عنوان الموضوع : الى الاخت afaf86
مقدم من طرف منتديات العندليب
التواصل ونظرية الفعل التواصلي
زكي الميلاد
كلمة التواصل التي تجري على ألسنة الكثيرين في الأحاديث والخطابات الشفهية، وترد كثيرا في الكتابات والمؤلفات النثرية، بأنماطها المختلفة، الفكرية والفلسفية، الدينية والاجتماعية، لكونها من الكلمات المحبذة في دلالاتها اللغوية واللسانية، الثقافية والأخلاقية، ويتعلق ويتفاضل بها شريحة واسعة من الناس لمزاياها العديدة.
هذه الكلمة السهلة والبسيطة صنع منها وارث مدرسة فرانكفورت النقدية، المفكر الألماني المعاصر يورغن هابرماس فلسفة أصبحت فيما بعد واحدة من أكثر الفلسفات شهرة في ساحة الفكر الأوروبي الحديث، وعرف بها هابرماس وظل اسمه يقترن بها، وكسبت اهتماما واسعا في الدراسات والنقاشات النقدية والفلسفية والاجتماعية هناك، وما زالت تستقطب وتحرك الجدل والنقاش لأهميتها وقيمتها من جهة، ولمكانة صاحبها الذي يتربع اليوم على قمة الفكر الألماني المعاصر من جهة أخرى.
فقد أعاد هابرماس تخليق كلمة التواصل من جديد، وأصبحت هذه الكلمة بعده هي غير هذه الكلمة قبله، وتغيرت منزلتها ومكانتها وقيمتها، وذلك لشدة التحول الذي حصل في البنية المفهومية لهذه الكلمة، ولحقلها الدلالي، حيث اكتسبت ثراء معرفيا، وتراكما نقديا، وموقفا متسيدا في صميم وقلب الفلسفة الأوروبية المعاصرة.
وقد عرف هابرماس بهذه الفلسفة، وشرح أبعادها وخلفياتها في كتابه (نظرية الفعل التواصلي) الصادر سنة 1981م، وجدده في الطبعة الصادرة سنة 1984م، وعرفت هذه الفلسفة عند الباحثين والمفكرين والنقاد بفلسفة أو نظرية الفاعلية التواصلية، أو الفعل التواصلي.
وأراد هابرماس من هذه الفلسفة الانتقال بالعقلانية من كونها ممارسة الذات إلى ممارسة المجتمع، من عقلانية الفرد إلى عقلانية المجتمع، العقلانية التي تتجلى في الحياة اليومية للناس عبر النشاط التواصلي، لا أن تظل العقلانية تدور في إطار فلسفة الوعي التي تضع العلاقة بين اللغة والفعل، كالعلاقة بين الذات والموضوع، حيث الذات هي التي تقوم بعمل شيء ما للموضوع، في حين يرى هابرماس أن العقلانية ينبغي أن تكون فعل المجتمع من خلال اللغة بوصفها أداة للتواصل.
وفي تحليله الاجتماعي لهذه الفلسفة، يرى المحاضر في علم الاجتماع إيان كريب في كتابه (النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس) الصادر سنة 1992م، أنها ترتكز وتتقوم على ثلاثة عناصر أساسية، هي:
أولا: إن العقلانية بهذا المعنى ليست مثالا نقتنصه من وسط السماء، بل هو موجود في لغتنا ذاتها، وتستلزم هذه العقلانية نسقا اجتماعيا ديمقراطيا يشمل الجميع، ولا يستبعد أحدا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى التفاهم.
ثانيا: لابد من نظام أخلاقي ومعايير أخلاقية، يجري التوصل إليها عبر نقاش عقلاني حر، وعن طريق الإقناع العقلي وليس عن طريق القوة والقسر، ويعتمد في مضمون هذه المعايير على ظروف المجتمع الخاصة.
بمعنى أن يكون للتواصل معايير أخلاقية تنظم عملية التفاهم والتبادل الفكري بين الناس، وتستند هذه الأخلاقيات على مبادئ عقلية، وهي التي يصطلح عليها هابرماس بأخلاقيات التواصل.
ثالثا: وجود مجتمع ديمقراطي يكون فيه للجميع فرص متكافئة للوصول إلى أدوات العقل، للمساهمة في الحوار، حتى يكون لكل فرد صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرارات..
هذا قدر ضئيل من فيض نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس، لكنه يكشف عن أهمية وقيمة هذه النظرية فكريا واجتماعيا، وكم نحن بحاجة إلى طلبها، والانفتاح عليها والتواصل معها، وهي الخبرة التي نفتقدها حين نتحدث ونكتب، وحين نناقش ونجادل حول فكرة التواصل، ونشعر بالحاجة إليها لتعميق هذه الفكرة وتجلياتها، وإعطائها قوة المعنى والإشعاع، لا أن تصبح مجرد فكرة لامعة في الشكل لكنها فقيرة في المحتوى، مع إدراكنا الشديد لأهمية هذه الفكرة والحاجة إلى تفعيل حركتها في مجالاتنا الثقافية والاجتماعية كافة، عملا بفضيلة التواصل.
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
التواصل وفلسفة الفعل التواصلي 2
عمر كوش- يعتبر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماز أحد كبار الفلاسفة في عصرنا الراهن، ومن المنشغلين بشكل كلّي بالشأن العام، وينهل، في فلسفته، من التراث النقدي لفلاسفة مدرسة فرانكفورت.
وتتجلى أهميته في أنه فتح الفلسفة المعاصرة على نظرية التواصل، بشكلها المتميز، ثم سار بها قدماً، كي تمس السلوك الاتصالي، سعياً منه إلى تشخيص حال العالم بشكل عام، والمجتمعات الأوروبية بشكل خاص، ومحاولاً تحليل أسباب ونتائج ما يهدد الحياة الإنسانية، وبالأخص محاولات تحطيم بنيات الاتصال في خصوصياتها الإنسانية التي ترتبط بالقوى اللاعقلانية في عالم اليوم.
التواصل
يُعرّف التواصل بعملية نقل معلومة أو خطاب من مرسل إلى مستقبل أو من باعث إلى متلق، الغاية منها تبليغ معلومة أو رسالة معينة إلى متلق معين، وتتم بواسطة قناة اتصال معينة. وهي عملية بسيطة، لكنها تحمل مركبات ومفارقات واختلافات، نظراً لأن الرسالة التي يراد تبليغها ليست على الدوام واضحة ودقيقة وتحمل المعنى المتفق عليه أو المراد تبليغه، حيث تميل جميع الرسائل باتجاه التعدد والاختلاف والتنوع، وبالرغم من أهمية مستوى المتلقي فإنه لا يسجل على الدوام معطى الرسائل بشكل سلبي، بل يحاول الفهم وإصباغ الرسالة بدلالة معينة. كما أن قناة الاتصال تقوم بدور مؤثر في محتوى ومضمون الرسالة، وذلك تبعاً لكونها وسيلة سمعية أم بصرية.
ولا يهدف التواصل إلى الإخبار فقط، بل إلى التأثير والإيهام والإغراء، لذا فإن العملية التواصلية تتصف بخاصية التعقيد، وتستلزم السؤال والاستفهام والتحليل والدراسة وحتى البحث.
وباعتبار أن التوصل يهدف إلى نقل معلومة أو رسالة بين طرفين، فإنه يرتبط باللغة وفلسفتها، الأمر الذي جعل علماء اللغة يعتبرون التواصل الوظيفة الأولى والأصلية والأساسية للغة، فيما اعتبر هابرماز أن التواصل هو مجموع الترابطات التي يتفق حولها المشاركون بغية تحقيق مخطط أعمالهم بطريقة فعالة. ويظهر التواصل، بالنسبة إليه، في شكل الفعل الذي يخرج الوعي من باطنه نحو الانفتاح على الآخر.
وقد أسس هابرماز نظريته في مجال التواصل على نتائج نظرية أفعال الكلام والألسنية والتداول، وأعطاها تفسيرات اجتماعية وسياسية وقانونية. ونقطة الانطلاق في تناوله مجال التواصل هي الفضاء العام وكيفية تشكل الرأي العام، حيث يرى بأن الفضاء العام كان مجالاً أو ميداناً للتعبير عن الرأي الفكري والنقدي، ثم جاءت وسائل الإعلام لتحتله وتشوهه، وتسيطر على مضمونه، كي تجعله دعامة للإيديولوجيا والمصالح. وبات من الضروري، مع تحول العلم والإيديولوجيا إلى أدوات للهيمنة، مساءلة الفضاء العام والتفكير في التواصل من جديد، وذلك من خلال تأسيس نظرية اجتماعية وثقافية في التواصل تسمح بالشروع في تفكير عقلي ونقدي جديد ومستقل لقضايا عصرنا، وهو أمر لا ينهض إلا بواسطة نظرية الفعل التواصلي حسب هابرماز.
الفعل التواصلي
يعدّ الفعل التواصل الإطار النظري والفلسفي لنقد العقل عند هابرماز، القائم على مفهوم تداولي للغة، حيث يماهي ما بين اللغة والعقل، من جهة النظر إلى اللغة بوصفها مبدأ العقل، وتمثل العقل بالفعل أو هي العقل في حالة فعل، لذلك يمكن اعتبار العقل التواصلي عقل لغوي، حيث تشكل اللغة الأساس والمحتوى لكل مجتمع إنساني، وتحقق ذلك بشكل تداولي.
غير أن فعل التواصل بين الأفراد والجماعات هو منطلق هابرماز لفك إسار علم الاجتماع من الأطروحات التقليدية، القائمة على الوعي، ويريده هابرماز أن ينهض على الفعل التواصلي، نظراً لتميزه بطابع محدد للعلاقات التواصلية التي لا ترجع أو تختزل إلى مجرد تبادل الأخبار أو المعلومات أو المعطيات بواسطة اللغة، حيث لا يقوم الفعل التواصلي فقط على تبادل المعلومات ضمن سياق أو ظروف اجتماعية معينة، بل يقوم بتأويل ما يحدث، لأنه يسهم في بناء العالم المعاش.
والفعل التواصلي هو فعل يستلزم المحاججة والمناقشة النقدية، إلى جانب الحق في الرفض أو القبول، وقد وضع هابرماز مفهوم أخلاق المحادثة الذي يعتمد على اللغة العادية، بوصفه مبدأ معيارياً نموذجياً في البلدان الديموقراطية، معتبراً أن الإنسان ما أن يبدأ في الحديث أو الحوار أو في فعل التواصل حتى يكون قد قبل بالاحتكام إلى معيار أخلاقي يخضع جميع الاختلافات للحجج والأدلة التي تحقق الإجماع، لذلك تنهض المحادثة على قاعدة الكونية والديموقراطية.
التواصل الديموقراطي
يعتبر هابرماز الفرد والجماعة مبدأين أساسيين، لا يجوز مقابلتهما ضدياً، بل يجب النظر إليهما بوصفهما ثنائية أصلية في الديموقراطية. وبهذا يتجاوز هابرماز الفكرين: الليبرالي الذي يعلي من شأن الفرد على حساب الجماعة، والماركسي الذي يعلي من شأن الجماعة على حساب الفرد. ويشترط القبول بمبادئ المساواة والاستقلالية، بوصفها مبادئ مؤسسة للمجتمع الديموقراطي. غير أنه إذا كان التوافق يتيح قيم الاندماج والاستقرار بين مكونات الجماعة، فإن ذلك لا يعني التسليم بأن التراضي شرط لشرعية الجماعة أو شرط لوجودها. ومن هنا لا يجوز وضع الأمة أمام الدولة ولا الدولة أمام الأمة.
والتصور الديموقراطي التواصلي الذي يقترحه هابرماز يؤكد على المؤسساتية في دولة القانون الديموقراطي وإجراءات التداول التي تُلزم تقديم الحجة لتبرير شرعية القرارات. فضلاً عن أن التصور التفاعلي يتمركز فيه التواصل ما بين الذوات المشاركة على حيازة تصور عقلاني كوني للإرادة العامة، وليس على المعتقدات الخاصة بكل جماعة. ويمكن عقد مقارنة ما بين النموذج الديموقراطي الكلاسيكي والنموذج الديموقراطي التواصلي لإعادة تأويل موضوع حماية الحقوق الفردية، إذ أن الحقوق السياسية للتواصل والمشاركة، ومنها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يمكن اعتبارها شرطاً وضمانات لا بد منها للاستقلالية الديموقراطية، والتي لا يمكن ممارستها إلا على قاعدة الشك الدائم وإعادة السؤال فيها باستمرار.
ويبقى التفكير في شرعية القانون في المجتمعات الديموقراطية، خاصة من جهة تفعيل مقتضيات المساواة والاستقلالية بمبادئ أخلاقيات النقاش، شيئاً ضرورياً لا بد منه. لذلك يتوجب تفعيل الديموقراطية نتيجة استمرار الصراع الدائر بين تعدد المصالح وجبروت قوى السوق والاستبداد السياسي القائم في مواضع عديدة من العالم، وخصوصاً في بلداننا العربية، حيث تأتي الديموقراطية بوصفها سؤال الضرورة للخلاص من الاستبداد وفتح الطريق أمام مختلف القوى الاجتماعية والسياسية المكبوتة للتعبير عن ذاتها، فضلاً عن أن الديموقراطية التداولية ترسي حق المجتمع المدني بكافة مستوياته وتشكيلاته في تأسيس فضاء عام للتداول، يُقدم فيه الأفراد وجهات نظرهم والحلول التي تمكنهم من التحرر من منطق الأنظمة الشمولية المستبدة، بعد عجزها وفشلها في بناء دولة لجملة مواطنيها. في حين تتيح الديموقراطية للأفراد حق إحكام تدخلهم في محيطهم وإسماع صوتهم، وتوسيع مجال الحرية والمسؤولية والمحاسبة، وهي لن تستطيع ذلك من غير الاستقلالية والمساواة اللتين تعرّفانها. ويكمن دور فلسفة التواصل النقدي، في نقد الديموقراطية التمثيلية، وفي محاولة تحرير مجال الاتصال الإنساني من قبضة العقل الأداتي والتشيؤ والاغتراب.
ينظر هابرماز إلى اللغة بوصفها وسيلةً وسلوكاً اتصالياً، وقد استخدمها في نظريته في الفعل التواصلي، التي تنهض على الحوار والتفاهم بين مجموعة المتحاورين في مجتمع الأصدقاء. وسعى في سياق ذلك إلى الكشف عن العقل العملي الذي يفرض علينا ما نعمله وما نتكلمه، من خلال الاعتراف بالتفاهم والحوار السلمي، وفي ظل ظروف وشروط الاختلاف الاجتماعي والثقافي. وهدف هابرماز من ذلك كله هو مواصلة تقاليد الأنوار، من خلال نظرية اجتماعية نقدية، تنهض على ترسيخ قيم الحرية والعدالة في الذاكرة الاجتماعية، وتربطها بقوى دولية تمكنها من تفتح نواة الخير العام، والفضاء الذي يتسع للجميع.
كما ينظر هابرماز إلى الحداثة بوصفها مشروعاً لم يكتمل، بمعنى أنها لم تحقق بعد النتائج المرجوة منها، فمشروع الحداثة عانى الكثير من الانكسارات والتراجعات، الأمر الذي حال دون إمكانية تنقية فكر الحداثة من بؤر التمركز، وأدى إلى إرهاق وعي الإنسان الحديث بجملة متناقضات أدت إلى اختلال توازنه النفسي. لذلك، انصب جهد هابرماز على "إمكانيات إخضاع ما يشكل لاعقلانية النظام لقوانين العقل الإنساني"، من خلال فهم جديد للحداثة وممارسة جديدة لعقلانية قائمة على الفعل التواصلي، لا تلغي الآخر، ولا تهمشه، بل تتحاور معه خطابياً، عبر عقل تواصلي يعبر عن نفسه في فهم انفك تمركزه على العالم.
ويقترح هابرماز "العقل التواصلي" كدرب للخروج من فلسفة الذات، من خلال "نظرية الفعل التواصلي" التي تعدّ قراءة جديدة للفلسفة الأوروبية، تظهر فيها الحداثة - في التحليل الأخير- كتحقيق لنظرية الفعل التواصلي، "على أن تفهم التواصلية خارج كل ذاكرتها الاصطلاحية وتاريخها المفهومي". حيث ترمي التواصلية إلى بناء مختلف للذات عبر "عقل تواصلي"، يتجاوز الذات الضيقة، ويشكل نسيجاً من الذوات المتواصلة. ويستمد العقل التواصلي إمكاناته من العالم المعاش، ويؤسس عقلانية تقوم على التلاحم الذاتي، يكون فيها العقل مصدر كل القرارات. هذا العقل التواصلي مدعو إلى تجاوز عقل متمركز على الذات، ووظيفته التغلب على مفارقات وتسويات نقدٍ للعقلِ ذاتيِ المرجعِ، وكذلك التخلص من كل إشكالية العقلاني. "ويتطلب الفعل التواصلي، كما تدل تسميته، تحطيم دوائر الانغلاق سواء جاءت من العبارة أو رموزها الواقعية أو ممثليها المنفذين"، بوصفه نموذج الفاعلية الموجهة نحو التفاهم. وما هو أساسي في نموذج التفاهم هذا هو الاتجاه الأدائي الذي يتبناه المشتركون في التواصل، إذ ينسقون مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر ما موجود في العالم . ويعول هابرماز على التوافق الفكري بين الفاعلين، لأن الفعل التواصلي يتطلب وعياً وإرادة لتحقيقه بين "أنا" و"آخر"، حيث أنا عندما أقوم بالكلام، والآخر الذي يتخذ موقفاً إزاء كلامي، نعقد كلانا، الواحد مع الآخر، علاقة بين شخصينا، في تبادل يتوسطه اللسان، يتيح للذات أن يكون لها مقابل ذاتها، كأننا متحاوران أحرار في جمهورية حرة وسقراطية.
إذاً، فالحداثة التي أفرزت فلسفة الوعي (الذات) هي التي تدعو إلى تجاوز النموذج نحو ما يسميه هابرماز بالعقل التواصلي. ونرى أن نظرية الفعل التواصلي تحاول إعادة النظر في حراك الحداثة ومؤسساتها وإعادة بنائها من خلال الظروف التاريخية والاجتماعية التي تمر بها الحداثة، لكنها قد تصطدم لا محالة بأجهزة الحداثة السلطوية، وغائيتها، وثوابتها المتمثلة بإرادة المعرفة وإرادة التغيير وإرادة الهيمنة والتي شكلت معضلات الحداثة.
كوجيتو التواصل
يمكن القول بأن الجهد النقدي لدى هابرماز انتظم في تفكيك مفهوم العقل الأداتي، والأخذ بالمفهوم الإجرائي للعقل، باعتباره ملكة تحليلٍ وتفكيرٍ مباشرٍ، وفق منهجية فلسفية اجتماعية، تتناول بالنقد منظومة القيم والعلاقات التي أنتجها العقل المتمركز على الذات، والكشف عن تناقضات العقل الأداتي الذي حوّل فعل العقل إلى فعل هيمنة وسيطرة على الإنسان. ولعلّ هابرماز لم يجد المخرج من ذلك إلا في كوجيتو جديد للتواصل، ينتج مفهوماً نقدياً للعقل، ليجعل منه عقلاً تواصلياً، ويؤمن هذا العقل التواصلي درباً آخراً للخروج من فلسفة الذات. ويركز هابرماز على الصفة الإجرائية الخالصة للعقل التواصلي، المتخلصة من كل رهان ميتافيزيقي أو ديني، وينخرط ضمن سيرورة الحياة الاجتماعية، من منطلق أن أفعال الفهم المتبادل بين الأفراد التواصليين تلعب دوراً هدفه تنسيق العمل. هكذا يفترض هابرماز قيام جمهورية للتواصل بين الأفراد العاقلين والحكماء.
غير أن التواصل لا يحصل إلا في مجال الآراء، وبالتالي فإن العقل التواصلي الذي يدعو إليه هابرماز ليس له هدف سوى تحقيق إجماع بين المتحاورين في مجتمع الغرب الحديث، وبهذا لا يقدم هابرماز مفهوماً للعقل، بقدر ما يصادر مفهوم العقل وأشكاله الأخرى لحساب التواصل، الذي تحذوه غائية البحث عن رأي شمولي ليبرالي لعالم السوق الرأسمالي، ولن نجد وراء ذلك سوى مزيداً من التمركز على الذات، الذي يدعي تفكيكه ومحاولة الخروج عنه.
=========
>>>> الرد الثاني :
الوظيفة التأسيسية للذات عند هوسرل
عبد الحي أزرقان
لا نعتقد أن مؤرخا ما لتاريخ الفلسفة سيعارض فكرة نشأة الفينومينولوجيا ارتبطت بالدرجة الأولى بالدفاع عن ربط الفلسفة من جديد بمسألة التأسيس من جهة، وعن ربط التأسيس من جهة ثانية بالإنسان. ولعل كتابات إدموند هوسرل تبقى رائدة في هذا المجال، وبالخصوص منها أفكار أساسية من أجل فينومينولوجيا والتأملات الديكارتية. يتضح من خلال هذين الكتابين أن مسألة الذات هي المسألة الفعلية التي ينبغي أن تهتم بها الفلسفة لتعيد لها الاعتبار، ولتزيل عنها العوائق التي منعتها من أن تحتل المكانة الأولى في التأسيس.
قد تبدو الجملة الشهيرة التي تتكرر في كتابات هوسرل والفينومينولوجيين على العموم، "إن الوعي هو دائما وعي بشيء ما"، دفاعا عن سلبية الوعي في تفاعله مع الواقع الخارجي، بل ربما كانت محاولة لاختزاله في ما هو غيره، أي في عالمه ومحيطه. غير أن تتبع التحاليل الهوسرلية سرعان ما يؤدي بنا إلى العكس تماما، حيث نراه يجعل من الوعي، أي من الذات، الكائن الذي يتمتع وحده بالقدرة على التأسيس. وإن ربط وجود الوعي بالأشياء الخارجية وسيلة لتجنب كل فكرة قد تجعل منه حاملا لمعان يستمدها من مصدر غير مصدر ارتباطه بالأشياء، أو أن يجسد وجودا ما من غير الوجود الذي يتجسد عبره في انفتاحه على الأشياء. إن اعتبار الوعي وعيا بشيء ما مفاده أنه لا يحمل في حد ذاته فكرة الإله أو الكمال أو الخلود مثلا، كل معنى صادر عن الوعي يحصل انطلاقا من ارتباط هذا الأخير بالأشياء. فالتأكيد على الجملة السالفة الذكر يهدف إلى الإعلاء بالوعي وقيمته الوجودية وليس إلى إثارة تبعيته لوجودات سواه.
وتتأكد القيمة التي يوليها هوسرل للذات في تحديده لما يسميه بالاختزال الفينومينولوجي. إننا نتمكن، حسب تحليله، من وضع كل ما يجسد معيشا معينا، أي كل تفاعل بين الوعي والأشياء، بين قوسين بما في ذلك الأنا الأمبريقية(1) وكذلك الكائن الإلهي نفسه(2) هناك كائن واحد لا يخضع للاختزال ألا وهو الوعي المحض أو الأنا المحضة. إن الأنا المحضة هي التي تتمتع بالوجود المطلق لأنها هي وحدها التي يتبين أن وجودها وجود ضروري، وذلك لعدم رضوخها للاختزال الفينومينولوجي. "لقد منح لنا الاختزال الفينومينولوجي إمبراطورية، من الوعي الترنسندنتالية: ولقد كان ذلك، بمعنى معين، إمبراطورية الوجود "المطلق". إنه المقولة النموذجية للوجود على العموم (أو المنطقة النموذجية في لغتنا نحن)؛ إن المناطق الأخرى تأتي إليها لتستقر فيها؛ إنها ترتبط بها بموجب ماهيتها؛ ومن ثم فإنها تتوقف عليها كلها(3).
تظل الأنا إذن فارضة نفسها في وجه القائم بالاختزال الفينومينولوجي كحقيقة وجودية. إنها آخر ما ينتهي إليه التحليل، وأول ما سينطلق منه في العملية العكسية. إنها تتمتع بالضرورة كما تتمتع بالهوية لكونها تفرض نفسها عبر كل التقلبات التي يعرفها المعيش وتحافظ على ذاتها عبر كل التغيرات التي تلحق الأنا التجريبية.
ويتجلى لنا حزم هوسرل على الإقرار لوجود الذات (أو الإنسان) كأساس كل بناء، نظري كان أو عملي، في الطريقة التي سيتعامل بها مع ما يسميه بالأنا المحضة. فبعد تعرضه لبعض الصعوبات في تحديد مكونات الأنا الترنسندنتالية، بل وبعد اعترافه بعدم توفر تلك الإمكانية، نجده يصر مع ذلك على إسناد مجموعة من المهام للذات تتولاها باستمرار من تلقاء نفسها. هكذا نجد بداية حديثه عن الوعي الترنسندنتالي تكتفي بالاعتراف بوجوده فقط حيث يقول "وحتى إذا كانت الأنا متشابكة بهذه الطريقة الخاصة مع كل "معيشاتها" التي تحياها، فإنها ليست مع ذلك بتاتا بشيء ما يمكن اعتباره لذاته وتناوله كما لو كان موضوعا خاصة للدراسة. فإذا تغاضينا عن "طريقة ارتباطها" أو "طريقة تصرفها" فإنها ستكون مجردة بشكل مطلق من المكونات الماهوية، بل ستكون مجردة بشكل مطلق من المكونات الماهوية، بل إنها لن تتوفر على أي محتوى يمكننا توضيحه. إنها غير ممكنة الوصف في ذاتها ولذاتها: إنها أنا خاصا ولا شيء "أكثر من ذلك"(4). غير أن القارئ سرعان ما يقع بعد اجتياز مجموعة قليلة من الصفحات على كلام يسير في اتجاه مخالف لما يقر به القول السابق، حيث نجد الفيلسوف يعمد إلى ضبط التحديد الذي كان قد نفي إمكانيته، وإلى إيجاد وظيفة للأنا من علاقة حميمية بمحتواها، بعدما أن أكد على غيابها. بمعنى آخر يلاحظ القارئ أن الأنا بدأت تصبح تدريجيا شيئا ما بعد ما قيل إنها "ليست بتاتا بشيء ما". هذا ما تؤكده الفقرة الآتية: "إن الوعي هو بالضبط وعي بشي ما؛ إنه لمن ماهيته أن يحتوي بداخله على "معنى" يكون إن صح التعبير كنه "النفس" و"الروح" و"العقل". لا تنطبق تسمية الوعي على "عقد نفسية" و"محتويات" منصهرة معا و"مجموعات" أو سيولات من "الإحساسات" قد يمكنها، نظرا لعدم توفرها في ذاتها على معنى ما، التعرض لأي اختلاط دون خلق معنى معين. إن الوعي على العكس من ذلك هو وعي في كليته. إنه منبع كل عقل وكل لا عقل، كل حق ولا حق، كل ما هو واقعي وما هو من نسيج الخيال، كل قيمة ولا قيمة، كل فعل ولا فعل. يختلف الوعي إذن كليا عما يريد المذهب الحسي أن يختزله فيه، وعن المادة التي هي فارغة في حد ذاتها من المعنى والتي هي غير عقلية حتى وإن كانت تسمح بكل تأكيد بعقلنتها(5).
يحدد هوسرل هنا بكل وضوح وظيفة الوعي. إنه مصدر المعنى. ولا يمكن لهذا الأخير حسب هذه الفقرة -وحسب توجه كتابات هوسرل على العموم- أن يرتبط بمنبع آخر غير الوعي. ولعل ما ينبغي التركيز عليه هنا هو ضرورة ربط المعنى بالوعي الفردي. لأن التوصل إلى مثل هذه الحقيقة، صدور المعنى عن الوعي، يتم عند ممارستنا للاختزال الفينومينولوجي وتصفية الوعي من كل ما هو غيره. وممارسة الاختزال تتم من طرف الذات الواحدة على ذاتها نفسها. صحيح إن فقرات كثيرة وفصولا متعددة يخصصها هوسرل للكيانات الروحية كثقافية مجتمع ما أو دينه أو حضارته، ونخص بالذكر التأمل الخامس من تأملات ديكارت، وصحيح أيضا إن هذه الكيانات مشحونة كلها بالمعنى وتعمل على نشره وزرعه؛ غير أن إثارة المعنى بصدد الثقافة والحضارة لا يتم إلا للتأكيد على الذات كمصدر للمعنى وليس العكس. إذ أن الأنا الترنسندنتالية تتمكن من ممارسة الاختزال بصدد ما يعمر محيطها. وما دامت الذات مصدر كل معنى فإنه يصعب تفسير سلوك إنساني معين، أي تحديد معناه، انطلاقا من مخزون نفسي مثلا، أو من مجموعة من غرائز تتغلب عند الفرد على جانبه العقلي، وتتحايل عليه لتجرده منه كي تنفرد بتوجيه سلوكه. كما أن نتاج الخيال بدوره لا يمكن إسناده في جانب منه أو في كليته إلى مجموعة من الاستلهامات والقوى الغامضة تكون دفينة عند الفرد وغير مدركة من طرف عقله، ومن ثمة منفلتة من مجال الوعي.
إن ما يهمنا أكثر في الفقرة السالفة الذكر هو تلك الإثارة للوعي كمصدر "لكل قانون ولا قانون"، ولـ"كل قيمة ولا قيمة". ففي هذا تأكيد واضح كل الوضوح على ربط الأساس بالذات، ومن ثمة بالإنسان وبالإنسان وحده. فجعل الوعي قائما عند أصل كل تشريع في مجال القانون، وعند أصل كل تقويم في مجال الأخلاق، لا يمكن أن يهدف إلى شيء آخر غير اعتبار الإنسان مصدر وهدف القانون والأخلاق. لا مجال لإدراج بعد غير إنساني للتنظير في إطار هذين الحقلين الأخيرين. وسنلاحظ أن لهوسرل أهمية جسيمة بهذا الصدد.
إنه كان أول فيلسوف يطرح مسألة الذات لإعادتها إلى الساحة الفكرية بعدما كادت أن تنمحي في مجال الفلسفة تحت التأثير الهيجلي، هذا مع الوعي الكامل بضرورة التغلب على المصاعب التي عرفتها الفلسفة الحديثة عند جعلها من مسألة الذات القضية الفلسفية الأولى، خاصة فلسفة ديكارت وليبنتز وكانط. ماذا نقصد بمصاعب الفلسفة الحديثة؟
إن قارئ التأملات(6) لديكارت والمونادولوجيا لليبنتز وأسس ميتافيزيقا الأخلاق لكانط ينتبه، دون أن يكلف نفسه مجهودا في التفكير وعمقا في النظر، إلى المكانة التي يوليها الفلاسفة الثلاثة للكائن الإنساني ليجعلوا منه أساسا للفعل المعرفي والعملي معا. فديكارت لن يحصل على اليقين بالشكل الذي تقتضيه الصرامة الفلسفية والخروج، من ثمة، من الشك الذي هيمن على نشاطه الفكري سوى بعد اكتشافه للحقيقة المرتبطة بوجود "الأنا أفكر". إنه اكتشاف جعله يعرف الارتياح والطمأنينة الأساسيين للاستمرار في التنظير الفلسفي. وسيحدث اليقين الذي تفرضه "الأنا أفكر" تحولا في تاريخ الفلسفة بأسره، وليس في فكر ديكارت وحده، لتصبح منطلق عهد جديد سيسمى بالحداثة، إلى درجة أنه لا يمكن لمؤرخ الفلسفة أن تبدأ في رصد الأسس الفكرية للحداثة دون التأكيد على هذه الجملة "أنا أفكر" وجعلها في مقدمة العناصر التي تُثار بهذا الصدد. وإذا كان ديكارت يلقب بأبي الحداثة فالفضل الأكبر في ذلك راجع إلى توقفه عند هذه الجملة ليجعل منها منطلق الفلسفة، أي منطلق البحث في اليقين والبداهة والضرورة. وبانتقالنا من ديكارت إلى ليبنتز لا تزداد مسألة الذات إلا تعمقا. فالاستقلالية التي تمتاز بها المونادات والقوى لتي تتمتع بها والفعل الذي يلازمها يجعلون منها كائنا يحل محل المكانة التي تقتصر على الكائن الإلهي، أي أساس الفعل النظري والعملي معا. ولا يمكننا جهل الأهمية التي يوليها هيدجر لليبنتز بهذا الصدد بالضبط حيث يرجع تأويله لمبدإ إرادة القوة عند نيتشه إلى حدود ليبنتز للإشادة بفضله في إبراز أهمية القوة عند الإنسان وربط الإادة بها(7). أما في ما يخص كانط فإن أعلاءه للكائن الإنساني في مجال فلسفة الفعل شكل منطقة تفكيره. ولعل كتاب أسس ميتافيزيقا الأخلاق(8) كاف هو وحده للبرهنة على هذه الفكرة. يؤكد كانط منذ بداية الكتاب على ضرورة التفرقة بين المبادئ المتعالية والمبادئ المحديثة في مجال الأخلاق. إن مثل هذه التفرقة هي الدافع الأساسي في دعوى كانط إلى الانطلاق من العقل الخالص في مجال الأخلاق كما هو الأمر في مجال المعرفة، كي لا ننساق في تنظيرنا للفعل الخير مع مبدإ ما لا يحتويه العقل المحض، أي خارج عن الإنسان. وينتهي كانط، كما نعلم، بعد صفحات قليلة من الكتاب، إلى أن أساس الذي ينبني عليه الواجد هو الحرية، أو ما يسميه بالأنا الخالصة. هكذا يعضي من محددات الواجب في أن واحد ما هو متعال كالوجود الإلهي والخلود مثلا، وما هو تجريبي كالرغبات والأهواء والميول لكونها تخضع أكثر مما تخضع. إن ربط الأساس بالذات، ومن ثمة بالإنسان، عند كانط، مسألة لا تستدعي البرهنة، لأن مختلف نصوصه تؤكد ذلك بشكل واضح. وإذا كان ليبنتز قد عمل على تجذير الديكارتية فيمكننا القول إن كانط سار في هذا التجذير بعيدا، وتحمل تلك المسؤولية بشكل أكبر. لا نريد الخوض هنا في التفاصيل لأن الموضوع لا يهمنا بشكل مباشر، وإنما نود إثارة أهم ما يميز نظريته المعرفية بهذا الصدد من أجل التوضيح فقط. إن كانط هو أول فيلسوف يقلب معنى مفهوم ترنسندنتال ليربطه بالشروط القبلية لقيام المعرفة أي بالوجود المحايث، أي بالذات، بدل التعامل معه بمعنى التعالي كما كان الأمر من قبل. كما أن إعطاء الأهمية المفهومي الزمان والمكان والمقولات في عملية المعرفة لإبعاد هذه الأخيرة عن كل فطرية، يعبر عن رغبة الفيلسوف في جعل بداية المعرفة مقرونة بمبادرة إنسانية وكونها لا تنجم إلا عن تلك المبادرة، يمكن القول بالتعبير الفينومينولوجي إن المعرفة بهذا المعنى تكون فعلا (Acte).
ما هو الجديد إذن عند هوسرل فيما يخص مسألة الذات وعلاقتها بالتأسيس؟ أو لماذا يعود هوسرل من جديد إلى هذا الاشكال، مادام أن كبار الفلاسفة المحدثين تناولوها بإسهاب، وأكدوا في مجالات متعددة كالمعرفة والسياسة والأخلاق؟ كانت العودة مقصودة، وكان الهدف منها كما يتبين بالدرجة الأولى من خلال تأملات ديكارتية هو تعميق الاتجاه الذي يربط الأساس بالإنسان، بتخليصه من كل ما يمكن أن يكون غير إنساني، أو من كل ما يمكن أن يبدو أنه قد يفعل فعل الإنسان، أو بعوض بفعله. صحيح إن هيدجر -تلميذ هوسرل- يحسم في الأمر، ويخلص إلى أن ربط الأساس بالذات وبالإنسان موضوع نفذته الفلسفة الحديثة، وما العودة إليه إلا محاولة لإحياء هذه الأخيرة للاستمرار في التفلسف في إطار الميتافيزيقا، أي الاستمرار في رؤية الموجود وتمثله بدل الاستماع للوجود. ولقد أثار انتباهنا كون هيدجر لا يشير إلى أستاذه في كتاباته المتعلقة بموضوع ربط الأساس بالإنسان، رغم أن ما يقوله عن ديكارت وليبنتز وكانط وشلنغ مثلا ينطبق على أستاذه أكثر مما ينطبق عليهم. فالتحديد الذي يعطيه هيدجر للوعي لدى المحدثين يناسب النظرة التي تعرضنا لها أعلاه عند هوسرل أكثر مما يناسب أي فيلسوف حديث آخر. لنورد هذا التعريف: "إن هذا الأخير (أي الوعي) هو التأسيس التمثيلي الذي يجمع الموضوعي والإنسان المتمثل داخل بعد الوجود المتمثل الذي يحرص عليه الإنسان بذاته. وانطلاقا منه يتلقى كل حاضر معنى وجنس حضوره، أي معنى وجنس الحضور في التمثل. يحدد وعي الأنا، من حيث هي ذات الفكر ومن حيث هي حقيقة وجود الذات المتميزة بهذا الشكل، وجود الموجود"(9).
ويكمن الجديد عند هوسرل فيما يخص مسألة التأسيس انطلاقا من الذات في تطهيره للوعي من كل ما هو ليس وعيا إنسانيا، الشيء الذي سيجعل التأسيس لا يخرج بتاتا عن نطاق الإنسان. فالفلاسفة المحدثون الثلاثة الذين أشرنا إليهم أعلاه يظلون في نظر هوسرل، رغم الخطوات الجبارة والهائلة التي قطعوها في تطهير الوعي، بعيدين عن ربط مسألة التأسيس بالأنا الترنسندنتالية وحدها، أي بما هو محايث وحده. وهنا يكمن الاختلاف الواضح بين نظريتي هوسرل وهيدجر إلى الفلسفة الحديثة. لم تكن إشارتنا إلى ديكارت وليبنتز وكانط عشوائية. فالتأملات الديكارتية تنتقد بشكل مباشر موقف ديكارت من مسزلة تظهير الوعي، كما أنها لم تهمل إثارة كل من ليبنتز وكانط حتى وإن كان كاتبها لا يثير الاسمين. فما هو مضمون هذا النقد؟
يمكن اعتبار هوسرل في الحقيقة رائد الفكرة التي سادت في النصف الأول من القرن العشرين عند مجموعة قليلة من المؤرخين للفلسفة الحديثة، وعند كثير منهم في النصف الثاني من هذا القرن. تلك الفكرة القائلة بأن الفلسفة الحديثة أعطت فعلا دورا إيجابيا كبيرا للعقل، وأعلت بدون أدنى شك من قيمة الإنسان، ولكن دون أن تذهب مع ذلك إلى حدود إحلال الإنسان محل الكائن الإلهي بشكل نهائي، ولا إلى اعتبار العقل الأساس الأول والأخير في مجالي التنظير والتسيير بالشكل المتداول لدى أغلبية مؤرخي الفلسفة. صحيح إن هوسرل، رائد الفينومينولوجيا، لم ينطلق ضد الفلسفة الحديثة فالدافع عنده إلى "الرجوع إلى الأشياء ذاتها" هو محاربة الاتجاه الذي "منح للوعي واقعية طبيعية"(10)، ربما يترتب عن هذه الفكرة أو يمكن أن يترتب عنها من إضفاء للطابع الموضوعي على النشاط الإنساني واختزاله في مجموعة من الظواهر تماثل، إن لم نقل توازي، الظواهر الطبيعية الأخرى من حيث نوعية تركيب علاقاتها، ومن حيث تحديد تلك العلاقات. غير أن التصدي لهذا الاتجاه يفرض العودة إلى الوراء لرؤية ما إذا كان تاريخ الفلسفة يمكنه أن يمدنا بأدوات تساعدنا في تلك العملية. في هذا السياق يأتي تناول هوسرل للفلسفة الحديثة، إذ تمده بمجموعة من الأفكار ذات قيمة كبيرة داخل المعركة التي يخوضها. ومن الطبيعي أن تخضع هذه الأفكار للفحص والغربلة. فلو لم يكن يشوبها نقص لما ظهرت العاهة بعد انتشارها. هذا مع العلم أنها لا تتحمل مسؤولية مواجهة فكرة الموضوعية السالفة الذكر، لأن هذه الأخيرة لم تكن إشكالية عصرها، بالإضافة إلى أن واضع نقط انطلاق فكرة ما لا يكون مطالبا بالضرورة بالتنبؤ بكل ما ينبغي أن تواجهه الفكرة. إن الليونة التي يتعامل بها هوسرل مع الفلاسفة المحدثين في تقويمه لهم تعبر في الحقيقة عن تقديره العميق للعامل التاريخي الذي يخضع له الفكر حتى وإن كان لا يكشف في تحليله وتفكيره عن أي اهتمام به.
نقرأ في التأملات الديكارتية ما يلي:
"ماذا يمكن أن يقدمه حصول الوعي الذاتي الترنسندنتالي المرتبط بالفينومينولوجيا عن هذا الموضوع (البداهة والموضوعية)؟ لا شيء أقل من التأكيد على أن هذا المشكل عبارة عن معنى معكوس. إنه معنى معكوس لم يتمكن ديكارت نفسه من الانفلات منه، لأنه أخطأ في المعنى الحقيقي لإيبوكيته (?och?) الترنسندنتالية والاختزال في الأنا الخالصة، لدى الفكر اللاحق لديكارت هو أكثر فظاعة، وذلك بالضبط نظرا لجهله الكلي بالإيبوكي الديكارتية. إننا نتساءل: ما هي هذه الأنا التي تملك حق طرح مثل هذه الأسئلة الترنسندنتالية؟ هل يمكن لي القيام بذلك كإنسان طبيعي؟ هل يمكن لي أن أتساءل بجدية كيف يمكن لي الخروج من جزيرة وعيي، وكيف يمكن لما هو معيش بوعيي، كبداهة، أن يحثل على معنى موضوعي؟ فبتناول نفسي كأنا طبيعية أكون قد أنجزت عملية إدراك نتأمل لعالم المكان، وأخذت نفسي كمحتل للمكان الذي أماك فيه مسبقا عالما خارجا عني. أليست قيمة الإدراك المتأمل للعالم مفترضة مسبقا في الطرح ذاته للعالم؟ ألا تدخل في معنى المسألة ذاته؟ هكذا كان ينبغي أن ينتج تبرير قيمتها الموضوعية من حلها فقط. إنه ينبغي القيام عن وعي بالاختزال الفينومينولوجي للوصول إلى الأنا وإلى الوعي اللذين تفترض فيهما إمكانية طرح الأسئلة المتصلة بإمكانية المعرفة الترنسندنتالية. ولكن إذا تحولنا كـ"أنا" خالصة إلى أخذ الوعي بذاتنا بشكل منتظم، وإلى توضيح مجموع حقل وعينا، بدل الاكتفاء بإيبوكي فينومينولوجية سريعة، فإننا نعترف أن كل ما يوجد بالنسبة للوعي يتأسس بداخله.
ونعترف بعد ذلك بأن كل جنس من الوجود، بما في ذلك الوجود الذي نضفي عليه خاصية التعالي كيفما كان المعنى الذي يؤخذ فيه، يتوفر على تشكله الخاص به. فكل شكل من التعالي هو عبارة عن معنى يتشكل داخل الأنا. وكل معنى وكل وجود يمكن تصورهما، سواء سميا بمحايثين أو بمتعاليين، فإنهما ينتميان إلى مجال الذاتية الترنسندنتالية. وإذا كانت هذه الأخيرة هي فضاء المعنى الممكن، فإن الشيء الذي سيؤخذ كخارج عنها سيكون عبارة عن لا معنى. بل إن كان لا معنى. بل كل لا معنى ما هو إلا نمط من المعنى ويمكن إظهار بداهة عبثيته(11).
إن ما يأخذه هوسرل على ديكارت، حسب هذا النص، هو عدم توقفه عند حدود اكتشافه الرائع، أي عند يقين وجود أناه الخالصة، والأخذ بها كأساس لكل بداهة. لم يكن هوسرل من القائلين بكون ديكارت يؤسس اليقين والبداهة على العقل الإنساني وحده. إنه لا يحكم على مبدع الكوجيتو انطلاقا من الأفكار السائدة ولا انطلاقا من الروح الفكرية المسيطرة ظاهريا عند الفيلسوف. إنه يعمد إلى تتبع النصوص في تفاصيلها لينفذ إلى الفكرة في شموليتها وإلى الإحاطة بالإطار الكلي. صحيح إن هوسرل لا يقدم لنا نصوصا ديكارتية للبرهنة على الفكرة التي يدافع عنها، ولكن الخلاصة التي ينتهي إليها تبين لنا مدى تغلغله في جزئيات النصوص الديكارتية للحكم عليها انطلاقا من مضامينها.
نحن نعلم أن نهاية التأمل الثاني يبدأ ديمارت في وضع حدود لشكه حيث يتأكد من كونه شيئا ما يفكر ومن ثمة يوجد. ولكن يمر مباشرة بعد حصوله على هذا اليقين إلى تخصيص التأمل الثالث للبرهنة على وجود الإله، أو لفحص فكرة وجود الإله. والأكثر من ذلك إنه يصرح بعدم قدرته على التيقن من أي شيء (chose) مادام لم يفحص ما إذا كان الإله موجودا، وما إذا كان من الممكن، في حالة إثبات وجوده، أن يكون ضالا(12). صحيح أن ديكارت يقر، قبل هذا التصريح، بأنه لا يمكن لأي كان أن يضله فيما يخص يقين وجوده وفيما يخص كون اثنين وثلاثة مجموعة معا تساويان خمسة، وكذلك فيما يخص أشياء من هذا القبيل؛ ولكن السؤال الفلسفي المطروح، والذي انتبه إليه هوسرل، هو الآتي: لماذا لم يتوقف ديمارت عند حدود هذا اليقين الأول الذي يقر به، فلا ينتقل إلى البحث في موضوع آخر يعتبر لا أساسيا في التيقن من حقيقة الأشياء؟ الجواب بسيط. إن العلاقة بين الأنا والوجود الخارجي لا تتأسس على الأنا وحدها. أو إن البناء وسط العالم الخارجي لا يمكن أن يقوم على اليقين المرتبط بالأنا وحدها. إن ضمان أساس لهذه العلاقة لا يمكن أن يكون سوى كائن آخر أقوى وأكمل من الكائن الإنساني. يبين لنا التأمل الثالث أن ديكارت يريد بعد تأكده من وجوده، فحص ما إذا كانت "الأنا أفكر" مصدر الأفكار التي تحملها، ثم ما إذا كانت تتوفر على المعايير التي تسمح لها بالإقرار بصحة أو عدم صحة تلك الأفكار. بمعنى آخر إنه يتساءل عما إذا كانت "الأنا أفكر" أساس أفكارها وأساس حقيقة الأحكام التي تصدرها. إن ما هو متأكد منه بعد اكتشاف الكوجيتو هو "أن مشاعره وتخيلاته، من حيث هي طرق في التفكير تقطن وتلتقي بكل تأكيد بداخله" وأنه لا يعرف ما هو مطلوب للتأكد من شيء ما معنى هذا أن "الاختزال الفينومينولوجي" الذي يقوم به ديكارت لا ينتهي به ديكارت لا ينتهي به إلى جعل الوعي آخر ما تنتهي إليه عملية التطهير. فهو يجد نفسه مضطرا للاستمرار في الصعود نحو حقل نهائي آخر، بدل التوقف عند حدود حقل الخالص، والرجوع من جديد نحو الأشياء الخارجية أو نحو ما هو غير محايث، كما هو الأمر بالنسبة للفينومينولوجيا الترنسندنتالية التي تستحق فعلا بهذا الشرط أن تكون فلسفة الذاتية.
إن التأكيد على كون طرق التفكير والأفكار نفسها تلتقي داخل الأنا وتقطنها معناه أن هذه الأخيرة ليست بالضرورة مصدرها، ومن ثمة ينبغي الصعود إلى ما بعد الأنا أو الأنا أو ما وراء الأنا. وهذا ما يثيره ديكارت مباشرة بعد انتهائه من تدقيق الفكرة السالفة الذكر. يبين النص الآتي ذلك بشكل واضح جدا: "ولكن حينما كنت أهتم بشيء ما في منتهى البساطة ومنتهى السهولة يمس علم الحساب والهندسة كإضافة اثنين إلى ثلاثة مثلا تعطي عدد خمسة وأشياء أخرى مشابهة، ألم أكن أتصورهما على الأقل بما فيه الكفاية من الوضوح لإثبات كونها حقيقة؟ بالتأكيد، إذا حكمت منذ الحين بإمكانية شكنا في هذه الأشياء، فلم يكن الأكثر راجعا بتاتا إلى سبب آخر غير حضور فكرة إلى ذهني مفادها أن هناك ربما إلها ما تمكن من منحي طبيعة من هذا النوع، تجعلني أخطئ حتى فيما يمس الأشياء التي تبدو لي أكثر وضوحا. ولكن كلما خطرت أمام ذهني هذه الفكرة الرائجة التي تصورتها أعلاه كقوة مطلقة للإله، فإنني أضطر إلى الاعتراف بمدى سهولة التصرف عنده، إن أراد ذلك، بشكل يجعلني أنخدع حتى في الأشياء التي أعتقد معرفتها ببداهة كبيرة جدا. وكلما أدرت وجهي، على العكس من ذلك، نحو الأشياء التي اعتقد تصورها بوضوح كبير، فإنني أكون مقتنعا جدا بحيث أنساق من تلقاء نفسي نحو قول هذه الكلمات: ليخدعني من كان في استطاعته ذلك، غير أن ما لا يمكن فعله هو أن أكون لا شيئا في الوقت الذي أفكر فيه بأنني عبارة عن شيء ما، أو أن يكون صحيحا ذات يوم أنني لم أوجد أبدا، مادام أنه حقيقة كوني أوجد الآن (...) أكيد ما دمت لا أتوفر على أي حجة لأعتقد في وجود إله ما يمكنه خداعي، بل وأنني ما زلت لم أعاين بعد الحجج التي تبرهن على وجود إله، فإن سبب الشك المرتبط بهذا الرأي يظل طفيفا، وبتعبير أصح ميتافيزيقا. ولكي أتمكن من إسقاطه كليا على أن أفحص إن كان هناك إله بمجرد ما تمنح لي هذه الفرصة. وإذا تبين لي وجوده فإنه سيكون علي أن أفحص أيضا إن كان في استطاعته الخداع، ذلك لأنني لا أرى، بدون معرفة هاتين الحقيقتين، أنه سيكون في استطاعتي أبدا التيقن من أي شيء"(13.
هناك في التأمل الثالث عنصر آخر يستدعي الإثارة، وهو توفر الفيلسوف على فكرة لا يمكن إرجاعها إلى نفسه كما هو حال مجموعة من الأفكار الأخرى التي امتحنها ويتعلق الأمر بفكرة الإله. وينتهي به البحث في أصلها إلى الاقتناع بعدم إرجاعه إلى ذاته وحدها، هذا بالإضافة إلى تأكده من كون غيابها يجعله لا يتوفر على أي حجة تقنعه بوجود شيء آخر غيره، لأنه بحث عن كل الحجج بإمكان كبير ولم يجد أي حجة أخرى غير هذه(14) لن تمر هنا إلى التأمل الرابع للاستمرار في البرهنة على الأهمية التي يوليها ديكارت للكائن الإلهي كآخر أساس ستنتهي إليه الاختزال الفينومينولوجي. صحيح إن ما يقدمه الفيلسوف بصدد تمييز الإنسان بين الخطإ والصواب له مكانته فيما نحن بصدد تطويره، لكن ما أثرناه هنا كان لتوضيح نظرة هوسرل إلى الشك الديكارتي والنقص الذي منعه في نظره من جعل الأنا منبع المعني والتقويم، أي جعل الذات أساس البناء.
الهوامش
1- لقد أخذ هوسرل هذه الجملة عن برينتانو.
2- "تكون "الأنا المحددة" في حالة إنجازي للاختزال الفينومينولوجي متعلقة، كما هو الشأن بالنسبة لمجموع العالم الموقف الطبيعي، بالوضع خارج الدائرة، ولا يصعد إلى المعيش من حيث هو فعل بفضل ماهيت
=========
>>>> الرد الثالث :
ظهرت البراجماتية كفلسفة أمريكية تمقتُ البحث النظري العقيم الذي يركز على كُنه الأشياء ومصادرها، وأخذت تركز على نتائج الأعمال وعواقبها، وأجازت للإنسان أنْ يتخذ مِن أفكاره وآرائه ذرائع يستعين بها على حفظ بقائه أولاً، ثم السير بالحياة نحو السُمو والكمال ثانياً (علي، 1995)، وظهرت كردة فعل لموجات الفلسفة المثالية التي حملها المهاجرون الألمان، ووجدت صداها عند نفر من الشعراء والكتاب الأمريكيين مثل: (إمرسن)، ثم انتقلت بعد ذلك إلى نفر من الأساتذة الجامعيين المختصين في الدراسات الفلسفية، ومن أبرزهم (جوزيا رويس) أستاذ الفلسفة في جامعة (هارفرد (.
لقد أحس (جون ديوي) بقوة الأشكال المتنافرة للبيولوجيا الفلسفية، واستخدمها استخداماً نقدياً، ومن ثمّ راح يُعدّ مذهبه الخاص في علم النفس، والذي ظهر كنص سنة 1887م. وشعر جماعة من خريجي(هارفرد) بضرورة التوجه نحو الفعل ونحو المستقبل وما يستتبعه من مسؤوليات كبيرة، فآمنوا بمنهج العلم التجريبي، واعتبروه منهجاً سليماً في التفكير، وقالوا: إنّ الفلسفة لا بد لها أن تقوم على أساس من العمل والخبرة والتجريب، ومنهم: (تشارلز بيرس) و( وليام جيمس).
لقد عَرَفَ (بيرس) مُصطلح البراجماتية من دراسة للفيلسوف الألماني ( إيمانويل كانت) الذي كان يُميز بين ما هو براجماتي pragmatic وما هو عملي practical ، فالعملي ينطبق على القوانين الأخلاقية، بينما البراجماتي ينطبق على قواعد الفن وأسلوب التناول، اللذين يعتمدان على الخبرة . وكان ( بيرس) تجريبياً مشبعاً بعقلية المَعمل، واهتم بالتفكير المنطقي وطرائقه في إيضاح المدركات العقلية. أما (وليام جيمس) فيرى أنّ مصطلح البراجماتية مشتق من الكلمة اليونانية pragma التي تعني المزاولة والعمل، والطابع الذي ألبسه ( جيمس ) للبراجماتية هو الطابع النفعي، فكان يتعامل مع صدقية الأفكار من منطلق القيمة الفورية cash value ، وكان يقول: إن الفكرة كورقة النقد تظل صالحة للتعامل إلى أن يعترضها مُعترض ويثبت زيفها وبطلانها، و تستمر صدقيتها ما دامت سارية المفعول فنحقق بها ما نريد من أغراض .
أما (جون ديوي) فقد عُرف اتجاهه بـ (الوسيلة) أو الأداتية instrumentalism ، والوسيلة هي محاولة لتكوين نظرية منطقية دقيقة للمدركات العقلية، والأحكام والاستنباطات في شتى صورها، وتحاول إقامة تمييزات وقواعد منطقية تلقى تأييداً عاماً عن طريق استخلاصها من وظيفة العقل من حيث هو وسيط ومن حيث هو بناء (علي، 1995).
الأصول الفلسفية:
إذا كانت كل فلسفة لا بد لها من تربية تُحيلها من معانٍ وأفكار في أدمغة الفلاسفة إلى سلوك وإجراءات يسير وفقها الإنسان في حياته، فإننا لا نستطيع فهم وجهات نظر البراجماتية التربوية مالم نقف على المعالم الرئيسية لنظرتها الفلسفية . فالبراجماتية تعد منهجاً في التفكير أكثر منها نظرية عامة تتكون من أفكار ومواقف تجاه موضوعات وقضايا فلسفية، كالإنسان والقيم والمعرفة، وسوف تكون الصورة واضحة عند مؤسسي البراجماتية الرئيسيين، وهم : بيرس و وليام جيمس، وديوي .
التفسير الإجرائي للمعنى عند بيرس :
على الرغم من تعدد وجهات النظر حول المقصود بالمعنى، فإنها تكاد تلتقي جميعاً عند معنى واحد وهو: أنّ شيئاً يرمز إلى شيءٍ آخر، وكلا الشيئين يكونان من كائنات العالم الواقع، فقد يلاحظ الإنسان ارتباطاً بين ظاهرتين طبيعيتين، بحيث إذا حدثت إحداهما تحدث الأخرى، كارتباط البرودة بالانكماش، والحرارة بالتمدد. وكما أنّ العلة قد تكون معنى للمعلول، فقد يكون المعلول معنى للعلة. وأول فيلسوف كان قد بَحثَ في المعنى بحثاً جدياً هو( سقراط )، الذي وجّه جهده الأكبر لمناقشة المعاني المختلفة للمبادئ العقلية الكامنة وراء الظواهر السلوكية، للوقوف على المعنى الواضح السليم لتلك المبادئ والمفاهيم التي يصدر عنها الناس في سلوكاتهم . واستمر الفلاسفة يتناقشون في مشكلة المعنى، واتجهوا اتجاهات شتى منها :
- المدرسة الشيئية، التي تجعل المعنى حقيقة قائمة بذاتها في العالم الخارجي .
- المدرسة التصورية، التي تجعل المعنى تصوراً ذهنياً قائماً في عقل الإنسان .
- المدرسة الاسمية ، التي تجعل المعنى كائناً في دلالة اللفظ على مسمياته الجزئية .
- المدرسة البراجماتية، التي تجعل المعنى قائماً في طريقة السلوك إزاء لفظ معين، فإذا كان هناك تجريدٌ فإنه يكون لطريقة السلوك، وليس لصفات الأشياء(المرجع السابق ).
ملامح الفكر التربوي البراجماتي:
الأهداف:
تتضمن الأهداف دافعا يُحس به الفرد أو الجماعة، ثم يتحول هذا الدافع إلى رغبة، ثم تتحول الرغبة إلى تفكير في تحقيقها، و يتم التحقيق عن طريق تغيير الظروف بالوسائل المناسبة إلى ظروف جديدة تجسد هذه الرغبة، و ينشأ كل هذا وسط مشكلة تتطلب مواجهة أو حَلا.ّ
المعايير التي تحقق الأهداف:
يفترض بالهدف أن يكون وليد الظروف الراهنة، و مبنيا على الأمور الجارية فعلا، أما الأهداف المستوحاة من مَعين خارجي فهي تقيد الذكاء و لا يبقى أمام العقل إلا مجرد الاختيار الآلي للوسيلة .وينبغي أن يكون الهدف مَرِنا قابلا للتغيير حتى يلائم الظروف، و لا يتأتى ذلك عندما يكون الهدف مفروضا من قبل سلطة خارجية. ويجب أن يُمثل الهدف دائما إطلاق فعاليات الإنسان و تحريرها، و بمعنى آخر ينصب أمام العقل نهاية أو خاتمة لعملية ما، فما من وسيلة نستطيع أن نجد بها العمل إلا إذا وضعنا نصب أعيننا الأشياء التي تنتهي بها.
الصفات التي تتميز بها الأهداف:
يجب أن يبنى هدف التربية على الفعاليات الذاتية للمتعلم، بما في ذلك استعداداته الفطرية و عاداته المكتسبة، وينبغي أن يكون قابلا للتحول إلى طريقة للتعاون مع فعاليات المتعلمين، و ما لم يؤد الهدف إلى وضع أساليب معينة للعمل فلا قيمة له، فإذا كان تطبيقه واجبا في كل حال فما جدوى ملاحظة التفاصيل التي ليس لها في الأمر عد و لا حسبان. كما ينبغي على المربين الحذر من الأهداف التي يزعم بأنها عامة أو نهائية، فلا شك في أن كل هدف مهما بلغ من التحديد يبقى هدفا عاما بما يتفرع عنه من العلاقات لأنه يفضي إلى ما لا حصر له من الأشياء (علي، 1995).
الأساس الخِبريّ للتعليم:
أيّ مصدر يُمكن لنا أنْ نستمدَّ منه المَوادّ التعليمة ونحنُ في حالة من الوثوق والاطمئنان؟ لم يرضَ فلاسفة اليونان أن يعتمدوا في أمر مثل هذا على الواقع الخبري؛ لأنّ مجاله لا يتعدى في نظرهم الشؤون العملية البحتة التي تدل على النقص و الحاجة و الرغبة، أما المصدر الذي كانوا يعدونه أهلا للثقة و الاعتماد عليه فهو أن تقوم مواد التعليم على مجموعة من المبادئ الثابتة المجردة مما لا نستطيع أن نلتمس له وجودا في العالم الخبري، فليس لنا أن نعدّ ما نتعلمه من الأمور العملية معرفة، فالمعرفة لا بد أن تستند إلى يقين، و اليقين لا يُلتمس إلا في الأمور العقلية البحتة، لذلك قامت مواد التعليم عندهم على أساس نظري عقلي صوري بحت. أمّا في الفلسفة البراجماتية فيرى جون ديوي أنه يمكن الاعتماد على الخبرة، و أنه يمكن للمربي أن يمد التلميذ بخبرات تستغرق ضروب نشاطه، شريطة ألا تكون مُنفرة حتى تشجعه على الحصول على خبرات أخرى مرغوب فيها في المستقبل، و يُسمّي (ديوي) هذا الشرط باستمرار الخبرة، ويرتبط استمرار الخبرة بحقيقة أخرى هي أنّ الخبرة لا تحدث في فراغ بل تتأثر بالبيئة دائماً، فلا أحد ينكر أن الخبرة التي يكتسبها طفل في بيئة مثقفة تختلف عن تلك التي تتميز بالجَدب والاضمحلال الثقافي. وما دامت التفاعلات التي تقوم بين الإنسان وبيئته الطبيعية والاجتماعية هي التي تكوّن قوام الخبرة، فعلى المدرسة أن تهيئ بيئة تتسم بالحيوية والواقعية يمكن أن يحدث فيها هذا التفاعل ويمكن للتلميذ أن يكتسب نتيجة هذا التفاعل المعاني المهمة اللازمة لزيادة خبرته وتعلمه، و يقول علماء النفس إن التعلم يستند إلى مبدأين مُهمّين هما:
- أنّ ما نتعلمه يجب أنْ نمارسَه.
- أنّنا لا نتعلم كل شيء نمارسه، فنحن نتعلم فقط الشيء الذي ننجح في أدائه.
لقد لحِق بأوجه النشاط المختلفة في الحياة الاجتماعية هذه الأيام تغيرات كبيرة تجعل من اليسير النظر العلمي السليم إلى العمل، واعتباره الطريق الصحيح إلى التعلم و المعرفة، فقد أدى تغلغل العلم التطبيقي في كل جانب من جوانب حياتنا فتعددت المخترعات و الآلات، و أصبحت تتطلب مقدرة لا يُستهان بها من العلم و الذكاء و المهارة الفنية، وأدّى كل هذا إلى عدم قصر الأعمال اليدوية على الخدم و العبيد كما كان الحال أيام اليونان و العصور الوسطى، فقد تغيرت الأوضاع و الأحوال و تحتم على الأفراد أنْ يسيروا في أعمالهم مستنيرين بهدي الفكر و إرشاد الذكاء
إذا كانت طريقة العلم التجريبية قد أظهرت سُخف ما كان شائعا بين الخبرة و المعرفة فإن من أهم الاعتبارات التي يجب أن تركز عليها التربية أنه لا وجود لمعرفة حقة إلا أن تكون مقرونة بالعمل، فما يقوم به التلميذ من تسميع داخل الفصل لا يقيس بشكل صحيح ما أحرزه من تقدم، وإنما بمدى قدرته على العمل و النشاط و السلوك القائم على البصر و الذكاء. وما دمنا نريد أن نقيم العملية التعليمية على أساس خِبري فلا بد من التخلص من النظرة المتعسفة التي تضع هوة بين خبرة التلميذ و مختلف المواد الدراسية على أنهما مختلفان نوعا. إن الأحداث و الحقائق التي تدخل في خبرة التلميذ الحاضرة و تلك المتضمنة في المواد الدراسية إنما هي العلاقات و الحدود النهائية لحقيقة واحدة .
لكن هل يعني أخذ التربية مادتها من الخبرة الحاضرة أن تتجاهل الماضي؟! كلا، فإنّ تراث الماضي يمدنا بوسيلة ناجحة نفهم بها الحاضر، و كما يجد المرء نفسه مُجبَرا على أن يفتش في ماضيه حتى يفهم ما هو فيه من ظروف كذلك فإن ما تسفر عنه الحياة الاجتماعية الحاضرة وثيق الصلة بالماضي، و هذا يعني أنّ أهدافنا التعليمية المرتبطة بالمستقبل وموادنا الدراسية المرتبطة بالخبرة الحاضرة لا تنجح إلا إذا وصلناها بالماضي.
قد يكون هنالك مَن يقول: إنّ التعلم عن طريق الخبرة يزود التلميذ بأمور جزئية، و مهما أحرز من تقدم و نمو في العلوم المختلفة فإنه لا يستطيع أن يصل به إلى المعرفة الحقيقية. و الفلسفة البراجماتية لا تعترض على هذا النقد و هو أنّ التعلم عن طريق الخبرة لا يقف بنا إلا على أمور العالم الجزئية، لكنها تعترض على النتيجة المستخلصة من هذه الحقيقة، لأنها تعتبر أنّ هذه الأمور الجزئية هي حقيقة العالم و ليس من حقيقة أخرى تكمن وراءها.
تطبيع العقل:
يتميز الإنسان عن بقية الكائنات بأنه يملك جوهرة ثمينة تسمى العقل، وقد عكس الإنسان هذه الفكرة عن نفسه على الطبيعة والكون كله. فتخيل الكون ذا طبيعة مادية يكمن وراءها عقل كبير يُسيِّرها ويُدير شؤونها كما يُسيِّر عقلُ الإنسان جسمَه، ويرى البراجماتيون أنه من الخطأ الادعاء بوجود عنصر منفصل وقوة خفية اسمها العقل، وسندهم في ذلك ما ذهب إليه داروين من أنّ الإنسان كغيره من الكائنات حلقة في سلسلة التطور، إنّ العقل كما استنتجوا هو هذا التوجيه الذكي لضروب التفاعلات بين الإنسان وبيئته، والتفاعل هو الخبرة، والخبرة جزء من الطبيعة، ومن هذا يمكن القول إنّ العِلم قد انتهى إلى ما يُسمّى ( تطبيع العقل) أي جعل العقل جزءاً من الطبيعة وظاهرة من ظواهرها، وهذا معناه أن ليس أمامنا في دراسة الظواهر سوى منهج واحد هو المنهج العلمي. يقول وليام جيمس في كتابه( أصول علم النفس): "العلامة الدالة على وجود العقل في أي ظاهرة سلوكية هي أنْ نلحظ فيها استهدافا لغايات مستقبلية، واختياراً للوسائل المؤدية إلى بلوغ تلك الغايات" (علي، 1995 ، ص110)، (الهمشري، 2001 ،ص 93).
طريقة التفكير العِلمي في التربية:
وجّهت التربية التقليدية جهودَها نحو التحفيظ والتسميع، والنقل والتكرار والتقليد، مما أدى إلى قتل روح الابتكار لدى التلاميذ، وتحولهم إلى نوع سيِّئ من المواطنين، ذلك النوع الذي لا يصلح إلا لكي يؤمر فيطيع، وتوضع له الخطط فينفذ، لأنه يعيش على فتات أفكار الآخرين. وقد تنبه فلاسفة البراجماتية إلى هذه الحقائق، فاعتنوا بأمر التفكير ومحاولة إقامته على أسس من التجريب العلمي، وجَعْله عنصراً أساسياً في العملية التربوية، ويذهب ديوي إلى أنّ التفكير ما هو إلا محاولة تتم عن قصد و وعي بهدف الكشف عن الروابط بين أفعالنا وما يترتب عليها من نتائج، وأنه ليس مجرد مرآة تعكس الواقع الموجود.
ونستنتج ممّا سبق أنّ التفكير ضَرْبٌ من السلوك المتصل، وأنّ له أدوات يستخدمها، وهذه الأدوات هي ما يُعرَف بالمعاني وما يقابلها في اللغة من ألفاظ. ولا يثار التفكير إلا لإرضاء حاجة أو رغبة، فإذا كانت الحاجة أمّ الاختراع، فإنه يمكن أن يقال أيضاً: بأنها أمّ التفكير، والتفكير من أهم وسائل حلّ المشكلات وأسرعها، ولا يترك (ديوي) الأمر على عواهنه؛ فقد وضع معايير نميز بها بين المشاكل الصحيحة والمشاكل المزيفة، حتى لا نقع فيما وقع فيه كثيرون من افتعال المشاكل حتى يتم التفكير
إنّ الأفكار تظل ناقصة ما دامت أفكاراً، ومن هنا فهي مؤقتة، والتطبيق وحده هو محك اختبارها، وهو الذي يُلبسها لباس الحقيقة ويُكسبها كمال المعنى، لذلك كان من الضروري منحُ المدرسة فرصاً لتجريب الأفكار واختبار صحتها، كأن تجهَّز المدارسُ بالمعامل والورش والمسارح؛ لكي تزوِّد التلاميذ باتجاهات إيجابية: كالتحرّر مِن التعصّب والانحياز، وتركيز الاهتمام داخل الفصل الدراسي على تحمّل المسؤولية الأخلاقية، فكثير من الناس يعتنقون مبادئ معينة، ثمّ يهربون منها عندما تواجههم مشكلة، والمدرسة أحياناً تسهم في إيجاد مثل هذه العادة السيئة لدى التلاميذ؛ إذ تقدم لهم مواد دراسية بعيدة عن خبراتهم، وفوق مستوى مداركهم(علي، 1995).
التوجيه الاجتماعي للتربية:
يقول (جون ديوي) :إنّ التربية ظاهرة طبيعية في الجنس البشري بمقتضاها يصبح المرء وريثاً لما كوّنته الإنسانية من تراث ثقافي. وبالتقليد والمحاكاة تتحقق التربية الاجتماعية بطريقة لا شعورية، وبحكم معيشة الفرد في المجتمع، يتحقق للحضارة الإنسانية الانتقال من جيل إلى آخر .والتربية المقصودة تتطلب دراية بنفسية الطفل من جانب، وحاجات المجتمع من جانب آخر.
لقد حدد ديوي اجتماعية التربية بعملية تمييز بين الكائنات الحية والكائنات الجامدة أولاً، ثم في داخل سلسلة الكائنات الحية نفسها ثانياً، ولعلّ طبيعة العصر الذي نعيش فيه تعد من أقوى الدعائم التي تتطلب توجيه التربية توجيهاً اجتماعياً سليماً، فعصرنا اليوم عصر تغير جذري وسريع بفضل ما ابتكره الإنسان عن طريق التجريب العلمي من مبتكرات واختراعات، لكنّ التقدم الذي حدث في المجالين التكنولوجي والاجتماعي لا يسيران بشكل متقارب، فقد يسبق التقدمُّ التكنولوجيُّ التقدمَّ الاجتماعيَّ؛ فيُسبِّب ما يُسمّى بالهوة الثقافية التي يترتب عليها سوء في التكيف الاجتماعي، وكل هذا يبرر الدور الطليعي للتربية في خدمة المجتمع.
معالم فكر جون ديوي:
يعتقد جون ديوي بتعذر الفصل بين الطبيعة البشرية والتجربة، فالتجربة جانب مهم من جوانب الطبيعة البشرية، أما الطبيعة فهي مصدر معرفتنا والأساس الذي تصدر عنه تصرفاتنا وتجاربنا، لذلك ألحّ على ضرورة اهتمام الفلسفة بمشكلات الإنسان في عالم يتغير باستمرار، واعتبرَ الأفكار أدوات لحل المشكلات الإنسانية، ووَصفَ خمسَ مراحل لحلّ المشكلة، وهي:
- الإحساس بوجود مشكلة تستحق الدراسة.
- التعريف بالمشكلة وتحديدها.
- اقتراح حلول ممكنة للمشكلة، أو صياغة عدد من الفرضيات كحلول مؤقتة لها.
- استنباط النتائج المُمكنة فكرياً.
- التحقق مِن التجربة مِن أجل تأكيدها أو رفضها (جعنيني، 2004) و (الهمشري، 2001 ).
وأطلق ديوي على منطقه اسم ( نظرية البحث)، وبها يعارض سائر النظريات المنطقية قديمها وحديثها، معتبراً أنّ أساس العلم في عصره قد تغير عما كان عليه سابقاً، فالعلم القديم كان يقوم على أساس الصفات الكيفية لا على أساس المقادير الكمية، والعِلم الحديث يهتم بالعلاقات القائمة بين الظواهر المختلفة، وينظر إلى الحركة على أنها ظاهرة متجانسة بشتى صورها وأشكالها .ونعَتَ مذهبَه بالوظيفي لاعتباره أنّ المعرفة آلة ينبغي توظيفها في خدمة متطلبات الحياة، وأنّ أهم ما يميز الخبرة اتصالها واستمراريتها، فتيارها متصل، يفضي كل جزء منها إلى الجزء الذي يليه. واهنمّ بالطريقة أكثر من اهتمامه بالإجابات المجردة، وقال :يجب عدم توقع إجابات نهائية وثابتة، والأفضل التعامل مع كل مشكلة إنسانية وقت ظهورها، لكي تطرح الحلول الممكنة في ظل مواقف الحياة الفعلية، وهو يرى أنّ معيار صحة الفكرة أو خطئها يكمن في فاعليتها ونتائجها في النشاط الإنساني، أي اختبارها في بوتقة الواقع، وأن وظيفة البحث ليست الوصف، بل التغيير لخدمة الأغراض الإنسانية.
وفي كتابه ( الديمقراطية والتربية) لم ينقد ديوي النظرية الفردية، كما فَعَلَ ( روسو) في كتابه ( إيميل)، كما أنه لم يقم بنقد ( النظرية الاجتماعية) كما فَعَلَ (هيجل)، ولكنه دافع عن مجتمع ديمقراطي تتوازن فيه قيمة الفرد وقيمة الجماعة، والجماعة النموذجية هي التي تتصف بالمرونة التي تساعد على نمو شامل للفرد لا رضوخه لسلطة مطلقة، باسم مصلحة المؤسسة تارة أو باسم السياسة العليا تارة أخرى، وقال: إنه لا تتم تغذية القدرات الاجتماعية والفردية عند الأطفال إلا في ظل مجتمع ديمقراطي، واعتبر أنّ المجتمع الديمقراطي لا يمكن أنْ يتحقق في ظلِّ أديان تمارس التمييز والتفرقة بين الناس .واهتمّ بالتربية اهتماماً كبيراً في فكره وممارساته، وقال: إنّ الحياة تسعى إلى دوام وجودها عن طريق التجدد المستمر، والتربية أداة لنقل أهداف المجتمع ومعارفه من جيل إلى جيل، فهي التجدد المستمر بعينه، وهي عملية نمو لا هدف لها إلا المزيد من النمو، بل إنها الحياة نفسها( المرجع السابق).
لقد صوّرَ (ديوي) تطوّر تفكيره في أربعة أمور هي:
- الاهتمام بالعملية التربوية نظرياً وتطبيقياً، لأنّ التربية تشكل جوهر اهتمامات الإنسانية جمعاء.
- إخراج منطق واقعي لا صوري، يلغي الثنائية الموجودة بين منهج العلوم ومنهج الأخلاق، فالعلم هو التفكير النظري والأخلاق هي السلوك العملي في الحياة.
- تخليص عِلم النفس ممّا عَلِقَ به من أفكار ميتافيزيقية، والتركيز على الشعور والوعي وتطبيق علوم الحياة على نفسية البشر.
- تطبيق مبادئ العِلم الحديث ومناهجه وطرقه على العلوم الإنسانية.
لقد نجَحَت البراجماتية في أمريكا لأنها كانت بمثابة جدل قائم بين المثالية الأمريكية والوضعية الفرنسية والتطورية البريطانية. وكانت تحاول التقاط الأيدلوجية المبعثرة التي بشرَ بها مفكرو ما قبل الداروينية، رافضة كل أنواع اليوتوبيا والحقائق النهائية المطلقة، مؤكدة على المجتمع التعددي والذكاء الذرائعي، وقرنت الفلسفة بالحياة واعتبرتها أسلوباً لحلّ المشكلات الإنسانية، واعتبرت أنّ الإنسان بمقدوره تطويع الواقع وفقاً لأهدافه وحاجاته، وشجّعتْ تبريرَ المواقف بذريعة أنها تأتي بالمنفعة على صاحبها.
د. محمد الجاغوب
المراجع:
- الشرقاوي، محمد عبدالمنعم ( 1956)، الولايات المتحدة أرضاً وشعباً ودولة.
القاهرة: النهضة المصرية.
- الهمشري، عمر أحمد ( 2001 )، مدخل إلى التربية. عمّان: دار صفاء للنشر و
التوزيع.
- جعنيني، نعيم حبيب( 2004)، الفلسفة وتطبيقاتها التربوية. عمّان: دار وائل للنشر.
- شنايدر، هربرت (1964 )، تاريخ الفلسفة الأمريكية. ترجمة: محمد فتحي
الشنيطي، القاهرة: مصر .
- علي، سعيد اسماعيل (1995)، فلسفات تربوية معاصرة. الكويت: عالم المعرفة.
- كيتشام، رالف، ثورة الفكر الأمريكي 1750- 1820م، ترجمة: ثابت رزق الله،
القاهرة: النهضة المصرية.
=========
>>>> الرد الرابع :
https://www.4shared.com/document/DPmE...ernism_and_phi
=========
>>>> الرد الخامس :
شكرا جزيلا استاذ خليفة وبارك الله فيك على ما قدمته حول فلسفة الفعل اتمنى ان تبقى دائما وفيا للمنتدى لاننا بصراحة نستفيد كثيرا من مساهمتك شكرا
=========
لا شكر على واجب .. سنحاول المساهمة بقدر ما تسمح به الظروف ، خدمة للفلسفة