عنوان الموضوع : مقالة و لا اروع--- الحرية بين المذاهب الفلسفية تحضير بكالوريا
مقدم من طرف منتديات العندليب
ترشة عمار - ثانوية حساني عبد الكريم - الوادي
مُشكِلة الحُريّة بَين المذاهبْ الفلسفية والموقف الإسلامي
قد يقول بعض الدارسين، أن السعي إلى فهم معنى "الحرية" بحد ذاتها، يصطدم بمشكلة أسبق ومعضلة أكبر. إذ ضلّت تحليلات الفلاسفة بين احتمالات كثيرة شتى للمعنى المراد بالحرية.. ترى المقصود بها حرية التنفيذ الفعلي، أي دون قسر من أي قوة باطنية كالأهواء والعواطف.. ثم هل المقصود بها ما يأتي من التصرفات والأفعال بسائق الإرادة المطلقة، أم بما هو أخص من ذلك، وهو عامل المحبة والرضا؟.. وهل ينبغي أن تكمن خلف سلطان الحرية باعث يوجهه ويختار له، أم أن الحرية هي تلك التي تكون طليقة من قيد أي باعث؟ ولا بد أن يقال عندئذ: ولكن فما الفرق إذن، بين الحرية والعبث، وهل بمقدور الإنسان المفكر العاقل أن يتمتع بحرية لا باعث لها؟.. ولقد انتهى بعضهم من ملاحقة هذه التصورات والتأمل إلى الاقتناع بأن الحرية وهم باطل وسراب لا وجود له، من هؤلاء ليبنتس Leibniz وسبنيوزا، وكثير من الفلاسفة الرواقيين.
ولكننا نؤثر أن نسقط هذه المشكلة عن النظر والاعتبار. إذ هي مشكلة نظرية واعتبارية مجردة، لا سلطان لها إلا في نطاق الأخيلة والمحاكمة الفكرية المجردة، أما على صعيد الواقع المحسوس فإنها تنحسر نهائياً.. إذ الحرية شعور ثابت لا مجال للامتراء به، قبل أن يكون فكرة ذات ضوابط وحدود.. وعجز الفكر عن تحديدها لا يلحق أي شك في وجودها.
غير أن المشكلة الحقيقية التي تنعكس على الواقع.. الواقع الفردي والاجتماعي، هي مشكلة البحث في جواب علمي سليم عن السؤال التالي: كيف أُوفق بين حريتي الذاتية، من جهة، وكل من الضرورات القائمة والقيم المرعية والانضباط بأنظمة الدولة ومقتضيات القانون، من جهة أخرى؟.. بل إن جزءاً كبيراً من تلك الحيرة في فهم معنى الحرية وضبطها، ليس إلاَّ واحداً من آثار العجز عن التوفيق بين هذا التعارض الذي ألمحنا إليه.
ولنستعرض الآن موجزاً من مظاهر الاضطراب والحيرة الناتجين عن هذا العجز، لدى الفلاسفة قديماً وحديثاً.
آثرت طائفة كبيرة من الفلاسفة الاهتمام بالشعور الداخلي للإنسان، والذي يلح على إثبات حقيقة أنه مفطور على أن لا ينصاع إلا لرغبته الذاتية وإرادته الطليقة من كل قيد، وأُهملت في سبيل ذلك النظر فيما يسمى بالضرورات القائمة في وجه هذه الرغبة. وأصرّت على أن لا ضرورة في هذه الحياة أسمى من أن يحقق الفرد لنفسه سعادته الشخصية الخاصة به، لا كما يريدها فقط، بل كما يحبها ويهواها أيضاً. وكأن لسان حال هذا الفريق يغري الإنسان أن يبذل قصارى جهده في تحطيم سدود الضرورات التي تقف أمامه بكل ما يمكنه من جهد، ودون النظر إلى الأضرار التي قد تنتج عن ذلك. فإنها –من وجهة نظرهم- مهما كانت أضراراً جسيمة، لن تكون أكثر جسامة من ضرر ذبول الحرية الإنسانية داخل كيان الإنسان. ومن أقدم فلاسفة هذه الطائفة أبيقور (230 ت ق.م) ويؤيده من فلاسفة العصر الحديث الفيلسوف الإنكليزي هوبز (1679 ت).
ولعلنا لا نخطئ إن قلنا أن هذا المذهب يشكّل النواة الخفية الأولى للمذهب الوجودي الذي لا يقيم وزناً لما وراء الوجود الفردي للإنسان، والمتمثل في الذات التي لا تنبثق بتمامها وكمالها إلا من الممارسة الفعلية لكامل حريتها المطلقة.
وآثرت طائفة أخرى المثول بخضوع واستسلام أمام الضرورات الكونية التي تترسخ جذورها في داخل النفس الإنسانية، ثم تنتشر فروعها وأغصانها بمظاهر شتى في المجتمعات الإنسانية على اختلافها. قالوا: فإذا كانت الضرورات الماثلة أمامنا تتصل بجذور راسخة في أعماق نفوسنا، فإن إرادتنا الذاتية ما ينبغي أن تكون متشاكسة مع مقتضيات تلك الجذور الراسخة، ولا يمكن إلا أن تحصر الإرادة نشاطاتها في ظلال تلك الشجرة الثابتة الضاربة بجذورها في أغوار النفس. ومن أقدم من نادى بهذا الرأي الفيلسوف اليوناني سقراط (396 ق.م) وتلميذه الوفيّ أفلاطون (248 ق.م) وثلة من الفلاسفة الرواقيين الذين جاؤوا من بعدهم، وقد بالغ بعض أتباع هذا المذهب، حتى انجرفوا في وهم أن الحرية كلمة لا طائل تحتها ولا مضمون لها، وأن الإنسان مسوق في جميع تصرفاته وأفكاره تحت سلطان أنظمة صارمة لا مفرّ منها. وليس هذا الذي يشعر به الإنسان مما يسمى إرادة أو اختياراً إلا جزءاً من هذا النظام الصارم ذاته، وإنما صاحب الحرية الوحيد في الكون هو الله عز وجل. وقد قلنا إن ممن ذهب إلى هذا الرأي سبينوزا وليبنتس.
ولسنا الآن بصدد البحث في مفهوم الضرورة من حيث أساسها الكليّ عند أصحاب هذا المذهب الثاني، غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن فكرة القضاء والقدر، كان لها تأثير كبير في إعطائهم الضرورة هذه الأهمية الكبرى والسلطان العظيم، وأكثر ما دار من النقاش بين الأبيقوريين والرواقيين حول هذين الرأيين المتعارضين، إنما كان يتمحور حول مسألة القضاء والقدر. غير أننا سنجد عندما نصغي إلى الحل الإسلامي لمشكلة الحرية هذه، أن التصور اليوناني لمسألة القضاء والقدر، تصور خاطئ ينبعث من الوثنية اليونانية ممزوجاً بقدر كبير من الإيمان بالله على طريقة بعض المذاهب الدينية لا سيما بالنسبة لمسألة الخطيئة.
أما فريق ثالث فقد بذلوا جهداً كبيراً لاختيار حل وسط، وعملوا كل ما في وسعهم لإقامة لون مقبول من التناسق والتوفيق بين الحرية الإنسانية والضرورات التي لا مفرّ منها.. واستعانوا لإقناع خصومهم بقدر غير يسير من الكلام الخطابي والتوفيق الخيالي فقالوا مثلاً: إن الضرورة هي المناخ الطبيعي للحرية أي هي الأرضية التي لا يستبين شكل الحرية إلا عليها. وقالوا: إن الحرية لا تكون بدون اختيار، والاختيار لا يتم إلا ضمن حدود الممكنات، ولا تتحدد الممكنات إلا حيث تحيط بها الضرورات، أي الواجبات والمستحيلات.. وقالوا: إن الحرية هي ترويض الإنسان ذاته أن لا يتحرك إلا ضمن دائرة ما تقتضيه السنن الكونية. وذلك عن طريق التجارب المتكررة التي لا بدّ أن تحدد له أخيراً معالم الطريق الذي لا يستقيم السير إلا في داخله.. فالحرية هي المصباح الذي يرى الإنسان على هديه حدود الممكنات ليضبط نفسه بها.
ونحن نقول: إن هذا الكلام مقبول عندما ننطلق من اليقين بأن الإنسان يتمتع بحرية نسبية محدودة. ثم إن هذه النسبية تتسع وتضيق حسب الأحوال والظروف. وعندئذٍ يصبح التوفيق بين الحرية والضرورة سارياً على كل الناس في جميع أحوالهم وتقلباتهم، فحتى السجين أو الأسير بوسعنا أن نقنعه، اعتماداً على هذا المنطق، بأنه حرّ طليق في كيانه، إذ لولا حدود المعسكر أو السجن الذي يطبق عليه، لما تجلى إمكان تنقله بحرية في داخل قاعاته وأروقته وحدائقه.
ولكن إذا أردنا أن نجزم بأن الحرية الإنسانية ثابتة بحد ذاتها، وأن على الإنسان أن يغذيها ويرعاها، وأن على المجتمع أن يقرّ له بذلك، فإن مشكلة ما يسمى بالضرورات والحتميات، لا مناص من الاعتراف بأنها تكذيب صريح لذلك الجزم والادعاء.
ومن أبرز أئمة هذا الاتجاه من الفلاسفة القدامى أرسطو، وكثير من أقطاب الأفلاطونية الحديثة، ومن فلاسفة العصر الحديث بنتام، وستوارت ميل الذي دافع عن الحرية كحقيقة ثابتة متكاملة، بمقدار ما دافع عن الضرورات الاجتماعية كسلطة مهيمنة على الأفراد. ولا ريب أنه غدا أوسع الآراء الثلاثة قبولاً وانتشاراً.
غير أن هذا الاتجاه الثالث زاد المشكلة اتساعاً، وزجّ الناس في مزيد من الضياع!.. فما أن أضفى هذا المذهب على "الضرورة" تلك القدسية التي لا تتكامل قدسية الحرية الإنسانية إلا بها – إذ أقامها مقام الكوابح الطبيعية التي لا بدّ منها ضد عبث الحرية وشذوذها- حتى أسرع كل ذي نزعة سياسية أو اجتماعية أو مادية، يجعل من كلمة "الضرورة" هذه حصناً مقدساً لميوله وأفكاره، ثم أخذ يغزو الحرية وينتقص من أطرافها متخفياً وراء حماية هذا الحصن، مدعياً بأن الحرية لا تستقيم دون خضوع للضرورات. والضرورات هي هذه القيود التي اكتشفها واختارها للناس كي يتقيدوا بها.
فأصحاب النزعة الاستبدادية في أنظمة الحكم والسياسة، يفسرون الضرورات السياسية بمذهبهم الاستبدادي الذي اقتنعوا به.. فما على الناس إلا أن يخضعوا حرياتهم لمقتضياتهم، إذ هي الضرورات التي لا تتحقق كوابح الحرية إلا بها.
وذوو الاتجاهات الديموقراطية (وما أكثرها) يردون على خصومهم بأن الضرورات السياسية ليست كما زعموا، وإنما هي تتمثل في التقيد بأصول النظم الديمقراطية، والخضوع لاستبداد الأكثرية.
أما المنصرفون إلى استخراج أصول كل من الفضيلة والرذيلة وموازينها، فمن المستحيل أن يتفقوا على ميزان لذلك وقد حاول من قبلهم السعي إلى هذا الهدف منذ أقدم العصور فما أرشدتهم عقولهم، ولا أعراف مجتمعاتهم، ولا طبائعهم الإنسانية إلى مقياس متفق عليه يفصل الخير عن الشر ويميز الفضيلة عن الرذيلة، وإنما استقلّ كل فئة، بل ربما كل فرد، بمثله الأعلى الذي يؤمن به، حسب البيئة التي عاش فيها، والتربية التي تلقاها، والظروف التي استحوذت عليه.
وهكذا اختلف علماء الأخلاق اختلافاً كبيراً في فلسفة القيم، ومعرفة الضرورات الأخلاقية، وتفرقوا في مذاهب متباعدة شتى. ثم أخذ كل فريق يجعل من قيمه التي اقتنع أو تأثر بها ضرورة قدسية يجب أن تقيد بها الحرية الإنسانية أيّما تقييد.
ثم أقبل أصحاب المذاهب الاقتصادية وذو النزعات المادية بدورهم، يضعون هم الآخرون دستورهم لقانون الضرورات، ثم يواجهون به الناس، على أنه حقيقة ثابتة حتماً لا تصلح الحرية الإنسانية دون التقيد بها. أي فمقتضيات المادية الجدلية والمادية التاريخية، إن كل ذلك إلا قانون حتمي مبرم. وما الحرية الإنسانية إلا تجربة حركية دائبة، تنبه بشكل علمي إلى مدى ضرورة هذا القانون وحتميته، ومدى استحالة خروج التاريخ الإنساني عليه، في أي من العصور الماضية أو الآتية.
يقول انجلز:
"لا تكمن الحرية في الاستقلال الموهوم عن قوانين الطبيعة، وإنما في معرفة هذه القوانين، وفي الإمكان القائم على هذه المعرفة.. إن الحرية تستقيم في السيطرة على ذواتنا وعلى الطبيعة الخارجية، وهي سيطرة مؤسسة على معرفة الضرورة الطبيعية".
ولا شك أن الضرورة الطبيعية هنا، هي ضرورة نقل وسائل الإنتاج والملكيات العامة إلى أيدي الطبقة الكادحة في ظلّ من دكتاتورية البروليتاريا، المبينة على المادية الجدلية التي هي أم الضرورات الطبيعية والتاريخية كلها في نظر هؤلاء الناس.
وهكذا نرى كيف غدا قانون الضرورة الذي عمدت هذه الطائفة الثالثة من الفلاسفة، فعقدت قرانه على "الحرية" عقداً شرعياً بموجب فتوى صريحة استقلت بإصدارها، أقول: هانحن نرى كيف غدا قانون الضرورة هذا قناعاً يتستر به كل من يريد أن يمضي وقتاً ممتعاً في العبث بالحرية المسكينة على النحو الذي يشتهي ويريد. فما من صاحب بطش وسلطان، وما من متعشق للهو والمجون، وما من صاحب أخيلة وأهواء، إلا وهو يستطيع أن يسمي رغائبه هذه ضرورة طبيعية أو اجتماعية لا مناص منها، ثم يقتحم بها مخدع الحرية الإنسانية ليصفدها من تلك الرغائب بقيود وأغلال، ثم ينطلق وهو يزعم أنه إنما توَّجها بتاج الضرورة الذي كان لا بدّ لها منه.
ولقد أحسّ ستيوارت ميل بمشكلة هذه المذاهب المتضاربة في تفسير الضرورة، ولم يجد في السعي إلى حلها خيراً من أن يفتح باب حرية البحث والنقاش بين هذه المذاهب. فهو يقرر في كتابه "الحرية" أن فتح باب المناقشة وقبول الاعتراض من الآخرين كفيل بأن يكشف شيئاً فشيئاً عن صواب آرائنا إن كانت صائبة، وعن مدى قيمتها. وهو يذهب في تسويغ هذا الاقتراح إلى حيث يقرر أن آراء البشر إنما يحتوي كل منها على جزء من الحقيقة، وإنما السبيل إلى تكامل هذه الأجزاء أن تتلقى وتتمازج بالنقاش الحرّ!.. وحسبنا في التعليق على هذا التصور العجيب، أن نتساءل عن الوقت الذي يحين فيه انبثاق مخيض هذه الآراء المتصارعة عن زبدة الحقيقة الكلية التي تنهي عصر التعارض والشقاق، وقد علمنا أنها ما تزال تتصارع منذ أقدم العصور التي وعاها التاريخ.
ولما قيل لستوارت ميل أن الآداب والمبادئ المسيحية تحوي كل الحقيقة، فلماذا لا نلتقي عليها؟ أجاب معترفاً بأن أكثر ما يعزى اليوم إلى السيد المسيح لم يقله ولم يتحدث عنه، وإن كثيراً مما قاله لم يبلغنا. كما أكد أن ما يسمى بالآداب الكهنوتية ليس مما أخذ عن المسيح ولا مما نقل عن الحواريين، بل هي آداب وضعتها الكنيسة الكاثوليكية على سبيل التدرج أثناء القرون الخمسة الأولى.
وهكذا، فقد كان خير حل لمشكلة "الضرورة" التي تجاذبتها المذاهب والآراء، أن تترك دون حل، وأن ننتظر انبثاق الحل من استمرار صراع هذه المذاهب وتمزّق الشعوب والجماعات الإنسانية فيما بينها.
***
والآن يأتي دور رد الفعل
إن شعور الإنسان برغبته الذاتية في أن يتحرر من قيود الآخرين، وأن يغذي كينونته بحرية السلوك والتصرف والتصور ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حقيقة ثابتة في كيانه، ما في ذلك شك.
وللنفس دائماً منطقها الذي تنقاد وتثور بموجبه، كما أن للعقل منطقه الذي يتجه ويسير عليه، فلا جرم كان من المتوقع أن يهيج بكثير من الناس هائج النفس والهوى، عندما يرون أن حريتهم غدت ضحية لضرورات المذاهب المتطاحنة والقيم المتصارعة (وما أصحاب تلك المذاهب والقيم إلا أُناس مثلهم) ثم يعلنوا عن استنكارهم لتلك الضرورات كلها، ويثوروا على تلك القيم أنى كانت، ويقرروا من منطلق فلسفيّ أن أقدس ضرورة في دنيا الإنسان وحياته، هي ضرورة احتمائه بحريته الذاتية ضد كل شيء آخر يتربص به. إن حرية الإنسان هي جوهر وجوده، ولا قيمة للوجود الإنساني إلا في مظهره الفردي المتحرر من سجن المجتمع وقيوده، وما حريته إلا اختياره المطلق الذي لا يحده أي دافع أو وازع خارجي!.. ذلك هو ما يسمونه بالمذهب الوجودي، مذهب تقنع بمظهر الفلسفة وألفاظها، وما أخاله ينتمي حتى إلى المصطلحات الأساسية فيها. ولكنه مع ذلك نبت ونما نموه الطبيعي في تربة أغنى وأقوى لها من الفلسفة وأصولها، إنها تربة الهياج النفسي الذي يستند إلى منطقه الواقعي الطبيعي، ألا وهو منطق رد الفعل ورجع الأثر.
ولكن ردود الفعل ما حلّت يوماً مشكلة ولا قوّمت اعوجاجاً. بل الشأن فيها أن تزيد المشكلة تعقيداً. وما المذهب الوجودي في حقيقته إلا مرض نفسي عضال جاءت به مشكلة الجرثومة التي تحدثنا عنها. وهو يمثل الخصام الحاد بين الإنسان الفرد من جانب، وكل من الكون والمجتمع من جانب آخر.
وسلاح الإنسان الوجودي في هذا الخصام إنما هو حريته ضد كل شيء. فإذا كشف له العراك عن عجزه أمام هذا الصراع وأكدّ له أن سلاح حريته لا يغنيه شيئاً أمام قوانين الكون وأحكام المجتمع فليس عليه إلا أن يلجأ إلى ما يسمونه باليأس والقلق والسقوط!. فإن اجتراره لهذه المشاعر الثلاثة خير له من أن يستسلم طواعية لقوانين الكون والمجتمع، ويخضع حريته لسلطانهما. فالإنسان، على حد ما يقوله سارتر، محكوم عليه بالحرية، وإذا كان من مستلزمات خضوعه لها أن يعاني من اليأس والقلق والسقوط، فليكن ذلك!. ويا مرحباً بما تقضي به الحرية!..
وهكذا، فإن الإنسان الوجودي، يسير بخياله إلى حيث يعانق حريته الكاملة، ولكنه بدلاً من أن يلقاها فيعانقها فعلاً، ينتهي إلى سجن اليأس والقلق والسقوط، حيث تأمره فلسفته بأن يلقي عصا التسيار هناك، وأن يقبع في ظلام ذلك السجن آمناً مطمئناً، لأنها الثمرة التي لا بدّ من أن يقطفها ويتناولها عشّاق الحرية!..
***
لقد علمنا الآن أن جميع الاتجاهات والمذاهب الفلسفية القديمة والحديثة، لم تهتد إلى سبيل سائغ لتقويم حقيقة معنى الحرية لدى الإنسان وتنسيق ما بينها وبين ضرورات الكون والمجتمع، بل لم تزد على أن أرهقت الناس بأفكارها المتصارعة تحت وطأة مشكلات مستعصية مغلقة لا سبيل للتخلص منها. فما الحل إذن؟
هاهنا يأتي دور الإسلام،
يقول الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم نقلاً عن الخطابي "وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه. وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من إكساب العبد، وصدورها عن تقدير منه".
ويقول ابن حجر الهيتمي في كتابه الفتح المبين بشرح الأربعين "والقضاء علم الله أولاً بالأشياء على ما هي عليه، والقدر إيجاده إياها على ما يطابق العلم" وهذا ما يقرره سائر علماء العقيدة أيضاً، كسعد الدين التفتازاني في شرحه على العقائد النفسية والعضد الإيجي في المواقف..
وإذا تبين هذا، فإن مما لا يخفى على أحد أن العلم صفة كاشفة للشيء على ما هو عليه، وليست صفة مؤثرة فيه بأي تغيير حتى ينبثق من ذلك الجبر والإلزام.
نعم، لا شك أن جميع أفعالنا وتصرفاتنا، لا تحدث إلا بخلق الله لها، لضرورة أن الله خالق كل شيء. غير أن الله تعالى إنما يخلق في عبده الأفعال التي اتجه إليها عزمه وعوّل عليها قصده، والعزم أو القصد أو الكسب كما يسمه القرآن، إنما هو في معناه الكلي منحة أكرم الله بها الإنسان، فهو بها مختار مريد. وهو مناط الأجر والوزر في حياة الإنسان. أما أفعاله الاختيارية فإنما يخلقها الله تجسيداً وإظهاراً لانبعاثه القلبي وكسبه المستكن في أعماق نفسه، لتكون شاهداً على قصوده الخفية.
وقد يجادل بعض الناس في هذا العزم الاختياري الذي نجده في نفوسنا، قائلاً: إنه أمرٌ وهميّ محض، فالله هو الذي يوجه الإنسان إلى ما يريد له اختياره.. والحقيقة أن هذه مماحكة تكلف أصحابها شططاً، إنها تكليفهم أن يكذبوا إحساسهم وبرهان مشاعرهم التي تفرّق بين حركتين الجبر والاختيار.. ثم إنهم لا يغطون تكذيبهم هذا، بأي برهان علمي بديل، يغني عن الإحساس والشعور. وإنما هو مجرّد احتجاج بما يفهمونه خطأ من قدرة الله، للتمرد به على أوامره وأحكامه.
ويكفينا لقطع دابر هذه المراء أن نحيل أصحابها إلى ما يقوله الله عنهم:
(سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَمنا من شيء، كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا، قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون".
---------------------------------------------------
منقول .بتصرف و تغيير........للاستفادة
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
wat is that badi
=========
>>>> الرد الثاني :
عمل رائع
بارك الله فيكم
تستحقون الثناء والدعاء الحسن
=========
>>>> الرد الثالث :
بارك الله فيكم
=========
>>>> الرد الرابع :
=========
>>>> الرد الخامس :
=========