأحاديث النبوية الشريفة ... إلخ .
المصادر الغير إرادية : تتمثل في مختلف المصادر والآثار التي تركها الإنسان عن غير قصد ، والتي فرضتها الحاجة إليها ، كالحصن والأبراج والأسلحة التي تم تشييدها من أجل الحماية والدفاع عن النفس أو الدولة والمملكة ، إضافة إلى النقود مثلا التي صنعت لتسهيل التعامل والتبادل التجاري .
هذه العملية على حد تعبير ابن خلدون مشروطة بمعرفة طبائع العمران، فلا يصح مثلا أن يتحدث باحث على ما يصطلح عليه اليوم " حرب المدن أو الشوارع " في سياق حديثه عن حروب ومعارك تنتمي إلى العصور الوسطى أو القديمة ، بمعنى أن معرفة طبائع العمران طريق إلى معرفة إمكانية حدوث الواقعة من عدمها يقول ابن خلدون في حديثه عن الكيفية التي يتعامل بها مع الخبر :" ... إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور و مزلة القدم والحيد عن جادة الصدق ..."
02 - مرحلة النقد :
بعد جمع المصادر يجب على المؤرخ تفحصها ونقد الوثائق كلها ، وعليه أن يعتبر "كل وثيقة مدانة حتى تثبت براءتها" أي عليه أن يشك في أمانة وصحة الأخبار التي تتضمنها كل وثيقة حتى يتمكن من الكشف عن كل مبالغة وتزييف أو
02تحريف فيها ، وفي هذه المرحلة يميز المؤرخون بين نوعين من النقد " الخارجي والباطني "
أ – النقد الخارجي أو المادي :
يتناول شكل الوثيقة الخارجي ومادتها حتى يتأكد من حقيقتها وأصلها إذ قد تكون الوثيقة التي تسقط بين يديه صورة محرفة للوثيقة الأصلية الحقيقية ، فإذا كانت هذه الوثيقة مثلا رسالة عليه أن يدرس الورق المستعمل ، والحبر والخط ، والأسلوب والإمضاء ... إلخ وفي هذا المجال يستعمل المؤرخ تقنيات وطرق علوم أخرى كالكيمياء وعلم الآثار ،وعلم الخط ....،إلخ ، فمن اللا منطقي مثلا أن يأخذ الباحث أو المؤرخ بوثيقة كتبت بالآلة الراقنة كشاهد حي على حادثة
وقعت في زمان لم يبلغ بعد لمستوى هذه التكنولوجيا ، وهذا يعني أن نوع الخط يكون موضوع نقد من قبل الباحث بغض النظر عن تفحص نوع المادة كنوع الورق او الحبر . وإذا كان هذا المصدر نقود أو سلاحا أو أوسمة وجب على المؤرخ تفحص نوع المعدن ، طبيعة او نوع المواد الكيمياوية إذا كان المصدر من الآثار الفنية أو القديمة .
النقد الباطني " الداخلي " :
يختبر مدى صحة مضمون الوثيقة وذلك بمقارنتها بوثائق أخرى ذات منابع مختلفة فيكشف عن وجه الاختلاف والاتفاق ثم يقوم بدراسة شخصية صاحبها قصد معرفة العوامل المختلفة التي قد تؤثر فيه وتدفعه إلى الكذب ، وقد حدد إبن خلدون في كتابه المقدمة أسباب كذب الراوي وحصرها فيما يلي :
- التشيع لآراء المذاهب " مناصرة قضية أو مذهب " فإن النفس إذا كانت على حال من الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه ، وإذا استسلمت وتشيعت لرأي او نحلةٍ قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة ن وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحص فتقع في قبول الكذب ونقله
- الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والترجيح .
- الذهول عن المقاصد " السهو ، التغافل والخروج عنه " فكثيرا من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين او سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه ن فيقع في الكذب ومنها توهم الصدق
- الجهل بتطبيق الأحوال على الواقع " الخروج عن سياق الخبر " لأجل ما يداخلها من التلبس والتصنيع فينقلها المخبر كما رآها وهي التصنع على غير الحق في نفسه .
- التقرب إلى أصحاب التجلة والمراتب " أصحاب الجاه والاعتبار " بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك ، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة .
- الجهل بطبائع الأحوال العمراني ، فإن كل حادث من الحوادث ذاتا كان أو فعلا لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته يعرض له من أحواله ، فإذا كان السامع عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على الصدق من الكذب .
وفي هذه المرحلة من النقد يتحول المؤرخ إلى خبير نفسي يثبت درجة مصداقية صاحب الوثيقة ومدى اطلاعه على الأخبار والمنابع التي استقاها منها .
03 – المرحلة التركيبية للحادثة التاريخية :
بعد الانتهاء من التدقيق والتمحيص للمصادر عن طريق النقد يلجأ المؤرخ بعد هذا إلى محاولة تركيب الأحداث ترتيبا مكانيا و زمانيا وتنسيقها مع مراعات العلاقة القائمة بينها لآن الأحداث المشتة المنعزلة لا تعطينا علما تاريخيا وإذا ما وجد في ترتيبها بعض الفجوات أو أحداث تاريخية غير موجودة يلجأ إلى ملئها بافتراضاته واستنتاجاته الخاصة المستوحاة من الحقائق التي تحدثت عنها تلك الوثائق ، وعليه في الأخير أن يقيم الحادثة وأن يبرز مدى أهميتها وتأثيرها في مجرى الحياة الاجتماعية .
* صحيح أن هذه الدراسة المقارن التي أكد عليها ابن خلدون من شأنها أن تحقق الموضوعية ولو بنسبة معينة إلاّ أن هذا لا يعني تجسيد التجربة العلمية ما دامت الظاهرة التاريخية تمتاز بخصائص مخالفة للظاهرة الطبيعية ، كما أن اعتماد المؤرخ على الفرض لملأ الفجوات يجعل التفسير ذاتي وقد تنحرف الحادثة عن المعنى المقصود لها ، وهذا ما من شأنه أن يؤدي إلى انحراف الحادثة التاريخية عن مقاصدها وبالتالي تحريفها .
أما إذا جئنا إلى دراسة الظاهرة الإجتماعية دراسة علمية نجد ابن خلدون من الأوائل الذين عملوا على فهم الظواهر الاجتماعية ودراستها دراسة تجريبية وتجاوز العوائق التي تصادف ذلك ، وأطلق على هذا العلم إسم " عمران العالم " ، ثم جاء بعده أوغيست كونت زعيم الفلسفة الوضعية وكان هو أول من استعمل اسم " علم الاجتماع " وبعد ذلك تناول إيميل دوركايم الظاهرة الاجتماعية من خلال دراستها دراسة تجريبية قائمة أساسا على تحديد
خصائصها ، والعوامل التي تتحكم فيها وأهم الخصائص :
الظاهرة الاجتماعية خارجة عن شعور الأفراد ، ذلك أنهم ليسوا هم من خلقها ، لأن الفرد يولد ويجد المجتمع كاملا أمامه بعاداته وأعرافه وقوانينه وهو يخضع لها فالدين مثلا سابق عن وجود الفرد المؤمن فهو يجده تام التكوين منذ الولادة ،يقول دوركايم ": لما كان هذا العمل المشترك يتم خارج شعور كل فرد منا فإنه يؤدي بالضرورة إلى تثبيت وتكريس بعض الضروب الخاصة من السلوك والتفكير ، وهي تلك الضروب التي توجد خارجة عنا ، والتي لا تخضع لإرادة أي فرد منا على حدة ." أي أن دوركايم يؤكد على أن علم الإجتماع ما كان له أن يوجد إلاّ عندما شعر المفكرين بأن الظواهر الاجتماعية أشياء ذات وجود حقيقي وبأنه يمكن دراستها حتى وإن لم تكن أشياء مادية بمعنى الكلمة . يقول دوركايم :" إن الظواهر الإجتماعية أشياء ويجب أن تدرس على أنها أشياء ، وإذا أردنا البرهنة على صدق هذه القضية فلسنا في حاجة إلى دراسة طبيعة هذه الظواهر دراسة فلسفية ". ويوضح دوركايم معنى الشيئية بقوله :" إننا لا نقول في الواقع أن الظواهر الاجتماعية أشياء مادية ، ولكننا نقول إنها جديرة بأن توصف بأنها كالظواهر الطبيعية تماما ... ، ومعنى أن نعتبر الظواهر الاجتماعية على أنها أشياء هو دراستها بنفس الطريقة التي تدرس بها الظواهر الطبيعية ، أن نتحرر من كل فكرة سابقة حول هذه الظواهر ، وأن تأتي معرفتنا بها من الخارج عن طريق الملاحظة والمشاهدة ، وليس من الداخل عن طريق التأمل والاستبطان ، وليس معنى أننا نعالج طائفة خاصة من الظواهر على أنها أشياء هو أننا ندخل هذه الظواهر في طائفة خاصة من الكائنات الطبيعية ، بل معنى ذلك أننا نسلك حيالها مسلكا عقليا خالصا ، أي أننا نأخذ في دراستها وقد تمسكنا بهذا المبدأ الآتي ، وهو أننا نجهل كل سيء عن حقيقتها ، وأننا لا نستطيع الكشف عن خواصها الذاتية وعن الأسباب المجهولة التي تخضع لها عن طريق الملاحظة الداخلية مهما بلغت هذه الطريقة مبلغا كبيرا من الدقة . وهكذا يعتبر دوركايم أن التحرر من كل فكرة سابقة وتفسير الاجتماعي بالاجتماعي واعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء هي مقومات الأسلوب العلمي الوضعي القائم على الوصف والتحليل ومنطق المقارنة ، فلا يقيم وزنا للتخيل والتأمل والاستبطان الداخلي والآراء الذاتية .
كما نجده أيضا تماتز بأنها ظاهرة إلزامية جبرية ، والأفراد والجماعات ملزمون بتطبيقها ومن يخالفها يتعرض للعقاب يقول دوركايم :" لست مجبرا على استخدام اللغة الفرنسية كآدات للتخاطب مع أبناء وطني ، ولست مضطرا إلى استخدام النقود الرسمية ، ولكن لا أستطيع إلاّ أن أتكلم هذه اللغة وإلاّ أن أستخدم هذه النقود ولو حاولت التخلص من هذه الضرورة لباءت محاولتي بالفشل ."
هذا ونجدها ظاهرة جماعية تتمثل فيما يسميه دوركايم بالضمير الجمعي ، أي انها لا تنتسب لأي فرد من الأفراد ولا إلى جماعة من الأفراد ، فهي تلقائية عامة يشترك فيها جميع الأفراد ، وتتكرر مدة طويلة من الزمن .
كما تمتاز بأنها حادثة تاريخية تعبر عن لحظة من لحظات تاريخ الاجتماع البشري ، فالعادات والمعتقدات والشرائع التي يتناقلها النشء عن الأجداد هي أساس التراث الاجتماعي
وهكذا توصل دوركايم إلى محاولة تفسير الظاهرة الاجتماعية تفسيرا وضعيا علميا مبتعدا عن الدراسات الفلسفية .
أما فيما يخص الظاهرة النفسية فترتبط الدراسات العلمية في مجال الدراسات السيكولوجية بإمان علماء النفس بان الموضوعية ليست حكرا على العلوم التجريبية ، وقد كانت للفيزيولوجية آثارا على علم النفس ، وتجسدت المبادرة الأولى مع المدرسة السلوكية بزعامة الأمريكي واطسن الذي استفاد من التجارب التي قام بها العالم الفيزيولوجي الروسي بافلوف المتمثلة في :
" أخذ بافلوف كلبا وأجرى عليه عملية تشريحية بعد أن ثبت أطرافه كلها ، وأحظر أدوات لالتقاط قطرات اللعاب وقياس مقداره ، فكان يقدم له الطعام ليستثير سيلان اللعاب ، ولاحظ أن هذ الأخير – اللعاب- يأخذ في السيلان عند الحيوان بمقدار معين عندما يضع على لسانه قطعة من اللحم المجفف ، وكان في الوقت الذي يقدم فيه الطعام يقرع الجرس ، وبعد أن كرر التجربة مرات لاحظ أن قرع الجرس وحده كفيل باستثارة سيلان اللعاب ، وقد اختار مصطلح المنعكس الشرطي ليؤكد وجود منعكس تكون فيه الاستجابة مرتبطة بمؤثر ، وقد سمى بافلوف دراسته هذه بفيزيولوجيا الدماغ ." هذه المبادرة التي قام بها بافلوف أثارت اهتمام الباحثين السيكولوجيين في فهم كل عمليات التعلم من عادة وتذكر وإدراك ، الشيء الذي فتح أفاق جديدة في دائرة الدراسات النفسية مع واطسون الذي رفض أن يعنى علم النفس بدراسة المفاهيم الفلسفية والتأملية كالشعور ،والتفكير والعقل داعيا إلى حذف الاستبطان باعتباره المنهاج المعتمد في دراستها ، وأن كل ما قام به التركيبيين هو أنهم استبدلوا كلمة الروح الميتافيزيقية بكلمة الشعور التي تحاكيها غموضا وتماثلها في أنها غير محسوسة وغير قابلة للقياس الشيء الذي جعل الشعور غير قابل للدراسة العلمية ،يقول واطسون ": إن علم النفس كما يرى السلوكي فرع موضوعي وتجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية هدفه النظري التنبؤ عن السلوك وضبطه " ... " ويبدو أن الوقت قد حام ليتخلص علم النفس من كل إشارة إلى الشعور ."هذا ما جعل واطسون يدعو إلى أن تكون مهمة علم النفس دراسة السلوك باعتباره استجابة أو رد فعل على المنبهات التي تنصب عليها من
جهة والتنبؤ بالسلوك وضبطه من جهة أخرى ، فالسلوك كما هو معروف أفعال قابلة للملاحظة والقياس ،وهو ما يجعله أساسا صالحا لأن يكون لأن يكون موضوعا لعلم النفس " فإذا لم تكن قادرا على رؤية ما تدرسه وتقيسه إنسَهُ" ، كما أكد واطسون على قيمة البيئة في السلوك وتشكيله وقلل من شأن السلوك الغريزي إن لم ينفه إطلاقا ،فالإنسان صُنعة البيئة والتنشئة حتى إنه بضبط البيئة والتحكم فيها يمكن أن يجعل المربي من أي طفل أي شخصية يريد لهذا فإن التعلم أهم عامل محدد للسلوك .
النتائج التي وصلت إليها الطريقة السلوكية فتحت أفاقا جديدة في مجال الدراسات النفسية وظهرت مناهج متعددة لتفسير الحادثة النفسية ، وتوسعت ميادين علم النفس " علم النفس الطفل ، الاجتماع ، الحيوان ، ... إلخ " فتمكن علم النفس من تجاوز العقبات والعوائق وبلوغ الموضوعية وظهرت فيه المناهج والنماذج التفسيرية الحديثة .
النقد
هذه الدراسات التي قام بها العلماء سواء في الظاهرة التاريخية أو الاجتماعية وحتى النفسية جعلت العلوم الإنسانية تتغنى بالصفة العلمية لكن تحقيق الموضوعية في الظاهرة التاريخية غير قابل للتحقيق لأن التجرد من العواطف في دراسة التاريخ صعب المنال والأخذ بالمبادرة الشخصية أم ممكن واضطراري لأنه إنسان له مشاعر يشارك بها غيره .الشيء الذي يفتح المجال للاجتهاد الشخصي ، وما لجوء المؤرخ إلى خياله لملأ الفجوات التي تصادفه عند بناء الحادثة التاريخية وترتيبها إلاّ دليل على عدم تحقيق الموضوعية ، لأن العاطفة سوف تتدخل هنا .
كما أن النظر إلى الظاهرة الاجتماعية من الخارج يمكن من الوصل إلى حقيقتها ، لكن ما يعاب على دوركايم هو عدم تمييزه بين الظاهرة الفيزيائية والظاهرة الاجتماعية ، ذلك أنهما ليسا من طبيعة واحدة ، فالظاهرة الشعورية ليست هي نفسها ظاهرة انصهار المعادن ، كما الظاهرة الاجتماعية ليست خاصة . إضافة إلى ذلك رغم الجهود التي بذلها علماء النفس في المجال المنهجي ، لأن النتائج التي توصلوا إليها ليست ثابتة ، كما أن الحادثة النفسية ليست سلوك يتم بطريقة آلية خاضعة لتأثير المنبه ، لأنه شعور لا سلوك ، وهذا الأخير لا يمكن دراسته دراسة كمية قابلة للقياس ، لأنه يُعرَف ولا يُعَرف ويمتاز بالديمومة لا الانفصال
التركيب
وعليه يمكن القول إن الباحث في العلوم الإنسانية لا بد أن يكون متأثرا بأحواله الخاصة سواء كان عالما في التاريخ أو علم النفس او علم الاجتماع نتيجة الخصوصية التي تمتاز بها أي ظاهرة مرتبطة بهذه الظاهرة ، لكن في مقابل ذلك نجد أن المنطق العلمي الحديث أعطى للظواهر الإنسانية ميزة علمية من شأنها أن تضع هذه الأخيرة في مصف العلوم لأنها لم تعد ترفا فكريا وثقافيا يمكن الاستغناء عليه ،كون العلوم الإنسانية أصبحت لها أهمية قصوى في عالمنا الراهن والذي طغت عليه المادة ، ذلك أن الإنسان أبح بإمكانه معرفة نفسه بنفسه ، وتحقيق الرفاهية والتقدم بالبحث عن مشكلات الإنسان ووضع حلول إيجابية لها .
في الأخير يمكن القول أن الدراسات العلمية على الظاهرة الإنسانية مرتبطة بالمنهج المتبع وتكييفه حسب الطبيعة
الظاهرة الإنسانية ، وبالتالي يمكن للدراسات القائمة في مجال العلوم الإنسانية من أن تخلع على نفسها صفة العلم بالمفهوم الذي ينطبق مع خصوصيات ميدانها ، الشيء الذي جعلها – العلوم الإنسانية – تبرهن على أنها قادرة على تجسيد صفة الموضوعية ولو بنسبة معينة على مستوى معرفة الإنسان لنفسه وتعزيز هويته والرضا بتعايشه مع غيره انطلاقا من الماضي كقاعدة أساسية .
-------------------------------------------------------------------
المقالة منقولة للاستفادة
=========
>>>> الرد الثاني :
نص السؤال
هل يمكن دراسة الظاهرة الإنسانية دراسة علمية ؟
اندهش الإنسان أول الأمر من الوجود.. من الطبيعة و ألغازها.. فكان التحدي الأول الذي واجهه هو محاولة فهم و تفسير الظواهر الطبيعية التي تحيط به .. و على امتداد الرحلة المعرفية استطاع كشف العديد من أسرارها لدرجة السيطرة على معظمها .. لكن بقدر ما اهتم الإنسان بالطبيعة بقدر ما نسي نفسه . أو بالأحرى لم يلتفت لذاته إلا متأخرا.. أي إلا بعدما بدأ يشعر أنه تمكن أخيرا من فهم و تفسير الطبيعة و بدأت تراوده فكرة نقل هذا النموذج الناجح لتطبيقه على الإنسان...
لقد أغرت النجاحات التي عرفها مجال العلوم الطبيعية بمحاولة الاستفادة منها لتحقيق انجازات مماثلة في العلوم الإنسانية. فتوالت الدعوات لتطبيق المناهج العلمية التجريبية و التصورات الصارمة -التي أثبتت نجاعتها في المجال الطبيعي - على المجال الإنساني.
هكذا سيتحول الإنسان الذي كان على امتداد التاريخ ذاتا عارفة ,إلى موضوع للمعرفة .. ! سيتحول من دارس إلى مدروس.. من كائن فوق طبيعي.. إلى كائن كباقي الكائنات.. كجزء من الطبيعة.. يخضع لقوانينها و نظمها و حتميتها ... و أصبح الإنسان يؤمن بإمكانية الوصول إلى معرفة موضوعية بذاته وإلى فهمها و تفسيرها كما هو الأمر مع أي ظاهرة طبيعية أخرى.
لكن هل من السهل تحقيق ذلك ؟ هل بالإمكان تقديم معرفة علمية دقيقة بصدد هذا الكائن الغامض المتغير الراغب , المتخيل, المعقد , المتقلب, المتداخل الأبعاد .... و الذي يسمى الإنسان.؟
كيف يمكن إذن موضعة ظاهرة تتميز بالوعي و الإرادة ؟ و كيف يمكن تفسير كائن تشكل الحرية أهم خصائصه الجوهرية ما يجعله عصيا عن أي تأطير سببي ؟ أو منفلتا عن أي تنبؤ علمي ..؟ و هل تصلح المناهج العلمية الوضعية للتطبيق حرفيا على الظاهرة الإنسانية أم يجب تعديلها و تكييفها مع خصوصياتها؟ أم ينبغي تغييرها بأخرى أصيلة خاصة بالإنسان؟
لا يمكن الحديث عن "علم" دون توفر شرط أساسي و هو " الموضوعية" فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للمعرفة في نفس الوقت الذي يشكل هو نفسه الذات العارفة؟
لقد شكل هذا السؤال العقبة الأولى أمام كل المهتمين بالعلوم الإنسانية الأمر الذي جعل البعض يتحفظ على استعمال كلمة " علم " ما دام أمر الموضوعية لم يحسم بعد.
صعوبة موضعة الظاهرة الإنسانية تعود بالدرجة الأولى إلى خصوصيتها إذ يرى فوكوFoucault M- مثلا أن تعقدها و تعدد أبعادها يجعلها بالضرورة نقطة تقاطع عدة علوم و ليست موضوعا لعلم واحد .. وهو ما يجعل الدراسة أمرا في غاية الصعوبة و ربما كان ذلك هو السبب وراء صيغة الجمع التي تأخذها عادة " العلوم الإنسانية"..صعوبة الموضعة تعود كذلك لعدم قابلية الظاهرة الإنسانية للتحديد الدقيق و التكميم و الخضوع للقوانين الحتمية أو للتجريب و القياس و الترييض. يضاف إلى ذلك إشكال التداخل بين الذات و الموضوع إذ تكون الذات هي الملاحظة لذاتها و المجربة عليها .. و هو ما يثير عدة تعقيدات.
فالباحث الاجتماعي مثلا لا يستطيع الانفصال بشكل كلي عن مجتمعه الذي هو موضوع الدراسة..إذ يصعب عليه فهمه دون النفاذ إليه و دون المشاركة و الانخراط فيه. و هذا ما يراه أيضا لوسيان غولدمان l- Goldman حين يؤكد أن الباحث في العلوم الإنسانية لا يستطيع أن يضع ذاته بين قوسين أو أن يتخلص كليا من الأحكام القبلية و المواقف المضمرة الجاهزة سواء تلك الواعية أو اللاواعية .باختصار تبقى المعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه جد متأثرة بالذاتية و بعيدة عن الحياد و عن الموضوعية.
لكن هناك في المقابل من يقلل من أهمية هذه الصعوبات و يرى أن الإنسان يبقى – رغم كل مميزاته- موضوعا طبيعيا كباقي الموضوعات الطبيعية.. قابلا للدراسة العلمية المادية بعيدا عن كل تناول ميتافيزيقي أو لاهوتي كما يذهب إلى ذلك رائد الوضعية اوغست كونت A- conte و بالتالي يجب معاملة الوقائع الاجتماعية مثلا كأشياء كما يدعو إلى ذلك اميل دوركايم Durkheim E- أحد مؤسسي علم الاجتماع مع إمكانية تحقيق مبدأ الحياد على حد زعم ماكس فيبر Max weber .
و هي كلها مواقف لا تجد حرجا في النظر للإنسان كأي شيء أو موضوع خارجي.. يخضع لقوانين وقابل للدراسة العلمية شريطة حرص العالم على أخذ المسافة الموضوعية الفاصلة عن موضوع دراسته بشكل يجعله لا يعي بأنه يخضع للدراسة .... لأن الوعي – كما يؤكد ذلك كلود ليفي ستراوس C-l- Strauss هو العدو الخفي لعلوم الإنسان.
تكمن قوة العلوم الطبيعية في قدرتها على تفسير مجموعة من الظواهر وهو ما مكننا من التنبؤ بها قبل حدوثها كلما لاحظنا الأسباب التي تؤدي –حتما- إليها. و بالتالي فالمعيار الحقيقي لعلمية – العلوم الإنسانية- هو مدى قدرتها على تفسير الظواهر الإنسانية و هو التحدي الذي واجهه مجموعة من العلماء.
و إذا كان الوضعيون –Durkheim وConte - لا يشككون في إمكانية التفسير بل و التنبؤ أيضا بحكم تعاملهم "الموضوعي " مع الظاهرة الإنسانية و اعتبارها شيئا كباقي المواضيع.. فان C-l Strauss يتردد في حسم هذا الأمر.. إذ يعتبر أن العلوم الإنسانية لم تحسم بعد بين التفسير و الفهم و أنها لازالت تقف في منتصف الطريق .. و لا زالت توازن بين الطريقتين بنوع من الحكمة التي تجمع بين المعرفة والمنفعة . فتفسيرها يبقى محدودا و تنبؤها غير أكيد.
بينما يذهب آخرون ك دلتي ومونرو " - Monrot Dilthiy" إلى ضرورة التركيز على الفهم أكثر بدل التفسير. إذ يرى" دلتي" أن الظواهر الإنسانية ليست ظواهر خارجية و معزولة حتى نكشف أسبابها الكامنة.. و إنما هي ظواهر حية غير متجانسة .. و لا تتكرر.. و تعطي لنا طريق تجربتنا الداخلية. و بالتالي فإذا كانت الظواهر الطبيعية تفسر فان الظواهر الإنسانية تفهم .
لأن ما يميز الفهم عن التفسير حسب "مونرو" هو وضوحه و بداهته لأنه إدراك لحالة معيشة تقدم لنا كتجربة بديهية فيها نوع من المشاركة الذاتية.. فنحن مثلا نستطيع فهم أو تفهم وضعية أو موقف إنساني ما دون أن نكون قادرين على تفسيره.. لجهلنا بأسبابه الكثيرة ..المعقدة.. و المتداخلة ..و التي تبقى مع ذلك مجرد تبرير لحدوث الظاهرة.
إن حديثنا السابق عن رغبة العلوم الإنسانية في تحقيق الموضوعية و القدرة على التفسير و التنبؤ تكشف رغبة صريحة في الاقتداء بالعلوم التجريبية ..و بمناهجها الصارمة التي تفوقت على المستوى الطبيعي.لكن هل بالإمكان تحقيق ذلك؟ أو من الأفضل أن تبحث لنفسها عن مناهج خاصة تلائم طبيعتها.
للإجابة على هذا الإشكال يرى لادرييرJ-Ladriere أن الباحث في العلوم الإنسانية يجد نفسه حائرا أمام مسألة المنهج.. لأنه إذا قرر اعتماد المنهج التجريبي فانه سيكون مضطرا للتخلي عن كل الدلالات والمقاصد و الغايات التي قد تساعده في فهم الظاهرة الإنسانية .. إذ سيكون في هذه الحالة مطالبا بدراستها كشيء. بعيدا عن أي تأويل ذاتي . أما إذا اختار اعتماد منهج جديد يتلاءم مع طبيعة الموضوع المدروس فانه سيكون أبعد عن النموذج العلمي بصرامته و دقته المعهودة في المجال الطبيعي.
هذه الحيرة تعكس في الواقع صعوبة الاختيار بين نموذجين يسميهما" ادغار موران"E-Morin : النموذج العلمي – نسبة إلى العلوم التجريبية – و النموذج الإنشائي كمنهج أصيل نابع من خصوصية العلوم الإنسانية ..
و إذا كان النموذج الأول يحاول أن يتماهى مع العلوم الحقة بالتأكيد على ضرورة وضع الذات بين قوسين و التخلي عن التفسيرات التأملية الميتافيزيقية , و محاولة إخضاع الموضوع المدروس للملاحظة الموضوعية و التجربة الدقيقة للخروج بالقوانين الحتمية . فان النموذج الثاني يظل قريبا من الفلسفة أوالأدب أو التأمل الأخلاقي.. و لم يتحرر من خطاباتها بعد .
و يتابع "موران" تمييزه بين النموذجين حين يؤكد أن الأول يتميز بكونه آلي حتمي.. يؤمن بوجود قوانين و قواعد تحكم الظواهر.. و تؤثر فيها وفق علاقات سببية خطية و منتظمة.. بعيدا عن أي تأثير للذوات أو للقوى الفاعلة.. كما لو أنها ظواهر معزولة. بينما يتميز الثاني بالحضور القوي لذات الباحث الذي لا يتردد أحيانا في استعمال ضمير المتكلم خلال أبحاثه.. دون إخفاء.. نظرا لأهمية الذات في موضعة و فهم الظاهرة.
و كحل لهذا الإشكال المتمثل في صعوبة الحسم في أي النموذجين يجب اعتماده. هناك من يرى إمكانية الاستفادة منهما معا دون تناقض على اعتبار أن القطيعة مع العلوم الطبيعية أمر غير وارد بحكم أسبقيتها الابستمولوجية , و بالتالي ضرورة الاستفادة من نجاحاتها ..لكن مع الحرص فقط على استيفاء شروط إضافية للتحكم في علاقة الباحث مع موضوعه .. من أجل ضمان أقصى درجة من الحياد الممكن ..دون أن يشكل ذلك عائقا أمام إبداع طرق جديدة ملائمة.
غير أن ميرلوبونتي Merleau-ponty لا يتردد في إعلان موقفه الجذري من هذه المسألة.. إذ يعتبر أن تحقيق معرفة موضوعية للإنسان من خلال المنهج التجريبي أمر غير ممكن ..لأنه يستحيل النفاذ إلى عمق الوجود الإنساني. كما يرفض رفضا قاطعا أية محاولة لتجزيء الإنسان أو تجاهل تجربته المعيشة . إن الإنسان- حسب هذا الموقف- كل لا يتجزأ.. و أهم ما يميزه.. انه يوجد كتجارب معيشة.. يحياها الإنسان أولا.. قبل أن يعبر عنها العلم ثانيا. و بالتالي فالمعرفة تقتضي الرجوع إلى العالم المعيش للإنسان قبل أن يتحول إلى موضوع معرفة. و هنا تكمن استحالة تطبيق النموذج العلمي عليه.
ختاما.. نقول إن معرفة الإنسان لذاته لازالت في بدايتها ..و بين اعتماد نموذج جاهز أو إبداع نماذج أصيلة لازالت المحاولات و الاجتهادات مستمرة.. مع ما يتولد عليها من نقاشات و سجالات فكرية مهمة تعتبر السبيل الأمثل لتطور سيرورة العلوم الإنسانية .
و مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة جوانب كانت إلى وقت قريب مظلمة من العالم الإنساني , كما لا يمكن إنكار الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه وإفقاده تميزه كذات خالقة للمعنى و متسمة بالوعي و الحرية و الإرادة .
و بين هاذين الصورتين تبقى العلوم الإنسانية الآن ضرورة تفرض نفسها كمعرفة تزداد يوما بعد يوم تدقيقا و تخصصا ..و ربما قد يأتي يوم لا نشعر فيه بأي حرج في إدراجها ضمن العلوم الحقة ؟ أو ربما سيجيء اليوم الذي يعترف فيه روادها باستحالة فك لغز هذا الكائن المسمى الإنسان !!.
.............................
وفقنا الله و اياكم لنيل شهادة الباكالوريا بتفوق
=========
>>>> الرد الثالث :
ايمكن الحديث عن علمية جديدة في حقل العلوم الإنسانية
أضحت العلوم الإنسانية باعتبارها الحقل
العلمي الذي يتخذ من الإنسان موضوعا له, مسالة تتمركز في شتى مجالات فلسفة
العلوم . الشيء الذي جعل لهذا المفهوم إشكالا من تجلياته طبيعتها بذاتها،
أي ما طبيعة العلوم الإنسانية ؟ هل يمكن تحقيق علمية بخصوص موضوع الإنسان
؟ وكيف الحديث عن تحقيق علمية بكائن تميز بالوعي و الإرادة و الرغبة ؟
إن الحديث داخل حقل العلوم الإنسانية عن علمية جديدة
يصاغ بالأساس على اعتبار إمكانية وضع الإنسان، المعروف بأبعاده النفسية
والاجتماعية والتاريخية، كموضوع للدراسة العلمية، بمعنى تطبيق، إذا أمكن،
منهج قياس كما يتم في العلوم التجريبية، الشيء الذي يجعل الحديث عن هذه
المقاربة تدخل ضمن إطار النزعة العلمية في العلوم الإنسانية، والتي أكدت
طروحاتها على إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية .
ذهب هذا الاتجاه بأصحاب الفلسفة الوضعية و التي من
ابرز ممثليها “اوغست كونت” إلى القول بان الفيزياء الاجتماعية ما هي إلا
امتداد للفيزياء، وكذلك الفروع العلمية التي تندرج ضمنها، مما يجعلها بعد
اعتبارها علوما للملاحظة، علوما تقبل أي تطبيق تجريبي، كما هو الشأن في
العلوم الفيزيائية بغية الحصول على نتائج يقينية، وبالتالي الوصول إلى
قوانين دقيقة و موضوعية.
يحذو “دوركايم” هو الآخر ذو النزعة العلمية في
تصوره، حذو “كونت” من مجال تخصصه الاجتماعي العلمي، بالميل إلى دراسة
الظاهرة الاجتماعية دراسة علمية وفق قواعد منهجية، خاصة بعلم الاجتماع
مثلا. كما آلت به دراسته البحثة لظاهرة الانتحار بنتائج جد مقنعة ،وإن
اعتبرت هذه النزعة في الدراسة وفي نظر بعض المتخصصين تندرج ضمن خصوصية
الظاهرة الطبيعية. لكن هل كل هذا هو أوفى وأغنى للدراسة العلمية؟
أمدت النزعة العلمية، وبالأخص الفلسفة الوضعية،
الدراسة العلمية بركائز و أطروحات مكنت من فتح مجالات أفضت إلى إمكانيات
أخرى لتحقيق الدراسة العلمية في حقل العلوم الإنسانية،وبوجه الخصوص، على
الإنسان باعتباره موضوعا وظاهرة من الظواهر الكونية، والى الوقوف عند علوم
كعلم الاجتماع مثلا بكونه علما حقيقيا يرجى به تحقيق دراسة علمية للحصول
على نتائج وقوانين يقينية منهجية بالدرجة الأولى،إذا أمكن ذلك. بيد أن هذا
الاتجاه قد يكون بنظرته هاته لم يتجاوز إلى ما وراء الإنسان بأبعاده
البتّة . وأن هذا الأخير يتميز بملكة الوعي والإرادة، التي قد يكون لها
بالغ الأثر في عملية الدراسة العلمية نظرا لصعوبة التجربة على الذات. مما
يفرض تعقيدا طبائعيا (يطبعه التعقيد) على العلوم الإنسانية. وهذا ما حمل
“بياجي” لتبنيه الموقف الابستيمولوجي، على اعتبار وجود تداخل قائم بين
الذات الامبيريقية(الملاحِظة) والموضوع الملاحَظ أو المدروس، وبذلك تتقلص
المسافة العلمية بينهما،و أيضا لالتزام الباحث بمواقف فلسفية و إيديولوجية
. هكذا، وحسب “بياجي”، تتكون صعوبات تعاني منها علوم الإنسان ، فتكون
حاضرة كذلك في العلوم الطبيعية.
يضفي “فرانسوا باستيان” لمسته إلى جانب “بياجي” التي
أكدت هي الأخرى عن استحالة وجود علمية داخل حقل العلوم الإنسانية، فذات
الباحث الاجتماعي لا يمكن أن تنفصل كموضوع للبحث، لأنه ينخرط رغما عنه في
المنظومة والصيرورة المعيشية الاجتماعية، فيلزم باستحضار الوعي والإرادة
باعتبارهما ميزة الذات الإنسانية.
أكد هذان الموقفان ضرورة الوقوف عند الباحث أو
الملاحظ للعلمية، على انه لا ينفك بنظرته داخل دراسته الحقة، فهو ذو ميزة
نمطية (أي داخل نمط معين) قبل أن يكون صاحب تجربة . بحيث لا تخلو التجربة
من وقائع معيشية تضفي طابعا لايقينيا على النتائج، فتصبح العلمية بذلك لا
موضوعية. وبالتالي تخلص إلى لاتحقيقية العلمية في العلوم الإنسانية الذي
كان للوعي فيها العائق الأكيد.
من الصعب خلو أي علمية، كانت كلاسيكية النزعة أو
حديثة، من نظرتان متقاربتان ومتقابلتان، في حقل العلوم الإنسانية الحالية،
للخروج بنتائج قطعية تدع مجالا للمنهجية في شتى طرقها، للمضي قدما نحو
أنمذجة العلوم في هذه العلوم الإنسانية. وبذلك يكون تركيبيا قد تم الجمع
بين إمكانية العلمية داخل هذا الحقل، وبين تحقيق تلك العلمية بخصوص موضعة
صاحب الوعي و الإرادة، الذي يبقى في الأخير وقبل كل اعتبار، إنسانا ..
ختاما..
نقول إن معرفة الإنسان لذاته لازالت في بدايتها ..و بين اعتماد نموذج
جاهز أو إبداع نماذج أصيلة لازالت المحاولات و الاجتهادات مستمرة.. مع ما
يتولد عليها من نقاشات و سجالات فكرية مهمة تعتبر السبيل الأمثل لتطور
سيرورة العلوم الإنسانية .
و مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبته هذه الأخيرة في إنارة
جوانب كانت إلى وقت قريب مظلمة من العالم الإنساني , كما لا يمكن إنكار
الدور السلبي الذي لعبته في تعرية الإنسان و تشييئه وإفقاده تميزه كذات
خالقة للمعنى و متسمة بالوعي و الحرية و الإرادة .
و بين هاذين الصورتين تبقى العلوم الإنسانية الآن ضرورة تفرض نفسها كمعرفة
تزداد يوما بعد يوم تدقيقا و تخصصا ..و ربما قد يأتي يوم لا نشعر فيه
بأي حرج في إدراجها ضمن العلوم الحقة ؟ أو ربما سيجيء اليوم الذي يعترف
فيه روادها باستحالة فك لغز هذا الكائن المسمى الإنسان !!.....
-----------------------------------------
من.نص لغسان الكشوري ...بتصرف
=========
>>>> الرد الرابع :
اما رايح تحفضيها كامل احفضي الرياضات والحادثة النفسية
=========
>>>> الرد الخامس :
بارك الله فيك ختي وجعله في ميزان حسناتك نشاله وربي ينجحك في الباك
=========